شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

ثم قلت : الثّالث : عطف البيان ، وهو : تابع غير صفة يوضّح متبوعه أو يخصّصه ، نحو :

* أقسم بالله أبو حفص عمر*

ونحو : (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) ويتبعه في أربعة من عشرة ، ويجوز إعرابه بدل كلّ إن لم يجب ذكره ك «هند قام زيد أخوها» ولم يمتنع إحلاله محلّ الأوّل ، نحو : «يا زيد الحارث».

و* أنا ابن التّارك البكريّ بشر*

و* يا نصر نصر نصرا*

ويمتنع في نحو : (مَقامِ إِبْراهِيمَ) وفي نحو : «يا سعيد كرز» و «قرأ قالون عيسى».

وأقول : قولي «تابع» جنس يشمل التوابع كلها.

وقولي : «غير صفة» مخرج للصفة ؛ فإنها توافق عطف البيان في إفادة توضيح المتبوع إن كان معرفة وتخصيصه إن كان نكرة ، فلا بد من إخراجها ، وإلا دخلت في حدّ البيان.

وقولي «يوضح متبوعه أو يخصصه» مخرج لما عدا عطف البيان.

ومثال الموضّح قوله :

٢٢٩ ـ أقسم بالله أبو حفص عمر

ما مسّها من نقب ولا دبر

______________________________________________________

٢٢٩ ـ هذا بيت من الرجز ، أو بيتان من مشطوره ، من كلام عبد الله بن كيسبة ـ بفتح الكاف وسكون الياء وبعدها سين مهملة فباء موحدة تحتية ـ وكان من حديثه أنه أقبل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن أهلي بعيد ، وإن ناقتي دبراء نقباء ، فاحملني ، فقال : كذبت ، والله ما بها نقب ولا دبر ، فانطلق فحلّ ناقته ، ثم استقبل بها البطحاء ، وجعل ينشد هذا الرجز ، وعمر يسمعه ، فأقبل عليه فأخذ بيده ، وقال : ضع عن راحلتك ، فلما تبين له صدقه حمله وزوده وكساه ، هكذا يحكي النحاة والأدباء! والبيت الشاهد من شواهد ابن عقيل (رقم ٣٨٨) والمؤلف في أوضحه (رقم ٤٠).

٤٤١

والمراد بعمر : ابن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه.

ومثال العطف المخصّص قوله تعالى : (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ)(١) فيمن نوّن الكفارة ورفع الطعام.

وحكم المعطوف أنه يتبع المعطوف عليه في أربعة من عشرة ، وهي : واحد من الرفع والنصب والجر ، وواحد من التعريف والتنكير ، وواحد من الإفراد والتثنية والجمع ، وواحد من التذكير والتأنيث.

وكل شيء جاز إعرابه عطف بيان جاز إعرابه بدلا ـ أعني بدل كل من كل ـ إلا إذا كان ذكره واجبا ، ك «هند قام زيد أخوها» ألا ترى أن الجملة الفعلية خبر عن هند ، والجملة الواقعة خبرا لا بدّ لها من رابط يربطها بالمخبر عنه ، والرابط هنا الضمير في قوله «أخوها» الذي هو تابع لزيد ، فإن أسقط لم يصح الكلام ، فوجب أن يعرب بيانا ، لا بدلا ؛ لأن البدل على نية تكرار العامل ، فكأنه من جملة أخرى ، فتخلو

______________________________________________________

اللّغة : «نقب» بفتح النون والقاف جميعا ـ وهو رقة خف الناقة ، وبابه فرح ، «دبر» بفتح الدال والباء جميعا ـ وهو الجرح يكون في ظهر البعير ، وبابه فرح أيضا ، «حفص» هو في الأصل من أسماء الأسد ، وكني به عمر رضي‌الله‌عنه لشدة جراءته وشجاعته.

الإعراب : «أقسم» فعل ماض ، «بالله» جار ومجرور متعلق بأقسم «أبو» فاعل مرفوع بالواو نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الستة ، وأبو مضاف و «حفص» مضاف إليه ، «عمر» عطف بيان مرفوع بالضمة ، وسكنه لأجل الوقف ، «ما» نافية ، «مسها» مس : فعل ماض ، وضمير الغائبة العائد إلى الناقة المفهومة من سياق القصة مفعول به ، «من» حرف جر زائد ، «نقب» فاعل مس ، مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد ، «ولا» الواو عاطفة ، لا : زائدة لتأكيد النفي ، «دبر» معطوف على نقب ، وجملة «ما مسها» مع فاعله ومفعوله لا محل لها من الإعراب ؛ لأنها جواب القسم.

الشّاهد فيه : قوله «أبو حفص عمر» حيث جاء بقوله «عمر» لإيضاح ما قبله ، وهو عطف بيان عليه ، وفيه أيضا دليل على أنه إذا اجتمع اسم كعمر وكنية كأبي حفص جاز تقديم الكنية على الاسم ، ولم يجب تأخيرها عنه.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٩٥ ، والقراءة المستشهد بها قراءة حفص.

٤٤٢

الجملة المخبر بها عن رابط ، وإلا إذا امتنع إحلاله محلّ المتبوع ، ولذلك أمثلة كثيرة منها قولك «يا زيد الحارث» فهذا من باب البيان ، وليس من باب البدل ؛ لأن البدل في نية الإحلال محلّ المبدل منه ، إذ لو قيل «يا الحارث» لم يجز ، لأن «يا» و «أل» لا يجتمعان هنا (١) ، ومنها قول الشاعر :

٢٣٠ ـ أنا ابن التّارك البكريّ بشر

عليه الطّير ترقبه وقوعا

ف «بشر» عطف بيان على «البكريّ» وليس بدلا ؛ لامتناع «أنا ابن التّارك بشر» ؛

______________________________________________________

٢٣٠ ـ هذا بيت من الوافر من كلام المرار بن سعيد بن نضلة بن الأشتر الفقعسي ، من كلام يفتخر فيه بأن جده خالد بن نضلة قتل بشر بن عمرو بن مرثد البكري ، وبشر هذا هو زوج الخرنق أخت طرفة بن العبد البكري الشاعر المشهور صاحب المعلقة ، وكان مقتل بشر في يوم الكلاب ، وبيت الشاهد من شواهد المؤلف في أوضحه (رقم ٤١١) وفي القطر (رقم ١٣٨) كما استشهد به ابن عقيل (رقم ٢٨٥).

الإعراب : «أنا» ضمير منفصل مبتدأ ، «ابن» خبر المبتدأ ، وابن مضاف و «التارك» مضاف إليه ، والتارك مضاف و «البكري» مضاف إليه ، «بشر» عطف بيان على البكري ، «عليه» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، «الطير» مبتدأ مؤخر ، «ترقبه» ترقب : فعل مضارع ، وفيه ضمير مستتر جوازا تقديره هي يعود إلى الطير ، وهذا الضمير هو فاعله ، والضمير البارز المتصل العائد إلى بشر مفعول به ، «وقوعا» حال من الضمير المستتر في ترقبه الذي هو فاعل ، والذي هو عائد إلى الطير.

الشّاهد فيه : قوله «التارك البكري بشر» فإن قوله «بشر» عطف بيان على قوله : «البكري» ، ولا يجوز أن يكون بدلا منه ؛ لأن البدل على نية تكرار العامل فكان ينبغي لأجل صحة كونه بدلا أن يجوز لك أن تدخل العامل في المبدل منه ـ وهو قوله التارك هنا ـ على البدل ، فتقول : أنا ابن التارك بشر ، بإضافة التارك إلى بشر ، كما كان مضافا إلى «البكري» ، ويلزم على ذلك محذور لا يرتضيه أكثر العلماء ، وهو إضافة الاسم المحلى بأل إلى اسم خال منها ومن الإضافة إلى المحلى بها أو إلى ضميره ، وذلك لا يجوز ، على ما تقدم لك في باب الإضافة ، نعم قد جوز الفراء إضافة الوصف المفرد المقترن بأل إلى العلم ؛ فعلى مذهبه يجوز أن يكون «بشر» في هذا البيت بدلا ، ولكن هذا المذهب غير مقبول عند جمهور العلماء ، ومذهب الجمهور هو الذي جرى عليه المؤلف.

__________________

(١) إنما يجوز اجتماع «يا» و «أل» في موضعين : أحدهما اسم الله تعالى ، تقول : «يا الله» وثانيهما : ما سمي به من الجمل الاسمية ، تقول «يا المنطلق زيد» لمن سميته بذلك.

٤٤٣

إذ لا يضاف ما فيه الألف واللام إلى المجرّد منها ، إلا إن كان المضاف صفة مثناة أو مجموعة جمع المذكّر السّالم ، نحو : «الضّاربا زيد ، و «الضّاربو زيد» ولا يجوز «الضّارب زيد» خلافا للفرّاء.

ومنها قول الراجز ، وهو ذو الرمة :

٢٣١ ـ إنّي وأسطار سطرن سطرا

لقائل يا نصر نصر نصرا

______________________________________________________

٢٣١ ـ هذا بيت من الرجز أو بيتان من مشطوره ، من شواهد سيبويه ، وقد نسبه إلى رؤبة بن العجاج ، ووافق على هذه النسبة الأعلم في شرح شواهده (ج ١ ص ٣٠٤) ولكن الصاغاني لم يوافق سيبويه ولا الأعلم على نسبته إلى رؤبة ، وقد رأيت المؤلف ينسبه إلى ذي الرمة ، وسينشد المؤلف عجز هذا البيت مرة أخرى في باب تابع المنادى (ص ٤٥٦ من هذا الكتاب).

اللّغة والرّواية : «يا نصر نصر نصرا» الذي رواه سيبويه «يا نصر نصرا نصرا» بضم المنادى ونصب ما بعده ، ونصر المنادى هو نصر بن سيار ، واختلف فيما بعده على ثلاثة أقول ؛ الأول : أن الاثنين جميعا هما نفس المنادى ، والمراد بهما نصر بن سيار أيضا ، وهذا هو الذي يصح تخريج كلام المؤلف عليه ، وهو الذي درج عليه سيبويه ، والثاني : أن المراد بهما نصر آخر هو حاجب نصر بن سيار المنادى ، وانتصابهما جميعا على هذا بفعل محذوف ؛ فهو من باب الإغراء ، والثالث : أن المراد بهما مصدر نصره ينصره ، وانتصابهما حينئذ على أن الأول مفعول مطلق عامله محذوف ، والثاني توكيد له.

الإعراب : «إني» إن : حرف توكيد ونصب ، والياء اسمه ، «وأسطار» الواو حرف قسم وجر ، أسطار : مقسم به مجرور بالواو ، والجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف ، «سطرن» سطر : فعل ماض مبني للمجهول ، ونون النسوة العائد إلى أسطار نائب فاعل ، والجملة في محل جر صفة لأسطار «سطرا» مفعول مطلق مؤكد لعامله ، «لقائل» اللام هي اللام المزحلقة ، قائل : خبر إن ، «يا» حرف نداء ، «نصر» منادى مبني على الضم في محل نصب ، «نصر» عطف بيان على نصر باعتبار لفظه ، مرفوع بالضمة الظاهرة ، «نصرا» عطف بيان على المنادى باعتبار محله منصوب بالفتحة الظاهرة.

الشّاهد فيه : قوله «يا نصر نصر نصرا» فإن قوله «نصر» الأول منادى ، وقوله «نصر» الثاني عطف بيان عليه باعتبار لفظه ، وقوله «نصرا» الثالث عطف بيان عليه باعتبار محله ؛ ولا يجوز في واحد من الثاني والثالث أن يجعل بدلا من المنادى ؛ وذلك لأن البدل على نية تكرار العامل كما قلنا في شرح البيت السابق ؛ وأنت لو أدخلت حرف النداء الذي عمل في المبدل منه على واحد من هذين لما جاز مع ذلك رفع الأول ونصب الثاني ؛ إذ كل منهما علم مفرد ؛ والعلم المفرد إذا دخل

٤٤٤

لأن نصرا الثاني مرفوع ، والثالث منصوب ، فلا يجوز فيهما أن يكونا بدلين ؛ لأنه لا يجوز «يا نصر» بالرفع ، ولا «يا نصرا» بالنصب ، قالوا : وإنما نصر الأول عطف بيان على اللفظ ، والثاني عطف بيان على المحل ، واستشكل ذلك ابن الطراوة ؛ لأن الشيء لا يبين نفسه ، قال : وإنما هذا من باب التوكيد اللفظي ، وتابعه على ذلك المحمدان ابنا مالك ومعطي.

فإن قلت : «يا سعيد كرز» بضم «كرز» وجب كونه بدلا ، وامتنع كونه بيانا ؛ لأن البدل في باب النداء حكمه حكم المنادى المستقلّ و «كرز» إذا نودي ضم من غير تنوين ، وأما البيان المفرد التابع لمبني فيجوز رفعه ونصبه ، ويمتنع ضمه من غير تنوين ، ومثله في ذلك النعت والتوكيد ، نحو : «يا زيد الفاضل» و «الفاضل» و «يا تميم أجمعون» و «أجمعين».

وكذلك يمتنع البيان في قولك «قرأ قالون عيسى» ونحوه مما الأول فيه أوضح من الثاني ، وإنما قال العلماء في قوله تعالى : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [الشعراء ، ٤٧ و ٤٨] إنه بيان ؛ لأن فرعون كان قد ادعى الربوبية ، فلو اقتصروا على قولهم (بِرَبِّ الْعالَمِينَ) لم يكن ذلك صريحا في الإيمان بالرب الحق سبحانه وتعالى.

ثم قلت : الرّابع البدل ، وهو : التّابع المقصود بالحكم بلا واسطة ، وهو إمّا بدل كلّ نحو : (صِراطَ الَّذِينَ) أو بعض نحو : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أو اشتمال نحو : (قِتالٍ فِيهِ) أو إضراب نحو : «ما كتب له نصفها ثلثها ربعها» أو نسيان أو غلط ك «جاءني زيد عمرو» و «هذا زيد حمار» والأحسن عطف هذه

______________________________________________________

عليه حرف النداء وجب بناؤه على الضم ؛ لكن عطف البيان ليس كذلك ؛ بل يجوز فيه الإتباع على اللفظ فيؤتى به مرفوعا منونا كالأول من الاثنين ؛ والإتباع على المحل فيؤتى به منصوبا منونا كالثاني ؛ فمن أجل ذلك صح في هذا البيت بخصوصه أن يكون «نصر نصرا» عطف بيان ، ولم يصح جعل واحد منهما بدلا.

٤٤٥

الثّلاثة ببل ، ويوافق متبوعه ويخالفه ، في الإظهار والتّعريف وضدّيهما ، ولكن لا يبدل ظاهر من ضمير حاضر ، إلّا بدل بعض أو اشتمال مطلقا ، أو بدل كلّ إن أفاد الإحاطة.

وأقول : البدل في اللغة العوض ، وفي التنزيل : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) [القلم ، ٣٢] وفي الاصطلاح ما ذكر.

و «التابع» جنس يشمل [جميع] التوابع.

و «المقصود بالحكم» فصل مخرج للنعت والبيان والتأكيد ، فإنهن متممات للمقصود بالحكم ، لا مقصودة بالحكم ، ولنحو : «جاء القوم لا زيد» فإن زيدا منفي عنه الحكم ، فلا يصح أن يقال إنه المقصود بالحكم ، ولنحو : «عمرو» في «جاء زيد وعمرو» أو «فعمرو» أو «ثم عمرو» أو «القوم حتى عمرو» فإنه مقصود بالحكم مع الأول ، فلا يصدق عليه أنه المقصود بالحكم.

و «بلا واسطة» مخرج للمعطوف عطف النسق في نحو : «جاء زيد بل عمرو» ، فإنه وإن كان المقصود بالحكم ، لكنه إنما يتبع بواسطة حرف العطف.

وأقسامه ستة : بدل كلّ من كلّ ، وبدل بعض من كلّ ، وبدل اشتمال ، وبدل إضراب ، وبدل نسيان ، وبدل غلط.

فبدل الكلّ نحو : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ) [الفاتحة ، ٦ و ٧] فالصراط الثاني هو نفس الصراط الأول.

وبدل البعض نحو : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران ، ٩٧] ف «من» في موضع خفض على أنها بدل من «الناس» والمستطيع بعض الناس لا كلهم.

وبدل الاشتمال نحو : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة ، ٢١٧] ف «قتال» بدل من «الشهر» وليس القتال نفس الشّهر ولا بعضه ، ولكنه ملابس له ؛ لوقوعه فيه.

وبدل الإضراب كقوله عليه الصلاة والسّلام : «إنّ الرّجل ليصلي الصّلاة ما

٤٤٦

كتب له نصفها ثلثها ربعها» إلى العشر ؛ وضابطه أن يكون البدل والمبدل منه مقصودين قصدا صحيحا ، وليس بينهما توافق كما في بدل الكل (١).

ولا كلية وجزئية كما في بدل البعض ، ولا ملابسة كما في بدل الاشتمال.

وبدل النسيان كقولك : «جاءني زيد عمرو» إذا كنت إنما قصدت زيدا أولا ، ثم تبين فساد قصدك فذكرت عمرا.

وبدل الغلط كقولك : «هذا زيد حمار» والأصل أنك أردت أن تقول : هذا حمار ، فسبقك لسانك إلى زيد ؛ فرفعت الغلط بقولك : حمار ، وسماه النحويون بدل الغلط ، ألا ترى أن الحمار بدل من زيد ، وأن زيدا إنما ذكر غلطا.

ويصح أن يمثّل لهذه الأبدال الثلاثة بقولك : «جاءني زيد عمرو» ؛ لأن الأول والثاني إن كانا مقصودين قصدا صحيحا فبدل إضراب ، وإن كان المقصود إنما هو الثاني فبدل غلط ، وإن كان الأول قصد أولا ثم تبين فساد قصده فبدل نسيان.

ثم اعلم أن البدل والمبدل منه ينقسمان بحسب الإظهار والإضمار أربعة أقسام ، وذلك لأنهما يكونان ظاهرين ، ومضمرين ، ومختلفين ، وذلك على وجهين :

فإبدال الظاهر من المظهر نحو : «جاءني زيد أخوك».

وإبدال المضمر من المضمر ، نحو : «ضربته إياه» فإياه : بدل أو توكيد ، وأوجب ابن مالك الثاني ، وأسقط هذا القسم من أقسام البدل ، ولو قلت : «ضربته هو» كان بالاتفاق توكيدا لا بدلا.

وإبدال المضمر من نحو : «ضربت زيدا إيّاه» وأسقط ابن مالك هذا القسم أيضا من باب البدل ، وزعم أنه ليس بمسموع ، قال : ولو سمع لأعرب توكيدا لا بدلا ، وفيما ذكره نظر ؛ لأنه لا يؤكّد القويّ بالضعيف ، وقد قالت العرب : «زيد هو الفاضل» وجوّز النحويون في «هو» أن يكون بدلا ، وأن يكون مبتدأ ، وأن يكون فصلا.

__________________

(١) إدخال «أل» على كلمتي «كل» و «بعض» مما لا يرتضيه أكثر اللغويين والنحاة ونص المؤلف نفسه في شرح القطر على امتناعه.

٤٤٧

وإبدال الظاهر من المضمر فيه تفصيل ، وذلك أن الظاهر إن كان بدلا من ضمير غيبة جاز مطلقا ، كقوله تعالى : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف ، ٦٣] ف «أن أذكره» بدل من الهاء في «أنسانيه» بدل اشتمال ، ومثله (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) [مريم ، ٨٠] ، وقول الشاعر :

١١٧ ـ على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم (١)

إلا أن هذا بدل كلّ من كلّ.

وإن كان ضمير حاضر ، فإن كان البدل بعضا أو اشتمالا جاز ، نحو : «أعجبتني وجهك» و «أعجبتني علمك» وقوله :

٢٣٢ ـ أوعدني بالسّجن والأداهم

رجلي فرجلي شثنة المناسم

______________________________________________________

٢٣٢ ـ هذا بيت من الرجز ، أو بيتان من مشطوره ، وقد نسب العيني تبعا لياقوت هذا الشاهد إلى العديل بن الفرخ ، وكان من حديثه أنه هجا الحجاج بن يوسف الثقفي ، فلما خاف أن تناله يده هرب إلى بلاد الروم ، واستنجد بالقيصر ، فحماه ، فلما علم الحجاج بأمره بعث إلى القيصر يتهدده ؛ فأرسله إليه ، والبيت من شواهد ابن عقيل (رقم ٢٩٩).

اللّغة : «أوعدني» تهددني بشر ، «السجن» الحبس ، «الأداهم» جمع أدهم وهو القيد ، «شثنة» غليظة ، «المناسم» جمع منسم ـ بزنة مجلس ـ وأصله طرف خف البعير ، فاستعمله في الإنسان ، وإنما حسن ذلك أنه أراد وصف رجليه بالقوة والجلادة والصبر على احتمال القيد.

الإعراب : «أوعدني» أوعد : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر ، والنون للوقاية ، وياء المتكلم مفعول به ، «بالسجن» جار ومجرور متعلق بأوعد ، «والأداهم» الواو عاطفة ، والأداهم : معطوف

__________________

(١) قد سبق شرح هذا الشاهد شرحا وافيا لا تحتاج معه إلى إعادة شيء من القول عليه في هذا الموضع ، فانظره إن شئت في (ص ٢٧٠) من هذا الكتاب ، ولكنا نبين لك ههنا أن استشهاد المؤلف بهذا البيت للموضع الذي نحن فيه الآن لا يتم إلا على هذه الرواية التي ذكرها مع جر «حاتم» في آخر البيت ؛ لأن القصيدة كلها مجرورة القوافي كما قدمنا بيانه ، ويكون قوله «حاتم» بالجر بدلا من الضمير الذي أضيف إليه الجود في قوله «على جوده» ونحن في الموضع الذي أحلناك عليه قد ذكرنا هذا الوجه على وجه يشعر بضعفه ، وجعلنا «حاتم» فاعلا لضن ، والتزمنا أن يكون في البيت إقواء ، ثم ذكرنا لك الرواية الصحيحة في هذا البيت بالرجوع بك إلى ديوان الشاعر ورواية الأثبات من العلماء ، وهذه الرواية الصحيحة تخرج البيت عن الاستشهاد به لما هنا ، وتنفي عنه عيب الإقواء أيضا ، وانظر مع ذلك كله كامل المبرد (ج ١ ص ١٣٨).

٤٤٨

ف «رجلي» بدل بعض من ياء «أوعدني» ، وقوله :

٢٣٣ ـ ذريني إن أمرك لن يطاعا

وما ألفيتني حلمي مضاعا

ف «حلمي» بدل اشتمال من ياء «ألفيتني».

وإن كان بدل كل فإما أن يدل على إحاطة ، أو لا ، فإن دلّ عليها جاز نحو : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) [المائدة ، ١١٤] وإن كان غير ذلك امتنع ، نحو : «قمت زيد» و «رأيتك زيدا» وجوز ذلك الأخفش والكوفيون ، تمسكا بقوله :

______________________________________________________

على السجن ، «رجلي» رجل : بدل من ياء المتكلم في أوعدني ، منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة ، وهو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «فرجلي» الفاء فاء الفصيحة ، رجل : مبتدأ ، ورجل مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «شثنة» خبر المبتدأ ، وشثنة مضاف و «المناسم» مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «أوعدني ... رجلي» حيث أبدل الاسم الظاهر وهو قوله رجلي من ضمير الحاضر ، وهو ياء المتكلم ، بدل بعض من كل ، وهو واضح بأدنى تأمل.

٢٣٣ ـ هذا بيت من الوافر من كلام عدي بن زيد العبادي ، وهو من شواهد ابن عقيل (رقم ٢٩٨).

اللّغة : «ذريني» معناه اتركيني ، وهو فعل أمر ، مسند لياء المخاطبة ، «ألفيتني» وجدتني.

الإعراب : «ذريني» ذري : فعل أمر مبني على حذف النون ، وياء المؤنثة المخاطبة فاعل ، والنون الموجودة للوقاية ، وياء المتكلم مفعول به ، «إن» حرف توكيد ونصب ، «أمرك» أمر : اسم إن ، وأمر مضاف وكاف المخاطبة مضاف إليه ، «لن» حرف نفي ونصب واستقبال ، «يطاعا» فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بلن وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة ، والألف للإطلاق ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى أمر ، والجملة من الفعل ونائب الفاعل في محل رفع خبر إن ، «وما» الواو عاطفة ، ما : نافية ، «ألفيتني» ألفي : فعل ماض ، والتاء ضمير المخاطبة فاعل مبني على الكسر في محل رفع ، والنون للوقاية ، وياء المتكلم مفعول به أول مبني على السكون في محل نصب ، «حلمي» حلم : بدل من ياء المتكلم منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة ، وحلم مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «مضاعا» مفعول ثان لألفي.

الشّاهد فيه : قوله «ألفيتني حلمي» حيث أبدل الاسم الظاهر ، وهو قوله حلمي ، من ضمير الحاضر ، وهو ياء المتكلم التي وقعت مفعولا أول لألفي ، بدل اشتمال ، وذلك لا يخفى على متأمل.

٤٤٩

٢٣٤ ـ بكم قريش كفينا كلّ معضلة

وأمّ نهج الهدى من كان ضلّيلا

وكذلك ينقسمان ـ بحسب التعريف والتنكير ـ إلى معرفتين نحو (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ) [الفاتحة ، ٦ و ٧] ونكرتين نحو (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً* حَدائِقَ) [النبأ ، ٣١ و ٣٢] ومتخالفين فإما أن يكون البدل معرفة والمبدل منه نكرة نحو (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللهِ) [الشورى ، ٥٢ و ٥٣] أو يكونا بالعكس نحو (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) [العلق ، ١٥ و ١٦] وقول الشاعر :

٢٣٥ ـ * إنّ مع اليوم أخاه غدوا*

______________________________________________________

٢٣٤ ـ هذا بيت من البسيط ، ولم أقف على نسبة هذا البيت إلى قائل معين.

اللّغة : «قريش» أعظم قبائل العرب ، وأصحاب الإمرة عليهم في الجاهلية ، ومنهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «كفينا» أي : وقينا ، «معضلة» بكسر الضاد ـ اسم فاعل من أعضل الأمر ؛ إذا اشتد وصعب المخرج منه ، «أم» قصد ، «نهج الهدى» طريقه ، «ضليلا» بكسر الضاد وتشديد اللام مكسورة ـ الشديد الضلال.

الإعراب : «بكم» جار ومجرور متعلق بقوله كفينا الآتي ، «قريش» بدل من كاف المخاطبين المجرورة محلا بالباء ، «كفينا» كفي : فعل ماض مبني للمجهول ؛ وضمير المتكلم عن نفسه وغيره نائب فاعل ، وهو المفعول الأول ، «كل» مفعول ثان لكفى ؛ وكل مضاف و «معضلة» مضاف إليه «وأم» الواو حرف عطف ؛ أم : فعل ماض ، «نهج» مفعول به لأم ، ونهج مضاف و «الهدى» مضاف إليه ، «من» اسم موصول : فاعل أم ، مبني على السكون في محل رفع ، «كان» فعل ماض ناقص ؛ واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من ، «ضليلا» خبر كان ، والجملة من كان واسمه وخبره لا محل لها صلة الموصول.

الشّاهد فيه : قوله «بكم قريش» حيث أبدل الاسم الظاهر ، وهو قوله قريش ؛ من ضمير الحاضر ، وهو ضمير المخاطبين المجرور محلا بالباء ، بدل كلّ من كلّ ، من غير أن يدل البدل على الإحاطة ، وهذا النوع من الإبدال محل خلاف بين العلماء ، فلم يثبته جمهور البصريين ، وأثبته الكوفيون والأخفش تمسكا بمثل هذا البيت.

٢٣٥ ـ هذا بيت من مشطور الرجز ، وقبله قوله :

* لا تقلواها وادلواها دلوا*

وفي بعض نسخ الشرح ذكر هذا البيت أيضا مع الشاهد ، وقد أنشد ابن يري ذلك البيت ولم ينسبه لمعين.

٤٥٠

ثم قلت : الخامس : عطف النّسق ، وهو بالواو لمطلق الجمع ، وبالفاء للجمع والتّرتيب والتّعقيب ، وبثمّ للجمع والتّرتيب والمهلة ، وبحتى للجمع والغاية ، وبأم المتّصلة وهي : المسبوقة بهمزة التسوية أو بهمزة يطلب بها وبأم التّعيين ، وهي في غير ذلك [منقطعة] مختصّة بالجمل ومردافة لبل ، وقد تضمّن مع ذلك معنى الهمزة ، وبأو بعد الطّلب للتّخيير أو الإباحة ، وبعد الخبر للشّكّ أو التّشكيك أو التّقسيم ، وببل بعد النّفي أو النّهي لتقرير متلوّها وإثبات نقيضه لتاليها ، كلكن ، وبعد الإثبات والأمر لنفي حكم ما قبلها لما بعدها ، وبلا للنّفي.

ولا يعطف غالبا على ضمير رفع متّصل ولا يؤكّد بالنّفس أو بالعين إلّا بعد توكيده بمنفصل أو بعد فاصل ما ، ولا على ضمير خفض إلّا بإعادة الخافض.

وأقول : معنى كون الواو لمطلق الجمع : أنها لا تقتضي ترتيبا ولا عكسه ، ولا

______________________________________________________

اللّغة : «لا تقلواها» أراد لا تسوقا هذه الإبل سوقا شديدا يعجزها ؛ وتقول : قلا إبله يقلوها «إذا لم يرفق بها» وكان يعنف عليها إذا ساقها ، «ادلواها» وتقول : دلا الإبل يدلوها «إذا كان يسوقها سوقا خفيفا لا عنف فيه» ، «غدوا» بفتح الغين وسكون الدال ـ هو الغد ، والغد : أصله غدو ؛ فحذفت منه الواو لغير علة تصريفية ، وهو ما يسمى الحذف اعتباطا ، وقد ردها هذا الراجز إلى الأصل كما ردها لبيد بن ربيعة في قوله :

وما النّاس إلّا كالدّيار ، وأهلها

بها يوم حلّوها ، وغدوا بلاقع

الإعراب : «لا» ناهية ، «تقلواها» تقلوا : فعل مضارع مجزوم بلا الناهية ؛ وعلامة جزمه حذف النون ، وألف الاثنين فاعل ، وضمير الغائبة العائد إلى الإبل مفعول به ، «وادلواها» الواو عاطفة ، ادلوا : فعل أمر ، مبني على حذف النون ، وألف الاثنين فاعل ، والضمير العائد إلى الإبل أيضا مفعول به ، «دلوا» مفعول مطلق ، «إن» حرف توكيد ونصب ، «مع» ظرف متعلق بمحذوف خبر إن تقدم على اسمه ، ومع مضاف و «اليوم» مضاف إليه ، «أخاه» أخا : اسم إن ، منصوب بالألف نيابة عن الفتحة لأنه من الأسماء الستة ، وأخا مضاف وضمير الغائب العائد إلى اليوم مضاف إليه ، «غدوا» بدل من قوله أخاه ، وبدل المنصوب منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.

الشّاهد فيه : قوله «أخاه غدوا» حيث أبدل النكرة ، وهي قوله «غدوا» من المعرفة وهي قوله «أخاه» وإنما كان معرفة لأنه اسم مضاف إلى الضمير ، وذلك ظاهر بأدنى تأمل.

٤٥١

معيّة ، بل هي صالحة بوضعها لذلك كله ؛ فمثال استعمالها في مقام الترتيب قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) [النساء ، ١٦٣] ومثال استعمالها في عكس الترتيب نحو (وَعِيسى وَأَيُّوبَ) [النساء ، ١٦٣] (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) [الشورى ، ٣] (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة ، ٢١] (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران ، ٤٣] ، ومثال استعمالها في المصاحبة نحو (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) [الشعراء ، ١١٩] ، ونحو (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) [القصص ، ٤٠] ونحو (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) [البقرة ، ١٢٧].

ومثال إفادة الفاء للترتيب والتعقيب ، وثمّ للترتيب والمهلة قوله تعالى : (أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ* ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس ، ٢١ و ٢٢] ، فعطف الإقبار على الإماتة بالفاء ، والإنشار على الإقبار بثم ، لأن الإقبار يعقب الإماتة ، والإنشار يتراخى عن ذلك.

ومعنى «حتى» للغاية ، وغاية الشيء : نهايته ، والمراد أنها تعطف ما هو نهاية في الزيادة أو القلّة ، والزيادة إما في المقدار الحسي ، كقولك : «تصدّق فلان بالأعداد الكثيرة حتى الألوف الكثيرة» أو في المقدار المعنوي ، كقولك : «مات النّاس حتى الأنبياء» وكذلك القلة تكون تارة في المقدار الحسي ، كقولك : «الله ـ سبحانه وتعالى ـ يحصى الأشياء حتى مثاقيل الذّرّ» وتارة في المقدار المعنوي ، كقولك : «زارني النّاس حتى الحجّامون».

و «أم» على قسمين : متصلة ، ومنقطعة ، وتسمى أيضا منفصلة.

فالمتصلة هي : المسبوقة إما بهمزة التسوية ، وهي : الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها ، نحو (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [البقرة ، ٦ ويس ، ١٠] ألا ترى أنه يصح أن يقال : سواء عليهم الإنذار وعدمه ، أو بهمزة يطلب بها وبأم التعيين ، نحو : «أزيد في الدّار أم عمرو» وسميت «أم» في النوعين متصلة لأن ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر.

والمنقطعة : ما عدا ذلك ، وهي بمعنى بل ، وقد تتضمن مع ذلك معنى الهمزة ، وقد لا تتضمنه.

٤٥٢

فالأول نحو : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) [الزخرف ، ١٦] أي : بل أتّخذ بهمزة مفتوحة مقطوعة للاستفهام الإنكاري ، ولا يصح أن تكون في التقدير مجردة من معنى الاستفهام المذكور ، وإلا لزم إثبات الاتخاذ المذكور ، وهو محال.

والثاني كقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) [الرعد ، ١٦] أي : بل هل تستوي ، وذلك لأن «أم» اقترنت بهل ؛ فلا حاجة إلى تقديرها بالهمزة.

و «أو» لها أربعة معان :

أحدها : التخيير ، نحو : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [المائدة ، ٨٩].

والثاني : الإباحة ، كقوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) [النور ، ٦١] ، وهذان المعنيان لها إذا وقعت بعد الطلب.

والثالث : الشك ، نحو : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [المؤمنون ، ١١٣].

والرابع : التشكيك ، وهو الذي يعبّر عنه بالإبهام ، نحو : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ ، ٢٤] ، وهذان المعنيان لها إذا وقعت بعد الخبر.

وأما «بل» فيعطف بها بعد النفي ، أو النهي ، ومعناها حينئذ : تقرير ما قبلها بحاله ، وإثبات نقيضه لما بعدها ، نحو : «ما جاءني زيد بل عمرو» و «لا يقم زيد بل عمرو» وبعد الإثبات أو الأمر ، ومعناها حينئذ : نقل الحكم الذي قبلها للاسم الذي بعدها ، وجعل الأول كالمسكوت عنه.

وأما «لكن» فلا يعطف بها إلا بعد النفي أو النهي ، ومعناها كمعنى بل ، وعن الكوفيين جواز العطف بها بعد الإثبات قياسا على بل ، وأباه غيرهم لأنه لم يسمع.

وأما «لا» فإنها لنفي الحكم الثابت لما قبلها عما بعدها ؛ فلذلك لا يعطف بها إلا بعد الإثبات ، وذلك كقولك : «جاءني زيد لا عمرو».

ومثال العطف على الضمير المرفوع المتصل بعد التوكيد [بالضمير المنفصل] : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنبياء ، ٥٤] ، ومثاله بعد الفصل

٤٥٣

[بالمفعول] (يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ) [الرعد ، ٢٣] ، ف «من» : عطف على الواو من «يدخلونها» وجاز ذلك للفصل بينهما بضمير المفعول.

ومثال العطف من غير توكيد ولا فصل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كنت وأبو بكر وعمر» و «فعلت وأبو بكر وعمر» وقول بعضهم : «مررت برجل سواء والعدم» ف «سواء» صفة لرجل ، وهو بمعنى مستو ، وفيه ضمير مستتر عائد على رجل ، و «العدم» معطوف على ذلك الضمير ، ولا يقاس على هذا ، خلافا للكوفيين (١).

__________________

(١) مذهب جمهور البصريين التفصيل ، وحاصله أن الضمير المرفوع إما أن يكون بارزا منفصلا ، وإما أن يكون بارزا متصلا ، وإما أن يكون مستترا في رافعه ، فإن كان منفصلا جاز العطف عليه بغير فصل بينه وبين المعطوف ، تقول : ما أكرمك إلا أنا وخالد ، وإن كان متصلا أو مستترا في رافعه لم يجز العطف عليه إلا مع الفصل بينه وبين المعطوف ، ويكثر الفصل بواحد من ثلاثة أشياء : أولها الضمير المنفصل ، نحو قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) [الأنبياء ، ٥٤] ، ونحو قوله جل ذكره (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة ، ٣٥] ـ وثانيها مفعول رافع الضمير ، نحو قولك : أكرمتك وزيد ، وقوله تعالى : (يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) [الرعد ، ٢٣] ـ وثالثها لا النافية ، نحو قوله جل شأنه (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام ، ١٤٨] ـ ومذهب جمهور الكوفيين أنه يجوز العطف على الضمير المرفوع بارزا كان أو مستترا ، منفصلا كان أو متصلا ، مع الفصل بينه وبين المعطوف ومن غير الفصل بينهما ، واستدلوا على ذلك بمجيئه في كلام العرب الموثوق بعربيتهم ، فمن ذلك ما حكاه سيبويه رحمه‌الله من قولهم : مررت برجل سواء والعدم ـ برفع العدم معطوفا على الضمير المستتر في سواء ، لأنه بمعنى اسم الفاعل ـ ومن ذلك ما رواه البخاري من حديث ابن عباس قال : إني مع قوم ندعو الله لعمر بن الخطاب ـ وقد وضع على سريره ـ إذا رجل من خلفي مرفقه على منكبي يقول : رحمك الله ، إني لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك ؛ لأني كثيرا ما كنت أسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كنت وأبو بكر وعمر ، وانطلقت وأبو بكر وعمر ، قال ابن عباس : فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب ، ومن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :

قلت إذ أقبلت وزهر تهادى

كنعاج الفلا تعسّفن رملا

فقوله «وزهر» معطوف على الضمير المرفوع المستتر في «أقبلت» وتقديره هي.

ومن ذلك قول جرير بن عطية بن الخطفي يهجو الأخطل التغلبي النصراني :

ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه

ما لم يكن وأب له لينالا

فقوله «وأب» معطوف بالواو على الضمير المرفوع المستتر في «يكن» وتقديره هو يعود إلى الأخيطل الذي هو تصغير الأخطل.

والبصريون يحملون جميع ذلك على الضرورة ، ونحن نرى أن حمل هذه الشواهد ـ مع أن فيها ما ليس من الشعر في شيء ـ على أنها ضرورة أو شاذة مما لا يجمل الأخذ به ، وعلى هذا يكون مذهب الكوفيين في هذه المسألة أقوم حجة ، وأظهر دليلا ، من مذهب البصريين وإن نصره المؤلف تبعا لابن مالك.

٤٥٤

ومثال العطف على الضمير المخفوض بعد إعادة الخافض [قوله تعالى] : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ) [فصلت ، ١١] (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) [الأنعام ، ٦٤] (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون ، ٢٢] ولا يجب ذلك خلافا لأكثر البصريين ؛ بدليل قراءة حمزة رحمه‌الله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء ، ١] بخفض «الأرحام» ، وحكاية قطرب ، «ما فيها غيره وفرسه».

ثم قلت : فصل ـ وإذا أتبع المنادى ببدل أو نسق مجرّد من «أل» فهو كالمنادى المستقلّ مطلقا ، وتابع المنادى المبنيّ غيرهما يرفع أو ينصب ؛ إلّا تابع «أيّ» فيرفع ، وإلّا التّابع المضاف المجرّد من «أل» فينصب ، كتابع المعرب.

وأقول : لتوابع المنادى أحكام تخصّها ؛ فلهذا أفردتها بفصل.

والحاصل أن التابع إذا كان بدلا أو نسقا مجردا من «أل» فإنه يستحق حينئذ ما يستحقه لو كان منادى ، تقول في البدل : «يا زيد كرز» بالضم ، كما تقول : «يا كرز» وكذلك : «يا عبد الله كرز» وفي النّسق : «يا زيد وخالد» بالضم ، كما تقول : «يا خالد» وكذلك : «يا عبد الله وخالد» لا فرق في البابين المذكورين بين كون المنادى معربا أو مبنيّا.

وإن كان التابع غير بدل ونسق مجرد من «أل» فإن كان المنادى مبنيّا فالتابع له ثلاثة أقسام : ما يجب رفعه ، وما يجب نصبه ، وما يجوز فيه الوجهان :

فالواجب رفعه : نعت «أيّ» نحو : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) [الانفطار ، ٦] (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [النساء ، ١] وعن المازني إجازة نصبه ، وأنه قرئ : «قل يا أيّها الكافرين» وهذا إن ثبت فهو من الشذوذ بمكان.

والواجب نصبه : التابع المضاف ، مثاله في النعت نحو : «يا زيد صاحب عمرو» ومثاله في التوكيد «يا تميم كلّهم» أو «كلّكم» ومثاله في البيان : «يا زيد أبا عبد الله».

والجائز فيه الوجهان : التابع المفرد ، نحو : «يا زيد الفاضل ، والفاضل» و «يا تميم أجمعون ، وأجمعين» و «يا سعيد كرز ، وكرزا» قال ذو الرمة :

٤٥٥

٢٣١ ـ * لقائل يا نصر نصر نصرا (١) *

وإن كان المنادى معربا تعين نصب التابع ، نحو : «يا عبد الله صاحب عمرو» و «يا بني تميم كلّهم» و «يا عبد الله أبا زيد».

وإذا وجب نصب المضاف التابع للمبني فنصبه تابعا لمعرب أحقّ ، قال الله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الزمر ، ٤٦] ففاطر : صفة لاسم الله سبحانه ، وزعم سيبويه أنه نداء [ثان] حذف منه حرف النداء ؛ لأن المنادى الملازم للنداء لا يجوز عنده أن يوصف ، وكلمة «اللهمّ» لا تستعمل إلا في النداء.

ثم قلت : باب ـ موانع الصّرف تسعة يجمعها قوله :

اجمع وزن عادلا أنّث بمعرفة

ركّب وزد عجمة فالوصف قد كملا (٢)

فالتّأنيث بالألف كبهمى وصحراء ، والجمع المماثل لمساجد ومصابيح ، كلّ منهما يستقلّ بالمنع ، والبواقي منها ما لا يمنع إلا مع العلميّة ، وهو التّأنيث كفاطمة وطلحة وزينب ؛ ويجوز في نحو : هند وجهان ، بخلاف نحو : سقر وبلخ وزيد لامرأة ، والتركيب المزجيّ كمعديكرب ، والعجمة كإبراهيم ، وما يمنع تارة مع العلميّة وأخرى مع الصّفة ، وهو العدل كعمر وزفر ، وكمثنى وثلاث وأخر مقابل آخرين ، والوزن كأحمد وأحمر ، والزّيادة ، كعثمان وغضبان ، وشرط تأثير الصّفة أصالتها وعدم قبولها التّاء ، فأرنب وصفوان بمعنى ذليل وقاس ، ويعمل وندمان من المنادمة منصرفة. وشرط العجمة كون علميّتها في العجميّة والزّيادة على الثّلاثة ، فنوح منصرف ، وشرط الوزن اختصاصه بالفعل كشمّر وضرب علمين ، أو افتتاحه بزيادة هي بالفعل أولى كأحمر وكأفكل علما.

وأقول : الأصل في الأسماء أن تكون منصرفة ـ أعني منوّنة تنوين التمكين ـ وإنّما

__________________

(١) قد سبق القول على هذا البيت قريبا بما لا تحتاج معه إلى إعادة شيء من القول عليه ، فانظره في (ص ٤٤٤) من هذا الكتاب.

(٢) هذا البيت لبهاء الدين بن النحاس النحوي ، وقبله قوله :

موانع الصّرف تسع إن أردت بها

عونا لتبلغ في إعرابك الأملا

٤٥٦

تخرج عن هذا الأصل إذا وجد فيها علتان من علل تسع ، أو واحدة منها تقوم مقامهما ، والبيت المنظوم لبعض النحويين ، وهو يجمع العلل المذكورة إما بصريح اسمها ، أو بالاشتقاق.

والذي يقوم مقام علّتين شيئان : التأنيث بالألف : مقصورة كانت كبهمى ، أو ممدودة كصحراء ، والجمع الذي لا نظير له في الآحاد ـ أي لا مفرد على وزنه ـ وهو مفاعل كمساجد ، ومفاعيل كمصابيح ودنانير ، وإنما مثلت للمقصورة ببهمى دون حبلى وللممدودة بصحراء دون حمراء لئلا يتوهم أن المانع الصفة وألف التأنيث ، كما توهم بعضهم.

وما عدا هاتين العلتين لا يؤثر إلا بانضمام علة أخرى له ، ولكن يشترط في التأنيث والتركيب والعجمة أن تكون العلة الثانية المجامعة لكل منهنّ العلمية ، ولهذا صرفت صنجة وقائمة ، وإن وجد فيهما علة أخرى مع التأنيث ، وهي العجمة في صنجة والصفة في قائمة ، وما ذاك إلا لأن التأنيث والعجمة لا يمنعان إلا مع العلمية ، وكذلك أذربيجان ـ اسم لبلدة ـ فيه العلمية والعجمة والتركيب والزيادة ، قيل : وعلة خامسة وهي التأنيث ؛ لأن البلدة مؤنثة ، وليس بشيء ؛ لأنا لا نعلم هل لحظوا فيه البقعة أو المكان ، ولو قدّر خلوه من العلمية وجب صرفه ؛ لأن التأنيث والتركيب والعجمة شرط اعتبار كلّ منهنّ العلمية كما ذكرنا ، والألف والنون إذا لم تكن في صفة كسكران فلا تمنع إلا مع العلمية كسلمان ، ولا وصفية في أذربيجان ؛ فتعينت العلمية ، ولا علمية إذا نكرته ؛ فوجب صرفه.

ومثلت للتأنيث بفاطمة وزينب لأبيّن أنه على ثلاثة أقسام : لفظي ومعنوي ، ولفظي لا معنوي ، ومعنوي لا لفظي.

وأما بقية العلل فإنها تمنع تارة مع العلمية وتارة مع الصفة.

مثال العدل مع العلميّة عمر وزفر وزحل وجمح ودلف ، فإنها معدولة عن عامر وزافر وزاحل وجامح ودالف ، وطريق معرفة ذلك أن يتلقّى من أفواههم ممنوع الصرف ، وليس فيه مع العلمية علة ظاهرة ؛ فيحتاج حينئذ إلى تكلف دعوى العدل فيه.

٤٥٧

ومثاله مع الصفة أحاد وموحد ، وثناء ومثنى ، وثلاث ومثلث ، ورباع ومربع ؛ فإنها معدولة عن واحد واحد ، واثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، قال تعالى : (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [فاطر ، ١] فهذه الكلمات الثلاث مخفوضة لأنها صفة لأجنحة ، وهي ممنوعة الصرف ؛ لأنها معدولة عما ذكرنا ؛ فلهذا كان خفضها بالفتحة ، ولم يظهر ذلك في مثنى لأنه مقصور ، وظهر في ثلاث ورباع لأنهما اسمان صحيحا الآخر ، ومن ذلك «أخر» في نحو قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة ، ١٨٤ و ١٨٥] فأخر : صفة لأيام وهي معدولة عن آخر ـ بفتح الهمزة والخاء وبينهما ألف ـ لأنها جمع أخرى ، وأخرى أنثى آخر بالفتح ، وقياس فعلى أفعل أن لا تستعمل إلا مضافة إلى معرفة أو مقرونة بلام التعريف ، فأما ما لا إضافة فيه ولا لام فقياسه أفعل كأفضل ، تقول : «هند أفضل» و «الهندات أفضل» ولا تقول : فضلى ولا فضّل ، فأما أخر فصفة معدولة ؛ فلهذا خفضت بالفتحة ، فإن كانت أخر جمع أخرى أنثى آخر ـ بكسر الخاء ـ فهي مصروفة ، تقول : «مررت بأوّل وأخر» بالصرف ، إذ لا عدل هنا.

ومثال الوزن مع العلمية أحمد ويزيد ويشكر ، ومع الصفة أحمر وأفضل ، ولا يكون الوزن المانع مع الصفة إلا في أفعل ، بخلاف الوزن المانع مع العلمية.

ومثال الزيادة مع العلمية سلمان وعمران وعثمان وأصبهان ، ومثالها مع الصفة سكران وغضبان ، ولا تكون الزيادة المانعة مع الصفة إلا في فعلان ، بخلاف الزيادة المانعة مع العلمية.

ويشترط لتأثير الصفة أمران :

أحدهما : كونها أصلية ، فيجب الصرف في نحو قولك : «هذا قلب صفوان» بمعنى قاس ، و «هذا رجل أرنب» بمعنى ذليل ، أي ضعيف.

والثاني : عدم قبولها التاء ، ولهذا انصرف نحو : ندمان وأرمل ؛ لقولهم ندمانة وأرملة ، قال الشاعر :

٢٣٦ ـ وندمان يزيد الكأس طيبا

سقيت وقد تغوّرت النّجوم

______________________________________________________

٢٣٦ ـ هذا بيت من الوافر من كلام البرج بن مسهر ، والبرج بضم الباء وسكون الراء «ومسهر

٤٥٨

ويشترط لتأثير العجمة أمران :

أحدهما : كون علميتها في اللغة العجمية ؛ فنحو لجام وفيروز ـ علمين لمذكرين ـ مصروف.

والثاني : الزيادة على الثلاثة ، فنوح ولوط وهود ونحوهم مصروفة وجها واحدا ، هذا هو الصحيح ، قال الله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء ، ١٠٥] وقال تعالى : (وَقَوْمُ لُوطٍ* وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) [الحج ، ٤٣ و ٤٤] وقال تعالى : (أَلا بُعْداً لِعادٍ

______________________________________________________

بضم الميم وسكون السين المهملة وكسر الهاء ، وذكر في الأغاني أنه البرج بن الخلاس الطائي ، من أبيات يقولها في الحصين بن الحمام المري ، وكانا نديمين ، وبعده قوله :

دفعت برأسه وكشفت عنه

بمعرقة الملامة من يلوم

اللّغة : «ندمان» بفتح النون وسكون الدال المهملة ـ هو الذي ينادمك على الشراب ويشاركك فيه ، ومؤنثه ندمانة ، فأما ندمان من الندم على شيء فعلته أو تركته فمؤنثه ندمى ، مثل رجل ظمآن وغرثان وامرأة ظمأى وغرثى ، «الكأس» هو بهمز وسطه ، وهو مؤنث وإن لم تكن معه علامة تأنيث ، قال تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ* بَيْضاءَ) [سورة الصافات ، الآيتان : ٤٥ و ٤٦] ـ ولا يقال كأس إلا أن يكون فيها شراب ؛ فإذا كانت لا شراب فيها فهي كوب ، «تغورت النجوم» غربت.

الإعراب : «وندمان» الواو واو رب ، ندمان : مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد ، «يزيد» فعل مضارع ، وفيه ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى ندمان ، وهو فاعله «الكأس» مفعول أول ليزيد ، «طيبا» مفعول ثان ليزيد ، والجملة من الفعل وفاعله ومفعوليه صفة ندمان ، «سقيت» فعل ماض وفاعله ، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو ندمان ، والرابط ضمير منصوب بسقيت محذوف ، ويجوز ـ بل يترجح ـ جعل ندمان مفعولا به لسقيت تقدم عليه ، «وقد» الواو والحال ، قد : حرف تحقيق ، «تغورت» تغور : فعل ماض ، والتاء حرف دال على التأنيث «النجوم» فاعل تغور ، والجملة من الفعل وفاعله في محل نصب حال.

الشّاهد فيه : قوله «ندمان» حيث صرفه مع أنه وصف في آخره ألف ونون زائدتان وذلك بسبب أن مؤنث ندمان هذا ندمانة بالتاء ، ومن شرط تأثير الوصفية ألا يكون الوصف مما مؤنثه بزيادة التاء عليه ؛ فلو كان ندمان من الندم امتنع من الصرف ؛ لأن مؤنثه مثل سكران وسكرى ، فافهم هذا واحفظه ، والندمان هنا كما قلنا : الذي يوافقك ويرافقك ويشاربك ، ويقال فيه نديم أيضا.

٤٥٩

قَوْمِ هُودٍ) [هود ، ٦٠] ؛ وليس مما نحن فيه ، لأنه عربي ، وليس في أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام عربي غيره وغير صالح وشعيب ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزعم عيسى بن عمر وابن قتيبة والجرجاني والزّمخشري أن في نوح ونحوه وجهين ، وهو مردود ؛ لأنه لم يرد بمنع الصرف سماع مشهور ، ولا شاذ.

وشرط الوزن كونه إما مختصّا بالفعل ، أو كونه بالفعل أولى منه بالاسم ، فالأول نحو : «شمّر وضرب» علمين ، قال الشاعر :

٢٣٧ ـ * وجدّى يا حجّاج فارس شمّرا*

______________________________________________________

٢٣٧ ـ هذا الشاهد عجز بيت من الطويل رواه السيد المرتضى شارح القاموس ـ تبعا لابن منظور ـ ونسبه المرتضى وحده إلى جميل بن عبد الله بن معمر العذري ، صاحب بثينة وصدره قوله :

* أبوك حباب سارق الضّيف برده*

والبيت من شواهد الأشموني (رقم ٧٠).

اللّغة : «حباب» بضم الحاء المهملة ـ أي : خبيث ماكر ، «يا حجاج» روى في اللسان مكانه «يا عباس» وقوله «شمر» ههنا اسم فرس ، وقد سموا به ناقة أيضا ، وعليه جاء قول الشماخ بن ضرار الغطفاني :

ولمّا رأيت الأمر عرش هويّة

تسلّيت حاجات الفؤاد بشمّرا

قال أبو علي القالي (١ ـ ٢٦٤) : «يقول : لما رأيت الأمر شديدا ركبت شمر ، وشمر : اسم ناقته» اه.

الإعراب : «أبوك» أبو : مبتدأ ، وهو مضاف وضمير المخاطب مضاف إليه ، «حباب» خبر المبتدأ ، «سارق» صفة لحباب أو خبر ثان وسارق مضاف ، و «الضيف» مضاف إليه ، وقد ذهب العلامة الصبان إلى أن إضافة سارق إلى الضيف من إضافة اسم الفاعل إلى فاعله ، والمعنى عليه : أنه يرمي أباه بالجبن حتى إن الضيف ـ الذي من عادته أن يكون خجلا مستكينا وكأنه أسير عند مضيفه ـ ليسرق برده ، والذي نرجحه أن إضافة سارق إلى الضيف من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله ، وهو أقوى في معنى الهجاء ، والمراد على ذلك أنه خبيث دنيء حتى إنه ليضيف الناس ليخدعهم عن أموالهم ويسرقها منهم ، «برده» برد : بدل من الضيف على لفظه أو على محله ، وجعله الصبان مفعولا به لسارق بناء على ما ذهب إليه ، «وجدّي» الواو حرف عطف ، جدّ : مبتدأ

٤٦٠