شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

(١) ما هو مشترك بين الاسم والفعل ، وهو الرفع والنصب ، مثال دخول الرفع فيهما «زيد يقوم» ف «زيد» مرفوع بالابتداء ، وعلامة رفعه الضمة ، و «يقوم» مرفوع لأنه فعل مضارع خال عن ناصب وجازم ، وعلامة رفعه أيضا الضمة ، ومثال دخول النصب فيهما «إنّ زيدا لن يقوم» ف «زيدا» اسم منصوب بإنّ ، وعلامة نصبه الفتحة ، و «يقوم» فعل مضارع منصوب بلن ، وعلامة نصبه أيضا الفتحة.

(٢) وما هو خاصّ بالاسم ، وهو الجر (١) ، نحو «بزيد» ف «زيد» مجرور بالباء ، وعلامة جره الكسرة.

(٣) وما هو خاص بالفعل ، وهو الجزم (٢) ، نحو «لم يقم» ف «يقم» فعل مضارع مجزوم بلم ، وعلامة جزمه حذف الحركة.

والأصل في هذه الأنواع الأربعة أن يدلّ على رفعها بالضّمّة ، وعلى نصبها بالفتحة ، وعلى جرّها بالكسرة ، وعلى جزمها بالسكون ، وهو حذف الحركة ، وقد بينت ذلك كله في الأمثلة المذكورة.

وقال الله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة ، ٢٥١].

إعراب ذلك (لو لا) حرف يدل على امتناع شيء لوجود غيره ، تقول : لو لا زيد

__________________

ليس بشيء يعتد به ويصح الالتفات إليه ، ووجه ذلك أن العامل الذي يقتضي الجزم قد حذف الحركة الظاهرة أو المقدرة التي كانت قبل دخوله ، ولزم من حذف الحركة الجزم ، فالجزم أثر تابع لما صنعه العامل ، ومن أجل هذا يصح أن يجعل إعرابا.

(١) إنما اختص الاسم بالجر لأن عامل الجر إما حرف الجر وإما الإضافة ، والإضافة تدل على الملك أو الاستحقاق ، وحرف الجر قد يكون دالا على هذين المعنيين ، والذي يكون مالكا للشيء أو مستحقا له هو الذات ، والفعل لا يدل على الذات ، وإنما يدل على معنى قائم بالذات ، فأما الاسم فقد يكون مدلوله الذات كزيد وعمرو وخالد ، فاختص لذلك السبب بما يدل على الملك أو الاستحقاق وهو عامل الجر.

(٢) إنما اختص الفعل بالجزم لأن عامل الجزم يدل على النفي غالبا كلم ولما ، والذي يجوز نفيه هو المعاني دون الذوات ، لأن النفي يقتضي العدم ، والذات غير قابلة له ، وقد علمت أن الفعل يدل على المعنى دائما وأن الاسم أكثر ما يدل على الذات ، ومن أجل أن الاسم أكثر ما يدل على الذات ، وأن عامل الجزم يقتضي العدم الذي لا يقبله الذات لم يصح أن يدخل عامل الجزم على الاسم ، وصح دخوله على الفعل لأنه الدال على ما يجوز نفيه فاختص به.

٦١

لأكرمتك ، تريد بذلك أن الإكرام امتنع لوجود زيد ، و (دفع) مبتدأ مرفوع بالضمة ، واسم الله مضاف إليه ، ولفظه مجرور بالكسرة ، ومحله مرفوع لأنه فاعل الدّفع ، و (الناس) مفعول منصوب بالفتحة ، والناصب له الدّفع ؛ لأنه مصدر حالّ محلّ أن والفعل ، وكلّ مصدر كان كذلك فإنه يعمل عمل الفعل : أي ولو لا أن دفع الله الناس ، (بعضهم) بدل بعض من كلّ ، وهو منصوب بالفتحة ، وخبر المبتدأ محذوف وجوبا ، وكذا كل مبتدأ وقع بعد لو لا ، والتقدير : ولو لا دفع الله الناس موجود ، والمعنى : لو لا أن يدفع الله بعض الناس ببعض لغلب المفسدون وبطلت مصالح الأرض ، وقال أبو العلاء المعرّى فى صفة السيف :

١٢ ـ يذيب الرّعب منه كلّ عضب

فلو لا الغمد يمسكه لسالا

فآثر ذكر الخبر ، وهو «يمسكه».

ثم قلت : وخرج عن ذلك الأصل سبعة أبواب :

______________________________________________________

١٢ ـ هذا البيت من كلام أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري ، رهين المحبسين ، والفيلسوف الحكيم ، وهو أحد شعراء الدولة العباسية ، ولا يحتج بشعره على قواعد النحو والصرف ولا على مفردات اللغة ، وقد أنشد المؤلف هذا البيت في كتابه أوضح المسالك (رقم ٧٧) وذكر هناك أنه أخطأ في ذكر الخبر على ما هو رأي جمهرة النحاة ، وأنشده الأشموني (رقم ١٥٨) وأنشده ابن عقيل (رقم ٥٨) وسنذكر ما فيه.

اللّغة : «يذيب» مضارع من الإذابة ، وهي إسالة ما كان صلبا كالحديد ، «الرعب» الخوف الشديد ، «عضب» بفتح العين وسكون الضاد ـ هو السيف ، «الغمد» بكسرة فسكون ـ جفن السيف وقرابه.

المعنى : يقول إن سيفك لتهابه السيوف ، كما أن الرجال يهابونه ، وإن سيوف الناس تذوب في أغمادها هيبة لسيفك وخوفا منه ، ولو لا أن الأغماد تمسكها لسالت كما يسيل الماء.

الإعراب : «يذيب» فعل مضارع ، «الرعب» فاعل ، «منه» جار ومجرور متعلق بالرعب أو بمحذوف حال منه ، «كل» مفعول به ليذيب ، وكل مضاف و «عضب» مضاف إليه ، «لو لا» حرف يدل على امتناع الشيء لوجود غيره ، «الغمد» مبتدأ ، «يمسكه» يمسك : فعل مضارع فيه ضمير مستتر جوازا تقديره هو فاعله ، والضمير البارز مفعوله ، والجملة من الفعل المضارع وفاعله ومفعوله

٦٢

أحدها : ما لا ينصرف ؛ فإنّه يجرّ بالفتحة ، نحو «بأفضل منه» إلا إن أضيف أو دخلته أل ، نحو «بأفضلكم» و «بالأفضل».

وأقول : الأصل في علامات الإعراب ما ذكرناه ، وقد خرج عن ذلك سبعة أبواب :

الباب الأول : باب ما لا ينصرف ، وحكمه أنه يوافق ما ينصرف في أمرين ، وهما : أنه يرفع بالضمة ، وينصب بالفتحة ، ويخالفه في أمرين (١) ، وهما : أنه لا ينوّن ، وأنه يجر بالفتحة ، نحو : «جاءني أفضل منه» و «رأيت أفضل منه» و «مررت

______________________________________________________

في محل رفع خبر المبتدأ ، «لسالا» اللام واقعة في جواب لو لا لا محل لها ، وسال : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى السيف.

الشّاهد فيه : اعلم أن الجمهور على أنه لا يجوز أن يكون خبر المبتدأ الذي يقع بعد لو لا إلا كونا عامّا ، وترتب على هذا أنهم يلتزمون امتناع أن يذكر خبر المبتدأ الذي يقع بعد لو لا ؛ بل يجب عندهم حذف خبره ، بلا تفصيل.

ولكن المحققين فصلوا فقالوا : إما أن يكون خبر ذلك المبتدأ كونا عامّا كالوجود المطلق ، وإما أن يكون كونا خاصّا كالقيام والقعود ، فإن كان الخبر كونا عامّا وجب حذفه نحو قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سورة سبأ ، ٣١] ، وإن كان كونا خاصّا ، فإما أن يكون في الكلام ما يدل عليه إن حذفناه نحو قولك «لو لا أنصار محمد لهلك» وذلك لأن كلمة «أنصار» تدل على أن الخبر تقديره : لو لا أنصاره حموه أو دافعوا عنه أو نحو ذلك ، فإن كان كذلك جاز ذكره وحذفه ، وإن لم يكن في الكلام ما يدل عليه وجب ذكره.

فتحصل أن للمبتدأ الواقع بعد لو لا عند هؤلاء المحققين ثلاثة أحوال : حالة يجب فيها حذف خبره ، وحالة يجب فيها ذكره ، وحالة يجوز فيه ذكره وحذفه.

إذا علمت ذلك تبين لك أن ذكر الخبر في كلام أبي العلاء المعري لحن عند الجمهور ، ومن باب الجائز عند المحققين.

ومن العلماء من أعرب «يمسكه» بدل اشتمال من «الغمد» وجعل الخبر محذوفا ليطابق مذهب الجمهور ، فافهم ذلك وتدبره.

__________________

(١) أنت تعلم أن الاسم الذي لا ينصرف إنما امتنع من الصرف لأنه أشبه الفعل في وجود علتين فرعيتين ترجع إحداهما إلى اللفظ وترجع الأخرى إلى المعنى ، أو في وجود علة واحدة تقوم مقام العلتين ، وتعلم أن من أحكام

٦٣

بأفضل منه» وقال الله تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) [النساء ، ٨٦] (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) [سبأ ، ١٢] (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) [النساء ، ١٦٢].

ويستثنى من قولنا «ما لا ينصرف» مسألتان يجر فيهما بالكسرة على الأصل ؛ إحداهما : أن يضاف ، والثانية : أن تصحبه الألف واللام ، تقول : مررت بأفضل القوم وبالأفضل ، وقال الله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين ، ٤].

اللّام جواب القسم السابق في قوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) [التين ، ١] وما بعدهما ، و (قد) لها أربعة معان ، وذلك أنها تكون حرف تحقيق ، وتقريب ، وتقليل ، وتوقّع ، فالتي للتحقيق تدخل على الفعل المضارع نحو : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) [النور ، ٦٤] أي يعلم ما أنتم عليه حقّا (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة ، ١٤٤] وعلى الماضي نحو : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) [التين ، ٤] الآية ؛ وكذا حيث جاءت [قد] بعد اللام فهي للتحقيق ، والتي للتقريب تختص بالماضي نحو قول المؤذن «قد قامت الصّلاة» أي قد حان وقتها ، ولذلك يحسن وقوع الماضي موضع الحال إذا كان معه قد ، كقولك : رأيت زيدا قد عزم على الخروج ، أي عازما عليه ، والتي للتقليل تختص بالمضارع ، كقولهم : «قد يصدق الكذوب» ، و «قد يعثر الجواد» [أى : ربما صدق الكذوب ، وربما عثر الجواد] ، والتي للتوقّع تختص بالماضي ، قال سيبويه : وأما «قد فعل» فجواب «هل فعل» ؛ لأن السائل ينتظر الجواب : أي يتوقّعه ، وقال الخليل : هذا الكلام لقوم ينتظرون الخبر ، يريد أنّ الإنسان إذا سأل عن فعل أو علم أنه يتوقّع أن يخبر به قيل : قد فعل ، وإذا كان الخبر مبتدأ قال : فعل كذا وكذا ، ولم يأت بقد ، فاعرفه.

__________________

الفعل أنه لا ينون وأنه لا يجر ، فلما حمل الاسم ذو العلتين أو ذو العلة الواحدة التي تقوم مقام العلتين على الفعل أعطيناه من أحكام الفعل امتناعه من الجر وامتناعه من التنوين ، ما لم يعارض هذا الشبه شيء من خصائص الأسماء ، ولهذا تجدهم جروا هذا الاسم بالكسرة حين تلحقه أل أو حين يضاف ، وذلك لأن الاقتران بأل والإضافة كلاهما من خصائص الاسم ، فافهم هذا وكن منه على ثبت ، وسيأتي لهذا الكلام مزيد بيان في باب الاسم الذي لا ينصرف ، فارتقبه.

٦٤

ثم قلت : الثاني ما جمع بألف وتاء مزيدتين ، ك «هندات» فإنه ينصب بالكسرة نحو : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) [العنكبوت ، ٤٤] (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) بخلاف نحو : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) و «رأيت قضاة» وألحق به «أولات».

وأقول : الباب الثاني مما خرج عن الأصل : ما جمع بألف وتاء مزيدتين (١) ، سواء كان جمعا لمؤنث نحو : «هندات» و «زينبات» ، أو جمعا لمذكر نحو : «إصطبلات» و «حمّامات» ، وسواء كان سالما كما مثّلنا ، أو ذا تغير ك «سجدات» بفتح الجيم ، و «غرفات» بضم الراء وفتحها ، و «سدرات» بكسر الدال وفتحها.

فهذه كلها ترفع بالضمة وتجر بالكسرة على الأصل ، وتنصب بالكسرة على خلاف الأصل ، تقول : «جاءت الهندات» و «مررت بالهندات» و «رأيت الهندات» و (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) [العنكبوت ، ٤٤].

(خلق) فعل ماض ، و (الله) فاعل ، و (السموات) مفعول به ، والمفعول منصوب ، وعلامة النصب الكسرة نيابة عن الفتحة.

وقال الله تعالى : (لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) [النور ، ٢١] (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ

__________________

(١) اعلم أن الاسم الذي يجمع بالألف والتاء المزيدتين ـ وهو ما يعرف عند النحاة بجمع المؤنث السالم ـ خمسة أنواع :

الأول : الاسم المختوم بالتاء ، سواء أكان علما نحو فاطمة وطلحة ، أم كان اسم جنس نحو جارية ونحو بنت ونحو ذات : بمعنى صاحبة.

الثاني : ما كان علما لمؤنث ، سواء أكان مختوما بالتاء فيكون له سببان نحو فاطمة وعائشة ، أم كان غير مختوم بالتاء نحو هند ودعد وزينب ، وسواء أكان مسماه عاقلا كالأمثلة السابقة ، أم كان مسماه غير عاقل نحو عفراء علم على دابة لونها لون العفر وهو التراب.

الثالث : وصف المذكر غير العاقل كالجبال الراسيات والأيام المعدودات.

الرابع : الاسم المصغر الذي مكبره غير عاقل نحو دريهم تصغير درهم ونحو فليس تصغير فلس ، تقول في جمعهما : دريهمات ـ وفليسات.

الخامس : اسم الجنس والمؤنث بألف التأنيث ، سواء أكانت الألف ممدودة نحو صحراء أم كانت مقصورة نحو حبلى.

وما عدا ذلك لا يكون جمعه جمع المؤنث السالم قياسيّا ، بل يقتصر فيه على السماع ، ومما سمع منهم قولهم في جمع ابن عرس وفي جمع ابن آوى : بنات عرس ، وبنات آوى.

٦٥

أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) [البقرة ، ١٦٧] (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ، ١٤٤] ، ونظائر ذلك كثيرة.

وألحق بهذا الجمع «أولات» فينصب بالكسرة نيابة عن الفتحة ، وإن لم يكن جمعا ، وإنما هو اسم جمع ؛ لأنه لا واحد له من لفظه ، حمل على جمع المؤنث ، كما حمل «أولو» على جمع المذكر كما سيأتي ، قال الله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) [الطلاق ، ٦] ، «كنّ» كان واسمها ، و «أولات» خبرها ، وعلامة نصبه الكسرة.

ثم قلت : الثّالث «ذو» بمعنى صاحب ، وما أضيف لغير الياء من «أب» و «أخ» و «حم» و «هن» و «فم» بغير ميم ؛ فإنها تعرب بالواو والألف والياء.

وأقول : الباب الثالث مما خرج عن الأصل : الأسماء الستة المعتلّة المضافة إلى غير ياء المتكلم ؛ فإنها ترفع بالواو نيابة عن الضمة ، وتنصب بالألف نيابة عن الفتحة ، وتخفض بالياء نيابة عن الكسرة.

وشرط الأول منها ـ وهو ذو ـ أن يكون بمعنى صاحب ، تقول : «جاءني ذو مال» و «رأيت ذا مال» و «مررت بذي مال» قال الله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) [الرعد ، ٦] ، وقال تعالى : (أَنْ كانَ ذا مالٍ) [القلم ، ١٤] ، وقال تعالى : (إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) [المرسلات ، ٣٠] ، فوقع «ذو» في الأول خبرا لإنّ فرفع بالواو ، وفي الثاني خبرا لكان فنصب بالألف ، وفي الثالث صفة لظلّ فجرّ بالياء ؛ لأن الصفة تتبع الموصوف.

وإذا لم يكن «ذو» بمعنى صاحب كان بمعنى الذي ، وكان مبنيّا على سكون الواو ، تقول : «جاءني ذو قام» و «رأيت ذو قام» و «مررت بذو قام» وهي لغة طيئ ، على أن منهم من يجريها مجرى التي بمعنى صاحب فيعربها بالواو والألف والياء (١) ؛

__________________

(١) وجاء على هذه اللغة قول الشاعر :

فإمّا كرام موسرون لقيتهم

فحسبي من ذي عندهم ما كفانيا

أي يكفيني من الذي عندهم ما كان قدر الكفاية ، وذلك على رواية من روى «فحسبي من ذي عندهم» بالياء ، ومن الرواة من يرويه «فحسبي من ذو عندهم» بالواو على المشهور الشائع من لغتهم.

٦٦

فيقول : «جاءني ذو قام» و «رأيت ذا قام» و «مررت بذي قام» إلا أن ذلك شاذ ، والمشهور ما قدّمناه ، وسمع من كلامهم «لا وذو في السماء عرشه» فذو : موصولة بمعنى الذي ، وما بعدها صلة ، فلو كانت معربة لجرّت بواو القسم.

والخمسة الباقية شرطها أن تكون مضافة إلى غير ياء المتكلم (١) ، كقوله تعالى : (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) [القصص ، ٢٣] وقوله تعالى : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يوسف ، ٨] وقوله تعالى : (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ) [يوسف ، ٨١] ، فوقع الأب في الآية الأولى مرفوعا بالابتداء ، وفي الآية الثانية منصوبا بإنّ ، وفي الآية الثالثة مخفوضا بإلى ، وهو في جميع ذلك مضاف إلى غير الياء ؛ فلهذا أعرب بالواو والألف والياء ، وكذلك القول في الباقي.

__________________

(١) جملة ما يشترط لإعراب هذه الأسماء بالواو رفعا وبالألف نصبا وبالياء جرّا خمسة شروط :

الشرط الأول : أن تكون مفردة ـ أي غير مثناة ولا مجموعة ـ فلو ثنيت أعربت إعراب المثنى بالألف رفعا وبالياء المفتوح ما قبلها نصبا وجرّا ، نحو قولك «أبواك يحبانك» ونحو «إن أخويك يعينانك» وكل هذه الأسماء تثنى ، تقول : أبواك وأخواك ، وحمواك ، وفمان ، وهنوان ، وذوا مال ، ولو جمعت جمع تكسير أعربت بالحركات الظاهرة بالضمة رفعا وبالفتحة نصبا وبالكسرة جرّا ، وكلها تجمع جمع التكسير ، تقول : آباؤك وإخوتك ، وأحماؤك ، وأفواه أبنائك ، وأهناء أرحامك ، وأذواء المال ، ولو جمعت جمع المذكر السالم فإنها تعرب إعرابه بالواو رفعا وبالياء المكسور ما قبلها نصبا وجرّا ، والأصل أن هذه الأسماء لا تجمع جمع المذكر السالم ، لأنها ليست أعلاما ولا صفات ، ولكن العرب جمعوا منها الأب والأخ هذا الجمع ، قال الشاعر :

فلمّا تبيّنّ أصواتنا

بكين وفدّيننا بالأبينا

وقال آخر :

وكان بنو فزارة شرّ قوم

وكنت لهم كشرّ بني الأخينا

ومن العلماء من قاس على هذين بقيتها ، ومنهم من حكم بشذوذ ما ورد من ذلك.

الشرط الثاني : أن تكون مكبرة ، فلو صغرت أعربت بالحركات الظاهرة ، نحو «أبيك وأخيك» بتشديد الياء وضمها في حال الرفع وفتحها في حال النصب وكسرها في حال الجر.

الشرط الثالث : ألا تكون منسوبة ، فلو نسبت أعربت بالحركات الظاهرة ، نحو «أبوي ، وأخوي ، وحموي ، وهنوي».

الشرط الرابع : أن تكون مضافة ، فلو قطعت عن الإضافة أعربت بالحركات الظاهرة ، نحو قوله تعالى (وَلَهُ أَخٌ.)

الشرط الخامس : أن تكون إضافتها لغير ياء المتكلم ، وقد ذكر المؤلف الشرطين الأخيرين.

٦٧

ولو أضيفت هذه الأسماء إلى ياء المتكلم كسرت أواخرها لمناسبة الياء ، وكان إعرابها بحركات مقدّرة قبل الياء ؛ تقول : «هذا أبي» و «رأيت أبي» و «مررت بأبي» فتقدّر حركات الإعراب قبل ياء المتكلم ، كما تفعل ذلك في نحو : «غلامي».

وقد تكون في الموضع الواحد محتملة لوجهين أو أوجه :

فالأول كقوله تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) [ص ، ٢٣] فيحتمل (أخي) وجهين ؛ أحدهما : أن يكون بدلا من (هذا) فيكون منصوبا ؛ لأن البدل يتبع المبدل منه ، فكأنه قال : إن أخي ، والثاني : أن يكون خبرا ؛ فيكون مرفوعا ، وجملة (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) خبر ثان على الوجه الثاني ، وهو الخبر على الوجه الأول.

والثاني كقوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) [المائدة ، ٣٥] فيحتمل (أخي) ثلاثة أوجه :

أحدهما : أن يكون مرفوعا ، وذلك من ثلاثة أوجه : أحدهما أن يكون عطفا على الضمير في (أملك) ذكره الزمخشري ، وفيه نظر ؛ لأن المضارع المبدوء بالهمزة لا يرفع الاسم الظاهر ، لا تقول «أقوم زيد» فكذلك لا يعطف الاسم الظاهر على الاسم المرفوع به (١).

فإن قلت : وأيضا فكيف يعطف على الضمير المرفوع المتصل ولم يوجد تأكيد كما في قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنبياء ، ٥٤]؟.

قلت : الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه يقوم مقام التأكيد.

الثاني : أن يكون عطفا على محل «إنّ» واسمها ، والتقدير : وأخى كذلك.

والثالث : أن يكون مبتدأ حذف خبره ، والتقدير : وأخى كذلك.

والفرق بين الوجهين أن المعطوف في الوجه الثاني مفردان على مفردين ، كما تقول : إن زيدا منطلق وعمرا ذاهب ، وفي الوجه الثالث جملة على جملة ، كما تقول :

إن زيدا منطلق وعمرو ذاهب.

الثاني : أن يكون منصوبا ، وذلك من وجهين ؛ أحدهما : أن يكون معطوفا على

__________________

(١) قد يقال : إنه يغتفر في الثواني والتوابع ما لا يغتفر في الأوائل والمتبوعات ؛ فيصح قول الزمخشري على هذا.

٦٨

اسم «إنّ» ، والثاني أن يكون معطوفا على (نفسي).

والثالث : أن يكون مخفوضا ، وذلك من وجه واحد ، وهو أن يكون معطوفا على الياء المخفوضة بإضافة النفس ، وهذا الوجه لا يجيزه جمهور البصريين ؛ لأن فيه العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض (١).

ثم قلت : والأفصح في الهن النّقص.

وأقول : الهن يخالف الأب والأخ والحم ، من جهة أنها إذا أفردت نقصت أواخرها وصارت على حرفين ، وإذا أضيفت تمت فصارت على ثلاثة أحرف ، تقول : هذا أب ، بحذف اللام ، وأصله «أبو» فإذا أضفته قلت : هذا أبوك ، وكذا الباقي ، وأما «الهن» فإذا استعمل مفردا نقص ، وإذا أضيف بقي في اللغة الفصحى على نقصه (٢) ، تقول : هذا هن ، وهذا هنك ؛ فيكون في الإفراد والإضافة على حدّ سواء ، ومن العرب

__________________

(١) قد أجازه ابن مالك واستشهد له ، وقد قرئ : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) بجر الأرحام ، وقيل : إنه معطوف على الضمير المجرور محلا بالباء.

(٢) لغات العرب التي نقلها النحاة في هذه الأسماء ثلاث لغات :

اللغة الأولى : الإعراب بالحروف نيابة عن الحركات ، بالواو في حالة الرفع نيابة عن الضمة نحو : «هذا أبوك وأخوك وحموك» ، وبالألف في حالة النصب نيابة عن الفتحة نحو : «رأيت أباك وأخاك وحماك» ، وبالياء في حالة الجر نيابة عن الكسرة نحو : «تحدثت إلى أبيك وأخيك وحميك» وتسمى هذه اللغة لغة الإتمام.

اللغة الثانية : أن تلزم الألف في الأحوال الثلاثة ، فتكون معربة بحركات مقدرة على الألف ، تقول : «هذا أباك ، ورأيت أباك ، وتحدثت إلى أباك» وقال الشاعر على هذه اللغة :

إنّ أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها

وتسمى هذه اللغة : لغة القصر.

اللغة الثالثة : أن تعرب بحركات ظاهرة ، فتقول : «هذا أبك وأخك وحمك» بالضمة الظاهرة ، وتقول : «رأيت أبك وأخك وحمك» بالفتحة الظاهرة ، وتقول «تحدثت إلى أبك وحمك وأخك» بالكسرة الظاهرة ، وقال الراجز على هذه اللغة :

بأبه اقتدى عديّ في الكرم

ومن يشابه أبه فما ظلم

وتسمى هذه اللغة لغة النقص.

والأفصح في «الأب والأخ والحم» لغة الإتمام ، وتليها لغة القصر ، وتليها لغة النقص ، والأفصح في «الهن» لغة النقص.

٦٩

من يستعمله تامّا في حالة الإضافة ؛ فيقول : هذا هنوك ، ورأيت هناك ، ومررت بهنيك ، وهي لغة قليلة ، ولقلّتها لم يطّلع عليها الفرّاء ، ولا أبو القاسم الزّجّاحي ، فادّعّيا أن الأسماء المعربة بالحروف خمسة لا ستة.

واعلم أن لغة النقص مع كونها أكثر استعمالا هي أفصح قياسا ، وذلك لأن ما كان ناقصا في الإفراد فحقّه أن يبقى على نقصه في الإضافة ، وذلك نحو : «يد» أصلها يدي ، فحذفوا لامها في الإفراد ، وهي الياء ، وجعلوا الإعراب على ما قبلها فقالوا : هذه يد ، ثم لما أضافوها أبقوها محذوفة اللام ، قال الله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح ، ١٠] وقال الله تعالى : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) [المائدة ، ٢٨] وقال الله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) [ص ، ٤٤].

فأما الآية الأولى : ف (يد) فيها مبتدأ مرفوع بالضمة ، و (الله) مضاف إليه مخفوض بالكسرة ، و (فوق) ظرف مكان منصوب بالفتحة ، وهو متعلق بمحذوف هو الخبر : أي كائنة فوق أيديهم ، (وأيديهم) مضاف ومضاف إليه ، ورجعت الياء التي كانت في المفرد محذوفة ؛ لأن التكسير يردّ الأشياء إلى أصولها (١).

وأما الآية الثانية : فاللام دالة على قسم مقدر : أي والله لئن ، وتسمى اللام المؤذنة والموطّئة ؛ لأنها آذنت بالقسم ووطّأت الجواب له ، (وإن) حرف شرط ، و (بسطت) فعل ماض وفاعل ، و (إلىّ) جار ومجرور متعلق ببسطت ، و (يدك) مفعول به ومضاف إليه ، واللّام من (لتقتلنى) لام التعليل ، وهي حرف جر ، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها جوازا ، لا بها نفسها ؛ خلافا للكوفيين ، وأن المضمرة والفعل في تأويل مصدر مخفوض باللّام : أي للقتل ، و (ما) نافية ، و (أنا) اسمها إن قدرت حجازية وهو الظاهر (٢) ومبتدأ إن قدرت تميمية ، والباء زائدة فلا تتعلق بشيء ، وكذا جميع

__________________

(١) وكذلك رجعت الياء في التثنية عند بعض العرب ، نحو قول الشاعر :

يديان بيضاوان عند محلّم

قد تمنعانك أن تذلّ وتضهدا

وأكثر العرب لا يعيد الياء في التثنية ، وعليه قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ومنه المثل «يداك أوكتا وفوك نفخ».

(٢) وجه كونه هو الظاهر أن القرآن نزل بلغة أهل الحجاز.

٧٠

حروف الجر الزائدة ، و (باسط) خبر «ما» فيكون في موضع نصب ، أو خبر المبتدأ فيكون في موضع رفع ، والجملة جواب القسم ؛ فلا محلّ لها من الإعراب ، وهي دالة على جواب الشرط المحذوف ، والتقدير : والله ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إن بسطت إليّ يدك لتقتلني فما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك.

وأما الآية الثالثة : فواضحة ، والضّغث : قبضة من حشيش مختلطة الرّطب باليابس.

ثم قلت : الرّابع المثنّى ، كالزّيدان والهندان ، فإنّه يرفع بالألف ، ويجرّ وينصب بالياء المفتوح ما قبلها المكسور ما بعدها.

وأقول : الباب الرابع مما خرج عن الأصل : المثنى ، وهو ، كلّ اسم دال على اثنين ، وكان اختصارا للمتعاطفين ، وذلك نحو : الزيدان والهندان ؛ إذ كل منهما دال على اثنين ، والأصل فيهما : زيد وزيد ، وهند وهند ، كما قال الحجاج : «إنا لله ، محمّد ومحمد في يوم» (١) ولكنهم عدلوا عن ذلك كراهية [منهم] للتطويل والتكرار (٢).

وحكم هذا الباب : أن يرفع بالألف نيابة عن الضمة ، وأن يجر وينصب بالياء

__________________

(١) ومثل ذلك قول الراجز :

ليث وليث في مقام ضنك

كلاهما ذو أشر ومحك

(٢) يشترط في كل اسم يراد تثنيته ثمانية شروط :

الشرط الأول : أن يكون معربا ، سواء أكان مذكرا كزيد وعمرو أم كان مؤنثا كهند وفاطمة ، وسواء أكان علما كهذه الأمثلة التي ذكرناها أم كان نكرة كرجل وامرأة ، إلا أن العلم لا يثنى إلا بعد قصد تنكيره على ما نبينه لك في الشرط الثالث ، وسواء أكان مسماه عاقلا كما ذكرنا من الأمثلة أم كان مسماه غير عاقل كحمار وفرس وأتان.

فلو كان المفرد مبنيّا لم تجز تثنيته ، فلا يجوز لك أن تثني «من» ولا «كم» ولا غيرهما من المبنيات ، فأما قولهم في الحكاية «منان» و «منتان» فإن هذه الألف والنون ليستا لتثنية من ، وإنما هما لحكاية ما ورد في كلام المتكلم الأول ، وأما قولهم «هذان ، وهذين ، وهاتان ، وهاتين» من أسماء الإشارة ، وقولهم «اللذان ، واللذين ، واللتان ، واللتين» من الأسماء الموصولة فإن هذه الألفاظ عند المحققين من النحاة ليست مثنيات ، ولكنها صيغ وردت عن العرب على هذه الصور للدلالة على الاثنين أو الاثنتين.

الشرط الثاني : أن يكون مفردا ، أي غير مثنى ولا مجموع ، فإن كان الاسم مثنى أو مجموعا جمع مذكر سالما أو جمع مؤنث سالما لم تجز تثنيته ، وكذلك إن كان جمع تكسير على صيغة منتهى الجموع كمساجد

٧١

المفتوح ما قبلها المكسور ما بعدها نيابة عن الكسرة والفتحة ، نحو : «جاء الزّيدان» و «رأيت الزّيدين» و «مررت بالزّيدين» ، وكذلك تقول في «الهندان» ، وإنما مثلت

__________________

ومصابيح ، فإن كان على غير صيغة منتهى الجموع كرجال وكتب جاز تثنيته.

الشرط الثالث : أن يكون نكرة إما في الأصل وإما بالقصد ، فإن كان معرفة كالعلم لم تجز تثنيته مع بقائه على علميته ، فإن أردت أن تثنى العلم فاقصد أول الأمر إلى تنكيره ثم ثنه وأدخل عليه الألف واللام ليصير معرفة بالأداة ، فتقول : المحمدان ، والزيدان ، والعمران ، والبكران.

الشرط الرابع : ألا يكون مركبا ، والمركب ثلاثة أنواع :

الأول : المركب الإسنادي نحو «شاب قرناها» و «تأبط شرا» وهذا النوع لا تجوز تثنيته بالإجماع.

والثاني : المركب المزجي نحو «معديكرب ، وقاضيخان ، وقالي قلا» وهذا النوع مختلف في جواز تثنيته ، والصحيح عدم جوازها.

فإن أردت اثنين ممن يقال لكل منهما «تأبط شرا ، أو قاضيخان ، فجئ بمثنى ذي التي بمعنى صاحب وأضفها إلى المركب ، فتقول «ذوا تأبط شرا» ، أو ذوي تأبط شرا» وتقول أيضا «ذوا قاضيخان ، أو ذوي قاضيخان».

والنوع الثالث من المركب : هو المركب الإضافي نحو «عبد الله ، وعبد الرحمن» وهذا النوع لا تثنى جملته ، ولكن يثنى صدره ، ويضاف إلى عجزه ، فتقول : «عبدا الله ، وعبدا الرحمن ، أو عبدي الله ، وعبدي الرحمن».

الشرط الخامس : أن يكون لمسماه فرد ثان أو أكثر في الوجود ، فإن لم يكن له فرد ثان كالشمس والقمر لم تجز تثنيته إلا بتأويل سنحدثك عنه فيما يلي.

الشرط السادس : أن يكون ذلك الفرد الثاني موافقا لما تريد تثنيته في اللفظ الذي يطلق عليه ، فإن كان لكل واحد منهما اسم غير اسم الآخر ـ مثل الأب والجد ، ومثل الأب والأم ، ومثل الشمس والقمر ، ومثل أبي بكر وعمر ، ومثل القمر ووجه الحسناء لم تجز تثنيتهما على اسم أحدهما إلا بتأويل سنحدثك عنه فيما يلي أيضا.

الشرط السابع : أن يكون ذلك الفرد الثاني موافقا لما تريد تثنيته في معنى اللفظ الذي يطلق عليه ، فإن كان اللفظ يطلق على أحدهما حقيقة وعلى الآخر مجازا ، كلفظ البحر الذي يطلق على البحر المعروف حقيقة ويطلق على العالم الواسع المعرفة مجازا ، وكلفظ الشمس أو لفظ القمر الذي يطلق على كوكب السماء حقيقة وعلى الفتاة الحسناء مجازا ، فإن النحاة لا يجيزون تثنية هذا النوع ، فلا يجوز عندهم أن نقول «بحران» وأنت تريد البحر المعروف وعالما متبحرا في المعرفة ، لما يلزم عليه من إطلاق اللفظ على حقيقته ومجازه في آن واحد ، ولكن التحقيق يقتضي جوازه.

وقد قالت العرب «القمران» وهم يريدون الشمس والقمر ، وقالوه أيضا وهم يريدون قمر السماء وفتاة مليحة حسناء ، وقالوا «أبوان» وهم يريدون الأب والجد ، وقالوه وهم يريدون الأب والأم ، وقالوا «العمران» وهم يريدون أبا بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما ، وقالوا «القلم أحد اللسانين». وقال الله تعالى : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) وهذا باب من أبواب التغليب حاصله أن المتكلم غلب أحد الاسمين على الاسم الآخر لنكتة.

وقد اعتبر النحاة هذه الألفاظ من الملحق بالمثنى ، لانتفاء الشرط.

٧٢

ب «الزيدان» و «الهندان» ليعلم أن تثنية المذكر والمؤنث في الحكم سواء ، بخلاف جمعهما السالم.

ومن شواهد الرفع قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) [المائدة ، ٢٣].

(قال) فعل ماض ، و (رجلان) فاعل ، والفاعل مرفوع ، وعلامة الرفع هنا الألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى ، ومعمول (يخافون) محذوف : أي يخافون الله ، وجملة (أنعم الله عليهما) تحتمل أن تكون خبرية فتكون في موضع رفع على أنها صفة ثانية لرجلان ، والمعنى : قال رجلان موصوفان بأنهما من الذين يخافون ، وبأنهما أنعم الله عليهما بالإيمان ، وتحتمل أن تكون دعائية مثلها في قولك «جاءني زيد رحمه‌الله» فتكون معترضة بين القول والمقول ، ولا موضع لها كسائر الجمل المعترضة ، ومثله في الاعتراض بالدّعاء قول الشاعر :

١٣ ـ إنّ الثّمانين ـ وبلّغتها ـ

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

ومن شواهد الجرّ قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ

______________________________________________________

١٣ ـ هذا بيت من بحر السريع من قصيدة لأبي المنهال عوف بن محلم ، الخزاعي ، الشيباني ، يقولها في مدح عبد الله بن طاهر ، وكان قد دخل عليه ، فسلم ، وأجابه عبد الله ، فلم يسمع ، فلما أعلم بذلك دنا منه وارتجل قصيدة أولها :

يا بن الّذي دان له المشرقان

طرّا ، وقد دان له المغربان

وبعده البيت الذي ذكره المؤلف ، وانظر الترجمة رقم ٣٤٠ من فوات الوفيات بتحقيقنا.

اللّغة : «ترجمان» بفتح التاء والجيم أو ضمهما أو فتح التاء وضم الجيم ـ وأصله الذي ينقل إليك كلام غيرك عن لغته إلى لغتك.

المعنى : يعتذر عن عدم سماعه تحية الممدوح بأنه قد طعن في السن ، وطال به العمر ، ويدعو للممدوح بأن ينسأ الله له في أجله ويطيل بقاءه.

__________________

الشرط الثامن : ألا يستغنى عن تثنية الاسم بتثنية غيره ، فإنهم لم يثنوا «سواء» اكتفاء بتثنية «سي» وشذ عند النحاة قول الشاعر :

فيا ربّ إن لم تجعل الحبّ بيني وبينها

سواءين فاجعلني على حبّها جلدا

٧٣

عَظِيمٍ)(١)(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ)(٢)(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) [آل عمران ، ١٣].

ومثال النصب قوله تعالى : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) [فصلت ، ٢٩].

(ربنا) منادى [مضاف] حذف قبله حرف النداء ، والتقدير : يا ربّنا ، و (أر) فعل دعاء ، ولا تقل فعل أمر تأدبا ، والفاعل مستتر ، و (نا) مفعول أول ، و (اللذين) مفعول ثان ، وعلامة نصبه الياء (٣) ، وما بعده صلة.

وقد اجتمع النصب بالياء والرفع بالألف في قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ)(٤).

______________________________________________________

الإعراب : «إن» حرف توكيد ونصب ، «الثمانين» اسم إن ، منصوب بالياء نيابة عن الفتحة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم ، «وبلغتها» الواو عاطفة ، بلغ فعل ماض مبني للمجهول ، وتاء المخاطب نائب فاعل ، وضمير الغائب العائد إلى الثمانين مفعول ثان ، والجملة لا محل لها ، وهي اعتراض بين اسم إن وخبرها ، والمقصود بها الدعاء للمخاطب ، «قد» حرف تحقيق ، «أحوجت» أحوج : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى الثمانين ، «سمعي» سمع : مفعول به ، وهو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «إلى ترجمان» جار ومجرور متعلق بأحوج ، وجملة أحوجت مع فاعله في محل رفع خبر إن.

الشّاهد فيه : قوله «وبلغتها» فإن هذه الجملة معترضة بين جزأي الجملة وهما اسم إن الذي هو قوله : «الثمانين» وخبره الذي هو جملة «قد أحوجت» مع فاعله ومفعوله ، والمقصود بهذه الجملة الدعاء للمخاطب بأن يطيل الله حياته ويمد في أجله حتى يصل إلى الثمانين ، وكل جملة تقع معترضة بين جزأي جملة على مثل هذا الوجه لا يكون لها محل من الإعراب ؛ فهذه الجملة لا محل لها من الإعراب.

__________________

(١) سورة الزخرف ، ٣١. والاستشهاد بهذه الآية في قوله (الْقَرْيَتَيْنِ.)

(٢) سورة فصلت ، ١٢. والاستشهاد بهذه الآية في قوله (يَوْمَيْنِ.)

(٣) جرى هنا على أن «اللذين» مثنى حقيقة ؛ وأنه معرب ، وهو رأي ضعيف عند النحاة ، وقد قررنا لك آنفا أن «اللذين واللتين» ـ ومثلهما «هذان ، وهاتان» ـ ليسا مثنيين وأن كل واحد من هذه الألفاظ صيغة وردت عن العرب لتستعمل في موضع خاص ، وأن هذا الذي نقرره هو رأي المحققين من النحاة.

(٤) سورة طه ، ٦٣ ، والتمثيل بالآية مبني على أن «هذان» مثنى معرب.

٧٤

وفي هذا الموضع قراءات :

إحداها : هذه ، وهي تشديد النون من «إنّ» و «هذين» بالياء ، وهي قراءة أبي عمرو ، وهي جارية على سنن العربية ؛ فإن «إنّ» تنصب الاسم وترفع الخبر ، و «هذين» اسمها ؛ فيجب نصبه بالياء لأنه مثنى ، و «ساحران» خبرها فرفعه بالألف.

والثانية : «إن» بالتخفيف «هذان» بالألف ، وتوجيهها أن الأصل «إنّ هذين» فخففت (إن) بحذف النون الثانية ، وأهملت كما هو الأكثر فيها إذا خفّفت ، وارتفع ما بعدها بالابتداء والخبر فجيء بالألف ، ونظيره أنك تقول : إنّ زيدا قائم ؛ فإذا خفّفت فالأفصح أن تقول : إن زيد لقائم على الابتداء والخبر ؛ قال الله تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)(١).

والثالثة : «إنّ» بالتشديد «هذان» بالألف ، وهي مشكلة ؛ لأن «إنّ» المشدّدة يجب إعمالها ؛ فكان الظاهر بالإتيان بالياء كما في القراءة الأولى.

وقد أجيب عليها بأوجه :

أحدها : أن لغة بلحارث بن كعب ، وخثعم ، وزبيد وكنانة وآخرين استعمال المثنى بالألف دائما ، تقول : جاء الزّيدان ، ورأيت الزّيدان ، ومررت بالزّيدان ، قال :

١٤ ـ * تزوّد منّا بين أذناه طعنة*

وقال الآخر :

______________________________________________________

١٤ ـ هذا صدر بيت من الطويل ، وعجزه قوله :

* دعته إلى هابي التّراب عقيم*

__________________

(١) سورة الطارق ، ٤ ، والاستشهاد بالآية الكريمة على قراءة من خفف الميم من (لما) وقد قرأ بذلك نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب ، وإعرابها «إن» مخففة من الثقيلة «كل» مبتدأ ، وهو مضاف و «نفس» مضاف إليه ، «لما» اللام لام الابتداء ، وما زائدة «عليها» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، «حافظ» مبتدأ مؤخر ، وجملة المبتدأ المؤخر وخبره المقدم في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو «كل» ، والجملة من كل الواقع مبتدأ وخبره في محل رفع خبر إن المخففة.

٧٥

١٥ ـ إنّ أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها

فهذا مثال مجيء المنصوب بالألف ، وذاك مثال مجيء المجرور بالألف.

______________________________________________________

وقد نسبه في اللسان «مادة ه ب ا) إلى هوبر الحارثي ، وقد استشهد به في الهمع (ج ١ ص ٤).

اللّغة : «هايي التراب» وهو ما ارتفع منه ودق ، ويقال : موضع التراب ؛ إذا كان ترابه مثل الهباء.

المعنى : يصف رجلا قتله أبطالهم ، ويذكر أنهم طعنوه طعنة واحدة ، فخر منها ميتا ، لأنها طعنة خبير بموضع الطعن المميت.

الإعراب : «تزود» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو ، «بين» ظرف مكان منصوب على الظرفية ، وعامله قوله تزود ، وهو مضاف ، وأذنا من قوله «أذناه» مضاف إليه ، مجرور بكسرة مقدرة على الألف ، وأذنا مضاف وضمير الغائب مضاف إليه ، «طعنة» مفعول به لتزود ، «دعته» دعا : فعل ماض ، والتاء علامة التأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى طعنة ، وضمير الغائب مفعول به ، «إلى» حرف جر ، «هايي» مجرور بإلى ، والجار والمجرور متعلق بدعا ، وهابي مضاف و «التراب» مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة ، «عقيم» هي في الرواية بالرفع كما ضبطها في اللسان ، وتخرج على أنه خبر مبتدأ محذوف ، ولكنها في المعنى من أوصاف طعنة ، ويقال طعنة عقيم ، إذا كانت لا تثنى لأنها نافذة.

الشّاهد فيه : قوله «أذناه» فإنه مثنى أذن ، للجارحة المعروفة ، وهذه الكلمة في موضع جر بإضافة الظرف الذي هو بين إليها كما رأيت في إعراب البيت ، ومن حق المضاف إليه أن يكون مجرورا ، ولو أنه جاء به على اللغة المشهورة المستعملة في لسان أكثر العرب لجره بالياء فقال «بين أذنيه» ، ولكنه جاء بذلك على ما يجري به لسان بعض العرب ، وهم الذين ذكرهم المؤلف ، ومن لغة هؤلاء أن يلتزموا في المثنى الألف في الأحوال كلها ، فيكون مرفوعا بضمة مقدرة على الألف ، منع من ظهورها التعذر ، وهكذا في بقية الأحوال الثلاثة ، فهو في ذلك مثل المقصور كالفتى والهدى والعصا والرحى ، ونحوهن.

ونظير هذا البيت قول المتلمس :

فأطرق إطراق الشّجاع ، ولو رأى

مساغا لناباه الشّجاع لصمّما

الشاهد في قوله «لناباه» فإنه مثنى ناب دخل عليه حرف الجر وهو اللام ، وقد أتى به الشاعر بالألف ، ولو جاء به على لغة أكثر العرب لقال «لنابيه».

١٥ ـ نسب قوم هذا الشاهد لرؤبة بن العجاج ، ونسبه آخرون منهم السيد المرتضى شارح القاموس لابن النجم الفضل بن قدامة العجلي ، ونسب أبو زيد أبياتا يذكر النحاة في ضمنها بيت

٧٦

والثاني : أن «إنّ» بمعنى نعم (١) مثلها فيما حكي أن رجلا سأل ابن الزّبير شيئا فلم يعطه ، فقال : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال : إنّ وراكبها ، أي : نعم ولعن الله

______________________________________________________

الشاهد إلى بعض أهل اليمن ، ولكن أبا زيد لم يرو هذا البيت فيما رواه ، وهذا الشاهد بيت من الرجز أو هو بيتان من مشطور الرجز ، وقد أنشده الأشموني (رقم ١٦) والمؤلف في كتابه أوضح المسالك (رقم ٩).

الإعراب : «إن» حرف توكيد ونصب ، «أباها» أبا : اسم إن ، منصوب بفتحة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر ، وأبا مضاف وضمير الغائبة مضاف إليه ، «وأبا» الواو عاطفة ، أبا : معطوف على اسم إن ، وهو مضاف وأبا من «أباها» مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر ، وهو مضاف وضمير الغائبة مضاف إليه ، «قد» حرف تحقيق ، «بلغا» فعل ماض ، وألف الاثنين فاعله ، مبني على السكون في محل رفع ، «في المجد» جار ومجرور متعلق ببلغ ، «غايتا» غايتا : مفعول به ، منصوب بفتحة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر ، وغايتا مضاف والضمير مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «غايتاها» فإنه مثنى غاية ، والمثنى في لغة أكثر العرب ينصب بالياء ، وفي لغة من ذكرهم المؤلف ينصب ويرفع ويخفض بحركات مقدرة على الألف ، وهذه الكلمة قد وقعت هنا في موضع المنصوب لأنها مفعول به ، ولو أنه أجراها على اللغة المشهورة لقال «قد بلغا غايتيها».

والنحاة يروون قبل هذا الشاهد قوله :

واها لريّا ثمّ واها واها

يا ليت عيناها لنا وفاها

بثمن نرضي به أباها

وفي قوله «يا ليت عيناها» شاهد آخر لمجيء المثنى بالألف في حالة النصب ، فإن قوله «عيناها» اسم ليت ، وكان من حقه لو جاء به على المشهور من لغات العرب أن يقول : «يا ليت عينيها».

وفي قوله «وأبا أباها» شاهد آخر ، هو أن «أباها» مضاف إليه ، وهو من الأسماء الستة التي ترفع بالواو وتنصب بالألف وتخفض بالياء في لغة جمهرة العرب ؛ فكان حقه أن يقول «أبا أبيها» إلا أن

__________________

(١) ومن شواهد ورود «إن» بمعنى نعم قول ابن قيس الرقيات :

بكر العواذل في الصّبو

ح يلمنني وألومهنّه

ويقلن : شيب قد علا

ك ، وقد كبرت ، فقلت : إنّه

فإن هذا الشاعر يريد أن يجيب العواذل بقوله : نعم إني قد علاني الشيب وكبرت سني ، ولا أزال على ما كنت عليه في أيام الشباب والفتوة.

٧٧

راكبها ، و «إنّ» التي بمعنى نعم لا تعمل شيئا ، كما أن نعم كذلك ، ف (هذانِ) مبتدأ مرفوع بالألف ، و (لَساحِرانِ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي : لهما ساحران ، والجملة خبر (هذانِ) ولا يكون (لَساحِرانِ) خبر (هذانِ) لأن لام الابتداء لا تدخل على خبر المبتدأ.

والثالث : أن الأصل إنّه هذان لهما ساحران ؛ فالهاء ضمير الشأن ، وما بعدها مبتدأ وخبر ، والجملة في موضع رفع على أنها خبر «إنّ» ثم حذف المبتدأ وهو كثير ، وحذف ضمير الشأن كما حذف من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون» (١) ، ومن قول بعض العرب : «إنّ بك زيد مأخوذ».

الرابع : أنه لما ثنّي «هذا» اجتمع ألفان : ألف هذا ، وألف التثنية ؛ فوجب حذف واحدة منهما لالتقاء الساكنين ؛ فمن قدّر المحذوفة ألف «هذا» والباقية ألف التثنية قلبها في الجرّ والنصب ياء ، ومن قدّر العكس لم يغير الألف عن لفظها.

الخامس : أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد ـ وهو «هذا» ـ جعل كذلك في التثنية ؛ ليكون المثنى كالمفرد ؛ لأنه فرع عليه.

واختار هذا القول الإمام العلامة تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن تيميّة رحمه‌الله ،

______________________________________________________

قوما من العرب يلزمون الأسماء الستة الألف في الأحوال الثلاثة ، ويرفعونها وينصبونها ويخفضونها بحركات مقدرة على الألف ، وهذا الراجز قد جاء في هذه الكلمة على هذه اللغة ، فافهم ذلك.

__________________

(١) لا يجوز أن تكون «إن» في هذا الحديث عاملة النصب والرفع في المذكور من الكلام ، على أية لغة من لغات العرب ؛ إذ لو كانت عاملة في المذكور لكانت الرواية : «إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورين» على أن يكون قوله : «المصورين» اسم إن منصوبا بالياء لأنه جمع مذكر سالم ، ولا يجوز أن تكون مهملة لأنها لا تهمل وهي مشددة مؤكدة ، فلزم أن يكون اسمها ضمير شأن محذوفا ، والمذكور في الكلام جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبر إن.

ومن مجيء اسمها ضمير شأن محذوفا قول الأخطل التغلبي :

إنّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء

إذ لا يجوز أن يكون «من» اسمها ؛ لكونه اسم شرط ، وأسماء الشرط لا يعمل ما قبلها فيما بعدها ولا يعمل فيها ما قبلها ؛ لأنها تقطع ما قبلها عما بعدها ، ولأن لها صدر الكلام.

٧٨

وزعم أن بناء المثنى إذا كان مفرده مبنيّا أفصح من إعرابه ، قال : وقد تفطّن لذلك غير واحد من حذّاق النّحاة.

ثم اعترض على نفسه بأمرين ؛ أحدهما : أن السبعة أجمعوا على البناء في قوله تعالى : (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) [القصص ، ٢٧] مع أن «هاتين» تثنية «هاتا» وهو مبني ، والثاني : أن «الذي» مبني ، وقد قالوا في تثنيته الّذين في الجر والنصب ، وهي لغة القرآن كقوله تعالى : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) [فصلت ، ٢٩].

وأجاب عن الأول بأنه إنما جاء «هاتين» بالياء على لغة الإعراب لمناسبة «ابنتيّ» قال : فالإعراب هنا أفصح من البناء ؛ لأجل المناسبة ، كما أن البناء في (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [البقرة ، ٢٤٨] أفصح من الإعراب ؛ لمناسبة الألف في «هذان» للألف في ساحران.

وأجاب عن الثاني بالفرق بين «اللذان» و «هذان» بأن «اللذان» تثنية اسم ثلاثي ؛ فهو شبيه ب «الزيدان» ، و «هذان» تثنية اسم على حرفين ؛ فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف.

قال رحمه‌الله تعالى : وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ (إن هذان) لحن ، وأن عثمان رضي‌الله‌عنه قال : إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ، وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه :

أحدها : أن الصحابة رضي‌الله‌عنهم كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات ، فكيف يقرّون اللحن في القرآن ، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟

والثاني : أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام ، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟

والثالث : أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم ؛ لأن المصحف الكريم يقف عليه العربيّ والعجميّ!

الرابع : أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب (التَّابُوتُ) بالهاء على لغة الأنصار فمنعوه من ذلك ، ورفعوه إلى عثمان ـ رضي‌الله‌عنهم ـ وأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش ، ولما بلغ عمر رضي‌الله‌عنه أن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه

٧٩

قرأ «عتّى حين» [يوسف ، ٣٥] على لغة هذيل أنكر ذلك عليه ، وقال : أقرئ الناس بلغة قريش ؛ فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم ، ولم ينزله بلغة هذيل ، انتهى كلامه ملخصا.

وقال المهدوي في شرح الهداية : وما روي عن عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ من قولها : «إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها» لم يصح ، ولم يوجد في القرآن العظيم حرف واحد إلا وله وجه صحيح في العربية ، وقد قال الله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت ، ٤٢] والقرآن محفوظ من اللحن والزيادة والنقصان ، انتهى.

وهذا الأثر إنما هو مشهور عن عثمان رضي‌الله‌عنه ، كما تقدم من كلام ابن تيميّة رحمه‌الله ، لا عن عائشة رضي‌الله‌عنها كما ذكره المهدويّ ، وإنما المرويّ عن عائشة ما رواه الفرّاء عن أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه أنها رضي‌الله‌عنها سئلت عن قوله تعالى في سورة النساء (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء ، ١٦٢] بعد قوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ) وعن قوله تعالى في سورة المائدة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة ، ٦٩] ، وعن قوله تعالى في سورة طه : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه ، ٦٢] فقالت : يا ابن أخي ، هذا خطأ من الكاتب ـ روى هذه القصّة الثعلبيّ وغيره من المفسرين ، وهذا أيضا بعيد الثبوت عن عائشة رضي‌الله‌عنها ؛ فإن هذه القراءات كلها موجّهة كما مرّ في هذه الآية ، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيتين الأخيرتين عند الكلام على الجمع ، وهي قراءة جميع السبعة في (الْمُقِيمِينَ) و (الصَّابِئُونَ) وقراءة الأكثر في (إِنْ هذانِ) فلا يتّجه القول بأنها خطأ ؛ لصحتها في العربية وثبوتها في النّقل (١).

ثم قلت : وألحق به اثنان ، واثنتان ، وثنتان مطلقا وكلا وكلتا مضافين إلى مضمر.

__________________

(١) قد أجاب الأديب النحوي الأندلسي أبو زكريا يحيى بن علي بن سلطان اليفرني الملقب ب «جبل النحو» عن هذه الآية الكريمة بجواب آخر ، وحاصله أن «إن» مؤكدة تعمل النصب والرفع ؛ و «ها» اسم إن ، وهو ضمير القصة ، و «ذان» مبتدأ ، و «لساحران» خبر المبتدأ ، وجملة المبتدأ وخبره في محل رفع خبر إن ـ وأقول : يعترض على هذا التخريج باعتراضين : الأول : أن هذا التخريج كان يقتضي أن يكتب في المصحف «إنها ذان لساحران» فأما وقد كتبت (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) فإنه يلزم اعتبار «ها» جزءا من «هذان» ويكون حرف تنبيه ، والاعتراض الثاني : أن دخول اللام على خبر المبتدأ ضعيف فلا يجوز تخريج القرآن عليه ، ويمكن أن يجاب عن الأول بأن خط المصحف ليس جاريا على قياس الكتابة العربية المصطلح عليها ، ولهذا لا يجوز أن يقاس عليه ، وعن

٨٠