شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

بمعنى إصابتكم ، ويسمى اسم مصدر مجازا ، ورجلا : مفعول بالمصدر ، وأهدى السّلام : جملة في موضع نصب على أنها صفة لرجلا ، وتحية : مصدر لأهدى السّلام ، من باب «قعدت جلوسا» وظلم : خبر إنّ ، ولهذا البيت حكاية شهيرة عند أهل الأدب (١).

والثاني : ما لا يعمل اتفاقا ، وهو ما كان من أسماء الأحداث علما ك «سبحان» علما للتسبيح ، و «فجار» و «حماد» علمين للفجرة والمحمدة.

والثالث : ما اختلف في إعماله ، وهو ما كان اسما لغير الحدث ، فاستعمل له ، ك «الكلام» فإنه في الأصل اسم للملفوظ به من الكلمات ، ثم نقل إلى معنى التكليم ، و «الثّواب» فانه في الأصل اسم لما يثاب به العمّال ، ثم نقل إلى معنى الإثابة ، وهذا النوع ذهب الكوفيون والبغداديون إلى جواز إعماله ، تمسكا بما ورد من نحو قوله :

__________________

(١) روى أهل الأدب أن أبا عثمان المازني كان فقيرا مملقا ذا حاجة ، وأنه جاءه ذات يوم رجل ذمي ، وبذل له مائة دينار على أن يقرئه كتاب سيبويه في النحو ، فامتنع أبو عثمان عن قبول ذلك ، وكان تلميذه الإمام الكبير أبو العباس المبرد يعلم خصاصته وفقره واحتياجه إلى المال فعاتبه على امتناعه ، فأجابه بأنه إنما امتنع لأن كتاب سيبويه يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آية من القرآن الكريم ، وأنه لا يجمل به أن يمكن الذمي من قراءة هذه الآيات ، ثم اتفق أن غنت جارية بحضرة أمير المؤمنين الواثق العباسي بهذا البيت ، فنصبت «رجلا» وكان بالحضرة أبو يعقوب بن السكيت ـ ويقال : بل كان بالمجلس اليزيدي أحد أبناء أبي محمد مؤدب المأمون ـ فأنكر على الجارية نصب «رجلا» وقال : إنما هو بالرفع ، وأصرت الجارية على النصب ، وقالت : إنني هكذا تلقيته على شيخي أبي عثمان المازني ، فأمر الواثق بإشخاص أبي عثمان إليه من البصرة ، فلما حضر أقر الجارية على ما قالت ، وفسره بأن المصاب مصدر بمعنى الإصابة ، ورجلا : مفعول ، فاستحسن ذلك الواثق ، وأمر له بألف دينار ، فلما رجع إلى البصرة قال لتلميذه المبرد : تركنا مائة لله فعوضنا الله منها ألفا.

قال أبو رجاء : واعلم أولا أن هذه الحادثة تروى باختلاف يسير في كثير من كتب الأدب ، منها درة الغواص للحريري ، ومنها ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي (ص ٢) ومنها حلبة الكميت للنواجي (٤٩ بولاق) ومنها أدب النديم لكشاجم ، ومنها وفيات الأعيان لابن خلكان في ترجمة أبي عثمان المازني (الترجمة ١١٥ بتحقيقنا).

واعلم ثانيا أن وجه ما ذكره اليزيدي أو ابن السكيت من رفع رجل يتأتى على أن يكون «مصاب» اسم مفعول فعله أصاب ، وهو اسم إن ، وضمير المخاطبين مضاف إليه من إضافة الوصف إلى مرفوعه ، ورجل بالرفع خبر إن ، وجملة «أهدى السّلام تحية» في محل رفع صفة لرجل ، وظالم في آخر البيت خبر مبتدأ محذوف ، وتقدير الكلام : إن الذي أصبتموه بتجنيكم عليه رجل موصوف بأنه أهدى إليكم السّلام ، وهذا ظلم ، ولا شك أن فيه تكلفا ، فضلا عن أن يكون متعينا كما كان يذهب إليه اليزيدي على ما يفهم من حاله في تشبثه وتخطئته الجارية المغنية.

٤٢١

٢١٩ ـ أكفرا بعد ردّ الموت عنّي

وبعد عطائك المائة الرّتاعا

وقوله :

٢٢٠ ـ لأنّ ثواب الله كلّ موحّد

جنان من الفردوس فيها يخلّد

______________________________________________________

٢١٩ ـ هذا بيت من الوافر ، وهو للقطامي ، واسمه عمير بن شييم ، وهو ابن أخت الأخطل التغلبي ، من كلمة له يمدح فيها زفر بن الحارث الكلابي ، والبيت من شواهد المؤلف في أوضحه ، (رقم ٣٦٧) وابن عقيل (رقم ٢٤٧) والأشموني (رقم ٦٨٤) ، وقد ذكر العباسي في معاهد التنصيص (ص ٨٦ بولاق) جملة صالحة من أبيات هذه القصيدة ومنها بيت الشاهد فانظرها هناك إن شئت.

اللّغة : «كفرا» أراد به جحود النعمة وإنكارها ، «الرتاع» أي التي ترتع ، وهي التي ترعى حيث شاءت ، وكنى بذلك عن سمنها ؛ لأنها إذا لم تكن تمنع من مرعى أرادته أكلت فسمنت.

المعنى : يقول : أأجحد نعمتك عليّ ، وأنكر يدك التي أسديتها إليّ ، بعد أن دفعت عني الموت وهو يهم بالوقوع عليّ ، وبعد أن أعطيتني العطية التي تضن بها النفوس ، وهي مائة ناقة سمينة؟

الإعراب : «أكفرا» الهمزة للاستفهام الإنكاري ، كفرا : مفعول به لفعل محذوف أي أأضمر كفرا؟ «بعد» ظرف متعلق بمحذوف منصوب صفة لكفر ، وبعد مضاف ، و «رد» مضاف إليه ، ورد مضاف و «الموت» مضاف إليه ، «عنى» جار ومجرور متعلق برد ، «وبعد» الواو عاطفة ، بعد : ظرف معطوف على الظرف السابق ، وبعد مضاف وعطاء من «عطائك» مضاف إليه ، وعطاء مضاف وضمير المخاطب مضاف إليه ، من إضافة اسم المصدر إلى فعله،«المائة»مفعول به لعطاء الذي هو اسم مصدر،«الرتاعا»صفة للمائة ،والألف للإطلاق.

الشّاهد فيه : قوله «عطائك المائة» حيث أعمل اسم المصدر الذي هو قوله عطاء عمل الفعل ؛ فنصب به المفعول الذي هو قوله المائة بعد إضافته إلى فاعله وهو ضمير المخاطب.

٢٢٠ ـ هذا بيت من الطويل ، وهو البيت الثامن من كلمة عدتها ثمانية أبيات يقولها حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه ، في مدح سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأول هذه الأبيات قوله :

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود وهذا محمد

الإعراب : «إن» حرف توكيد ونصب «ثواب» اسم إن ، وثواب مضاف و «الله» مضاف إليه ، من إضافة اسم المصدر إلى فاعله «كل» مفعول به لثواب ، وكل مضاف ، و «موحد» مضاف إليه ، «جنان» روايته هنا بالرفع على أنه خبر إن ، وستعرف فيه كلاما ، «من الفردوس» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لجنان ، «فيها» جار ومجرور متعلق بقوله يخلد الآتي ، «يخلد» فعل

٤٢٢

وقوله :

٨ ـ قالوا كلامك هندا وهي مصغية

يشفيك؟ قلت صحيح ذاك لو كانا (١)

ومنع ذلك البصريون ؛ فأضمروا لهذه المنصوبات أفعالا تعمل فيها.

ثم قلت : العاشر اسم التّفضيل ، كأفضل وأعلم ، ويعمل في تمييز ، وظرف ، وحال ، وفاعل مستتر ، مطلقا ، ولا يعمل في مصدر ، ومفعول به ، أو له ، أو معه ، ولا في مرفوع ملفوظ به ـ في الأصحّ ـ إلّا في مسألة الكحل.

وأقول : إنما أخّرت هذا عن الظرف والمجرور ، وإن كان مأخوذا من لفظ الفعل ؛ لأن عمله في المرفوع الظاهر ليس مطردا كما تراه الآن.

وأشرت بالتمثيل بأفضل وأعلم إلى أنه يبنى من القاصر والمتعدي.

ومثال إعماله في التمييز : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) [الكهف ، ٣٤] (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) [مريم ، ٧٤].

ومثال إعماله في الحال «زيد أحسن النّاس متبسّما» و «هذا بسرا أطيب منه رطبا».

______________________________________________________

مضارع مبني للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى كل موحد ، والجملة من الفعل ونائب الفاعل في محل رفع صفة لجنان.

ويروي : «أنال ثواب الله كل موحد جنانا» فأنال : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه عائد على مذكور في كلام سابق ، وثواب الله : مفعول به لأنال ، ومضاف إليه ، وكل موحد : مفعول به لثواب ومضاف إليه ، وجنانا : مفعول ثان لثواب بمعنى الإثابة.

الشّاهد فيه : قوله «ثواب الله كل موحد» حيث أعمل اسم المصدر ـ الذي هو قوله ثواب ـ عمل الفعل ؛ فنصب به المفعول ، وهو قوله كل موحد ، بعد أن أضافه لفاعله وهو لفظ الجلالة ، وهذا واضح من إعراب البيت.

__________________

(١) قد تقدم شرح هذا البيت شرحا وافيا ، فلسنا في حاجة إلى إعادة شيء منه في هذا المكان ، فارجع إليه إن شئت في (ص ٥١) من هذا الكتاب.

٤٢٣

ومثال إعماله في الظرف قول الشاعر :

٢٢١ ـ فإنّا وجدنا العرض أحوج ساعة

إلى الصّون من ريط يمان مسهّم

ومثال إعماله في الفاعل المستتر جميع ما ذكرنا.

ولا يعمل في مصدر ؛ لا تقول : زيد أحسن النّاس حسنا ، ولا في مفعول به ، لا تقول : زيد أشرب النّاس عسلا ، وإنما تعدّيه باللام ؛ فتقول : زيد أشرب الناس للعسل ، ولا في فاعل ملفوظ به ؛ لا تقول : مررت برجل أحسن منه أبوه ، إلا في لغة ضعيفة حكاها ـ سيبويه ، واتفقت العرب على جواز ذلك في مسألة الكحل. وضابطها أن يكون أفعل صفة لاسم جنس مسبوق بنفي ، والفاعل مفضّلا على نفسه باعتبارين ، وذلك كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من أيّام أحبّ إلى الله فيها الصّوم منه عشر ذي الحجّة» وقول العرب : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد. وبهذا المثال لقبت المسألة بمسألة الكحل ، وقوله :

______________________________________________________

٢٢١ ـ هذا بيت من الطويل من كلام أوس بن حجر ، وقبله قوله :

ومستعجب ممّا يرى من أناتنا

ولو زبنته الحرب لم يترمرم

اللّغة : «العرض» بكسر فسكون ـ موضع المدح والذم من الرجل ، «الصون» مصدر صانه يصونه : بمعنى حفظه ووقاه ، «ريط» بفتح الراء وسكون الياء ـ الملاءة ، أو جمع ريطة بمعنى الغلالة الرقيقة «مسهم» مخطط.

الإعراب : «إنا» إن : حرف توكيد ونصب ، وضمير المتكلم المعظم نفسه اسمه ، والأصل إننا ، «وجدنا» فعل وفاعل ، «العرض» مفعول أول لوجد ، «أحوج» مفعول ثان لوجد ، وجملة وجد وفاعله ومفعوليه في محل خبر إن ، «ساعة» ظرف زمان منصوب بأحوج ، «إلى الصون ، من ريط» جاران ومجروران يتعلق كل منهما بأحوج أيضا ، «يمان» صفة لريط ، «مسهم» صفة ثانية لريط.

الشّاهد فيه : قوله «أحوج ساعة ـ إلخ» فإن قوله «أحوج» أفعل تفضيل بمعنى أشد احتياجا ، وقد تعلق به ظرف الزمان الذي هو قوله «ساعة» كما تعلق به الجار والمجرور مرتين ، وذلك قوله «إلى الصون» وقوله «من ريط» فدل هذا على أن أفعل التفضيل يتعلق به الظرف وعديله الذي هو الجار والمجرور ، وأن ذلك جائز لا غبار عليه ، وهو نظير قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.)

٤٢٤

٢٢٢ ـ ما رأيت امرأ أحبّ إليه ال

بذل منه إليك يا ابن سنان

ولم يقع هذا التركيب في التنزيل.

واعلم أن مرفوع «أحبّ» في الحديث والبيت نائب الفاعل ؛ لأنه مبني من فعل المفعول ، لا من فعل الفاعل ، ومرفوع أحسن في المثال بالعكس ؛ لأن بناءه على العكس.

ثم قلت : وإذا كان بأل طابق ، أو مجرّدا أو مضافا لنكرة أفرد وذكّر ، أو لمعرفة فالوجهان.

وأقول : استطردت في أحكام اسم التفضيل ، فذكرت أنه على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما يجب [فيه] أن يكون طبق من هو له ، وهو ما كان بالألف واللام ، تقول : «زيد الأفضل» و «هند الفضلى» و «الزّيدان الأفضلان» و «الهندان الفضليان» و «الزّيدون الأفضلون» و «الهندات الفضليات أو الفضّل».

الثاني : ما يجب فيه أن لا يطابق ، بل يكون مفردا مذكرا على كل حال ، وهو نوعان ؛ أحدهما : المجرد من أل والإضافة ، تقول «زيد ـ أو هند ـ أفضل من عمرو»

______________________________________________________

٢٢٢ ـ هذا بيت من الخفيف ، ولم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وهو من شواهد المؤلف في القطر (رقم ١٣٢) ويظنه بعض الناس من شعر زهير بن أبي سلمى المزني الذي أكثر من مدح هرم بن سنان المري ، وهو ظن خاطئ.

الإعراب : «ما» نافية ، «رأيت» فعل وفاعل ، «امرأ» مفعول به لرأى ، «أحب» نعت لامرأ منصوب بالفتحة الظاهرة ، «إليه» جار ومجرور متعلق بأحب ، «البذل» فاعل بأحب ، «منه ، إليك» جاران ومجروران يتعلق كل منهما بأحب ، «يا» حرف نداء ، «ابن» منادى منصوب بالفتحة الظاهرة ، وهو مضاف و «سنان» مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «أحب .. البذل» حيث رفع أفعل التفضيل ـ الذي هو قوله أحب ـ الاسم الظاهر غير السببي ، وهو قوله البذل ، لكونه وقع وصفا لاسم جنس وهو قوله امرأ ، مسبوق بنفي وهو المذكور في قوله ما رأيت ، والاسم الظاهر اسم مفضل على نفسه باعتبارين ، ألست ترى أن البذل باعتبار كونه محبوبا لابن سنان غيره باعتبار كونه محبوبا لمن عدا ابن سنان؟ وهو مفضل في الحالة الأولى على نفسه في الحالة الثانية ، وذلك هو الذي يعبر عنه العلماء بمسألة الكحل ، ولعل العبارة واضحة مفيدة ، فافهمها والله يرشدك.

٤٢٥

و «الزيدان ـ أو الهندان ـ أفضل من عمرو» و «الزيدون ـ أو الهندات ـ أفضل من عمرو» والثاني : المضاف إلى نكرة ، تقول «زيد أفضل رجل» و «الزيدان أفضل رجلين» و «الزيدون أفضل رجال» و «هند أفضل امرأة» و «الهندان أفضل امرأتين» و «الهندات أفضل نسوة» وتجب المطابقة في تلك النكرة كما مثلنا ، وأما قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) [البقرة ، ٤١] فالتقدير أول فريق كافر ، ولو لا ذلك لقيل : أول كافرين ، أو التقدير : ولا يكن كل منكم أول كافر ، مثل : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور ، ٤].

والثالث : ما يجوز فيه الوجهان ، وهو المضاف لمعرفة ، تقول : «زيد أفضل القوم» و «الزيدان أفضل القوم» و «الزيدون أفضل القوم» و «هند أفضل النساء» و «الهندان أفضل النساء» و «الهندات أفضل النساء» وإن شئت قلت «الزيدان أفضلا القوم» و «الزيدون أفضلو القوم» و «هند فضلى النساء» و «الهندان فضليا النساء» و «الهندات فضليات النساء» وترك المطابقة أولى ، قال الله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) [البقرة ، ٩٦] ، ولم يقل أحرصي الناس ، وقال الشاعر :

٢٢٣ ـ وميّة أحسن الثّقلين جيدا

وسالفة وأحسنهم قذالا

______________________________________________________

٢٢٣ ـ هذا بيت من الوافر من كلام ذي الرمة ، واسمه غيلان بن عقبة ـ وقد روى أبو العباس المبرد في الكامل (٣ ـ ٤٨) هذا البيت أول أربعة أبيات ، وبعده قوله :

فلم أر مثلها نظرا وعينا

ولا أمّ الغزال ولا الغزالا

اللّغة : «جيدا» هو العنق ، «سالفة» هي في الأصل صفحة العنق ، ثم استعملت في خصلة الشعر التي تسترسل على الخد ، «قذالا» بزنة سحاب ـ ما بين نقرة القفا إلى الأذن.

الإعراب : «مية» مبتدأ ، «أحسن» خبر المبتدأ ، وأحسن مضاف و «الثقلين» مضاف إليه ، «جيدا» تمييز ، «وسالفة» معطوف على قوله جيدا ، «وأحسنهم» الواو عاطفة ، أحسن : معطوف على الخبر ، وأحسن مضاف وضمير الغائبين العائد إلى الثقلين باعتبار أفرادهما مضاف إليه «قذالا» تمييز.

الشّاهد فيه : قوله «أحسن الثقلين» وقوله «وأحسنهم» حيث جاء بأفعل التفضيل الجاري على مفرد مؤنث هو مية ، مفردا مذكرا ، وأفعل التفضيل مضاف إلى معرفة في الموضعين ، ألا تراه مضافا إلى المحلى بأل في الأول ، وإلى الضمير في الثاني؟ ولو أنه أتى به مطابقا للذي جرى عليه لقال : «ومية حسنى الثقلين جيدا» و «حسناهم قذالا».

٤٢٦

ولم يقل حسنى الثّقلين ، ولا حسناهم.

وعن ابن السراج إيجاب ترك المطابقة ، وردّ بقوله سبحانه وتعالى : (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) [هود ، ٢٧] (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) [الأنعام ، ١٢٣].

ثم قلت : ولا يبنى ولا ينقاس هو ولا أفعال التعجّب ـ وهي : ما أفعله ؛ وأفعل به ، وفعل ـ إلّا من فعل ، ثلاثيّ ، مجرّد لفظا وتقديرا ، تامّ ، متفاوت المعنى ، غير منفيّ ، ولا مبنيّ للمفعول.

وأقول : لا يبنى أفعل التفضيل ، ولا ما أفعله وأفعل به وفعل في التعجب ، من نحو جلف (١) وكلب وحمار ؛ لأنها غير أفعال ، وقولهم «ما أجلفه» و «ما أحمره» و «ما أكلبه» خطأ ، ولا من نحو دحرج ؛ لأنه رباعي ، ولا من نحو انطلق واستخرج ؛ لأنه وإن كان ثلاثيا لكنه مزيد فيه ، ولا من نحو هيف وغيد وحول وسود وحمر وعمي وعرج ؛ لأنها وإن كانت ثلاثية مجردة في اللفظ لكنها مزيدة في التقدير ؛ إذ أصل حول احولّ وعور اعورّ وغيد اغيدّ ، والدليل على ذلك أن عيناتها لم تقلب ألفا مع تحركها وانفتاح ما قبلها ، فلو لا أن ما قبل عيناتها ساكن في التقدير لوجب فيها القلب المذكور : ولا من نحو كان وظل وبات وصار ؛ لأنها غير تامة ، ولا من نحو ضرب لأنه مبني للمفعول ، ولا من نحو ما قام وما عاج بالدواء ؛ لأنه منفي.

وما سمع مخالفا لشيء مما ذكرنا لم يقس عليه ؛ فمن ذلك قولهم «هو ألصّ من فلان» (٢) و «أقمن منه» فبنوه من غير فعل ، بل من قولهم : هو لص ، وقمن بكذا ، وقولهم «ما أتقاه» من اتّقى ، و «ما أخصر هذا الكلام» من اختصر ؛ وهما ذوا زيادة

__________________

(١) الجلف ـ بكسر الجيم وسكون اللام ـ الرجل الجافي ، وقد أثبت له بعض أهل اللغة فعلا ، قال المجد في القاموس : «الجلف الرجل الجافي ، وقد جلف كفرح جلفا وجلافة» اه ، وعلى ذلك يكون قولهم «ما أجلف زيدا» مثلا ـ بمعنى ما أجفاه وما أغلظه ـ قياسيا لا شاذا ولا خطأ كما قال المؤلف ، فافهم ذلك.

(٢) قالوا «هو ألص من شظاظ» وشظاظ : بزنة كتاب ، وهو اسم رجل يضرب به المثل في اللصوصية.

٤٢٧

والثاني مبنيّ للمفعول ، وفي التنزيل : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) [البقرة ، ٢٨٢] ، وهما من أقسط إذا عدل ومن أقام الشهادة ، وسيبويه يقيس ذلك إذا كان المزيد فيه أفعل.

وفهم من قولي «ولا ينقاس» أنه قد يبنى من غير ذلك بالسماع دون القياس ، كما بينته.

ثم قلت : باب ـ وإذا تنازع من الفعل أو شبهه عاملان فأكثر ما تأخّر من معمول فأكثر ، فالبصريّ يختار إعمال المجاور ، فيضمر في غيره مرفوعه ويحذف منصوبه إن استغنى عنه ، وإلّا أخّره ، والكوفيّ الأسبق ، فيضمر في غيره ، ما يحتاجه.

وأقول : لما فرغت من ذكر العوامل أردفتها بحكمها في التنازع ، ويسمى هذا الباب باب التنازع ، وباب الإعمال.

والحاصل أنه يتأتى تنازع عاملين ، وأكثر ، في معمول واحد وأكثر ، وأن ذلك [جائز] بشرطين ؛ أحدهما : أن يكون العامل من جنس الفعل أو شبهه من الأسماء ؛ فلا تنازع بين الحروف (١) ولا بين الحرف وغيره ، والثاني : ألا يكون المعمول متقدما ، ولا متوسطا ، بل متأخرا ؛ فلا تنازع في نحو : «زيدا ضربت وأكرمت» لتقدمه ، ولا في نحو «ضربت زيدا وأكرمت» لتوسطه ، وجوز ذلك بعضهم فيهما (٢).

__________________

(١) أجاز ابن العلج التنازع بين الحرفين ، مستدلا بقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) [سورة البقرة ، الآية : ٢٤] ، ويقول الشاعر :

حتّى تراها وكأنّ وكأن

أعناقها مشدّدات بقرن

فزعم في الآية أن «إن» الشرطية و «لم» النافية تنازعا الفعل الذي بعدهما ، وهو «تفعلوا» ورد ذلك عليه بأن إن تطلب فعلا مثبتا ، ولم تطلب فعلا منفيا ، ومن شرط التنازع الاتحاد في المعنى ، والذي في البيت الذي أنشده من باب التوكيد وليس من باب التنازع.

(٢) الضمير المثنى في قوله «فيهما» يعود إلى المعمول المتقدم ، والمعمول المتوسط بين العاملين.

أما الذين أجازوا أن يتنازع العاملان في المعمول المتقدم فهم المغاربة من النحاة ، ومال المحقق الرضي في شرح الكافية إليه ، بشرط أن يكون المعمول منصوبا ، وهاك نص عبارته ، وقد يتنازع العاملان فيما قبلهما إذا كان منصوبا ، نحو «زيدا ضربت وقتلت ، وبك قمت وقعدت» اه ، ومن تمثيله تفهم أنه أراد بالمنصوب ما يعم المنصوب لفظا وهو المفعول به ، ومعنى وهو الجار والمجرور ، وقد عرفت فيما تقدم أن الجار والمجرور مفعول به في المعنى.

٤٢٨

مثال تنازع العاملين معمولا واحدا قوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف ، ٩٦] ف «آتوني» و «أفرغ» عاملان طالبان ل «قطرا».

ومثال تنازع العاملين أكثر من معمول «ضربت وأهنت زيدا يوم الخميس».

ومثال تنازع أكثر من عاملين معمولا واحدا قول الشاعر :

٢٢٤ ـ أرجو وأخشى وأدعو الله مبتغيا

عفوا وعافية في الرّوح والجسد

ومثال : تنازع أكثر من عاملين أكثر من معمول واحد قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تسبّحون وتحمّدون وتكبّرون دبر كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين» فدبر : ظرف ، وثلاثا : مفعول مطلق ، وهما مطلوبان لكل من العوامل الثلاثة.

ومثال تنازع الفعلين ما مثلنا ، ومثال تنازع الاسمين قول الشاعر :

______________________________________________________

٢٢٤ ـ هذا بيت من البسيط ، وهو مما لم نقف له على نسبة إلى قائل معين.

الإعراب : «أرجو» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «وأخشى» الواو عاطفة ، أخشى : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «وأدعو» الواو عاطفة ، أدعو : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «الله» تنازعه كل من العوامل الثلاثة ، ويجوز أن تجعله معمولا لأيها شئت ، والأولى أن تجعله معمولا لآخرها ، «مبتغيا» حال من الضمير المستتر في أرجو ، وفيه ضمير مستتر هو فاعله ؛ لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل ، «عفوا» مفعول به لقوله مبتغيا ، «وعافية» معطوف على قوله عفوا ، «في الروح» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لعافية ، «والجسد» معطوف على الروح.

الشّاهد فيه : قوله «أرجو وأخشى وأدعو الله» حيث تنازع ثلاثة عوامل ، وهي الأفعال الثلاثة المتعاقبة ، معمولا واحدا وهو لفظ الجلالة.

__________________

وأما الذي أجاز التنازع في المعمول المتوسط بين العاملين فهو أبو علي الفارسي الفسوي ، قال في قول الشاعر :

قد أوبيت كلّ ماء فهي ضاوية

متى تصب أفقا من بارق تشم

إنه يجوز أن يكون من باب التنازع ، وعليه يكون أفقا معمولا لتشم ، ومفعول تصب محذوف ، وهو ضمير المعمول.

والذي عليه جمهور النحاة هو ما ذكره المؤلف ، من اشتراط كون المعمول متأخرا عن العاملين جميعا.

٤٢٩

٢٢٥ ـ قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه

وعزّة ممطول معنّى غريمها

______________________________________________________

٢٢٥ ـ هذا بيت من الطويل من كلام كثير بن عبد الرحمن المعروف بكثير عزة ، وهو من شواهد المؤلف في أوضحه (رقم ٢٤١) والأشموني (رقم ٤١١).

الإعراب : قد اختلف في إعراب هذا البيت ، وسنعربه لك على الوجه الذي يتحقق به الاستشهاد هنا ، ثم نبين لك ما فيه ، فنقول : «قضى» فعل ماض ، «كل» فاعل ، وكل مضاف و «ذي» مضاف إليه مجرور بالياء نيابة عن الكسرة لأنه من الأسماء الستة ، وذي مضاف و «دين» مضاف إليه ، «فوفى» الفاء حرف عطف ، وفّى : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر جوازا تقديره هو ، «غريمه» غريم : مفعول به لوفى ، وغريم مضاف وضمير الغائب مضاف إليه ، «وعزة» الواو واو الحال ، عزة : مبتدأ ، «ممطول» خبر المبتدأ ، «معنى» خبر ثان ، «غريمها» غريم : نائب فاعل تنازعه كل من العاملين وهما ممطول ومعنى ، وغريم مضاف وضمير الغائبة العائد إلى عزة مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «ممطول معنى غريمها» حيث تنازع عاملان اسمان ، وهما قوله ممطول ومعنى ، معمولا واحدا ، وهو قوله غريمها ، وهذا الذي ذكره المؤلف ههنا هو ما رجحه جماعة من النحاة منهم ابن الأنباري في كتابه الإنصاف.

وقد رد المؤلف نفسه في أوضحه أن يكون هذا البيت من باب التنازع فقال : «وليس من التنازع قوله :

* وعزّة ممطول معنّى غريمها*

بل غريمها مبتدأ ، وممطول ومعنّى خبران ، أو ممطول خبر ، ومعنّى صفة له ، أو حال من ضمير» اه. كلامه. وذلك لأنه اختار مذهب البصريين ، ومذهبهم أنك إن أعملت الأول أضمرت في الثاني جميع ما يحتاجه ، وإن أعملت الثاني أضمرت في الأول المرفوع فقط ، وهذا الكلام لم يضمر فيه مطلقا ، مع أن المعمول مرفوع ، فلو أنه كان من باب التنازع عند البصريين لوجب الإضمار ، سواء أعمل الأول أو أعمل الثاني ، فكان يقول على إعمال الثاني : وعزة ممطول (هو) معنى غريمها ، وعلى إعمال الأول : وعزة ممطول معنى (هو) غريمها ، وهذا الضمير أبرزناه لك لتعلم علمه ، وهو في الأصل يكون مستترا في اسم المفعول ، ولكن هذا الضمير عائد إلى الغريم ، لا إلى عزة ، بمقتضى التنازع ، وأنت تعلم أن الأصل في الخبر إن كان مشتقا أن يشتمل على ضمير يعود إلى نفس المبتدأ ، فمن حق الضمير الذي استتر في ممطول أن يعود إلى عزة ؛ لأنك جعلت عزة مبتدأ وممطولا خبرا عنه ، فإن كان الضمير الذي يتحمله الخبر عائدا على غير المبتدأ وجب إبرازه ، فكان ينبغي هنا أن تبرز الضمير لعوده على نائب الفاعل المرفوع به ، لا على المبتدأ ، لذلك لم يجعلوه من باب التنازع ، وهو الصحيح عند ابن مالك ، ولهذا اشترط ألا يكون المعمول فيه سببيّا مرفوعا ، ومعنى كونه سببيّا أن يكون اسما ظاهرا مضافا إلى ضمير عائد على اسم سابق ، و «غريمها» سببي

٤٣٠

في أحد القولين.

ومثال تنازع الفعل والاسم : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة ، ١٩].

واتفق الفريقان على جواز إعمال أيّ العاملين شئت ، ثم اختلفوا في المختار : فاختار الكوفيون إعمال الأول لتقدمه ، والبصريون إعمال المتأخر لمجاورته المعمول ، وهو الصواب في القياس ، والأكثر في السماع.

فإذا أعمل الثاني نظرت ، فإذا احتاج الأول لمرفوع أضمر على وفق الظاهر المتنازع فيه ، نحو «قاما وقعد أخواك» و «قاموا وقعد إخوتك» و «قمن وقعد نسوتك» وهذا إجماع من البصريين ، وإن احتاج لمنصوب فلا يخلو : إما أن يصح الاستغناء عنه أو لا ، فإن صح الاستغناء عنه وجب حذفه ، نحو : «ضربت وضربني زيد» ولا يجوز أن تضمره فتقول : ضربته وضربني زيد ، إلا في ضرورة الشعر ، قال الشاعر :

٢٢٦ ـ إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب

جهارا فكن في الغيب أحفظ للودّ

______________________________________________________

مرفوع ، أما كونه مرفوعا فظاهر ، وأما كونه سببيّا فلأنه اسم ظاهر مضاف إلى ضمير يعود إلى عزة ، ولكون المؤلف لا يرى هذا البيت من باب التنازع قال بعد إنشاده ، «في أحد القولين» فافهم ذلك.

٢٢٦ ـ هذا بيت من الطويل ، ولم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وهو من شواهد المؤلف في كتابه أوضح المسالك (رقم ٢٤٥) وابن عقيل (رقم ١٦٤) والأشموني (رقم ٤١٧).

الإعراب : «إذا» ظرفية تضمنت معنى الشرط ، «كنت» كان : فعل ماض ناقص ، وضمير المخاطب اسمه ، «ترضيه» ترضي : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، وضمير الغائب مفعول به ، والجملة في محل نصب خبر كان ، «ويرضيك» الواو عاطفة ، يرضي : فعل مضارع ، وضمير المخاطب مفعول به ، «صاحب» فاعل ، وهذه الجملة في محل نصب معطوفة على خبر كان ، وجملة كان واسمه وخبره في محل جر بإضافة إذا إليها ، «جهارا» منصوب على الظرفية عامله أحد الفعلين السابقين ، «فكن» الفاء لربط الجواب بالشرط ، كن : فعل أمر ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «في الغيب» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من اسم كن ، «أحفظ» خبر كن منصوب بالفتحة الظاهرة «للودّ» جار ومجرور متعلق بأحفظ.

الشّاهد فيه : قوله «ترضيه ويرضيك صاحب» حيث تنازع كل من العاملين ـ وهما ترضي ويرضيك ـ الاسم الذي بعدهما ، وهو صاحب ، والأول يطلبه مفعولا ، والثاني يطلبه فاعلا ، وقد

٤٣١

وإن لم يصحّ وجب تأخيره ، نحو : «رغبت ورغب فيّ الزّيدان عنهما».

وإذا أعمل الأول أضمر في الثاني ما يحتاجه : من مرفوع ، ومنصوب ، ومجرور ، فتقول : «قام وقعدا أخواك» و «قام وضربتهما أخواك» و «قام ومررت بهما أخواك» ولا يجوز حذفه إذا كان مرفوعا باتفاق ، ولا إذا كان منصوبا إلا في ضرورة الشعر كقول الشاعر :

٢٢٧ ـ بعكاظ يعشي النّاظري

ن إذا هم لمحوا شعاعه

______________________________________________________

أعمل فيه الثاني ؛ فرفعه به على الفاعلية ، ثم أضمر مع الأول ضميره ، وهذا مما لا يجوز إلا في ضرورة الشعر لأن حق هذا الباب إذا أعملت الثاني واحتاج الأول إلى غير مرفوع وأمكن أن تستغني عنه أن تتركه ، لأنا لو أتينا بالضمير المنصوب مع العامل الأول لكان هذا الضمير عائدا على متأخر لفظا ومعنى وحكما من غير حاجة ، ونحن إنما أضمرنا فيه المرفوع للحاجة إليه ، إذ هو فاعل ، والفاعل لا يجوز أن يحذف على الراجح عند النحاة ، والحاجة تتقدر بقدرها ، وهذا واضح إن شاء الله.

٢٢٧ ـ هذا بيت من الكامل من كلام عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم عمة سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو من شواهد المؤلف في أوضحه (رقم ٢٤٤) وابن عقيل (رقم ١٦٢) والأشموني (رقم ٤١٩) وقبل بيت الشاهد قولها :

سائل بنا في قومنا

وليكف من شرّ سماعه

قيسا وما جمعوا لنا

في مجمع باق شناعه

اللّغة : «يعشي» فع مضارع من الإعشاء ، وهو إصابة العين بضعف البصر ليلا ، «لمحوا» نظروا «شعاعه» بضم الشين ـ وهو ما تراه من الضوء مقبلا عليك كالخيوط.

الإعراب : «بعكاظ» جار ومجرور متعلق بقولها جمعوا في البيت الذي قبل بيت الشاهد ، «يعشي» فعل مضارع ، «الناظرين» مفعول به ليعشي ، «إذا» ظرفية تضمنت معنى الشرط ، «هم» فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده ، والجملة في محل جر بإضافة إذا إليها ، «لمحوا» فعل ماض ، وواو الجماعة فاعله ، والجملة لا محل لها مفسرة ، «شعاعه» شعاع : فاعل يعشي ، وشعاع مضاف وضمير الغائب مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قولها «يعشي لمحوا شعاعه» حيث تنازع العاملان ، وهما قولها يعشي وقولها لمحوا ، معمولا واحدا ، وهو قولها شعاعه ، والأول يطلبه فاعلا ، والثاني يطلبه مفعولا ، ثم أعملت العامل الأول فيه ، وحذفت ضميره من الثاني ، وهذا مما لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ؛ فإن حق هذا الباب

٤٣٢

ومن ثمّ قلنا في قوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف ، ٩٦] إنه أعمل الثاني ، لأنه لو أعمل الأول لوجب أن يقال «آتوني أفرغه عليه قطرا» وكذا بقية آي التنزيل الواردة من هذا الباب (١).

ثم قلت : باب ـ إذا شغل فعلا أو وصفا ضمير اسم سابق أو ملابس لضميره عن نصبه وجب نصبه بمحذوف مماثل للمذكور إن تلا ما يختصّ بالفعل كإن الشّرطيّة وهلّا ومتى ، وترجّح إن تلا ما الفعل به أولى كالهمزة وما النّافية أو عاطفا على فعليّة غير مفصول بأمّا نحو (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) أو كان المشغول طلبا ، ووجب رفعه بالابتداء إن تلا ما يختصّ به كإذا الفجائيّة ، أو تلاه ما له الصّدر ك «زيد هل رأيته» وهذا خارج عن أصل هذا الباب ، مثل (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) و «زيد ما أحسنه» ، وترجّح في نحو «زيد ضربته» ، واستويا في نحو «زيد قام وعمرا أكرمته».

وأقول : هذا الباب المسمى بباب الاشتغال ، وحقيقته : أن يتقدم اسم ، ويتأخر عنه عامل ، هو فعل أو وصف ، وكل من الفعل والوصف المذكورين مشتغل عن نصبه له بنصبه لضميره لفظا ك «زيدا ضربته» أو محلا ك «زيدا مررت به» أو لما لابس ضميره ، نحو : «زيدا ضربت غلامه» أو «مررت بغلامه».

والاسم في هذه الأمثلة ونحوها أصله أن يجوز فيه وجهان ؛ أحدهما : أن يرفع على الابتداء ؛ فالجملة بعده في محل رفع على الخبرية ، والثاني : أن ينصب بفعل محذوف وجوبا يفسره الفعل المذكور ؛ فلا موضع للجملة بعده لأنها مفسرة.

______________________________________________________

أنك إذا أعملت الأول أضمرت في الثاني كل شيء يحتاجه ؛ لأنه لا يلزم على الإضمار في الثاني محذور ، بخلاف إعمال الثاني مع الإضمار في الأول ، فإنه يلزم عليه عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، فاغتفرناه في المرفوع لشدة الحاجة إليه ، ولم نغتفره في غيره ؛ لعدم الحاجة إليه ، على ما سبق بيانه في شرح الشاهد السابق ص ٤٣٢ الماضية ، وليس بعد ذلك إيضاح ، فتفهمه ، والله يرشدك.

__________________

(١) يريد أن أسلوب القرآن الكريم جرى على إعمال العامل الثاني في كل ما ورد فيه مما يسميه النحاة باب التنازع.

٤٣٣

وفهم من قولي «فعل أو وصف» أن العامل إن لم يكن أحدهما لم تكن المسألة من باب الاشتغال ، وذلك نحو : «زيد إنّه فاضل» و «عمرو كأنه أسد» وذلك لأن الحرف لا يعمل فيما قبله ، وكذلك نحو : «زيد دراكه» و «عمرو عليكه» لأن اسم الفعل لا يعمل فيما قبله ، وما لا يعمل لا يفسر عاملا ، من ثمّ لم يجز النصب على الاشتغال في نحو : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) [القمر ، ٥٢] وقولك «زيد ما أحسنه» ؛ لأن «فعلوه» صفة ، والصفة لا تعمل في الموصوف ، وفعل التعجب جامد ، فهو شبيه بالحرف فلا يعمل فيما قبله ، لا سيما وبينهما «ما» التعجبية ، ولها الصّدر ، وكذلك «زيد أنا الضّاربه» لأن أل موصولة ، فلا يتقدم عليها معمول صلتها.

ثم الاسم الذي تقدّم ، وبعده فعل أو وصف ، وكل منهما ناصب لضميره أو لسببيه ينقسم خمسة أقسام :

(١) أحدها : ما يترجّح نصبه ، وذلك في ثلاث مسائل :

إحداها : أن يكون الفعل المشغول طلبا ، نحو : «زيدا اضربه» و «عمرا لا تهنه».

الثانية : أن يتقدم عليه أداة يغلب دخولها على الفعل ، نحو : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر ، ٢٤].

الثالثة : أن يقترن الاسم بعاطف مسبوق بجملة فعلية لم تبن على مبتدأ ، كقوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ* وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) [النحل ، ٤ و ٥].

(٢) الثاني : ما يترجّح رفعه بالابتداء ، وذلك فيما لم يتقدم عليه ما يطلب الفعل وجوبا أو رجحانا ، نحو : «زيد ضربته» وذلك لأن النصب محوج إلى التقدير ولا طالب له ، والرفع غني عنه ، فكان أولى ، لأن التقدير خلاف الأصل ، ومن ثمّ منعه بعض النحويين ، ويرده أنه قرئ : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) [الرعد ، ٢٣] (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النور ، ١] بنصب «جنّات» و «سورة».

(٣) الثالث : ما يجب نصبه ، وذلك فيما تقدم عليه ما يطلب الفعل على سبيل الوجوب ، نحو : «إن زيدا رأيته فأكرمه».

٤٣٤

(٤) الرابع : ما يجب رفعه ، وذلك إذا تقدم عليه ما يختصّ بالجمل الاسمية كإذا الفجائية ، نحو : «خرجت فإذا زيد يضربه عمرو» وإجازة أكثر النحويين النصب بعدها سهو ، أو حال (١) بين الاسم والفعل شيء من أدوات التصدير نحو : «زيد هل رأيته» و «عمرو ما لقيته».

(٥) الخامس : ما يستوى فيه الأمران ، وذلك إذا وقع الاسم بعد عاطف مسبوق بجملة فعلية مبنية على مبتدأ ؛ نحو : «زيد قام وعمرا أكرمته» وذلك لأن الجملة السابقة اسمية الصّدر فعلية العجز. فإن راعيت صدرها رفعت ، وإن راعيت عجزها نصبت ؛ فالمناسبة حاصلة على كلا التقديرين ؛ فلذلك جاز الوجهان على السواء ، وقد جاء التنزيل بالنصب ، قال الله تعالى : (الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن ، ١ و ٢] الآيات ـ الرحمن مبتدأ ، وعلم القرآن : جملة فعلية ، والمجموع جملة اسمية ذات وجهين ، والجملتان بعد ذلك معطوفتان على الخبر ، وجملتا : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ* وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن ، ٥ و ٦] معترضتان (وَالسَّماءَ رَفَعَها) [الرحمن ، ٧] عطف على الخبر أيضا ، وهي محل الاستشهاد.

ثم قلت : باب ـ يتبع ما قبله في الإعراب خمسة ؛ أحدها : التّوكيد ، وهو : تابع يقرّر أمر المتبوع في النّسبة أو الشّمول : فالأوّل نحو : «جاءني زيد نفسه» و «الزّيدان أو الهندان أنفسهما» و «الزّيدون أنفسهم» و «الهندات أنفسهنّ» والعين كالنّفس ، والثّاني نحو : «جاء الزيدان كلاهما» و «الهندان كلتاهما» و «اشتريت العبد كلّه» و «العبيد كلّهم» و «الأمة كلّها» و «الإماء كلّهنّ» ولا تؤكّد نكرة مطلقا ، وتؤكد بإعادة اللفظ أو مرادفه نحو : (دَكًّا دَكًّا) و (فِجاجاً سُبُلاً) ولا يعاد ضمير متّصل ولا حرف غير جوابي إلّا مع ما اتصل به.

وأقول : إذا استوفت العوامل معمولاتها فلا سبيل لها إلى غيرها إلا بالتبعية.

والتوابع خمسة : نعت ، وتوكيد ، وعطف بيان ، وبدل ، وعطف نسق ، وقيل : أربعة ، فأدرج هذا القائل عطفي البيان والنسق تحت قوله : والعطف ، وقال آخر : ستة ؛

__________________

(١) «حال» بمعنى فصل : فعل ماض معطوف على «تقدم» في قوله : «وذلك إذا تقدم ..».

٤٣٥

فجعل التأكيد اللفظي بابا وحده ، والتأكيد المعنوي كذلك.

ومثال المقرر لأمر المتبوع في النسبة «جاء زيد نفسه» فإنه لو لا قولك «نفسه» لجوّز السامع كون الجائي خبره أو كتابه بدليل قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر ، ٢٢] أي أمره.

ومثال المقرر لأمره في الشمول قوله عزوجل : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر ، ٣٠] ؛ إذ لو لا التأكيد لجوّز السامع كون الساجد أكثرهم.

ويجب في المؤكّد كونه معرفة ، وشذّ قول عائشة رضي‌الله‌عنها : «ما صام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهرا كلّه إلا رمضان» وقول الشاعر :

٢٢٨ ـ لكنّه شاقه أن قيل ذا رجب

يا ليت عدّة حول كلّه رجب

______________________________________________________

٢٢٨ ـ هذا بيت من البسيط من كلمة لعبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي ، رواها ياقوت في معجم البلدان ، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في مجالسه (ص ٤٧٤) وروى بعضها في تاريخ دمشق (انظر المختصر ٣ / ٤٠٨) وأول هذه الكلمة قوله :

يا للرّجال ليوم الأربعاء! أما

ينفكّ يحدث لي بعد النّهى طربا

إذ لا يزال غزال فيه يفتنني

يأتي إلى مسجد الأحزاب منتقبا

وقافية بيت الشاهد في رواية الأدباء لهذه الكلمة منصوبة ، ولكن النحاة يروونها في بيت الشاهد وحده بالرفع ، وستعرف ما في ذلك.

اللّغة : «شاقه» أعجبه وأثار شوقه ، والشوق : نزاع نفس الإنسان إلى الشيء.

الإعراب : «لكنه» لكن : حرف استدراك ونصب وضمير الغائب اسمه ، «شاقه» شاق : فعل ماض ، وضمير الغائب مفعول به ، «أن» مصدرية ، «قيل» فعل ماض مبني للمجهول ، «ذا» اسم إشارة مبتدأ ، «رجب» خبر المبتدأ ، وجملة المبتدأ وخبره في محل رفع نائب فاعل قيل ، وأن مع ما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل شاق ، وتقدير الكلام : لكنه أعجبه قول الناس هذا رجب ، «يا» حرف نداء والمنادى محذوف ، والتقدير : يا قوم ، أو يا هؤلاء ونحو ذلك ، «ليت» حرف تمن ونصب ، «عدة» اسم ليت ، وعدة مضاف و «حول» مضاف إليه ، «كله» كل : توكيد لحول ، وكل مضاف وضمير الغائب مضاف إليه ، «رجب» خبر ليت مرفوع بالضمة الظاهرة على رواية النحاة ، أما رواية الأدباء فإن «رجبا» خبر ليت أيضا ، وأتى به منصوبا على لغة من ينصب بها الجزأين كما في ظاهر قول الراجز :

٤٣٦

وأنشده ابن مالك وغيره «يا ليت عدة شهر» وهو تحريف.

ويجب في التأكيد كونه مضافا إلى ضمير عائد على المؤكد مطابق له ، كما

______________________________________________________

* يا ليت أيام الصبا رواجعا*

الشّاهد فيه : قوله «حول كله» حيث أكد النكرة ـ التي هي قوله حول ـ بكل ، وهذا شاذ فيما حكاه المؤلف ههنا وفي القطر ، لكنه في أوضحه ـ تبعا لابن مالك في التسهيل والكافية والخلاصة ـ قد اختار صحة توكيدها بشرط حصول فائدة ، وقال : «إن الفائدة تحصل بأن تكون النكرة محدودة والتوكيد من ألفاظ الإحاطة» وأنشد هذا البيت على أنه مما حصلت فيه الفائدة.

وخلاصة أقوال العلماء في هذه المسألة أن النحاة اختلفوا في توكيد النكرة ، ولهم في ذلك ثلاثة أقوال :

القول الأول : أنه لا يجوز توكيد النكرة مطلقا ، أفاد توكيدها أو لم يفد ، وهذا هو الذي جرى عليه المؤلف هنا وفي كتابه قطر الندى.

والقول الثاني : وهو لبعض الكوفيين ـ أنه يجوز توكيد النكرة مطلقا.

والقول الثالث : وهو قول الأخفش وجمهور الكوفيين ـ إنه يجوز توكيد النكرة إن أفاد توكيدها ، ويمتنع إن لم يفد ، وهذا الرأي أرجح الآراء الثلاثة ؛ لأنه الموافق للمرويّ عن العرب ؛ فقد وردت عنهم جملة صالحة من الشواهد التي تؤيده ؛ فمنها الحديث الذي رواه المؤلف عن أم المؤمنين عائشة ، ومنها بيت الشاهد الذي معنا ، ومنها قول الراجز :

يا ليتني كنت صبيّا مرضعا

تحملني الذّلفاء حولا أكتعا

إذا بكيت قبّلتني أربعا

إذا ظللت الدّهر أبكي أجمعا

الاستشهاد في قوله «حولا أكتعا» حيث أكد النكرة ـ التي هي قوله «حولا» ، بأكتع ـ ومنها قول راجز آخر :

إنّا إذا خطّافنا تقعقعا

قد صرّت البكرة يوما أجمعا

والاستشهاد به في قوله «يوما أجمعا» حيث أكد النكرة ـ التي هي قوله «يوما» ـ بأجمع.

والذين جوزوا توكيد النكرة بشرط حصول الفائدة قالوا : إن الفائدة تحصل إذا اجتمع أمران : أولهما في النكرة ، وهو أن تكون زمنا محدودا : أي موضوعا لمدة لها ابتداء وانتهاء ، مثل أسبوع وشهر وحول وسنة وعام ويوم ؛ فإن لم تكن محدودة لم يصح مثل زمن ومدة ووقت ولحظة وساعة ، وثانيهما في لفظ التوكيد ، وهو أن يكون من ألفاظ الشمول ، مثل كل وجميع وأجمع وأكتع.

٤٣٧

مثلنا ، ويستثنى من ذلك «أجمع» وما تصرّف منه ، فلا يضفن لضمير ؛ تقول : «اشتريت العبد كلّه أجمع» و «الأمة كلّها جمعاء» و «العبيد كلّهم أجمعين» و «الإماء كلّهن جمع».

ويجب في النفس والعين إذا أكد بهما أن يكونا مفردين مع المفرد ، نحو : «جاء زيد نفسه عينه» و «جاءت هند نفسها عينها» مجموعين مع الجمع ، نحو : «جاء الزّيدون أنفسهم أعينهم» و «الهندات أنفسهنّ أعينهنّ» ، وأما إذا أكد بهما المثنى ففيهما ثلاث لغات : أفصحها الجمع ؛ فتقول : «جاء الزّيدان أنفسهما أعينهما» ودونه الإفراد ، ودون الإفراد التثنية ، وهي الأوجه الجارية في قولك : «قطعت رؤوس الكبشين».

مسألة : قال بعض العلماء في قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر ، ٣٠] : فائدة ذكر «كل» رفع وهم من يتوهم أن الساجد البعض ، وفائدة ذكر «أجمعون» رفع وهم من يتوهم أنهم لم يسجدوا في وقت واحد ، بل سجدوا في وقتين مختلفين ، والأول صحيح ، والثاني باطل ؛ بدليل قوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر ، ٣٩ وص ، ٨٢] ؛ لأن إغواء الشيطان لهم ليس في وقت واحد ؛ فدلّ على أنّ «أجمعين» لا تعرّض فيه لاتحاد الوقت ، وإنما معناه كمعنى كل سواء ، وهو قول جمهور النحويين ، وإنما ذكر في الآية تأكيدا على تأكيد ، كما قال الله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق ، ١٧].

ثم قلت : الثّاني النّعت ، وهو : تابع مشتقّ أو مؤوّل به ، يفيد تخصيص متبوعه أو توضيحه أو مدحه أو ذمّه أو تأكيده أو التّرحّم عليه ، ويتبعه في واحد من أوجه الإعراب ، ومن التّعريف والتّنكير ، ولا يكون أخصّ منه ، فنحو «بالرّجل صاحبك»

______________________________________________________

وأما البصريون الذين منعوا توكيد النكرة مطلقا فقالوا : إن جميع ألفاظ التوكيد معرفة ، وإنه يجب أن يتوافق التوكيد والمؤكد في التعريف ؛ فلو جوزنا توكيد النكرة للزم اختلاف التوكيد والمؤكد.

فتلخيص الخلاف إذن هو أنه هل يشترط اتحاد التوكيد والمؤكد في التعريف؟ قال جمهور البصريين : نعم ، يشترط ذلك ، وقال جمهرة الكوفيين : لا يشترط ذلك ، وإنما يشترط حصول الفائدة ، وممن اختار مذهب الكوفيين ـ غير ابن مالك ـ المحقق الرضي والعلامة الشاطبي.

٤٣٨

بدل ، ونحو «بالرجل الفاضل» و «بزيد الفاضل» نعت ، وأمره في الإفراد والتّذكير وأضدادهما كالفعل ، ولكن يترجّح نحو «جاءني رجل قعود غلمانه» على «قاعد» وأمّا «قاعدون» فضعيف ، ويجوز قطعه إن علم متبوعه بدونه : بالرّفع ، أو بالنّصب.

وأقول : مثال المشتق «مررت برجل ضارب ، أو مضروب ، أو حسن الوجه ، أو خير من عمرو» ومثال المؤول به «مررت برجل أسد» أي شجاع ، ومثال ما يفيد تخصيص المتبوع قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء ، ٩٢] ومثال ما يفيد مدحه (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة ، ٢] ومثال ما يفيد ذمه «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ومثال ما يفيد الترحّم عليه «اللهمّ أنا عبدك المسكين» ومثال التوكيد (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة ، ١٣] و (عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة ، ١٩٦] و (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل ، ٥١] ، وزعم قوم من أهل البيان أن «اثنين» عطف بيان ، ويحتاج شرح ذلك إلى بسط طويل (١).

وقد لهج المعربون بأن النعت يتبع المنعوت في أربعة من عشرة ، والتحقيق أن الأمر على النصف في العددين ، وأنه إنما يتبع في اثنين من خمسة (٢) ، وهما واحد من أوجه الإعراب الثلاثة ـ التي هي الرفع والنصب والجر ـ وواحد من التعريف والتنكير ؛ فلا تنعت نكرة بمعرفة ، ولا العكس ؛ لا تقول : «مررت برجل الفاضل» ولا «بزيد فاضل» كما أنه لا يتبع المرفوع بمنصوب ولا مجرور ، ولا نحو ذلك.

__________________

(١) تلخيص القول في هذا الموضع أن العلماء قد اختلفوا في جواز مجيء عطف البيان في النكرات ، ولهم في ذلك ثلاثة أقوال :

القول الأول : لا يكون عطف البيان في النكرات أصلا ، وعليه لا يكون قوله سبحانه (اثنين) عطف بيان.

والقول الثاني : يجوز أن يكون عطف البيان في النكرات ، لكن بشرط أن يكون البيان أجلى وأوضح من المبين ، وعليه لا يكون قوله (اثنين) عطف بيان أيضا ؛ لكونه ليس أوضح من متبوعه.

والقول الثالث : يجوز أن يجيء عطف البيان في النكرات وإن لم يكن البيان أجلى ولا أوضح من المبين ؛ لجواز أن يكون الإيضاح باجتماع البيان والمبين ، وعلى هذا القول وحده يجوز أن يكون قوله جل ذكره (اثنين) عطف بيان على قوله (إلهين).

(٢) الخلاف بين المؤلف والنحاة الذين لهجوا بما ذكره عنهم خلاف لفظي ؛ لأن غرضهم أن النعت الحقيقي يتبع منعوته في أربعة من عشرة ، وكلامه في النعت مطلقا ، سواء أكان حقيقيّا أم كن سببيّا.

٤٣٩

ويجب عند جماهير النحويين كون الموصوف إما أعرف من الصفة ، أو مساويا لها فلا يجوز أن يكون دونها :

فالأول كقولك : «مررت بزيد الفاضل» فإن العلم أعرف من المعرّف باللام.

والثاني نحو : «مررت بالرجل الفاضل» فإنهما معرفان باللام.

والثالث نحو : «مررت بالرجل صاحبك» فصاحبك بدل عندهم ، لا نعت ؛ لأن المضاف للضمير في رتبة الضمير أو رتبة العلم ؛ وكلاهما أعرف من المعرف باللام.

وأما الإفراد وضدّاه ـ وهما التثنية والجمع ـ والتذكير وضده ـ وهو التأنيث ـ فإن النعت يعطى من ذلك حكم الفعل الذي يحلّ محلّه من ذلك الكلام ؛ فتقول : «مررت بامرأة حسن أبوها» بالتذكير ، كما تقول : «حسن أبوها» وفي التنزيل : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) [النساء ، ٧٥] و «برجل حسنة أمّه» بالتأنيث ، كما تقول : «حسنت أمّه» وتقول : «برجل حسن أبواه» و «برجل حسن آباؤه» ولا تقول : «حسنين» ولا «حسنين» إلا على لغة من قال «أكلوني البراغيث» وعلى ذلك فقس.

إلا أن العرب أجروا جمع التكسير مجرى الواحد ؛ فأجازوا فصيحا «مررت برجل قعود غلمانه» كما تقول «قاعد غلمانه» وقوم رجحوه على الإفراد ، وإليه أذهب ، وأما جمع التصحيح فإنما يقوله من يقول : «أكلوني البراغيث».

وإذا كان المنعوت معلوما بدون النعت نحو : «مررت بامرئ القيس الشاعر» جاز لك فيه ثلاثة أوجه : الإتباع فيخفض ، والقطع بالرفع بإضمار هو ، وبالنصب بإضمار فعل ، ويجب أن يكون ذلك الفعل أخصّ أو أعني في صفة التوضيح ، وأمدح في صفة المدح ، وأذمّ في صفة الذم.

فالأول : كما في المثال المذكور.

والثاني : كما في قول بعض العرب : «الحمد لله أهل الحمد» بالنصب.

والثالث : كما في قوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) [المسد ، ٤] يقرأ في السبع (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) بالنصب بإضمار أذمّ ، وبالرفع إما على الإتباع ، أو بإضمار هي.

٤٤٠