شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

أحدهما : أن المنادى محذوف ، أي : يا هؤلاء اسجدوا ، ويا قوم ليتنا نردّ ، ويا قوم ربّ كاسية في الدنيا.

والثاني : أن «يا» فيهن للتنبيه ، لا للنداء.

الثالثة : الإسناد إليه ، وهو أن يسند إليه ما تتمّ به الفائدة ، سواء كان المسند فعلا أو اسما أو جملة ؛ فالفعل ك «قام زيد» ف «قام» فعل مسند ، و «زيد» اسم مسند إليه ، والاسم نحو : «زيد أخوك» فالأخ : مسند ، وزيد : اسم مسند إليه ، والجملة نحو : «أنا قمت» ف «قام» فعل مسند إلى التاء ، وقام والتاء جملة مسندة إلى أنا.

فإن قلت : فما تصنع في إسنادهم «خير» إلى «تسمع» في قولهم : «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» (١) مع أنّ «تسمع» فعل بالاتفاق؟

قلت : «تسمع» على إضمار «أن» والمعنى أن تسمع ، والذي حسّن حذف «أن» الأولى ثبوت «أن» الثانية والفعل في تأويل مصدر ، أي : سماعك ؛ فالإخبار في الحقيقة إنما هو عن الاسم (٢).

__________________

فعل الأمر أو جملة دعائية علمنا أن المنادى بحرف النداء محذوف لكثرة ما رأينا مثله مذكورا في الكلام ، فأما إذا وجدنا حرف النداء قد وقع بعده «ليت» أو «رب» فالراجح أن نجعل هذا الحرف دالّا على التنبيه لأنه لم يكثر وقوع المنادى مذكورا قبله.

(١) قد روي هذا المثل بثلاث روايات :

الأولى «أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» بنصب تسمع بأن المصدرية المذكورة ، وهذه الرواية لا غبار عليها ولا إشكال فيها ؛ لأن الخبر إنما هو عن المصدر المنسبك من أن والفعل المذكورين كما قال المؤلف ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة البقرة ، ١٨٤] ، وقول العرب : أن ترد الماء بماء أكيس.

والرواية الثانية : «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» بنصب تسمع من غير وجود أن ، وفي هذه الرواية إشكال ، وهو حذف أن المصدرية وبقاء عملها ، وهو النصب ، مع أن القياس أنه متى حذف الناصب للمضارع ارتفع الفعل لضعف عامل النصب ، والرواية الثالثة «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» برفع الفعل المضارع على ما يقتضيه القياس الذي قررناه ، وهذه هي الرواية التي تكلم المؤلف عنها وخرجها.

(٢) ومثل هذا المثل في حذف أن ونصب المضارع قول طرفة بن العبد البكري في معلقته :

ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذات هل أنت مخلدي

فإنه أراد «أن أحضر الوغى» فحذف أن وأبقى المضارع منصوبا بعد حذفها ، وكان في ذكر «أن» في قوله وأن أشهد اللذات» إيماء وإشارة إلى المحذوفة.

٤١

وهذه (١) العلامة هي أنفع علامات الاسم ، وبها تعرف اسمية «ما» في قوله تعالى (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) [الجمعة / ١١] (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل ، ٩٦] ألا ترى أنها قد أسند إليها الأخيريّة في الآية الأولى ، والنّفاد في الآية الثانية ، والبقاء في الآية الثالثة ؛ فلهذا حكم بأنها فيهن اسم موصول بمعنى الذي ، وكذلك «ما» في قوله تعالى : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) [طه ، ٦٩] هي موصولة بمعنى الذي ، و «صنعوا» صلة ، والعائد محذوف : أي : إن الذي صنعوه ، و «كيد» خبر ، ويجوز أن تقدرها موصولا حرفيّا ؛ فتكون هي وصلتها في تأويل المصدر ، ولا تحتاج حينئذ إلى تقدير عائد ، وليس لك أن تقدرها حرفا كافّا ، مثله في قوله تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء ، ١٧١] لأن ذلك يوجب نصب «كيد» على أنه مفعول «صنعوا».

ثم قلت : والفعل إمّا ماض ، وهو ما يقبل تاء التأنيث الساكنة كقامت وقعدت ، ومنه نعم وبئس وعسى وليس ، أو أمر ، وهو : ما دلّ على الطلب مع قبول ياء المخاطبة كقومي ، ومنه هات وتعال ، أو مضارع ، وهو : ما يقبل لم كلم يقم ، وافتتاحه بحرف من «نأيت» : مضموم إن كان الماضي رباعيّا كأدحرج وأجيب ، ومفتوح في غيره كأضرب وأستخرج.

وأقول : أنواع الفعل ثلاثة : ماض ، وأمر ، ومضارع ولكل منها علامة تدل عليه. فعلامة الماضي تاء التأنيث الساكنة (٢) كقامت وقعدت ، ومنه قول الشاعر :

__________________

(١) إنما كان الإسناد خاصّا بالاسم لأن المسند خبر عن المسند إليه وحديث ينسب إليه ، ونحن نعلم أن الخبر والحديث لا يكون إلا عن الألفاظ الدالة على الذات ، واللفظ الدال على الذات بوضعه هو الاسم ، فأما الفعل فإنه يدل بوضعه على الحدث أو الوصف ، وإن دل على الذات فإنما يدل عليها بالالتزام لعلمنا أنه ما من حدث إلا له محدث ، وأما الحرف الأول فلا دلالة له على حدث ولا على ذات ، فهذا هو السر في كون الإسناد إلى اللفظ خاصّا بالاسم.

(٢) تاء التأنيث هي التي تدل على أن مصحوبها مسند إلى مؤنث نحو قوله تعالى (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) ووصفها بالسكون نظرا لأصلها ، فلا ينافي أنه قد يعرض لها التحرك لسبب كالتخلص من التقاء الساكنين في نحو قوله تعالى (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) وكالمناسبة في نحو قوله سبحانه (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) وكنقل حركة ما بعدها إليها في نحو (قالَتْ أُمَّةٌ) بضم التاء ، فإن هذه الضمة هي ضمة همزة أمة نقلت إلى التاء ووصلت الهمزة.

٤٢

٣ ـ ألمّت فحيّت ثمّ قامت فودّعت

فلمّا تولّت كادت النّفس تزهق

وبذلك استدلّ على أن «عسى» و «ليس» ليسا حرفين كما قال ابن السّرّاج وثعلب في عسى ، وكما قال الفارسي في ليس (١) ، وعلى أن «نعم» ليست اسما كما

______________________________________________________

٣ ـ هذا بيت من الطويل من كلام جعفر بن علبة ـ بضم العين وسكون اللام ـ أحد بني كعب ابن الحارث ، وهو شاعر غزل مقل ، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية ، وبيته هذا قد اختاره أبو تمام ضمن ستة أبيات في ديوان الحماسة (ج ١ ص ٥١) من شرح الحماسة للتبريزي بتحقيقنا).

اللّغة : «ألمت» زارت ، «حيت» فعل ماض من التحية «تولت» انصرفت راجعة ، «تزهق» تخرج.

المعنى : يصف أن حبيبته زارته فألقت عليه التحية ، ثم لم تلبث أن غادرته مودعة ، ويصف أنه لم يطق توديعها وانصرافها ، بل تألمت نفسه حتى عاين من الألم وبسببه ما يعاين المشرف على الموت.

الإعراب : «ألمت» ألم : فعل ماض ، والتاء علامة التأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي ، «فحيت» الفاء عاطفة ، وما بعدها فعل ماض متصل بتاء التأنيث ، وفيه ضمير مستتر جوازا هو فاعله ، «ثم قامت فودعت» كذلك ، «فلما» الفاء عاطفة ، لما : ظرفية بمعنى حين ، تتعلق بقوله تزهق في آخر البيت ، «تولت» تولى : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، وفاعله ضمير مستتر فيه ، والجملة في

__________________

فأما تاء التأنيث المتحركة أصالة فهي مختصة بالاسم نحو قائمة وقاعدة وذاهبة ومقيمة.

وأما التاء التي تدل على تأنيث اللفظ فإنها تدخل على الحرف ، وقد دخلت على رب من حروف الجر ، وعلى ثم من حروف العطف ، وعلى لا من حروف النفي ، فقالوا : ربت ، وثمت ، ولات ، وقال الشاعر :

وربّت سائل عني حفيّ

أعارت عينه أم لم تعارا

وقال آخر :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني

وقال الله تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) قال عبد الله بن أيوب التميمي :

لهفي عليك للهفة من خائف

يبغي جوارك حين لات مجير

(١) نظر القائلون بحرفية عسى وليس إلى معناهما ، فقالوا : عسى كلمة تدل على الترجي ، فهي مثل لعل في ذلك ، وليس كلمة تدل على النفي ، فهي مثل ما في ذلك ، ولما كانت لعل حرفا باتفاق ، وجب أن تكون عسى حرفا أيضا ، ولما كانت ما حرفا باتفاق وجب أن تكون ليس كذلك ، ورد هذا الاستدلال بأنه لا يلزم أن يكون الكلمتان اللتان تدلان على معنى واحد متحدتين في النوع ، فكم من الأسماء ما يدل على معنى الحروف ، وكم من الأفعال ما يدل على معنى يدل عليه حرف.

٤٣

يقول الفرّاء ومن وافقه (١) ، بل هي أفعال ماضية ؛ لاتصال التاء المذكورة بها ، وذلك كقولك : «ليست هند ظالمة فعست أن تفلح» وقوله عليه الصلاة والسّلام : «من توضّأ يوم الجمعة فبها ونعمت» وقول الشاعر :

٤ ـ نعمت جزاء المتّقين الجنّه

دار الأمان والمنى والمنّه

واحترزت بالساكنة عن المتحركة ، فإنها خاصة بالأسماء ، كقائمة وقاعدة.

وعلامة الأمر مجموع شيئين لا بدّ منهما ؛ أحدهما : أن يدلّ على الطلب ، والثاني : أن يقبل ياء المخاطبة ، كقوله تعالى : (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) [سورة مريم ، من الآية ٢٦].

______________________________________________________

محل جر بإضافة لما إليها ، «كادت» كاد : فعل ماض ناقص ، والتاء للتأنيث ، «النفس» اسم كاد ؛ مرفوع بالضمة الظاهرة ، «تزهق» فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى النفس ، والجملة من الفعل المضارع وفاعله في محل نصب خبر كاد.

الشّاهد فيه : قوله «ألمت ، حيت ، قامت ، ودعت ، تولت ، كادت» فإن الكلمات الست أفعال ماضية ، بدليل إلحاق تاء التأنيث بكل واحدة منها.

٤ ـ لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وهو بيت من الرجز أو بيتان من مشطوره.

اللّغة : «الأماني» جمع أمنية ـ بضم الهمزة ، وياؤها مشددة في الأصل ، وكذا ياء الجمع كما وقع في قوله تعالى (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) [النساء ، ١٢٣] ، ولكن الشاعر خفف ياء الجمع ، والأمنية : ما يتمناه الإنسان ، «المنى» ـ بضم الميم وفتح النون ـ جمع منية ـ بضم فسكون ـ وهي بمعنى الأمنية ، «المنة» بكسر الميم وتشديد النون ـ أراد بها العطية.

الإعراب : «نعمت» نعم : فعل ماض يدل على إنشاء المدح ، والتاء علامة التأنيث ، «جزاء» فاعل نعم ، وجزاء مضاف و «المتقين» مضاف إليه ، والجملة من الفعل الذي هو نعم والفاعل في محل رفع خبر مقدم ، «الجنة» مبتدأ مؤخر ، وهذا هو المخصوص بالمدح ، «دار» بدل من الجنة ، ودار مضاف و «الأماني» مضاف إليه و «المنى والمنة» معطوفان على الأماني.

__________________

(١) زعموا أن نعم وبئس اسمان بمعنى الممدوح والمذموم بدليل دخول حرف الجر عليهما فيما روي أن أعرابيا بشر بأن امرأته ولدت بنتا فقال «والله ما هي بنعم الولد» وأن آخر سار إلى محبوبته على حمار بطيء السير ، فقال : «نعم السير على بئس العير» ورد هذا الاستدلال بأن مدخول حرف الجر اسم محذوف ، أي ما هي بولد مقول فيه نعم الولد ، ونعم السير على حمار مقول فيه بئس العير.

٤٤

ومنه «هات» بكسر التاء ، و «تعال» بفتح اللام ، خلافا للزّمخشري في زعمه أنهما من أسماء الأفعال ، ولنا أنهما (١) يدلان على الطلب ويقبلان الياء ، تقول : «هاتي» بكسر التاء ، و «تعالي» بفتح اللام ، قال الشاعر :

______________________________________________________

٥ ـ إذا قلت هاتي نوّليني تمايلت

عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل

الشّاهد فيه : قوله «نعمت» فإن دخول تاء التأنيث يدل على أن «نعم» فعل ماض ؛ لأن تاء التأنيث لا تلحق إلا هذا النوع من أنواع الكلمات ، وهذا الذي اختاره المؤلف هو مذهب جمهرة النحاة إلا الفراء ، وهو الذي تنصره الأدلة ، ويشهد له الاستعمال العربي ، وقد أنث صاحب هذا الشاهد «نعم» مع أن فاعلها ـ وهو قوله «جزاء المتقين» ـ مذكر لكون المخصوص بالمدح ـ وهو قوله «الجنة» ـ مؤنثا.

ونظير هذا البيت في كل ما جيء به من أجله قول ذي الرمة يصف ناقة من قصيدة يمدح فيها بلال بن أبي بردة :

أو حرّة عيطل ثبجاء مجفرة

دعائم الزور ، نعمت زورق البلد

٥ ـ هذا بيت من الطويل لامرئ القيس بن حجر الكندي ، أحد الفحول من شعراء الجاهلية ، وأحد أصحاب المعلقات ، وهذا البيت من معلقته المشهورة ، وحجر اسم أبيه ، بضم الحاء وسكون الجيم.

اللّغة : «هضيم الكشح» يريد دقيقة الخصر نحيلته ، «ريا المخلخل» ممتلئة الساق ، والمخلخل ـ بضم الميم وفتح الخاءين بينهما لام ساكنة ـ هو مكان الخلخال ، والعرب تستحسن من المرأة دقة الخصر وعبالة الساقين : أي ضخامتهما.

الإعراب : «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط يخفض شرطه وينتصب بجوابه ، «قلت» فعل وفاعل ، والجملة في محل جر بإضافة إذا إليها ، «هاتي» فعل أمر مسند إلى ياء المخاطبة ، والجملة في محل نصب

__________________

(١) اعلم أولا أن بين الفعل واسم الفعل فرقا ، وهو أن الفعل تتصل به ضمائر الرفع البارزة ، وهي ألف الاثنين وواو الجماعة وياء المخاطبة ، تقول : «المحمدان ضربا بكرا ، والمحمدون يضربون بكرا» وتقول في الأمر : «اضربا ، واضربوا ، واضربي» ، فأما اسم الفعل فلا تتصل به هذه الضمائر ، بل تقول «صه» و «مه» بلفظ واحد سواء أكان المأمور واحدا أم اثنين أم جماعة ، ومن أجل هذا صح للنحاة أن يقولوا : إذا دلت كلمة على معنى الأمر ولم تقبل ياء المخاطبة كانت اسم فعل أمر ، ومن أجل هذا أيضا صح استدلال النحاة على ما ذهبوا إليه من أن هات وتعال فعلا أمر وليسا اسمي فعل بأنهما يقبلان دخول ياء المؤنثة المخاطبة عليهما ، إذ لو كانا اسمي فعل أمر لدلا على طلب الفعل طلبا جازما ولم يقبلا ياء المؤنثة المخاطبة ، وقد قبل كل منهما الياء فيما أنشده المؤلف من قول امرئ القيس وقول أبي فراس ، وبهذا التقرير يتم الرد على الزمخشري.

٤٥

والعامة تقول [تعالي] بكسر اللام ، وعليه قول بعض المحدثين :

٦ ـ * تعالي أقاسمك الهموم تعالي*

والصواب الفتح كما يقال : اخشي واسعي.

فلو لم تدل الكلمة على الطلب وقبلت ياء المخاطبة ، نحو : «تقومين وتقعدين» أو دلت على الطلب ولم تقبل ياء المخاطبة نحو : «نزال يا هند» بمعنى انزلي ؛ فليست بفعل أمر.

وعلامة المضارع : أن يقبل دخول «لم» كقولك «لم يقم ولم يقعد».

______________________________________________________

مقول القول ، «نوليني» نول : فعل أمر ، وياء المخاطبة فاعله ، والنون للوقاية ، وياء المتكلم مفعول به ، وهذه الجملة في محل نصب بدل من الجملة السابقة أو توكيد لها «تمايلت» تمايل : فعل ماض ، والتاء علامة التأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي ، والجملة لا محل لها من الإعراب جواب إذا «عليّ» جار ومجرور متعلق بتمايل «هضيم» حال من الضمير المستتر في تمايل ، وجعله العلامة الأمير مفعولا به تنازعه كل من هاتي ونوليني ، وهو في غاية البعد ، وهضيم مضاف ، و «الكشح» ، مضاف إليه «ريا» حال ثانية ، وريا مضاف و «المخلخل» مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «هاتي» فإن اتصال ياء المؤنثة المخاطبة بهات مع دلالته على الطلب يدلان على أنه فعل أمر ، لأن ياء المخاطبة لا تتصل بغير الأفعال ، والدلالة على الطلب بنفس الكلمة من غير احتياج إلى خارج عنها لا يكون إلا بفعل الأمر.

واعلم أن «هاتى» فعل معتل الآخر على مثال قاضى يقاضي ، والأمر منه «هات» مثل قاض ، فإذا أمرت مفردا مذكرا قلت «هات» فيكون مبنيا على حذف الياء والكسرة قبلها دليل عليها ، وإذا أمرت مفردة مؤنثة قلت «هاتي» فيكون مبنيا على حذف النون ، وياء المؤنثة المخاطبة فاعل مبني على السكون في محل رفع كما تقول في الأمر من «باهى يباهي» «باه يا زيد» فتبنيه على حذف الياء ، و «باهي يا هند» فتنبيه على حذف النون.

٦ ـ هذا عجز بيت من الطويل لأبي فراس الحمداني ابن عم سيف الدولة أشهر ملوك بني حمدان ، من كلمة له يقولها وهو أسير في بلاد الروم ، وقد أنشد المؤلف هذا الشاهد نفسه في كتابه قطر الندى (رقم ٩) وصدر البيت مع بيتين سابقين عليه قوله :

أقول وقد ناحت بقربي حمامة :

أيا جارتا لو تعلمين بحالي

معاذ الهوى ما ذقت طارقة النّوى

ولا خطرت منك الهموم ببال

٤٦

ولا بدّ من كونه مفتتحا بحرف من أحرف «نأيت» (١) نحو : «نقوم ، وأقوم ، ويقوم زيد ، وتقوم يا زيد» ، ويجب فتح هذه الأحرف إن كان الماضي غير رباعي ، سواء نقص عنها كما مثلنا ، أو زاد عليها نحو : «ينطلق ويستخرج» ، وضمّها إن كان رباعيّا ، سواء كان كله أصولا ، نحو : «دحرج يدحرج» ، أو واحد من أحرفه زائدا ، نحو : «أجاب يجيب» ، وذلك لأن أجاب وزنه أفعل ، وكذا كل كلمة وجدت أحرفها أربعة لا غير ، وأول تلك الأربعة همزة ؛ فاحكم بأنها زائدة ، نحو : «أحمد وإصبع وإثمد» ، ومن أمثلة المضارع قوله تبارك وتعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص ، ٣ ، ٤].

(لم) حرف جزم لنفي المضارع وقلبه ماضيا ، تقول : «يقوم زيد» فيكون الفعل

______________________________________________________

أيا جارتا ما أنصف الدّهر بيننا

تعالي ... إلخ

وقد نسب العلامة الأمير هذه الأبيات لأبي نواس ، ولعله انتقال نظر منه ، أو تحريف من النساخ.

الإعراب : «تعالي» فعل أمر ، مبني على حذف النون ، وياء المخاطبة فاعله ، «أقاسمك» أقاسم : فعل مضارع مجزوم في جواب الأمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والكاف ضمير المخاطبة مفعول به أول ، مبني على الكسر في محل نصب ، «الهموم» مفعول ثان لأقاسم ، منصوب بالفتحة الظاهرة ، «تعالي» إعرابه كالسابق ، وجملته تأكيد للجملة السابقة.

التمثيل به : أراد المؤلف بذكره هذا البيت هنا أن يذكر أن هذا الشاعر قد أخطأ فكسر لام «تعالي» والواجب أن يفتحها ويسكن الياء ، كما هو شأن كل فعل أمر آخره ألف حين يسند لياء المخاطبة ؛ لكن الذي أنكره المؤلف في هذه الكلمة قد حكاه غيره على أنه لغة من لغات العرب ، وهؤلاء ذكروا أن لغة أهل الحجاز كسر اللام في «تعال» عند إسناده لياء المخاطبة ، وضمها عند إسناده لواو الجماعة ، وإن كان الاستعمال المشهور الذي عليه أكثر العرب فتحها في جميع الأحوال ، وعلى هذا يكون الشاعر قد جرى على لغة أهل الحجاز ، لا على وجه غير صحيح ، فتأمل ذلك.

__________________

(١) ولا بد من أن يكون الحرف من حروف «نأيت» زائدا على أصل حروف الفعل للدلالة على التكلم أو الخطاب ونحوهما ، فإن كان حرف «نأيت» من أصل الكلمة نحو أخذ وأكل ، ونحو نأى ونفع ، ونحو تبع وترك ، ونحو ينع ويفع ، أو كان حرف نأيت زائدا لا لأجل الدلالة على ما ذكرنا نحو أكرم وأمعن ، ونحو تمهل وتعجل ، لم يكن مصحوبه فعلا مضارعا ، بل هو في جميع هذه الأمثلة التي ذكرناها فعل ماض.

٤٧

مرفوعا لخلوه عن الناصب والجازم ، ومحتملا للحال والاستقبال ؛ فإذا دخلت عليه «لم» جزمته وقلبته إلى معنى المضيّ ، وفي الفعل الأول ضمير مستتر مرفوع على الفاعلية ، وفي الثاني ضمير مستتر مرفوع لنيابته مناب الفاعل ، ولا ضمير في الثالث ؛ لأنه قد رفع الظاهر ، وهو «أحد» فإنه اسم «يكن» و «كفوا» خبرها ، وجوّزوا أن يكون حالا على أنه في الأصل صفة لأحد ، ونعت النكرة إذا تقدّم عليها انتصب على الحال ، كقوله :

______________________________________________________

٧ ـ لميّة موحشا طلل

يلوح كأنّه خلل

٧ ـ هذا بيت من مجزوء الوافر ، وهو من كلام كثير عزة ، وقد أنشده سيبويه (ج ١ ص ٢٧٦) ، كما أنشده المؤلف في كتابه أوضح المسالك (رقم ٢٦٩) وفي كتابه قطر الندى (رقم ١٠٥) ، وسينشد المؤلف صدر هذا الشاهد مرة أخرى في باب الحال من هذا الكتاب ، حيث يستدل على ما ذكره هنا من أن صاحب الحال قد يكون نكرة إذا وجد مسوغ لذلك ، ومن مسوغاته تقدم الحال عليه.

اللّغة : «مية» اسم امرأة ، «موحشا» اسم فاعل من قولهم : أوحش المنزل ، إذا خلا من السكان ، وأصل معنى «أوحش المنزل» صار مسكنا للوحش ، وإنما يكون ذلك إذا خلا من الإنس ، «طلل» الطلل : ما بقي شاخصا ـ أي مرتفعا ظاهرا ـ من آثار الديار ، «خلل» بكسر الخاء وفتح اللام الأولى ـ جمع خلة بكسر الخاء ـ وهو بطانة تغشى بها أجفان السيف.

الإعراب : «لمية» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، «موحشا» حال تقدم على صاحبه «طلل» مبتدأ مؤخر ، وهو صاحب الحال ، وستعرف لنا كلاما في ذلك ، «يلوح» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على طلل ، والجملة في محل رفع صفة لطلل ، «كأنه» كأن : حرف تشبيه ونصب ، والضمير العائد إلى طلل اسمه «خلل» خبر كأن ، والجملة في محل رفع صفة ثانية لطلل.

الشّاهد فيه : استشهد المؤلف بهذا البيت على أن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا ، وهذا الكلام صحيح ، وبيانه أن أصل الكلام : لمية طلل موحش ، برفع موحش على أنه صفة لطلل ، ثم قدم قوله «موحشا» على «طلل» فوجب أن ينصبه على أنه حال ، لأن الصفة لا يجوز أن تتقدم على الموصوف ، لكن بقي أنهم يقولون : إن الحال لا يجيء من المبتدأ على الأصح ، لأن العامل في الحال عند هؤلاء يجب أن يكون هو العامل في صاحبه ، والعامل في المبتدأ هو الابتداء على أرجح الأقوال ، والابتداء عامل ضعيف ؛ لكونه معنويا ، فلا يقوى على العمل في شيئين المبتدأ والحال ، وهم يجعلون صاحب الحال في مثل هذا التركيب هو الضمير المستتر في الخبر ، وهذا الضمير عائد على المبتدأ ،

٤٨

أصله : لميّة طلل موحش ، وعلى هذا فالخبر الجارّ والمجرور (١) ، والظاهر الأول ، وعليه العمل ؛ ففي الآية دليل على جواز الفصل بين كان ومعموليها بمعمول معمولها ، إذا كان ذلك المعمول ظرفا أو جارّا ومجرورا ، نحو «كان في الدّار زيد جالسا» و «كان عندك عمرو جالسا» وهذا مما لا خلاف فيه.

ثم قلت : والحرف ما عدا ذلك ، كهل وفي ولم.

وأقول : يعرف الحرف بأن لا يقبل شيئا من العلامات المذكورة للاسم والفعل ، وهو على ثلاثة أنواع :

(١) ما يدخل على الأسماء والأفعال ، كهل ، مثال دخولها على الاسم قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) [الأنبياء ، ٨] ، ومثال دخولها على الفعل قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) [ص ، ٢١].

(٢) وما يختص بالأسماء ك «في» ، في قوله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [الذاريات ، ٢٢].

(٣) وما يختص بالأفعال كلم في قوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الصمد ، ٣].

ثم اعلم أن المنفي بها تارة يكون انتفاؤه منقطعا ، وتارة يكون متصلا بالحال ، وتارة يكون مستمرا أبدا ؛ فالأول نحو قوله تعالى : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الإنسان ، ١] ، أي : ثم كان بعد ذلك ، والثاني نحو : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) [مريم ، ٤] ، والثالث نحو : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الصمد ، ٣ ، ٤].

وهنا تنبيه ، وهو أن القاعدة أن الواو إذا وقعت بين ياء مفتوحة وكسرة حذفت ،

______________________________________________________

ولكن السبب في ذكر هذا البيت أنه من شواهد سيبويه ، وهو يجيز مجيء الحال من المبتدأ ، فالعلماء تناقلوا البيت من غير أن يفطنوا لهذه الملاحظة.

__________________

(١) هذا الكلام في الآية الكريمة ، وتلخيصه أن قوله سبحانه ، «أحد» اسم يكن ، وخبرها إما أن يكون هو الجار والمجرور الذي هو «له» وعلى هذا الوجه يكون «كفوا» حالا من أحد ، وإما أن يكون خبر يكن هو «كفوا» وعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقا بقوله «كفوا».

٤٩

كقولك في وعد : يعد ، وفي وزن : يزن ، وبهذا تعلم لأيّ شيء حذفت في (يَلِدْ) وثبتت في (يُولَدْ)(١).

ثم قلت : والكلام قول مفيد مقصود.

وأقول : للكلام معنيان اصطلاحي ولغوي : فأما معناه في الاصطلاح فهو : القول المفيد (٢) ، وقد مضى تفسير القول ، وأما المفيد فهو الدالّ على معنى يحسن السكوت

__________________

(١) أنت تقول : «أورق الشجر يورق ، وأودع فلان يودع ، وأولى يولي ، وأوصى يوصي» بضم ياء المضارعة وكسر ما بعد الواو ، ولا تحذف الواو ، وتقول «يوصي إلى فلان ، ويوهب له ، ويوعد بالخير ، ويورث» بضم حرف المضارعة وفتح ما بعد الواو لأن الفعل مبني للمجهول ، ولا تحذف الواو أيضا ، وتقول وضؤ فلان يوضؤ ، بفتح حرف المضارعة وضم ما بعد الواو ، ولا تحذف الواو أيضا ، وتقول «وجل فلان يوجل» أي خاف ، بفتح حرف المضارعة وفتح ما بعد الواو ، ولا تحذف الواو أيضا ، فإذا قلت «وعد يعد ، ووصف يصف ، وولي يلي ، وورث يرث» ـ بفتح حرف المضارعة وكسر عين الكلمة ـ حذفت الواو في المضارع وجوبا ، ومن هنا تعلم أن الاستعمال العربي دل على أن شرط حذف الواو وقوعها بين الياء المفتوحة والكسرة ، وأنها لا تحذف فيما إذا كانت الياء مضمومة سواء أكان ما بعد الواو مكسورا كالأمثلة المفتوحة والكسرة ، وأنها لا تحذف فيما إذا كانت الياء مضمومة سواء أكان ما بعد الواو مكسورا كالأمثلة الأولى أم مفتوحا كالتي تليها ، وكذلك لا تحذف الواو إذا كانت الياء مفتوحة وكان ما بعد الواو مضموما أو مفتوحا ؛ فهذه أربعة مواضع تثبت فيها الواو ولا تحذف.

(٢) بعض النحاة يقول في تعريف الكلام : «هو القول المفيد المركب المقصود» فيذكر ثلاثة قيود ـ وهي :

المفيد ، والمركب ، والمقصود ، ومعنى المفيد هو ما ذكره المؤلف ، ومعنى المركب أن يكون مؤلفا تأليفا تاما لا يحتاج إلى ضم شيء إليه ، بأن يكون من اسمين أحدهما مسند إلى الآخر نحو زيد قائم ، أو من فعل واسم نحو قرأ زيد ، وسافر عمرو ، فيخرج بهذا ما ليس مركبا بأن يكون مفردا ، وما كان مركبا ناقصا نحو إن قام زيد ، ومعنى المقصود أن يكون المتكلم قد أراد ما نطق به من المركبات ، فيخرج به كلام النائم والساهي فلا يسمى عند النحاة كلاما ، وبعض النحاة يكتفي بذكر قيد واحد فيقول : الكلام هو القول المفيد ، وهذا هو الذي فعله المؤلف هنا في الشرح ، وهذا الفريق من النحاة يزعم أن «المفيد» يغني عن كل من المركب والمقصود ، وذلك لأنه لا يفيد الفائدة المطلوبة إلا إذا كان مركبا ، ولأن من معنى المفيد : أن يحسن سكوت المتكلم عليه ، والذي يحسن سكوته يكون قاصدا ألبتة لما نطق به ، ومن هنا تعلم أن المؤلف في المتن قد ذكر قيدا يستغنى عنه وهو المقصود ، وترك قيدا آخر يستغنى عنه أيضا وهو المركب ، وهو مؤاخذ على ذلك ، لأنه لم يلتزم طريقا واحدا ، وذلك لأنه إن كان قد ترك قيد التركيب في المتن للاستغناء عنه بالمفيد فما سر ذكره قيد القصد وهو مستغنى عنه مثل التركيب؟ وإن كان قد ذكر القصد لأنه لم يعول على دلالة الالتزام فلما ذا لم يذكر التركيب لهذا السبب؟

بقي أنه قد يقال : إنا وجدنا كلمة مفردة قد تكون قولا مفيدا ، وذلك نحو «نعم» أو «لا» في الجواب ، كأن يقول لك قائل «أحضر عليّ» فتقول : «نعم» ، أو تقول : «لا» فبطل قولكم ، إنه لا يكون قولا مفيدا إلا إذا كان مركبا ، والجواب عن ذلك أن نقول لك : إن التركيب قد يكون ظاهرا وقد يكون مقدرا ، ومن التركيب المقدر ما ذكرت ، فإن نعم في قوة أن تقول : نعم حضر عليّ ، وكذلك لا في قوة أن تقول : لا لم يحضر.

٥٠

عليه نحو : «زيد قائم» و «قام أخوك» بخلاف نحو : «زيد» ونحو «غلام زيد» ونحو «الّذي قام أبوه» فلا يسمّى شيء من هذا مفيدا ؛ لأنه لا يحسن السكوت عليه ، فلا يسمّى كلاما.

وأما معناه في اللغة فإنه يطلق على ثلاثة أمور :

أحدها : الحدث الذي هو التّكليم ، تقول «أعجبني كلامك زيدا» أي : تكليمك إيّاه ، وإذا استعمل بهذا المعنى عمل عمل الأفعال كما في [هذا] المثال وكقوله :

٨ ـ قالوا كلامك هندا وهي مصغية

يشفيك؟ قلت : صحيح ذاك لو كانا

أي تكليمك هندا (١) ؛ ف «كلامك» مبتدأ ومضاف إليه ، و «هندا» : مفعول (٢) ، وقوله «وهي مصغية» جملة اسمية في موضع نصب على الحال ، و «يشفيك» جملة

______________________________________________________

٨ ـ هذا بيت من بحر البسيط ، ولم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، وسينشده المؤلف مرة أخرى في باب إعمال اسم المصدر من هذا الكتاب ، للاستشهاد به على أن الكوفيين يرون إعمال اسم المصدر إذا كان قد وضع لغير الحدث ثم استعمل فيه كالكلام في البيت.

اللّغة : «مصغية» اسم فاعل فعله أصغى ، وتقول : أصغى فلان إلى حديث فلان ، إذا أمال أذنه إليه ليسمعه ، وذلك علامة الانصراف عما يشغله عنه ، «يشفيك» يذهب ما بك من سقام الحب وبرحاء العشق ، «كان» فعل ماض تام معناه حصل وحدث.

المعنى : سألني الناس عما إذا كان لقائي هندا ومحادثتي إياها في حال الانتباه لي والإصغاء إلى حديثي يكون سببا في زوال ما عراني من آلام العشق ، فأجبتهم : إن هذا لصحيح لو أنه حصل.

__________________

(١) وكلام في هذه الحالة يقال له «اسم مصدر» لأن اسم المصدر هو ما يدل على معنى المصدر ـ وهو الحدث ـ مع أنه نقص عن حروف مصدر فعله الذي يستعمل معه ، ومن أمثلته : سلم سلاما ، وأعطى عطاء ، وتوضأ وضوءا ، واغتسل غسلا ، وأطاع طاعة ، وأجاب إجابة ، واهتدى هدى ، وارتضى رضا ، فأنت ترى أن «سلاما» يدل على معنى المصدر الذي هو التسليم ، ولكنه ينقص عن حروف مصدر فعله الذي استعملته معه وهو سلم ، وكذلك العطاء والوضوء وكل ما ذكرنا من الأمثلة ونحوها.

(٢) القول بأن «هندا» مفعول به لكلام الذي هو اسم مصدر هو القول الراجح وهو اختيار ابن مالك ، وأصله مذهب الكوفيين.

٥١

فعلية في موضع رفع على أنها خبر.

والثاني : ما في النفس مما يعبّر عنه باللفظ المفيد ، وذلك كأن يقوم بنفسك معنى «قام زيد» أو «قعد عمرو» ونحو ذلك ؛ فيسمى ذلك الذي تخيّلته كلاما ؛ قال الأخطل :

______________________________________________________

٩ ـ لا يعجبنّك من خطيب خطبة

حتّى يكون مع الكلام أصيلا

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللّسان على الفؤاد دليلا

الإعراب : «قالوا» : قال : فعل ماض ، وواو الجماعة فاعله «كلامك» كلام : مبتدأ ، والكاف ضمير المخاطب مضاف إليه ، من إضافة اسم المصدر إلى فاعله ، مبني على الفتح في محل جر بالإضافة ، وله محل آخر وهو الرفع بالفاعلية «هندا» مفعول به لاسم المصدر ، منصوب بالفتحة الظاهرة «وهي» الواو واو الحال ، وهي : ضمير منفصل مبتدأ «مصغية» خبر المبتدأ ، والجملة من المبتدأ وخبره في محل نصب حال من هند ، «يشفيك» يشفي : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه عائد إلى كلام في أول البيت ، والكاف ضمير المخاطب مفعول به ، وجملة الفعل المضارع وفاعله ومفعوله في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو كلام ، وجملة هذا المبتدأ وخبره في محل نصب مقول القول «قلت» فعل وفاعل «صحيح» خبر مقدم «ذاك» ذا : اسم إشارة مبتدأ مؤخر ، والكاف حرف خطاب ، والجملة من المبتدأ وخبره في محل نصب مقول القول «لو» حرف امتناع لامتناع «كان» فعل ماض تام معناه حصل ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ذاك ، وجواب لو محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : لو حصل ذلك لشفاني ، أو تجعل لو حرف تمنّ ولا جواب لها.

الشّاهد فيه : قوله «كلامك هندا» فإن «كلام» هنا بمعنى الحدث الذي هو التكليم والحدث الذي هو بمعناه مصدر ، والمصدر يعمل عمل الفعل فيرفع الفاعل وينصب المفعول إن كان متعديا ، ولذلك عمل «كلام» نفس هذا العمل حين أشبهه في المعنى ، فرفع الفاعل وهو ضمير المخاطب ، ونصب المفعول وهو «هندا» وفي هذا المقدار ما يكفي.

٩ ـ هذان بيتان من بحر الكامل ، والبيتان للأخطل ، كما قال المؤلف ، وقد ذكر قوم أنهما لا يوجدان في ديوان شعره ، وقد بحثت ديوان شعر الأخطل فلم أجدهما فيه ، ووجدتهما في زياداته نقلا عن مثل هذا الكتاب (انظر شعر الأخطل ص ٥٠٨ بيروت) ، والأخطل اسمه غياث بن غوث بن الصلت ، أحد بني جشم بن بكر ، ثم أحد بني تغلب ، وكنيته أبو مالك ، وهو شاعر فحل من شعراء الدولة الأموية ، وكان نصرانيّا.

٥٢

والثالث : ما تحصل به الفائدة ، سواء كان لفظا ، أو خطّا ، أو إشارة ، أو ما نطق به لسان الحال ، والدليل على ذلك في الخط قول العرب : «القلم أحد اللّسانين» وتسميتهم ما بين دفّتي المصحف «كلام الله» (١) ، والدليل عليه في الإشارة قوله تعالى : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران ، ٤١] ، فاستثنى الرمز من الكلام ، والأصل في الاستثناء الاتّصال ، وأما قوله :

١٠ ـ أشارت بطرف العين خيفة أهلها

إشارة محزون ولم تتكلّم

______________________________________________________

الإعراب : «لا» ناهية «يعجبنك» يعجب : فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد في محل جزم بلا الناهية ، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل له من الإعراب ، والكاف ضمير ، المخاطب مفعول به مبني على الفتح في محل نصب ، «من خطيب» جار ومجرور متعلق بيعجب ، «خطبة» فاعل يعجب ، «حتى» حرف غاية وجر ، «يكون» فعل مضارع ناقص منصوب بأن المضمرة بعد حتى ، واسم يكون ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى خطيب ، «مع» ظرف منصوب على الظرفية متعلق بقوله «أصيلا» الآتي ، و «مع» مضاف ، و «الكلام» مضاف إليه ، «أصيلا» خبر يكون ، وأن المضمرة مع ما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحتى ، «إن» حرف توكيد ونصب ، «الكلام» اسم إن ، «لفي الفؤاد» اللام هي اللام المزحلقة ، و «في الفؤاد» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر إن ، «إنما» أداة حصر ، «جعل» فعل ماض مبني للمجهول ، «اللسان» نائب فاعل «جعل» وهو مفعول أول ، «على الفؤاد» جار ومجرور متعلق بقوله دليلا الآتي ، «دليلا» مفعول ثان لجعل.

الشّاهد فيه : أنشد المؤلف هذا الشاهد ليستدل به على أن لفظ الكلام يطلقه العرب على المعاني التي تقوم في نفس الإنسان ويتخيلها ، قبل أن يعبر عنها بألفاظ تدل عليها ، وقول الأخطل «إن الكلام لفي الفؤاد» يدل على هذا الذي ذكره المؤلف دلالة واضحة ، ثم إن هذا المعنى الذي ذكره المؤلف معنى حقيقي للفظ الكلام ، لا مجازي ، والعبارات والألفاظ إنما هي دلائل ، والكتابة دالة على العبارة الدالة على الكلام القائم في النفس.

١٠ ـ هذان البيتان من بحر الطويل ، وهما من قصيدة عدد أبياتها تسعة عشر بيتا لعمر بن أبي ربيعة المخزومي (انظر شرحنا لديوانه ١٩٥ وما بعدها) وأول هذه القصيدة قوله :

__________________

(١) ويطلق «كلام الله» على ما ننطق به أيضا ، ومن ذلك قول الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [سورة التوبة ، ٦].

٥٣

فأيقنت أن الطّرف قد قال مرحبا

وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم

فإنما نفى الكلام اللفظيّ ، لا مطلق الكلام ، ولو أراد بقوله «ولم تتكلم» نفي غير الكلام اللفظيّ لانتقض بقوله «فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا» ؛ لأنه أثبت للطرف قولا ، بعد أن نفى الكلام ، والمراد نفي الكلام اللفظي ، وإثبات الكلام اللّغوي.

والدليل عليه فيما نطق به لسان الحال قول نصيب :

______________________________________________________

ألا قل لهند : احرجي وتأثّمي

ولا تقتليني ، لا يحلّ لكم دمي

الإعراب : «أشارت» فعل ماض اتصل بتاء التأنيث ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي ، «بطرف» جار ومجرور متعلق بأشارت ، وطرف مضاف و «العين» مضاف إليه ، «خيفة» مفعول لأجله ، وهو مضاف وأهل من «أهلها» مضاف إليه ، وأهل مضاف وضمير الغائبة مضاف إليه ، «إشارة» مفعول مطلق يبين نوع العامل ، وإشارة مضاف ، و «مخزون» مضاف إليه ، «ولم» الواو عاطفة ، لم : حرف نفي وجزم وقلب ، «تتكلم» فعل مضارع مجزوم بلم ، وعلامة جزمه السكون ، وحرك بالكسر لأجل الرويّ ، «أيقنت» فعل وفاعل ، «أن» حرف توكيد ونصب ، «الطرف» اسم أن ، «قد» حرف تحقيق ، «قال» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الطرف ، والجملة في محل رفع خبر أن ، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر منصوب مفعول به لأيقن ، «مرحبا» مفعول مطلق لفعل محذوف ، وتقديره : أرحب مرحبا أي أرحب بك ترحيبا ، «وأهلا وسهلا» كل منهما مفعول به لفعل محذوف : أي صادفت أهلا ولقيت مكانا سهلا ، «بالحبيب» جار ومجرور متعلق بقوله مرحبا ، «المتيم» نعت للحبيب.

الشّاهد فيه : أنت ترى أن الشاعر في هذين البيتين قد أثبت أولا الإشارة بطرف العين ، ثم نفى الكلام في قوله «ولم تتكلم» ، ثم سمى بعد ذلك إشارة العين قولا ، وحكى في تفسير هذا القول والدلالة عليه جملا مفيدة ؛ فلو أنك حملت الكلام المنفي على الكلام المطلق ـ أي ما يعم اللفظي والنفسي والإشارة ونحوها ـ لأصبح كلام هذا الشاعر ينقض بعضه بعضا ؛ إذ كيف ينفي الكلام بالإشارة وهو يثبت بعد ذلك أن هذه الإشارة قول ، وهو قد عبر عن مدلولها بجمل متعددة ذوات معان مفيدة؟ وإذا كان الأمر بهذه المثابة لزمنا أن نحمل الكلام المنفي على نوع خاص من الكلام لا يكون هو الذى أثبته فيما بعد ذلك ، وليكن المنفي هو الكلام اللفظي ، والمثبت هو الذي حدث عنه أولا بأنه إشارة بطرف العين ، فدل ذلك على أن الإشارة يصح أن يطلق عليها في اللغة «كلام» وهذا الكلام ـ بعد هذا الذي بيناه ـ في غاية الوضوح فافهمه.

٥٤

١١ ـ فعاجوا فأثنوا بالّذي أنت أهله

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

وقال الله تعالى (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت ، ١١] (١) ، فزعم قوم من العلماء أنهما تكلّمتا حقيقة ، وقال آخرون : إنهما لما انقادتا لأمر الله عزوجل نزّل ذلك منزلة القول.

______________________________________________________

١١ ـ هذا بيت من الطويل ، وهو من كلام نصيب بن رباح الأموي بالولاء ؛ لأنه كان مولى عبد العزيز بن مروان ، وكان شاعرا فصيحا مقدما في المديح والنسيب ، والبيت من كلمة له يمدح فيها سليمان بن عبد الملك بن مروان.

اللّغة : «عاجوا» مالوا «أثنوا» ذكروا بخير «الحقائب» جمع حقيبة وهي وعاء يجعل فيه المسافر متاعه.

المعنى : يقول : إن هؤلاء الناس الذين لقيتهم وسألتهم عنك قد أثنوا عليك وذكروا من كرمك ومحاسن أخلاقك وشريف سجاياك ما أنت له أهل ، ولو أنهم لم يمدحوا بألسنتهم لتكلمت حقائبهم ، يريد أن حقائبهم كانت ممتلئة بعطاياه.

الإعراب : «عاجوا» فعل وفاعل ، «فأثنوا» فعل وفاعل جملتهما معطوفة بالفاء على ما قبلها ، «بالذي» جار ومجرور متعلق بأثنى ، «أنت أهله» جملة من مبتدأ وخبر لا محل لها من الإعراب صلة الموصول ، وأهل مضاف والضمير الذي للغائب مضاف إليه ، «لو» حرف امتناع لامتناع ، «سكتوا» جملة من فعل وفاعل هي شرط لو ، «أثنت» أثنى : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، «عليك» جار ومجرور متعلق بأثنت ، «الحقائب» فاعل أثنت ، والجملة من الفعل والفاعل لا محل لها من الإعراب جواب لو.

الشّاهد فيه : قوله «أثنت عليك الحقائب» فإنه قد أثبت للحقائب ثناء ، وهو كلام تجميل ، ولا شك أن الحقائب لا تتكلم بلسان المقال ، وإنما كلامها بلسان الحال ، والمراد أن ما في الحقائب يحدث بلسان الحال عن جودك وكرمك إذا سكت المعطون والمكرّمون.

__________________

(١) وقبل ما تلاه المؤلف قوله سبحانه (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) فأما نسبة القول إلى السماء وإلى الأرض فقد ذكرها الشارح وبين أن للعلماء في تفسيرها قولين ، والله تعالى قادر على أن يخلق فيهما عند تجليه لهما قدرة الاستماع والفهم والإجابة بالقول ، فلا محظور في هذا.

وبقي سؤالان يتعلقان بألفاظ هذه الآية ، الأول أنه سبحانه عبر عن السماء والأرض بلفظ التثنية في قوله (قالتا) ثم عبر عنهما بلفظ الجمع في قوله (طائعين) وجواب هذا السؤال أن لفظ السماء ولفظ الأرض قد يراد بهما الحقيقة والجنس وقد يراد بهما الأفراد ـ وهي سبع سموات وسبع أرضين ـ فإن راعيت أن المراد بهما

٥٥

وفي الآية شاهد ثان على إعطاء صفة ما لا يعقل حكم صفة من يعقل ، إذا ما نسب إلى العقلاء ، ألا ترى أن «طائعا» قد جمع بالياء والنون لمّا نسب لموصوفه القول؟

وشاهد ثالث على أن النصب فى نحو «جاء زيد ركضا» على الحال ، وتأويل ركضا براكضا ، لا على أنه مصدر لفعل محذوف : أي يركض ركضا ، ولا على أنه مصدر للفعل المذكور ، خلافا لزاعمي ذلك ؛ ووجه الدليل أن «طائعين» حال ، وهو في مقابلة (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) فيدل على أن المراد طائعين أو مكرهين.

ثم قلت : وهو خبر ، وطلب ، وإنشاء.

وأقول : كما انقسمت الكلمة إلى ثلاثة أنواع : اسم وفعل وحرف ، كذلك انقسم الكلام إلى ثلاثة أنواع : خبر ، وطلب ، وإنشاء.

وضابط ذلك أنه إمّا أن يحتمل التّصديق والتكذيب ، أو لا ؛ فإن احتملهما فهو الخبر ، نحو «قام زيد» و «ما قام زيد» ، وإن لم يحتملهما فإمّا أن يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه ، أو يقترنا ؛ فإن تأخّر عنه فهو الطّلب ، نحو «اضرب» و «لا تضرب» و «هل جاءك زيد؟» وإن اقترنا فهو الإنشاء ، كقولك لعبدك : «أنت حرّ» وقولك لمن أوجب لك النكاح : «قبلت هذا النّكاح» (١)

__________________

الحقيقة فهما اثنتان فتعبر عنهما حينئذ بضمير المثنى ، وهو ما سلكه القرآن الكريم أولا ، وكان هذا في هذا الموضع أولى لأن طبيعة الأفراد كلها واحدة فناسب جمعها في جنس واحد ، وأيضا لئلا يتبادر إلى بعض العقول أن المراد أفراد جنس واحد من الجنسين لو قيل «قلن» بنون النسوة أو «قالوا» بواو الجماعة ، فلما استقر هذا الحكم للجنسين عبر بعد ذلك عن أفرادهما بضمير الجمع ، ففي الأول مراعاة اللفظ ، وفي الثاني مراعاة المعنى ، والسؤال الثاني : كيف عبر عن السماء والأرض بما يختص بالعقلاء وهو جمع المذكر السالم في قوله سبحانه (طائعين) وقد علمنا أن ذلك غير ما جرى عليه استعمال القرآن نفسه؟ وقد تكفل المؤلف بالجواب على هذا.

(١) يختلف العلماء في تقسيم الكلام ، فيذهب بعضهم إلى أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام : خبر ، وطلب ، وإنشاء ، وبيان ذلك على ما أشار إليه المؤلف أن الكلام إن كان في ذاته يصح أن يقال عنه إنه صدق أو كذب فهو الخبر ، وإن كان لا يصح أن يقال فيه ذلك فإن كان يدل بالوضع على أن المتكلم به طالب لمضمونه من المخاطب فإنه يسمى طلبا ، وذلك يشمل ثلاثة أنواع ، وهي الأمر ، والنهي ، والاستفهام ، لأن المتكلم بالأمر نحو اكتب ولتكتب يطلب من مخاطبه طلبا جازما أن يحدث الكتابة ، مثلا ، ولأن المتكلم بالنهي نحو لا تلعب طالب من

٥٦

وهذا التقسيم تبعت فيه بعضهم ، والتحقيق خلافه ، وأن الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء فقط ، وأن الطلب من أقسام الإنشاء ، وأن مدلول «قم» حاصل عند التلفظ به لا يتأخر عنه ، وإنما يتأخر عنه الامتثال ، وهو خارج عن مدلول اللفظ ، ولما اختصّ هذا النوع بأن إيجاد لفظه إيجاد لمعناه سمّي إنشاء ، قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً)(١) [الواقعة ، ٣٥] أي أوجدناهن إيجادا.

(إنّا) إنّ واسمها ، والأصل إننا ؛ فحذفت النون الثانية تخفيفا (أَنْشَأْناهُنَّ) فعل ماض وفاعل ومفعول ، والجملة فى موضع رفع على أنها خبر إنّ (إنشاء) مصدر مؤكد ، والضمير في (أَنْشَأْناهُنَّ) ، قال قتادة : راجع إلى الحور العين المذكورات قبل ، وفيه بعد ، لأن تلك قصة قد انقضت جملة ، وقال أبو عبيدة : عائد على غير مذكور ، مثل (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص ، ٣٢].

والذي حسّن ذلك دلالة قوله سبحانه وتعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [الواقعة ، ٣٤] على المعنى المراد [وقيل : عائد على الفرش ، وأن المراد الأزواج (٢) ، وهن مرفوعات على

__________________

مخاطبه ترك اللعب طلبا جازما ، ولأن المتكلم بالاستفهام نحو أزيد عندك طالب من مخاطبه أن ينبئه عن مضمون هذا الكلام ، وإن كان الكلام لا يصح أن يخبر عنه بأنه صدق أو كذب وكان مع ذلك لا يدل بالوضع على أن المتكلم به طالب من المخاطب شيئا فهو الإنشاء ، وهذا الإنشاء ينقسم إلى قسمين ، وذلك لأنه إما أن يدل بدلالة الالتزام على الطلب ، وإما ألا يدل على الطلب أصلا ، لا بالوضع ولا بالالتزام ، والنوع الأول من هذين يشمل العرض ، والتحضيض ، والتمني ، والرجاء ، والنداء ، والجملة الأولى من جملتي القسم ، والنوع الثاني يختص بالجمل الخبرية المستعملة في الإنشاء مثل صيغ العقود ، كبعت ، واشتريت ، ووهبت ، وتزوجت ، وقبلت ، وهذا التقسيم غير مرضي عند محققي العلماء ، وعندهم أن الكلام ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما ، وأنه إما خبر ، وإما إنشاء.

(١) وقال أبو حيان : «والضمير في أنشأناهن عائد على الفرش ، في قول أبي عبيدة ، إذ هن النساء عنده ، وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه من الملابس التي تفرش ويضطجع عليها» اه.

وحاصل هذا الكلام أن لفظ الفرش في قوله تعالى قبل الآية التي تلاها المؤلف (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) إما أن يكون المراد به ظاهره ، وإما أن يكون المراد به النساء ، فإن كان المراد به النساء فالضمير المنصوب في (أَنْشَأْناهُنَّ) عائد إلى الفرش بهذا المعنى ، وإن كان المراد به ظاهره فالضمير عائد إلى النساء التي يشير إليها لفظ الفرش من باب إطلاق اللفظ الدال على المحل وإرادة الحال فيه أو على ما يجاوره ، فهو على الوجهين يراد به النساء ، ولكنه على الوجه الأول حقيقة ، والتجوز في لفظ الفرش ، وعلى الوجه الأخير مجاز مرسل علاقته الحالية والمحلية أو المجاورة.

(٢) إطلاق الفرش على الأزواج مجاز ، وهو من باب إطلاق اسم المحل على الحال فيه كما قلنا آنفا ، أو من باب إطلاق اسم الشيء على ما يجاوره ، فهو مجاز مرسل على الحالين غير أن علاقته الحالية والمحلية على الوجه الأول ، وعلاقته المجاورة على الوجه الثاني.

٥٧

الأرائك ؛ بدليل (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) [يس ، ٥٦] ، أو مرفوعات بالفضل والجمال على نساء الدنيا].

ثم قلت : باب ـ الإعراب أثر ظاهر أو مقدّر يجلبه العامل في آخر الاسم المتمكّن والفعل المضارع.

وأقول : للإعراب معنيان : لغوي ، وصناعي.

فمعناه اللّغوي : الإبانة (١) ، يقال : «أعرب الرجل عمّا في نفسه» إذا أبان عنه ، وفي الحديث «البكر تستأمر ، وإذنها صماتها ، والأيّم تعرب عن نفسها» (٢) أي تبيّن رضاها بصريح النطق.

ومعناه الاصطلاحي ما ذكرت (٣).

مثال الآثار الظاهرة الضمة والفتحة والكسرة في قولك «جاء زيد» و «رأيت زيدا»

__________________

(١) هذا أحد معان لغوية يرد لها لفظ الإعراب ، والثاني : الإجالة ، تقول : أعربت ماشيتي ، تريد أنك أجلتها في مرعاها ، والثالث : التحسين والتزيين ، تقول : أعربت هذا الشيء ، تريد أنك حسنته وزينته ، والرابع : إزالة الفساد ، تقول : أعربت هذا الشيء ، تريد أنك قد أزلت عربه وهو فساده ، والخامس : التكلم بلغة العرب ، تقول : أعرب هذا الرجل ، تريد أنه تحدث بالعربية ، والسادس : أن يصير لك خيل عراب ، واقتصار المؤلف على ذكر الإبانة دون غيرها من المعاني اللغوية التي ذكرنا بعضها ، لأن هذا المعنى هو الملحوظ عند نقل اللفظ إلى المعنى الاصطلاحي الذي هو ما ذكره بقوله «أثر ظاهر أو مقدر ... إلخ».

(٢) البكر : البالغ التي لم يسبق لها زواج ، وتستأمر : يطلب إذنها عند تزويجها ، والصمات : الصمت ، وهو السكوت عن الكلام ، والأيم : التي سبق لها زواج ، وتعرب : تبين رضاها بالكلام ، كما قال المؤلف.

(٣) ما ذكره هو قوله «أثر ظاهر أو مقدر ... إلخ» والأثر إما حركة وهي الضمة والفتحة والكسرة ، وإما حرف كالواو والألف والياء في الأسماء الخمسة نحو جاء أبوك ورأيت أباك ومررت بأبيك ، وكالنون في الأفعال الخمسة نحو يضربان ويضربون وتضربين ، وإما سكون في الفعل المضارع الصحيح نحو لم يضرب ، وإما حذف كحذف النون في الأفعال الخمسة نحو لم يضربا وكحذف حرف العلة في جزم الأفعال المضارعة المعتلة نحو لم يخش ولم يرم ولم يغز. وآخر الاسم إما أن يكون آخرا في الحقيقة كما مثلنا ومثل المؤلف وإما أن يكون آخرا في التقدير والاعتبار كالدال في يد والباء في أب والخاء في أخ والميم في دم من نحو قولك «المال في يد زيد ، ولك أب كريم ، وأخ صادق ، وذهب دم فلان هدرا» فإن هذه الحروف ليست أواخر هذه الكلمات عند التحقيق ، بل أواخرها حروف علة حذفن اعتباطا أي بدون علة وجعل ما قبلها هو الآخر اعتبارا.

٥٨

و «مررت بزيد» ، ألا ترى أنها آثار ظاهرة في آخر «زيد» جلبتها العوامل الداخلة عليه ـ وهي : جاء ، ورأى ، والباء.

ومثال الآثار المقدرة ما تعتقده منويّا في آخر نحو «الفتى» من قولك «جاء الفتى» و «رأيت الفتى» و «مررت بالفتى» ؛ فإنك تقدر في آخره في المثال الأول ضمة ، وفي الثاني فتحة ، وفي الثالث كسرة ، وتلك الحركات المقدرة إعراب ، كما أن الحركات الظاهرة في آخر «زيد» إعراب.

وخرج بقولي «يجلبه العامل» نحو الضمة في النون في قوله تعالى : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) [الإسراء ، ٧١] في قراءة ورش ، بنقل حركة همزة أوتي إلى ما قبلها وإسقاط الهمزة ، والفتحة في دال (قَدْ أَفْلَحَ) [المؤمنون ، ١] على قراءته أيضا بالنقل ، والكسرة في دال «الحمد لله» في قراءة من أتبع الدال اللام ؛ فإن هذه الحركات وإن كانت آثارا ظاهرة في آخر الكلمة لكنها لم تجلبها عوامل دخلت عليها ؛ فليست إعرابا.

وقولي «في آخر الكلمة» بيان لمحل الإعراب من الكلمة ، وليس باحتراز ؛ إذ ليس لنا آثار تجلبها العوامل في غير آخر الكلمة فيحترز عنها.

فإن قلت : بلى ، وجد ذلك في «امرئ» و «ابنم» ألا ترى أنهما إذا دخل عليهما الرافع ضمّ آخرهما وما قبل آخرهما ؛ فتقول «هذا امرؤ وابنم» وإذا دخل عليهما الناصب فتحهما فتقول «رأيت أمرأ وابنما» وإذا دخل عليهما الخافض كسرهما فتقول «مررت بامرئ وابنم» ، قال الله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) [النساء ، ١٧٦] (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) [مريم ، ٢٨] (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس ، ٣٧].

قلت : اختلف أهل البلدين (١) في هذين الاسمين ، فقال الكوفيون : إنهما معربان من مكانين ، وإذا فرّعنا على قولهم فلا يجوز الاحتراز عنهما ، بل يجب إدخالهما فى الحدّ ، وقال البصريون ، وهو الصواب : إن الحركة الأخيرة هي الإعراب ، وما قبلها إتباع لها ، وعلى قولهم فلا يصح إدخالهما فى الحد (٢).

__________________

(١) أراد بأهل البلدين : الكوفيين والبصريين.

(٢) حاصل ما ذكره المؤلف في كلمتي «امرئ ، وابنم» أن آخر كل منهما والحرف الذي قبل الآخر يتغيران بتغير العوامل فيرتفع الحرف الأخير والذي قبله بعامل الرفع ، وينتصبان بعامل النصب ، وينخفضان بعامل الخفض ، وقد

٥٩

وارتفاع (امرؤ) في الآية الأولى على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره الفعل المذكور ، والتقدير : إن هلك امرؤ هلك ، ولا يجوز أن يكون فاعلا بالفعل المذكور ، خلافا للكوفيين ؛ لأن الفاعل لا يتقدم على رافعه ، ولا مبتدأ خلافا لهم وللأخفش (١) ؛ لأن أدوات الشرط لا تدخل على الجملة الاسمية ، وانتصابه فى الآية الثانية لأنه خبر (كان) وانجراره في الثالثة بالإضافة.

ثم قلت : وأنواعه رفع ونصب في اسم وفعل ك «زيد يقوم» و «إنّ زيدا لن يقوم» وجرّ في اسم ك «بزيد» وجزم في فعل ك «لم يقم».

والأصل كون الرّفع بالضّمّة ، والنّصب بالفتحة ، والجرّ بالكسرة ، والجزم بالسّكون.

وأقول : أنواع الإعراب أربعة : رفع ، ونصب ، وجر ، وجزم (٢) ، وعن بعضهم أن الجزم ليس بإعراب (٣) ، وليس بشيء ، وهذه الأربعة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

__________________

جعلتم الإعراب هو تغير الآخر فقط ؛ فلا يكون تعريف الإعراب شاملا لتغير هاتين الكلمتين ، وحاصل الجواب : أن هذا الاعتراض مبني على مذهب الكوفيين الذين يجعلون تغير الحرف الذي قبل الآخر فيهما بسبب تغير العامل ، ونحن جعلنا تعريف الإعراب على ما هو مذهب البصريين الذين يجعلون تغير الحرف الذي قبل الآخر ليس بسبب تغير العوامل ، بل للإتباع للحرف الأخير ، ومع هذا فإنه يمكن تصحيح التعريف حتى لو أجرينا هاتين الكلمتين على ما هو مذهب الكوفيين ، وذلك بأن نريد بالحرف الآخر في التعريف ما ليس بأول الكلمة ؛ ويشمل الآخر وما قبله.

(١) ههنا أصلان ؛ الأول : هل يجوز أن تقع الجملة الاسمية بعد أدوات الشرط؟ ذهب الكوفيون والأخفش إلى جواز ذلك ، وأباه جمهور البصريين ، والأصل الثاني : هل يجوز أن يتقدم الفاعل على رافعه؟ ذهب جمهور الكوفيين إلى جواز ذلك ، وأباه جمهور البصريين ، ومن هنا تعلم السر في أن الكوفيين والأخفش جعلوا (امرؤ) في قوله تعالى (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) مبتدأ ، والسر في أن يجيز الكوفيون جعله فاعلا لهلك المتأخر عنه ، والسر في أن البصريين لا يجعلونه مبتدأ ولا فاعلا مقدما ، وتمسكهم بأنه فاعل لفعل محذوف يقدر متقدما عليه.

(٢) قد يكون الرفع ظاهرا نحو «زيد يقوم» وقد يكون مقدرا نحو «موسى يسعى في الخير» وقد يكون محلا نحو «أنت الذي وثقت به» وقد يكون النصب ظاهرا نحو «إن زيدا رجل خير» وقد يكون مقدرا نحو «إن ليلى كالبدر» وقد يكون محلا نحو «إنك لعالم» وقد يكون الجر ظاهرا نحو «مررت بزيد» وقد يكون مقدرا نحو «مررت بليلى» وقد يكون محلا نحو «مررت بك».

(٣) الذي ذهب إلى أن الجزم ليس بإعراب هو أبو عثمان المازني ، زعم أن الجزم عدم الحركة ، وقال : إنا نعرف الإعراب بأنه «أثر ظاهر أو مقدر يجلبه العامل» ولما كان الجزم عدما لم يكن أثرا يجلبه العامل ، لأن العدم لا يكون مجلوبا ، ومن أجل أنه لا يصدق عليه تعريف الإعراب لا يكون إعرابا ، وقد قال المؤلف عن هذا الرأي إنه

٦٠