شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

وقوله :

٢٠٦ ـ ليت شعري مقيم العذر قومي

لي أم هم في الحبّ لي عاذلونا؟!

وقولك «ضاربا عمرا» جوابا لمن قال : كيف رأيت زيدا؟ ألا ترى أن هذه عملت لاعتمادها على مقدّر ؛ إذ الأصل : كوعل ناطح ، وليت شعري أمقيم ، ورأيته ضاربا.

______________________________________________________

٢٠٦ ـ هذا بيت من الخفيف ، ولم أجد أحدا نسب هذا البيت إلى قائل معين.

الإعراب : «ليت» حرف تمن ونصب ، «شعري» شعر : اسم ليت ، وشعر مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، وخبر ليت محذوف ، أي ليت شعري (أي علمي) حاصل ، وقيل : أغنى الاستفهام الذي بعدها عن الخبر ، «مقيم» مبتدأ ، مرفوع بالضمة الظاهرة ، «العذر» مفعول به لمقيم ، «قومي» قوم : فاعل بمقيم سد مسد خبره من حيث هو مبتدأ ، وقوم مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «لي» جار ومجرور متعلق بمقيم ، «أم» حرف عطف ، «هم» ضمير منفصل مبتدأ «في الحب ، لي» جاران ومجروران يتعلق كل منهما بقوله عاذلون الآتي ، «عاذلون» خبر المبتدأ ، وجملة المبتدأ وخبره معطوفة بأم على جملة المبتدأ وفاعله المغني عن الخبر.

الشّاهد فيه : في هذا البيت شاهدان :

أحدهما يتعلق به غرض المؤلف من الإتيان بالبيت ـ وهو في قوله «مقيم العذر قومي» حيث أعمل اسم الفاعل وهو قوله مقيم ، عمل الفعل ؛ فرفع به الفاعل ـ وهو قوله قومي ـ ونصب به المفعول ـ وهو قوله العذر ـ لكونه معتمدا على همزة استفهام محذوفة ، وأصل الكلام : أمقيم قومي العذر ، والدليل على أن هذه الهمزة مرادة هنا شيئان ؛ الأول : قوله «ليت شعري» فإن هذه العبارة يقع بعدها الاستفهام ألبتة ، إما مذكورا وإما مقدرا ، والثاني «أم» فإنها تعادل همزة الاستفهام ، فإن لم تكن الهمزة في الكلام قدرت ألبتة.

والشاهد الثاني ـ لا يتعلق به غرض المؤلف في هذا الموضوع ـ في قوله «ليت شعري» وهي كلمة تساق عند التعجب من الأمر وإظهار غرابته ، وقد اجتمعت كلمة العلماء على أن خبر ليت في هذا التركيب لا يذكر في الكلام ـ ثم اختلفوا فيما وراء ذلك ؛ فذهب الرضي رحمه‌الله إلى أن خبر ليت محذوف وجوبا من غير أن يقوم مقامه شيء ، وعلى هذا تكون جملة الاستفهام التي تذكر بعده في محل نصب على أنها مفعول به لشعر ، كأنه قال : ليت علمي جواب هذا الاستفهام حاصل ، وقال ابن الحاجب إن الاستفهام قائم مقام خبر ليت ؛ فهو في محل رفع.

ومن شواهد هذه المسألة قول رؤبة بن العجاج :

يا ليت شعري بعدكم حنيفا

أتحملون بعدنا السّيوفا

٤٠١

ثم قلت : الثّالث المثال ، وهو : ما حوّل للمبالغة من فاعل إلى فعّال أو مفعال أو فعول ، بكثرة ، أو فعيل أو فعل ، بقلّة.

وأقول : الثالث من الأسماء العاملة عمل الفعل : أمثلة المبالغة ، وهي عبارة عن الأوزان الخمسة المذكورة ، محوّلة عن صيغة فاعل (١) ؛ لقصد إفادة المبالغة والتكثير.

وحكمها حكم اسم الفاعل ؛ فتنقسم إلى ما يقع صلة لأل فتعمل مطلقا ، وإلى مجرد عنها فتعمل بالشرطين المذكورين.

ومثال إعمال فعّال قولهم «أما العسل فأنا شرّاب» وقول الشاعر :

٢٠٧ ـ أخا الحرب لبّاسا إليها جلالها

وليس بولّاج الخوالف أعقلا

______________________________________________________

وقول ليلى صاحبة قيس المعروف بمجنون ليلى :

ألا ليت شعري والخطوب كثيرة

متى رحل قيس مستقلّ وراجع؟

وقول محمد بن مناذر أحد شعراء البصرة يرثي رجلا اسمه عبد الحميد (انظر مباحث أفعال المقاربة من هذا الكتاب) :

ليت شعري وهل درى حاملوه

ما على النّعش من عفاف وجود؟

٢٠٧ ـ هذا بيت من الطويل من كلام القلاخ بن حزن بن جناب ، والقلاخ : بضم القاف وبعدها لام مفتوحة مخففة وآخره خاء معجمة ، والبيت من شواهد المؤلف في أوضح المسالك (رقم ٣٧٢) وفي القطر (رقم ١٢٦) وابن عقيل (رقم ٢٥٥) وقبل البيت الشاهد قوله :

فإن تك فاتتك السّماء فإنّني

بأرفع ما حولي من الأرض أطولا

__________________

(١) الأصل في صيغ المبالغة أن تؤخذ من مصدر الفعل الثلاثي ؛ فلهذا قال عنها «محولة عن صيغة فاعل» وقد وردت بعض كلمات مأخوذة من غير الثلاثي ، من ذلك قولهم : دراك ، وسئار ، وهما من أدرك وأسأر ، وقولهم : فلان معطاء ومهوان ، وهما من أعطى وأهان ، وقولهم : سميع ونذير ، من أسمع وأنذر ، وقولهم : زهوق ، من أزهق ، وهي ألفاظ شاذة عن القياس المتلئب في كلام العرب ؛ فلا يعترض بها على ما ذكره المؤلف.

وإنما قلنا إن هذه الصفات المذكورة مأخوذة من مصدر الأفعال المذكورة لأن الثلاثي المجرد من مواد هذه الأفعال غير مستعمل ، وقد يقال : إنها أخذت من مصدر الثلاثي قبل أن يهمل العرب استعمال هذا الثلاثي ، أو بعد أن جردوا الفعل من زياداته ، ويؤيد هذا أن جميع أفعال هذه الكلمات من الثلاثي المزيد فيه وليس فيها من الرباعي المجرد شيء.

٤٠٢

ومثال إعمال مفعال قولهم «إنه لمنحار بوائكها» أي سمانها.

ومثال إعمال فعول قول أبي طالب :

٢٠٨ ـ * ضروب بنصل السّيف سوق سمانها*

______________________________________________________

اللّغة : «أخا الحرب» أراد الملازم لها ، كقولهم : فلان أخو المروءة والنجدة ، «لباسا» صيغة مبالغة للابس ، ومعناه الكثير اللبس ، «جلالها» بكسر الجيم ـ جمع جل ، والمراد بها الدروع ونحوها مما يلبس في الحرب ، «ولاج» كثير الولوج ، وهو الدخول ، «الخوالف» جمع خالفة ، وأصلها عمود الخيمة ، وأراد بها ههنا الخيمة نفسها ، من باب إطلاق اسم الجزء على الكل ، «أعقلا» الأعقل : هو الذي تصطك ركبتاه من الفزع.

المعنى : يمدح نفسه ، ويفخر على خصمه ، فيقول له : إنك لا تراني في حال من الأحوال إلا مواخيا للحرب كثير لبس الدروع ؛ لكثرة ما أخوض غمرات الحرب وأصطلي أوارها ، وإذا أوقدت نيران الحرب واستعر لظاها فلن تراني ألج الأخبية هاربا من الفرسان وخوفا من اقتحام المآزق ، وقد يكون معنى قوله «لست بولاج الخوالف» أنه لا يزور النساء ولا يقربهن ، يصف نفسه بالشجاعة والصبر على مكاره الحروب ، وبالانقطاع عن النساء للتفرغ للحرب ، وكأنه يعرض بأن خصمه جبان فرور ، وأنه زير نساء.

الإعراب : «أخا» حال من الضمير المستتر في قوله «بأرفع» في البيت الذى أنشدناه عند نسبة البيت الشاهد ، أو من الضمير المنصوب محلا بإن في قوله «فإنني» من البيت المذكور ، وأخا مضاف و «الحرب» مضاف إليه ، «لباسا» حال ثانية ، «إليها» جار ومجرور متعلق بلباس ، وفي لباس ضمير مستتر هو فاعله ، «جلالها» جلال : مفعول به للباس ، وجلال مضاف ، وضمير الغائبة العائد إلى الحرب مضاف إليه ، «وليس» الواو عاطفة ، وليس : فعل ماض ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو ، «بولاج» الباء زائدة ، ولاج : خبر ليس منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد ، وولاج مضاف و «الخوالف» مضاف إليه من إضافة الوصف العامل إلى مفعوله ، «أعقلا» خبر ثان لليس.

الشّاهد فيه : قوله «لباسا جلالها» حيث أعمل صيغة المبالغة ـ وهي قوله لباسا ـ عمل الفعل ، فرفع بها الفاعل ـ وهو الضمير المستتر فيه ـ ونصب بها المفعول ، وهو قوله جلالها.

٢٠٨ ـ هذا الشاهد صدر بيت من الطويل لأبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم من كلمة له يرثي فيها أمية بن المغيرة المخزومي ، وعجزه قوله :

* إذا عدموا زادا فإنّك عاقر*

وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ٢٧٣) وفي القطر (رقم ١٣٠).

٤٠٣

وإعمال هذه الثلاثة كثير ؛ فلهذا اتفق عليه جميع البصريين.

ومثال إعمال فعيل قول بعضهم «إن الله سميع دعاء من دعاه».

ومثال إعمال فعل قول زيد الخيل رضي‌الله‌عنه :

٢٠٩ ـ * أتاني أنّهم مزقون عرضي*

______________________________________________________

اللّغة : «سوق» جمع ساق ، «سمان» جمع سمينة ، يريد أنه ينحر للأضياف السمين من إبله ، ويضرب سوقها بسيفه.

الإعراب : «ضروب» خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو ضروب ، أو أنت ضروب ونحو ذلك ، «بنصل» جار ومجرور متعلق بضروب ، ونصل مضاف ، و «السيف» مضاف إليه ، «سوق» مفعول به لضروب ، وسوق مضاف وسمان من «سمانها» مضاف إليه ، وسمان مضاف وضمير الغائبة مضاف إليه ، «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط ، «عدموا» فعل وفاعل ، «زادا» مفعول به لعدموا ، والجملة في محل جر بإضافة إذا إليها ، «فإنك» الفاء واقعة في جواب إذا ، إن : حرف توكيد ونصب ، وضمير المخاطب اسمه ، «عاقر» خبر إن ، والجملة من إن واسمه وخبره لا محل لها جواب إذا ، لأن إذا وإن تضمنت معنى الشرط غير عاملة الجزم في الجواب.

الشّاهد فيه : قوله «ضروب سوق سمانها» حيث أعمل صيغة المبالغة ـ وهي قوله ضروب ـ عمل الفعل ؛ فرفع بها الفاعل ـ وهو الضمير المستتر فيه ـ ونصب بها المفعول وهو قوله سوق سمانها.

ومثل هذا البيت قول الراعي النميري :

عشيّة سعدى لو تراءت لراهب

بدومة تجر دونها وحجيج

قلا دينه ، واهتاج للشّوق ؛ إنّها

على الشّوق إخوان العزاء هيوج

والاستشهاد في قوله «إخوان العزاء هيوج» حيث أعمل قوله «هيوج» وهو من صيغ المبالغة عمل الفعل ؛ فنصب به المفعول وهو قوله «إخوان العزاء».

وفي هذا البيت دليل على جواز تقدم معمول صيغة المبالغة عليها كما يتقدم على الفعل.

ومن شواهد إعمال فعول أيضا قول ذي الرمة غيلان بن عقبة ، وأنشده سيبويه ، وصاحب اللسان (ه ج م) :

هجوم عليها نفسه غير أنه

متى يرم في عينيه بالشّبح ينهض

٢٠٩ ـ هذا الشاهد من كلام زيد الخير ، وكان اسمه زيد الخيل ، فسماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين وفد عليه ـ زيد الخير ، وهو من شواهد المؤلف في أوضحه (رقم ٣٧٥) وابن عقيل (رقم ٢٥٨) والذي

٤٠٤

وإعمالهما قليل ؛ فلهذا خالف سيبويه فيهما قوم من البصريين (١) ووافقه منهم آخرون ، ووافقه بعضهم في فعل (٢) لأنه على وزن الفعل ، وخالفه في فعيل ؛ لأنه على وزن الصفة المشبهة كظريف ، وذلك لا ينصب المفعول.

______________________________________________________

رواه المؤلف صدر بيت من الوافر ، وعجزه قوله :

* جحاش الكرملين لها فديد*

اللّغة : «جحاش» جمع جحش ، وهو الحمار الصغير ، «الكرملين» بكسر الكاف والميم بينهما راء مهملة ساكنة ـ تثنية كرمل ، وهو اسم ماء بجبل من جبال طيئ ، «فديد» صوت.

المعنى : يقول : بلغني أن هؤلاء الناس أكثروا من تمزيق عرضي والنيل منه بالطعن والقدح ، وإنهم عندي بمنزلة الجحاش التي ترد ماء الكرملين وهي تصيح وتصوت ، يريد أنه لا يعبأ بهم ، ولا يكترث بما يقولونه ؛ لأن كلامهم يشبه أصوات صغار الحمير.

الإعراب : «أتاني» أتى : فعل ماض ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به ، «أنهم» أن : حرف توكيد ونصب ، وضمير الغائبين اسم أن «مزقون» خبر أن ، مرفوع بالواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم ، «عرضي» عرض مفعول به لمزقون ، وعرض مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «جحاش» خبر لمبتدأ محذوف : أي هم جحاش ، وجحاش مضاف و «الكرملين» مضاف إليه ، «لها» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، «فديد» مبتدأ مؤخر ، وجملة هذا المبتدأ وخبره في محل نصب حال صاحبه جحاش الكرملين الواقع خبرا.

الشّاهد فيه : قوله «مزقون عرضي» حيث أعمل صيغة المبالغة ، وهو قوله مزقون الذي هو جمع مزق ـ بفتح الميم وكسر الزاي ـ عمل الفعل ؛ فنصب به المفعول به ـ وهو قوله عرضي ـ على ما تبين في الإعراب.

وفي البيت دليل على أن جمع صيغة المبالغة يعمل كعمل مفردها ، وهو ظاهر ، ومن شواهد إعمال فعل قول لبيد بن ربيعة العامري ، وهو من شواهد سيبويه :

أو مسحل شنج عضادة سمحج

بسراته ندب لها وكلوم

وقول الآخر :

حذر أمورا لا تضير ، وآمن

ما ليس منجيه من المقدار

__________________

(١) خالف سيبويه في هذا الموضع أكثر البصريين.

(٢) اشتهر عن الجرمي أنه يوافق سيبويه في إعمال فعل ؛ لكونه على وزن الفعل من نحو علم وفرح وجذل وبطر وسمع وفهم وحذر.

٤٠٥

وأما الكوفيّون فلا يجيزون إعمال شيء من الخمسة ، ومتى وجدوا شيئا منها قد وقع بعده منصوب أضمروا له فعلا ، وهو تعسف.

ثم قلت : الرّابع اسم المفعول ، وهو : ما اشتقّ من فعل لمن وقع عليه كمضروب ومكرم.

وأقول : الرابع من الأسماء العاملة عمل الفعل ، اسم المفعول.

وفي قولي في حده «ما اشتقّ من فعل» من المجاز ما تقدم شرحه في حد اسم الفاعل.

وقولي «لمن وقع عليه» مخرج للأفعال الثلاثة ، ولاسم الفاعل ، ولا سمي الزمان والمكان ، وقد تبين [شرح] ذلك مما تقدم.

ومثلت بمضروب ومكرم لأنبه على أن صيغته من الثلاثي على زنة مفعول كمضروب ومقتول ومكسور ومأسور ، ومن غيره بلفظ مضارعه بشرط ميم مضمومة مكان حرف المضارعة [وفتح ما قبل آخره] كمخرج ومستخرج.

ثم قلت : وشرطهما كاسم الفاعل.

وأقول : أي شرط إعمال المثال وإعمال اسم المفعول كشرط إعمال اسم الفاعل على التفصيل المتقدم في الواقع صلة لأل والمجرد منها ، وقد مضى ذلك.

ثم قلت : الخامس الصّفة المشبّهة ، وهي : كلّ صفة صحّ تحويل إسنادها إلى ضمير موصوفها ، وتختصّ بالحال ، وبالمعمول السّببيّ المؤخّر ، وترفعه فاعلا أو بدلا ، أو تنصبه مشبّها أو تمييزا ، أو تجرّه بالإضافة إلّا إن كانت بأل وهو عار منها.

وأقول : الخامس من الأسماء العاملة عمل الفعل : الصفة المشبهة ، وهي عبارة عما ذكرت.

ومثال ذلك قولك «زيد حسن وجهه» بالنصب أو بالجر ؛ والأصل وجهه بالرفع ؛ لأنه فاعل في المعنى ؛ إذ الحسن في الحقيقة إنما هو للوجه ، ولكنك أردت المبالغة فحوّلت الإسناد إلى ضمير زيد ، فجعلت زيدا نفسه حسنا ، وأخرت الوجه فضلة ونصبته على التشبيه بالمفعول به ؛ لأن العامل وهو «حسن» طالب له من حيث

٤٠٦

المعنى ؛ لأنه معموله الأصلي ، ولا يصح أن ترفعه على الفاعلية ـ والحالة هذه ـ لاستيفائه فاعله ، وهو الضمير ، فأشبه المفعول في قولك : «زيد ضارب عمرا» ؛ لأن ضاربا طالب له ، ولا يصح أن ترفعه على الفاعلية ، فنصب لذلك.

فالصفة مشبّهة باسم الفاعل المتعدي لواحد ، ومنصوبها يشبه مفعول اسم الفاعل ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا التقدير.

ثم لك بعد ذلك أن تخفضه بالإضافة ، وتكون الصفة حينئذ مشبهة أيضا لأن الخفض ناشئ ـ على الأصح ـ عن النصب ، لا عن الرفع ؛ لئلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه ؛ إذ الصفة أبدا عين مرفوعها وغير منصوبها فافهمه.

وتفارق هذه الصفة اسم الفاعل من وجوه :

أحدها : أنها لا تكون إلا للحال ، وأعني به الماضي المستمر إلى زمن الحال ، واسم الفاعل يكون للماضي وللحال وللاستقبال.

والثاني : أن معمولها لا يكون إلا سببيّا ، وأعني به ما هو متصل بضمير الموصوف لفظا أو تقديرا ، واسم الفاعل يكون معموله سببيّا وأجنبيّا ؛ تقول في الصفة المشبهة : «زيد حسن وجهه» و «زيد حسن الوجه» أي : الوجه منه ، أو «وجهه» فهو إما على نيابة «أل» مناب الضمير المضاف إليه أو على حذف الضمير من غير نيابة عنه ، ولا تقول «زيد حسن عمرا» كما تقول : زيد ضارب عمرا.

الثالث : أن معمولها لا يكون إلا مؤخرا عنها ، تقول : «زيد حسن وجهه» ولا تقول «زيد وجهه حسن» ومعمول اسم الفاعل يكون مؤخرا عنه ومقدما عليه ، تقول «زيد غلامه ضارب» (١).

__________________

(١) قد جوز عامة العلماء أن نقول : «زيد بك فرح» على أن يكون «زيد» مبتدأ ، و «بك» جارّا ومجرورا متعلقا بفرح ، و «فرح» خبر المبتدأ ، وقد رووا أن العرب تقول مثل ذلك.

وقد ذهب ابن الناظم إلى أن تجويز العلماء ذلك ينقض ما اتفقوا عليه من أن معمول الصفة المشبهة لا يكون إلا سببيّا : أي اسما ظاهرا متصلا بضمير يعود على الموصوف لفظا أو تقديرا ، كما ينقض ما اتفقوا عليه أيضا من أن معمول الصفة المشبهة لا يقدم عليها ، وذلك لأن «بك» في المثال الذي ذكرناه ليس سببيّا ، وهو متقدم على الصفة المشبهة.

٤٠٧

الرابع : أنه يجوز في مرفوعها النصب والجر ، ولا يجوز في مرفوع اسم الفاعل إلا الرفع.

ثم بيّنت أن الخفض له وجه واحد وهو الإضافة ، وأن الرفع له وجهان ؛ أحدهما : أن يكون فاعلا ، والثاني : أن يكون بدلا من ضمير مستتر في (١) الصفة ، وأن النصب فيه تفصيل ، وذلك أن المنصوب إن كان نكرة ففيه وجهان ؛ أحدهما : أن يكون انتصابه على التشبيه بالمفعول به ، والثاني : [أن يكون] تمييزا وإن كان معرفة امتنع كونه تمييزا ، وتعين كونه مشبها بالمفعول به ، لأن التمييز لا يكون إلا نكرة (٢).

__________________

والذي ذهب إليه ابن الناظم غفلة عما أراده العلماء من معمول الصفة المشبهة الذي اشترطوا سببيته وتأخره ، وبيان ذلك أن معمول الصفة المشبهة على ضربين :

الأول : المعمول الذي تعمل به بحق شبهها باسم الفاعل المتعدي فعله إلى واحد ، وذلك هو المفعول به.

والضرب الثاني : المعمول الذي تعمل الصفة فيه بما فيها من معنى الفعل ، وهو الظرف والجار والمجرور.

فالضرب الأول هو الذي اشترط العلماء فيه الشرطين المذكورين ، والضرب الثاني لا يشترط فيه شيء منهما ، وذلك لأن الظرف والجار والمجرور يتعلقان بالفعل التام والناقص ويتعلقان كذلك بالاسم ، ويتعلقان بالحروف إذا تضمنت معنى فعل كحرف النفي ، وبالجملة يكتفيان برائحة الفعل ، و «بك» في المثال المذكور من الضرب الثاني.

(١) ذهب أبو علي الفارسي إلى أنك إذا قلت «زيد حسن الوجه» بتنوين حسن ورفع الوجه ـ يكون الوجه بدل بعض من كل من ضمير مستتر في حسن عائد على زيد ، لأن الوجه بعض زيد ، واستشكل النحاة ذلك الكلام ، وبنوا استشكالهم على ما رواه الفراء من قول العرب «مررت بامرأة حسن الوجه» بتنوين حسن ورفع الوجه ، قالوا : لو كان الوجه بدل بعض من كل للزم أمران : الأول أن يقال حسنة بالتأنيث ، والثاني أن يتصل بالبدل ضمير يعود على المبدل منه ، والجواب أنا لا نسلم صحة هذا المثال ، ثم إذا سلمنا صحته فإما أن نوجب فيه وفي مثله الرفع على الفاعليه ، ونجوز البدلية في نحو المثال الذي ذكرناه أولا ، وإما أن نجوز البدلية في هذا كما نجوزها في غيره ، وندعي أن التذكير باعتبارها شخصا أو إنسانا أو نحوه ، وأل في «الوجه» عوض عن الضمير ، فافهم ذلك واحرص عليه.

(٢) اعلم أن العلماء قد اختلفوا في معمول الصفة المشبهة المنصوب ، ولهم في ذلك أربعة أقوال :

الأول : وهو مذهب جمهرة الكوفيين ـ أن انتصابه على التمييز مطلقا ، نعني سواء كان نكرة أم معرفة ، وعندهم أن التمييز قد يكون معرفة ، كما في قول الشاعر :

رأيتك لمّا أن عرفت وجوهنا

صددت وطبت النّفس يا قيس عن عمرو

والقول الثاني : وهو مذهب جمهور البصريين ، واختاره ابن الحاجب ـ التفصيل بين أن يكون المعمول نكرة وأن يكون معرفة ، فإن كان نكرة فهو منصوب على التمييز لا غير ، وإن كان معرفة فهو منصوب على التشبيه بالمفعول به لا غير ، وذلك لأنهم لا يسوغون مجيء التمييز معرفة ، ويرون أن «أل» في قول الشاعر «وطبت النفس» زائدة لا تفيد التعريف.

٤٠٨

ثم بينت أن جواز الرفع والنصب مطلق ، وأن جواز الخفض مقيد بألا تكون الصفة بأل والمعمول مجرد منها ومن الإضافة لتاليها ، وتضمن ذلك امتناع الجر في «زيد الحسن وجهه» و «الحسن وجه أبيه» و «الحسن وجها» و «الحسن وجه أب».

ثم قلت : السّادس اسم الفعل ، نحو بله زيدا ، بمعنى دعه ، وعليكه وبه بمعنى الزمه ، والصق ، ودونكه ، بمعنى خذه ، ورويده وتيده بمعنى أمهله ، وهيهات وشتّان بمعنى بعد وافترق ، وأوه وأفّ بمعنى أتوجّع وأتضجّر ، ولا يضاف ، ولا يتأخّر عن معموله ، ولا ينصب في جوابه ، وما نوّن منه فنكرة.

وأقول : السادس من الأسماء العاملة عمل الفعل : اسم الفعل ، وهو على ثلاثة أنواع :

(١) ما سمّي به الأمر ، وهو الغالب ، فلهذا بدأت به ، ومثلته بخمسة أمثلة ، وهي : «بله» بمعنى دع ، كقول الشاعر في صفة السيوف :

٢١٠ ـ تذر الجماجم ضاحيا هاماتها

بله الأكفّ كأنّها لم تخلق

______________________________________________________

٢١٠ ـ هذا بيت من الكامل لكعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري ، يصف السيوف كما قال المؤلف ، وقبله وأنشده المبرد في الكامل (١ ـ ٦٨) :

نصل السّيوف إذا قصرن بخطونا

قدما ، ونلحقها إذا لم تلحق

اللّغة : «تذر» تدع وتترك ، «الجماجم» جمع جمجمة ، وهي عظام الرأس ، «ضاحيا» بارزا ظاهرا ، «هاماتها» جمع هامة وهي الرأس ، «بله الأكف» أي : اتركها ولا تذكرها في كلامك لأنها طائحة لا محالة.

الإعراب : «تذر» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى السيوف ،

__________________

والقول الثالث : أن معمول الصفة المشبهة المنصوب إنما هو منصوب على التشبيه بالمفعول به مطلقا ، سواء أكان معرفة أم نكرة.

والقول الرابع : وهو ما ذكره المؤلف في هذا الكتاب وفي كتاب الجامع وفي كتابه شرح اللمحة ـ أن المعمول المنصوب إن كان معرفة فله وجه واحد ، وهو أن يكون منصوبا على التشبيه بالمفعول به ، وإن كان نكرة ففيه وجهان : أن يكون تمييزا ، وأن يكون مشبها بالمفعول به.

٤٠٩

أي : دع الأكفّ ، وذلك في رواية من نصب الأكف ، أما من خفضها فبله مصدر ، بمنزلة قولك «ترك الأكفّ» ، وأما من رفعها ـ وهو شاذ ـ فهي اسم استفهام بمنزلة كيف ، وما بعدها مبتدأ ، وهي خبره.

و «عليكه» بمعنى الزمه ، وقوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [المائدة ، ١٠٥] أي الزموا شأن أنفسكم ، ويقال أيضا : «عليك به» (١) فقيل : الباء زائدة ، وقيل : اسم لألصق دون الزم.

و «دونكه» بمعنى خذه ، كقول صبية لأمها :

٢١١ ـ * دونكها يا أمّ لا أطيقها*

______________________________________________________

«الجماجم» مفعول به لتذر ، «ضاحيا» حال من المفعول به ، «هاماتها» هامات : فاعل بضاح ، وهو مضاف وضمير الغائبة العائد إلى الجماجم مضاف إليه ، «بله» اسم فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «الأكف» مفعول به لبله ، «كأنها» كأن : حرف تشبيه ونصب ، والضمير العائد إلى الأكف اسم كأن ، «لم» نافية جازمة ، «تخلق» فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم بلم ، وعلامة جزمه السكون ، وحرك بالكسر لأجل الرويّ ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى الأكف ، وجملة الفعل ونائب فاعله في محل رفع خبر كأن.

الشّاهد فيه : قوله «بله الأكف» حيث استعمل بله اسم فعل أمر ، ونصب به ما بعده على أنه مفعول به.

واعلم أن الرواة يروون هذه الكلمة على ثلاثة أوجه ؛ الوجه الأول : بجر الأكف ، وتخريجها على أن «بله» مصدر بمعنى ترك ، ولا فعل له من لفظه ، و «الأكف» مضاف إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله ، كما في قوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد ، ٤] ، والوجه الثاني : بنصب الأكف ، وتخرج هذه الرواية على أن «بله» اسم فعل أمر ، و «الأكف» مفعول به ، وهذه الرواية هي التي عليها الاستشهاد بهذا البيت في هذا الموضع ، والوجه الثالث : برفع الأكف ، وتخريج هذه الرواية على أن بله اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم ، والأكف : مبتدأ مؤخر ، وهذا وجه شاذ حكاه أبو الحسن وقطرب ، وأنكره أبو علي (انظر مغني اللبيب ص ١١٥ بتحقيقنا).

٢١١ ـ هذا بيت من مشطور الرجز ، ولم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، ولا

__________________

(١) قد ورد من ذلك قول الأخطل التغلبي :

فعليك بالحجّاج ، لا تعدل به

أحدا ، إذا نزلت عليك أمور

٤١٠

و «رويده» و «تيده» بمعنى أمهله (١).

(٢) وما سمّى به الماضي ، وهو أكثر مما سمى به المضارع ؛ فلهذا قدّم عليه ، ومثّلت له بمثالين : «هيهات» بمعنى بعد ، و «شتّان» بمعنى افترق ، قال :

٢١٢ ـ فهيهات هيهات العقيق ومن به

وهيهات خلّ بالعقيق نواصله

______________________________________________________

وجدت له سابقا ولا لاحقا.

الإعراب : «دونكها» دونك : اسم فعل أمر بمعنى خذي ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، وضمير الغائبة مفعول به ، مبني على السكون في محل نصب ، «يا» حرف نداء ، «أم» منادى ، وأصله أمي فحذفت ياء المتكلم ، ويجوز في أم ثلاثة أوجه : أولها الكسر ، وذلك لدلالة الكسرة على ياء المتكلم المحذوفة ، وثانيها الفتح ، على تقدير أن ياء المتكلم انقلبت ألفا بعد فتح ما قبلها ثم حذفت الألف وبقيت الفتحة للدلالة على تلك الألف ، وثالثها الضم على أنك قطعت النظر عن الياء وجعلته منادى مبنيّا «لا» نافية ، «أطيقها» أطيق : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، وضمير الغائبة مفعول به.

الشّاهد فيه : قولها «دونكها» حيث استعملت دونك اسم فعل أمر بمعنى خذي.

واعلم أن اسم الفعل على ضربين : مرتجل ، ومنقول ، فالمرتجل ما لم يستعمل من قبل في شيء آخر ، ومثاله شتان وصه ووي ، والمنقول إما أن يكون في الأصل مصدرا نحو رويد وبله ، وإما أن يكون في الأصل ظرفا نحو وراءك بمعنى تأخر وأمامك بمعنى تقدم ومكانك بمعنى اثبت ، وإما أن يكون في الأصل جارّا ومجرورا نحو عليك بمعنى الزم.

٢١٢ ـ هذا بيت من الطويل من كلام جرير بن عطية ، وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ٤٦١) وفي القطر (رقم ١١٤).

اللّغة : «هيهات» بعد ، ويروى في الأماكن الثلاث «أيهات» بالهمزة المبدلة من الهاء «العقيق» اسم مكان ، وفي بلاد العرب أربعة أماكن بهذا الاسم : عقيق اليمامة ، وعقيق المدينة ، وعقيق تهامة ، وعقيق القنان بنجد ، «خل» بكسر الخاء المعجمة ـ أي : صديق.

__________________

(١) فسر ابن منظور في اللسان «تيد» بالرفق ، فكأنه إذا كان اسم فعل يكون بمعنى ترفق به ، وعبارة المؤلف أدق ؛ لأن هذا اللفظ ينصب المفعول به بنفسه كما حكاه ابن منظور نفسه ، وترفق يتعدى بحرف الجر. ومن شواهد «رويد» قول الشاعر :

رويد عليّا ، جدّ ما ثدي أمّهم

إلينا ، ولكن ودّهم متماين

٤١١

وقال :

٢١٣ ـ شتّان هذا والعناق والنّوم

والمشرب البارد في ظلّ الدّوم

ولك زيادة «ما» قبل فاعل شتان ، كقوله :

______________________________________________________

الإعراب : «هيهات» اسم فعل ماض بمعنى بعد ، مبني على الفتح لا محل له من الإعراب ، «هيهات» توكيد للأول ، «العقيق» فاعل بهيهات ، «ومن» الواو عاطفة ، من : اسم موصول معطوف على العقيق ، مبني على السكون في محل رفع ، «به» جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول ، «وهيهات» الواو عاطفة ، هيهات : اسم فعل ماض بمعنى بعد ، «خل» فاعل بهيهات ، «بالعقيق» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لخل ، «نواصله» نواصل : فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن ، وضمير الغائب العائد إلى خل مفعول به ، والجملة في محل رفع صفة ثانية لخل.

الشّاهد فيه : قوله «هيهات العقيق» وقوله «هيهات خل» حيث استعمل هيهات في الموضعين اسم فعل بمعنى بعد ، ورفع به فاعلا كما كان يرفعه لو أنه وضع موضعه بعد ، وهو الفعل الذي يدل اسم الفعل على معناه.

ومثل هذا البيت قول الشاعر :

إلّا كداركم بذي بقر الحمى

هيهات ذو بقر من المزدار

٢١٣ ـ هذا بيت من الرجز المصرع أو بيتان من مشطوره ، من كلام لقيط بن زرارة بن عدس ، وهو أخو حاجب بن زرارة الذي يضرب بقوسه المثل.

اللّغة : «شتان» معناه افترق ، «العناق» المعانقة ، «ظل الدوم» هذه رواية أبي عبيدة وفسرها بأن الدوم ههنا هو ذلك الشجر المعروف ، وأنكر ذلك الأصمعي قائلا : إن الشاعر من نجد ، وليس في بلاده شجر الدوم ، وذكر أن الرواية «والظل الدوم» والدوم ـ على هذه الرواية ـ مصدر أريد به اسم الفاعل ، أي : والظل الدائم.

الإعراب : «شتان» اسم فعل ماض بمعنى افترق ، «هذا» ها : حرف تنبيه ، وذا : اسم إشارة فاعل بشتان ، «والعناق والنوم والمشرب» معطوفات على اسم الإشارة ، «البارد» صفة للمشرب ، «في ظل» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة أو حال من المشرب ، وظل مضاف و «الدوم» مضاف إليه ، وإذا رويت رواية الأصمعي كان الظل معطوفا على اسم الإشارة مثل الأسماء التي قبله ، والدوم على هذا : نعت للظل ، مرفوع بالضمة الظاهرة ، وسكنه لأجل الوقف.

الشّاهد فيه : قوله «شتان هذا والعناق ـ إلخ» حيث استعمل شتان اسم فعل ماض بمعنى افترق ،

٤١٢

٢١٤ ـ شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخى جابر

ولا يجوز عند الأصمعي «شتّان ما بين زيد وعمرو» وجوّزه غيره ، محتجّا بقوله :

٢١٥ ـ * لشتّان ما بين اليزيدين في النّدى*

______________________________________________________

ورفع به فاعلا كما كان يرفعه لو وضع مكانه افترق ، وهو الفعل الذي يدل اسم الفعل على معناه ، ألا ترى أنه عطف على الفاعل لما كان الافتراق لا يكون إلا بين شيئين فصاعدا.

٢١٤ ـ هذا بيت من السريع من كلام أبي بصير صناجة العرب الأعشى ميمون بن قيس.

اللّغة : «شتان» افترق وتباعد أمرهما ، «كورها» الكور ـ بضم الكاف وسكون الواو ـ الرحل الذي يوضع فوق الناقة ليركب عليه ، ووقع في عامة نسخ الشرح «ما نومي» و «نوم حيان» محرفا.

الإعراب : «شتان» اسم فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب ، «ما» زائدة ، «يومي» يوم : فاعل بشتان ، ويوم مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «على كورها» الجار والمجرور متعلق بشتان ، وكور مضاف وضمير الغائبة العائد إلى الناقة مضاف إليه ، «ويوم» معطوف على الفاعل ، ويوم مضاف ، و «حيان» مضاف إليه ، مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه لا ينصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ، «أخي» بدل من حيان ، مجرور بالياء نيابة عن الكسرة لأنه من الأسماء الستة ، وأخي مضاف و «جابر» مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «شتان ما يومي ويوم حيان» حيث استعمل شتان اسم فعل ماض بمعنى افترق ، ورفع به فاعلا كما كان يرفعه بافترق نفسه ، وزاد «ما» بين اسم الفعل وفاعله كما هو ظاهر.

٢١٥ ـ هذا الشاهد صدر بيت من الطويل لربيعة الرقي ، من كلمة له يمدح فيها يزيد بن حاتم المهلبي ، ويذم يزيد بن أسيد السلمي ، وكان قد ورد على الأول يستجديه وهو والي مصر ، فاستبطأ سيبه ، فشخص عنه من مصر ، وقال :

أراني ـ ولا كفران لله ـ راجعا

بخفّي حنين من نوال ابن حاتم

فبلغ ذلك القول يزيد بن حاتم ، فأرسل في أثره من يرده إليه ، فلما دخل عليه قال له : أنت القائل : أراني ولا كفران لله؟ قال : نعم ، قال : فهل قلت غير هذا؟ قال : لا ، قال : لترجعن بخفي حنين مملوءة مالا ، ثم أمر بخلع نعله وملئت له مالا ، فلما عزل يزيد بن حاتم عن مصر وولي مكانه يزيد بن أسيد السلمي ـ قال ربيعة الرقي قصيدة مطلعها :

بكى أهل مصر بالدّموع السّواجم

غداة غدا منها الأغرّ ابن حاتم

لشتّان ما بين اليزيدين في النّدى

يزيد سليم والأغرّ ابن حاتم

فهمّ الفتى الأزديّ إنفاق ماله

وهمّ الفتى القيسيّ جمع الدّراهم

٤١٣

وأما قول بعض المحدثين :

______________________________________________________

فلا يحسب التّمتام أنّي هجوته

ولكنّني فضّلت أهل المكارم

وانظر الأغاني (١٤ ـ ٣٨) والكامل للمبرد (١ ـ ٢٧٠) والعقد الفريد (١ ـ ٣٣٢).

الإعراب : «لشتان» اللام لام الابتداء ، وشتان : اسم فعل ماض بمعنى افترق مبني على الفتح لا محل له من الإعراب ، «ما» اسم موصول فاعل بشتان مبني على السكون في محل رفع ، «بين» ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة ما ، وبين مضاف و «اليزيدين» مضاف إليه ، «في الندى» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل شتان ، «يزيد» بدل من اليزيدين ، وهو مضاف «سليم» مضاف إليه ، «والأغر» معطوف على البدل ، «ابن» صفة للأغر ، وابن مضاف و «حاتم» مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «شتان ما بين ... إلخ» فإن هذا الأسلوب قد أباه الأصمعي وأنكر صحته ، ولكن العلماء قبلوا هذا الأسلوب وخرجوه على الذي أعربنا البيت عليه.

ونحن نريد أن نبين لك وجهة نظر الأصمعي ، ووجهة نظر غيره من العلماء ؛ ليتضح لك الأمر غاية الاتضاح ؛ فنقول : إن المعروف عن الأصمعي أنه منع أن يقول القائل «شتان ما بين زيد وعمرو» ولم يؤثر عنه تعليل هذا المنع ، وللعلماء في تعليله ثلاثة آراء :

الأول : أن وجه الامتناع من جهة ذكر «بين» وليس من قبل «شتان» وبيانه أن الأصل في «بين» أن تضاف إلى متعدد غير مثنى ولا مجموع ، لا تقول : جلست بين الزيدين ، ولا جلست بين كرام القوم ، ولكن تضيفها إلى متعدد مع التفريق فتقول : جلست بين محمد وعمرو.

وهذا التعليل غير مرضي ؛ لأنه مبني على ما ذهب إليه الفراء في «بين» من أنها تضاف إلى متعدد مع التفريق ، ولا تضاف إلى متعدد من غير تفريق كالمثنى والمجموع ، ونحن إنما نرتضي مذهب الجمهور ، وعندهم أن المدار على تعدد ما تضاف إليه «بين» سواء أكان التعدد مع التفريق كالمفردين المعطوف أحدهما على الآخر أم كان التعدد بدون التفريق كالمثنى والجمع وما أشبههما ، ويدل لصحة مذهب الجمهور قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة ، ٢٨٥].

والرأي الثاني : أن العلة التي امتنع الأصمعي لأجلها من تجويز هذه العبارة هي أن شتان بكسر النون ، وادعى هؤلاء أنه مثنى مرفوع على أنه خبر مقدم ، وما زائدة ، وبين مبتدأ مؤخر ، ويلزم على هذا أن يخبر بالمثنى الذي هو شتان عن المفرد الذي هو بين ، ولما كان الإخبار بالمثنى عن المفرد غير جائز وجب أن يمتنع هذا التعبير.

وهذا التعليل أيضا غير مستقيم ، لأمور ؛ الأول : أن الأفصح في «شتان» فتح النون لا كسرها ، والثاني : أنه لا يلزم على كسر النون أن تكون مثنى ، بل هي مع كسر النون اسم فعل أيضا ، بدليل فتح نونه في اللغة الفصحى.

٤١٤

٢١٦ ـ جازيتموني بالوصال قطيعة

شتّان بين صنيعكم وصنيعي

______________________________________________________

والرأي الثالث : وهو تعليل المحقق الرضي ـ أن العلة التي من أجلها منع الأصمعي هذا التعبير هي أن «ما» تحتمل وجهين : الأول أن تكون زائدة ، والثاني أن تكون موصولة ؛ فلو كانت «ما» زائدة وجب أن يكون «بين» فاعل شتان ، ويلزم على هذا أن يكون فاعل شتان واحدا غير متعدد لا مع التفريق ولا مع عدمه ، وإن كانت «ما» موصولة كانت هي الفاعل ، ويلزم عليه إما المحذور السابق إن اعتبرت «ما» مفردا ، وإما أن يكون «بين» مضافا إلى غير متساويين في النسبة لأن مقصود الشاعر أن اليزيدين قد افترقا في صفتين ، فأحدهما متصف بالبخل ، والآخر متصف بالكرم ، كما يدل عليه البيت الذي يليه ، والأصل في «بين» أن يضاف إلى متساويين في النسبة ، تقول : بيني وبين زيد قرابة.

والجواب على هذا أن نختار أن «ما» موصولة وأنها فاعل شتان ، ولنا وجهان في تصحيح الكلام ؛ الأول : أن نجعل «ما» عبارة عن المسافة ؛ فكأننا قلنا : إن المسافة التي بين اليزيدين بعيدة ، والثاني : أن نجعل «ما» عبارة عن صفة الكرم وحدها ، وندعي أن لها حدا فائقا بلغ إليه يزيد بن حاتم ، وحدا سافلا تعلق به ابن أسيد ، وكأننا قلنا : افترق اليزيدان في هذه الصفة.

وقد أطلنا عليك في هذا الموضع لنقربه إليك ، فلا تغفل عنه.

ومما ورد فيه هذا الاستعمال قول أبي الأسود الدؤلي :

شتّان ما بيني وبينك ؛ إنّني

على كلّ حال أستقيم وتظلع

وقول البعيث :

وشتّان ما بيني وبين ابن خالد

أميّة في الرّزق الّذي يتقسّم

وقول الآخر :

وشتّان ما بيني وبين دعاتها

إذا صرصر العصفور في الرّطب الثّعد

وكثرة هذه الشواهد تقطع لك بعدم صحة الذي ذهب إليه الأصمعي من إنكار استعمال هذا الأسلوب.

٢١٦ ـ هذا بيت من الكامل ، ولم أقف على ما يعين اسم قائل هذا البيت.

الإعراب : «جازيتموني» فعل وفاعل ومفعول أول ، «بالوصال» جار ومجرور متعلق بجازى ، «قطيعة» مفعول ثان لجازى «شتان» اسم فعل ماض ، «بين» فاعل شتان ، ولم يرفعه لأنه استكثر أن يخرجه عن حالته التي غلب مجيئه عليها وهي النصب ؛ فإن أصله منصوب على الظرفية ، وبين مضاف ، وصنيع من «صنيعكم» مضاف إليه ، وصنيع مضاف وضمير المخاطبين مضاف إليه ، «وصنيعي» الواو عاطفة ، وما بعده معطوف على ما قبله ، وياء المتكلم مضاف إليه ، وهذا الإعراب

٤١٥

فلم تستعمله العرب ، وقد يخرّج على إضمار «ما» موصولة ببين ، وذلك على قول الكوفيين إن الموصول يجوز حذفه (١).

______________________________________________________

أحد وجهين يمكن تخريج هذا التعبير عليهما ، وثانيهما تقدير «ما» موصولة محذوفة تكون فاعل شتان ، وبين على هذا ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول ؛ فيكون كبيت ربيعة السابق ، وحذف الموصول وبقاء صلته مما أجازه الكوفيون والبغداديون والأخفش من البصريين ، وارتضاه ابن مالك في التسهيل ، وسننشدك شاهدا عليه.

الشّاهد فيه : قوله «شتان بين صنيعكم» حيث أتى فيه الشاعر بأسلوب لم تستعمله العرب ـ على ما زعم المؤلف ـ فلا هو ذكر الفاعل المتعدد كالأعشى ومن قبله ولا هو ذكر «ما» قبل «بين» حتى نجعلها موصولة ونحملها على متعدد كما في بيت ربيعة الرقي.

ومثل هذا البيت قول الآخر :

سارت مشرّقة وسرت مغرّبا

شتّان بين مشرّق ومغرّب

وقول حسان بن ثابت الأنصاري :

وشتّان بينكما في النّدى

وفي البأس والخير والمنظر

ومثل ذلك أيضا ما رواه أبو زيد في نوادره من قول الشاعر :

شتّان بينهما في كلّ منزلة

هذا يخاف وهذا يرتجى أبدا

وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :

همّوا ببعد عنك غير تقرّب

شتّان بين القرب والإبعاد

والشواهد كثيرة على ذلك من كلام العرب المحتج به ؛ فلا تبال ما قال المؤلف ، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ.

ومما يدلك على صحة ما اخترناه أنك تجد العلماء من أئمة الشعراء قد استعملوا هذا الأسلوب على هذا الوجه ، انظر مثلا قول ابن المعتز :

والفكر قبل القول يؤمن زيفه

شتّان بين رويّة وبديه

__________________

(١) ويجوز تخريجه على أن «بين» فاعل شتان ، كما ذكرناه في إعراب البيت.

ومما يدل لمذهب الكوفيين الذين جوزوا حذف الموصول وبقاء صلته قول حسان بن ثابت :

أمن يهجو رسول الله منكم

وينصره ويمدحه سواء

فإن التقدير : ومن ينصره ويمدحه ، ضرورة أن الذي يهجوه ليس هو الذي ينصره ويمدحه.

٤١٦

(٣) وما سمى به المضارع ، نحو : «أوّه» بمعنى أتوجّع ، و «أفّ» بمعنى أتضجر ، وبعضهم أسقط هذا القسم ، وفسّر هذين بتوجعت وتضجرت.

ومن أحكام اسم الفعل : أنه لا يضاف ، كما أن مسماه ـ وهو الفعل ـ كذلك. ومن ثمّ قالوا ، إذا قلت «بله زيد» و «رويد زيد» بالخفض كانا مصدرين والفتحة فيهما فتحة إعراب ، وإذا قلت «بله زيدا» و «رويد زيدا» كانا اسمي فعلين ، ومعلوم أن الفتحة فيهما حينئذ فتحة بناء لعدم التنوين.

ومنها : أن معمولها لا يتقدم عليها ؛ لا تقول «زيدا عليك» وخالف في ذلك الكسائي ، تمسكا بظاهر قوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء ، ٢٤] وقول الراجز :

٢١٧ ـ * يا أيّها المائح دلوي دونكا*

______________________________________________________

٢١٧ ـ هذا بيت من الرجز المشطور ، وهو من كلام راجز جاهلي من بني أسيد بن عمرو بن تميم ، ولم يعينه أحد ممن وقفنا على كلامهم ، وذكر الشيخ خالد أنه لجارية من بني مازن ، وليس بشيء ، بل الجارية أنشدته وضمت إليه شيئا ، والبيت من شواهد المؤلف في أوضحه (رقم ٤٦٢) وبعده :

* إنّي رأيت النّاس يحمدونكا*

اللّغة : «المائح» بالهمزة المنقلبة عن الياء ـ هو الرجل يكون في أسفل البئر ليستقي الماء ، فأما الذي يكون في أعلى البئر يجذف الدلو فهو ماتح ـ بالتاء المثناة من فوق ـ وهذا من فروق هذه اللغة الواسعة النطاق.

الإعراب : «يا» حرف نداء ، «أيها» أيّ : منادى مبني على الضم في محل نصب ، وها : حرف تنبيه ، «المائح» نعت لأي مرفوع بالضمة الظاهرة ، «دلوي» دلو : مفعول به لفعل محذوف يفسره اسم الفعل المذكور بعده ، أي : خذ دلوي ، ودلو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «دونكا» اسم فعل أمر بمعنى خذ ، وفيه ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت ، وهو فاعله ، وجملة اسم الفعل وفاعله مؤكدة لجملة فعل الأمر وفاعله أو مفسرة للفعل المحذوف العامل في دلوي.

الشّاهد فيه : قوله «دلوي دونكا» حيث إن ظاهره يدل على أن مفعول اسم الفعل يجوز أن يتقدم عليه ؛ إذ الظاهر أن «دلوي» مفعول مقدم لقوله «دونكا» ، وبهذا الظاهر استدل جماعة من العلماء منهم الكسائي ، ووافقه ابن مالك في كتابه التسهيل على جواز أن يعمل اسم الفعل متأخرا في مفعول متقدم عليه ، ولكن هذا الظاهر غير مراد ، بل الاسم المنصوب المتقدم ليس معمولا لاسم

٤١٧

ومنها : أن المضارع لا ينصب في جواب الطّلبيّ منه ؛ لا تقول : «صه فأحدّثك» بالنصب (١) ، خلافا للكسائي أيضا ، نعم يجزم في جوابه ، كقوله :

______________________________________________________

الفعل المتأخر ، بل ولا هو معمول لاسم فعل آخر محذوف ، يفسره المذكور ويقع في التقدير قبل المعمول ؛ لأن اسم الفعل لا يعمل وهو محذوف أيضا ، ولكن هذا الاسم المنصوب معمول لفعل محذوف من معنى اسم الفعل كما قدرنا في الإعراب.

ومن العلماء من قال : إن «دلوي» مبتدأ ، و «دونك» اسم فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه

__________________

(١) اعلم أن بين الفعل واسم الفعل وجوها من الاتفاق ووجوها من الافتراق ، ونحن نذكر لك أهم الوجوه التي يتفقان فيها ، وأهم الوجوه التي يختلفان فيها ؛ فنقول :

يتفق اسم الفعل والفعل في ثلاثة وجوه :

الأول : دلالتهما جميعا على المعنى الواحد.

والثاني : أن كل اسم فعل يوافق الفعل الذي بمعناه في التعدي واللزوم غالبا ، ومن غير الغالب نحو «آمين» فإنه لم يحفظ عن العرب تعديه لمفعول ، مع أن الفعل الذي بمعناه ـ وهو استجب ـ يتعدى إلى مفعول به ، وكذا «إيه» فإنه لازم مع أن الفعل الذي بمعناه ـ وهو زد ـ متعد.

والثالث : أن كل اسم فعل يوافق الفعل الذي بمعناه في إظهار فاعله وإضماره.

ويفارق الفعل اسم الفعل في سبعة أمور :

الأول : أن الأفعال تبرز معها الضمائر ؛ فتقول : اسكت واسكتوا واسكتي ، واسم الفعل لا يبرز معه ضمير أصلا ؛ فتقول : صه بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث.

والثاني : أن مفعول الفعل يتقدم عليه ويتأخر عنه ؛ فتقول : خذ كتابك ، وتقول : كتابك خذ ، واسم الفعل لا يكون معموله إلا متأخرا عنه ، على الأرجح ؛ فتقول : دونك الكتاب ، ولا تقول : الكتاب دونك ، على أن يكون الكتاب مفعولا مقدما لدونك ، وقد ذكر المؤلف هذا الوجه.

والثالث : أن الفعل يعمل مذكورا أو محذوفا ، بل قد يجب حذفه وهو عامل في مذكور ؛ فتقول : لقيت محمدا ، وتقول : إذا محمدا لقيته فأكرمه ، وأما اسم الفعل فلا يعمل إلا مذكورا.

والرابع : أن الأفعال تتصرف ، وتختلف أبنيتها لاختلاف الزمان ؛ فتقول : سكت ويسكت واسكت ، وأما أسماء الأفعال فلا تتصرف ولا تختلف أبنيتها لاختلاف الزمان.

والخامس : أنه يجوز توكيد الفعل باسم الفعل ؛ فتقول : اسكت صه ، وانزل نزال ، ولا يجوز أن نؤكد اسم الفعل بالفعل ؛ فلا تقول : نزال انزل ، ولا صه اسكت.

والسادس : أن الفعل ينصب في جوابه إذا دل على الطلب ؛ فتقول : انزل فأكرمك ، ولا ينتصب المضارع في جواب اسم الفعل ولو دل على الطلب ، فلا تقول : نزال فنكرمك وقد ذكر المؤلف هذا الوجه.

والسابع : أن من النحاة من ذهب إلى أن الفعل أصل الاشتقاق ، وهم الكوفيون ولم يذهب أحد إلى أن اسم الفعل أصل الاشتقاق أصلا.

٤١٨

١٧٤ ـ * مكانك تحمدي أو تستريحي (١) *

ومنها : أن ما نوّن منها نكرة ، وما لم ينون معرفة ؛ فإذا قلت : «صه» فمعناه اسكت سكوتا تاما ، وإذا قلت : «صه» فمعناه اسكت السكوت المعين (٢).

ثم قلت : السّابع والثّامن الظّرف والمجرور المعتمدان ، وعملهما عمل استقرّ.

وأقول : إذا اعتمد الظرف والمجرور على ما ذكرت في باب اسم الفاعل ـ وهو النفي ، والاستفهام ، والاسم المخبر عنه ، والاسم الموصوف ، والاسم الموصول ـ عملا عمل فعل الاستقرار ، فرفعا الفاعل المضمر أو الظاهر ، تقول : «ما عندك مال» و «ما في الدّار زيد» والأصل : ما استقر عندك مال ، وما استقرّ في الدار زيد ، فحذف الفعل ، وأنيب الظرف والمجرور عنه ، وصار العمل لهما عند المحققين ، وقيل : إنما العمل للمحذوف ، واختاره ابن مالك ، ويجوز لك أن تجعلهما خبرا مقدما وما بعدهما مبتدأ مؤخرا ، والأول أولى ؛ لسلامته من مجاز التقديم والتأخير وهكذا العمل في بقية ما يعتمدان عليه نحو : (أَفِي اللهِ شَكٌ) [إبراهيم ، ١٠] ، وقولك : «زيد عندك أبوه» و «جاء الذي في الدار أخوه» ، و «مررت برجل فيه فضل».

فإن قلت : ففي أي مسألة يعتمد الوصف على الموصول حتى يحال عليه الظرف والمجرور؟

______________________________________________________

وجوبا تقديره أنت ، والجملة من اسم فعل الأمر وفاعله في محل رفع خبر المبتدأ ، والرابط ضمير محذوف منصوب المحل باسم الفعل ، وهو يعود على الدلو ، وتقدير الكلام على هذا الوجه : دلوي دونكه ، وكأنه قال : دلوي خذه ، ولا محظور في وقوع الخبر عن المبتدأ جملة طلبية ؛ لأن الراجح عند العلماء جوازه ، خلافا لابن الأنباري.

__________________

(١) قد سبق ذكر هذا الشاهد مع شيء من الشعر الوارد ضمنه ، وشرحناه شرحا لا يحتمل معه إعادة شيء منه ههنا ، فارجع إلى ذلك في (ص ٣٦٠) من هذا الكتاب ؛ والله يرشدك.

(٢) أسماء الأفعال على ثلاثة أنواع :

النوع الأول : ما هو واجب التنكير ، وذلك نحو ويها وواها.

والنوع الثاني : ما هو واجب التعريف ، وذلك نحو نزال وتراك وبابهما.

والنوع الثالث : ما هو جائز التنكير والتعريف ، وذلك نحو صه وإيه وأف ومه.

فما نون منها وجوبا أو جوازا فهو نكرة ، وما لم ينون منها وجوبا أو جوازا فهو معرفة.

٤١٩

قلت : إذا وقع بعد أل ؛ فإنها موصولة والوصف صلة ، ولهذا حسن عطف الفعل عليه في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ) [الحديد ، ١٨].

ثم قلت : التّاسع اسم المصدر ، والمراد به اسم الجنس المنقول عن موضوعه إلى إفادة الحدث ، كالكلام والثّواب ، وإنما يعمله الكوفيّ والبغداديّ ، وأمّا نحو «مصابك الكافر حسن» فجائز إجماعا ؛ لأنه مصدر ، وعكسه نحو فجار وحماد.

وأقول : التاسع اسم المصدر ، وهو يطلق على ثلاثة أمور :

أحدها : ما يعمل اتفاقا ، وهو ما بدئ بميم زائدة لغير المفاعلة ، كالمضرب والمقتل ، وذلك لأنه مصدر في الحقيقة ، ويسمى المصدر الميميّ ، وإنما سمّوه أحيانا اسم مصدر تجوّزا ، ومن إعماله قول الشاعر :

٢١٨ ـ أظلوم إنّ مصابكم رجلا

أهدى السّلام تحيّة ظلم

الهمزة للنداء ، وظلوم : اسم امرأة منادى ، ومصابكم : اسم إن ، وهو مصدر

______________________________________________________

٢١٨ ـ هذا بيت من الكامل ، وقد نسب قوم ـ منهم الحريري في الدرة والمؤلف في مغني اللبيب ـ هذا الشاهد إلى العرجي ، ونسبه آخرون ـ وهو الصواب ـ إلى الحارث بن خالد المخزومي ، والبيت من شواهد المؤلف في أوضحه (رقم ٣٩٦) ومن شواهد الأشموني (رقم ٨٦٣).

اللّغة : «ظلوم» أصله مبالغة ظالمة ، وقد يكون باقيا على أصل معناه وهو الوصف ، وقد يكون منقولا إلى اسم امرأة كما اختاره المؤلف ، «مصابكم» بضم الميم أوله ـ مصدر ميمي بمعنى الإصابة.

الإعراب : «أظلوم» الهمزة للنداء ، ظلوم : منادى مبني على الضم في محل نصب ، «إن» حرف توكيد ونصب ، «مصابكم» مصاب : مصدر ميمي ، وهو اسم إن ، ومصاب مضاف وضمير المخاطبين مضاف إليه من إضافة المصدر إلى فاعله ، «رجلا» مفعول به للمصدر الميمي ، «أهدى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى رجل ، «السّلام» مفعول به ، «تحية» مفعول مطلق عامله أهدى ، ويجوز أن يكون مفعولا لأجله ، «ظلم» خبر إن ، وجملة أهدى مع فاعله ومفعوله في محل نصب صفة لرجل.

الشّاهد فيه : قوله «مصابكم رجلا» حيث أعمل المصدر الميمي ، الذي هو مصاب ، عمل الفعل ؛ فرفع به الفاعل الذي هو ضمير المخاطب ، ونصب به المفعول ، وهو قوله رجلا.

٤٢٠