شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

وذلك لأن الفاء لو كانت عاطفة لجزم ما بعدها ، ولو كانت للسببية انتصب ما بعدها ، فلما ارتفع دل على أنها للاستئناف ، وقال الله تعالى : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)(١) الفاء هنا عاطفة كما سيأتي.

الثاني : أن يكونا مسبوقين بنفي أو طلب ؛ فلا يجوز النصب في نحو : «زيد يأتينا فيحدّثنا» فأما قوله :

١٤٩ ـ سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

______________________________________________________

الاستئناف ، ينطق : فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الربع ، «وهل» الواو عاطفة ، هل : حرف استفهام ، «تخبرنك» تخبر : فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة ، والكاف ضمير المخاطب مفعول به لتخبر ، «بيداء» فاعل تخبر ، «سملق» نعت لبيداء.

الشّاهد فيه : قوله «فينطق» حيث رفع الفعل المضارع ، الذي هو ينطق ، بعد الفاء مع كون هذه الفاء مسبوقة بالاستفهام ، وذلك بسبب أن هذه الفاء ليست دالة على السببية ، وإلا لنصب الفعل بعدها ، وليست عاطفة ، وإلا لجزم الفعل بعدها ، لكونه حينئذ يكون معطوفا على مجزوم هو قوله «تسأل» وإنما هذه الفاء في هذا الموضع حرف دالّ على الاستئناف.

١٤٩ ـ هذا بيت من الوافر من كلام المغيرة بن حبناء ، وحبناء أمه ، وقد أنشده سيبويه (١ / ٤٢٣).

اللّغة : «أترك منزلي» يريد أنه يفارقه ولا يقيم فيه ، «لبني تميم» كنى بتركه منزله لهم عن كونهم لا يستحقون أن يعيش معهم أو يعاشرهم ، بسبب أنهم لا يحافظون على حرمة جارهم ولا يرعون حقوقه «أستريحا» أراد أنه يقدر هناك لنفسه السلامة من التكدير والتنغيص.

الإعراب : «سأترك» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «منزلي» منزل : مفعول به منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة ، ومنزل مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، مبني على السكون في محل جر ، «لبني» جار ومجرور متعلق بأترك ، وبني مضاف ، و «تميم» مضاف إليه ، «وألحق» الواو عاطفة ، ألحق : فعل مضارع معطوف على أترك مرفوع بالضمة الظاهرة ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «بالحجاز» جار ومجرور متعلق بألحق ، «فأستريحا» الفاء حرف دال على السببية ، أستريح : فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والألف حرف إطلاق.

__________________

(١) سورة المرسلات ، الآية : ٣٦ ، والفاء في الآية الكريمة عاطفة غير دالة على السببية ، ومن أجل عدم دلالتها على السببية ارتفع المضارع بعدها.

٣٢١

فضرورة ، وقيل ، الأصل فأستريحن ، بنون التوكيد الخفيفة ، فأبدلت في الوقف ألفا كما تقف على (لَنَسْفَعاً) [العلق ، ١٥] بالألف ، وهذا التخريج هروب من ضرورة إلى ضرورة ؛ فإن توكيد الفعل في غير الطلب والشرط والقسم ضرورة.

وقولنا «طلب» يشمل : الأمر ، والنهي ، والدعاء ، والعرض ، والتّحضيض ، والتمني ، والاستفهام ؛ فهذه سبعة مع النفي صارت ثمانية (١).

وهذه المسألة التي يعبر عنها بمسألة الأجوبة الثمانية ، ولكل منها نصيب من القول يخصه ، فلنتكلم على ذلك بما يكشف إشكاله فنقول :

أمّا النفي فنحو قولك : «ما تأتيني فأكرمك» : ولك في هذا أربعة أوجه :

أحدها : أن تقدر الفاء لمجرد عطف لفظ الفعل على لفظ ما قبلها ، فيكون شريكه في إعرابه ، فيجب هنا الرفع ؛ لأن الفعل الذي قبلها مرفوع ، والمعطوف شريك المعطوف عليه ، فكأنك قلت : ما تأتيني فما أكرمك ؛ فهو شريكه في النفي الداخل عليه ، وعلى هذا قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ* وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات ، ٣٥ و ٣٦] ، فالفاء هنا عاطفة كما ذكرنا ، والفعل الذي بعدها داخل في سلك النفي السابق ، فكأنه قيل : لا يؤذن لهم فلا يعتذرون.

الثاني : أن تقدر الفاء لمجرد السببية ، ويقدر الفعل الذي بعدها مستأنفا ، ومع

______________________________________________________

الشّاهد فيه : قوله «فأستريحا» حيث نصب الفعل المضارع ، الذي هو أستريح ، بعد فاء السببية ، مع أنها ليست مسبوقة بطلب أو نفي ، وذلك ضرورة من الضرورات التي لا تقع إلا في الشعر على سبيل الندرة.

وقد زعم بعض العلماء أن قوله «أستريحا» فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المنقلبة ألفا لأجل الوقف ، وقد ذكر المؤلف هذا التخريج وأنكره وذكر علة إنكاره ، فتدبر ذلك والله يرشدك.

وذكر الأعلم أنه يروى «لأستريحا» بلام التعليل ، ولا ضرورة فيه حينئذ.

__________________

(١) قد جمع بعضهم هذه الثمانية في بيت من الشعر ، فقال :

مر ، وادع ، وانه ، وسل ، واعرض ، لحضهم

تمن ، وارج ، كذاك النفي ، قد كملا

٣٢٢

استئنافه يقدر مبنيّا على مبتدأ محذوف ؛ فيجب الرفع أيضا ؛ لخلوّ الفعل عن الناصب والجازم ؛ فتقول : «ما تأتيني فأكرمك» بمعنى فأنا أكرمك لكونك لم تأتني ، وذلك إذا كنت كارها لإتيانه ، ويوضّح هذا أنك تقول : «ما زيد قاسيا فيعطف على عبده» أي : فهو لانتفاء القسوة عنه يعطف على عبده.

والفرق بين هذا الوجه والذي قبله واضح ؛ لأن الوجه الأول شمل النفي فيه ما قبل الفاء وما بعدها ، وهذا الوجه انصبّ النفي فيه إلى ما قبل الفاء خاصة دون ما بعدها ، وذلك لأنك لم تجعل الفاء لعطف الفعل الذي بعدها على المنفي الذي قبله فيكون شريكه في النفي ، وإنما أخلصتها للسببية.

ويذكر النحويون هذين الوجهين في قولك «ما تأتينا فتحدثنا» وهذا سهو ؛ إذ يستحيل أن ينتفي الإتيان ويوجد الحديث ، والصواب ما مثلت لك به.

الثالث : أن تقدر الفاء عاطفة لعطف مصدر (١) الفعل الذي بعدها على المصدر المؤول مما قبلها ، وتقدر النفي منصبّا على المعطوف دون المعطوف عليه ؛ فيجب حينئذ النصب بأن مضمرة وجوبا ، والتقدير : ما يكون منك إتيان فإكرام مني ، أي : ما يكون منك إتيان فيعقبه مني إكرام ، بل يكون منك إتيان ولا يكون مني إكرام.

الرابع : أن تقدر أيضا الفاء لعطف مصدر الفعل الذي بعدها على المصدر المؤول مما قبلها ، ولكن تقدر النفي منصبّا على المعطوف عليه ، فينتفي المعطوف لأنه مسبّب عنه ، وقد انتفى ، ويكون معنى الكلام : ما يكون منك إتيان فكيف يكون مني إكرام؟

وهذان الوجهان سائغان في «ما تأتينا فتحدثنا» إذ يصح أن يقال : ما تأتينا محدّثا بل تأتينا غير محدث ، وأن يقال : ما تأتينا فكيف تحدثنا؟

وتلخص أن لنا في الرفع وجهين ، وفي النصب وجهين.

فإن قلت : هل يجوز أن يقرأ : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات ، ٣٦] بالنصب على أحد الوجهين المذكورين للنصب؟

__________________

(١) في هذه العبارة نوع قلق ، ولو قال : «عاطفة لمصدر الفعل الذي بعدها» كما قال في الوجه الرابع لكان ذلك خيرا مما قاله هنا.

٣٢٣

قلت : نعم يجوز على الوجه الثاني ، وهو ما تأتينا فكيف تحدثنا ، أي : لا يؤذن لهم بالاعتذار فكيف يعتذرون؟ ويمتنع على الوجه الأول ـ وهو ما تأتينا محدثا بل تأتينا غير محدث ـ ألا ترى أن المعنى حينئذ لا يؤذن لهم في حالة اعتذارهم ، بل يؤذن لهم في غير حالة اعتذارهم ، وليس هذا المعنى مرادا.

فإن قلت : فإذا كان النصب في الآية جائزا على الوجه الذي ذكرته ، فما باله لم يقرأ به أحد من القرّاء المشهورين؟

قلت : لوجهين ؛ أحدهما : أن القراءة سنّة متّبعة ، وليس كل ما تجوّزه العربية تجوز القراءة به ، والثاني : أن الرفع هنا بثبوت النون فيحصل بذلك تناسب رؤوس الآي ، والنصب بحذفها فيزول [معه] التناسب.

ومن مجيء النصب بعد النفي قول الله عزوجل : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [فاطر ، ٣٦] والنصب هنا على معنى قولك : ما تأتينا فكيف تحدثنا ، لا على معنى قولك : ما تأتينا محدثا بل غير محدث.

ولو قلت «ما تأتينا إلا فتحدثنا» أو «ما تزال تأتينا فتحدثنا» وجب الرفع ، وذلك لأن النفي في المثال الأول قد انتقض بإلّا ، وفي المثال الثاني هو داخل على زال وزال للنفي ، ونفي النفي إيجاب.

وأما الأمر فكقوله :

١٥٠ ـ يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا

وشرطه أمران ؛ أحدهما : أن يكون بصيغة الطلب ؛ فلو قلت «حسبك حديث فينام الناس» ـ بالنصب ـ لم يجز ، خلافا للكسائي ، والثاني : أن لا يكون بلفظ اسم

______________________________________________________

١٥٠ ـ هذا بيت من الرجز ، أو بيتان من مشطوره ، لأبي النجم العجلي ، واسمه الفضل بن قدامة ، وهو من شواهد سيبويه (ج ١ ص ٤٢١) وقد أنشده المؤلف في أوضح المسالك (رقم ٥٠٠) وفي القطر (رقم ١٨) وأنشده أيضا الأشموني في باب إعراب الفعل ، وابن عقيل (رقم ٣٣٤).

اللّغة : «ناق» مرخم ناقة ، «عنقا» بفتح العين والنون جميعا ـ ضرب من السير السريع ، «فسيحا» واسع الخطى ، «سليمان» هو سليمان بن عبد الملك بن مروان ، «فنستريحا» نلقي عنا تعب السفر.

٣٢٤

الفعل ؛ فلا يجوز أن تقول : «صه فنكرمك» بالنصب ، هذا قول الجمهور ، وخالفهم الكسائي ؛ فأجاز النصب مطلقا ، وفصّل ابن جني وابن عصفور : فأجازاه إذا كان اسم الفعل من لفظ الفعل ، نحو : «نزال فنحدثك» ومنعاه إذا لم يكن من لفظه ، نحو «صه فنكرمك» وما أحرى هذا القول بأن يكون صوابا.

وأما النّهي فكقولك : «لا تفعل شرّا فأعاقبك» وقول الله تعالى : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه ، ٦١] (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) [طه ، ٨١] ولو نقضت النهي بإلّا قبل الفاء لم تنصب ، نحو «لا تضرب إلّا عمرا فيغضب» فيجب في «يغضب» الرفع.

وأما الدعاء فكقولك : «اللهمّ تب عليّ فأتوب» وقول الله تعالى : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس ، ٨٨] ، وقول الشاعر :

١٥١ ـ ربّ وفّقني فلا أعدل عن

سنن السّاعين في خير سنن

وشرطه : أن يكون بالفعل ؛ فلو قلت «سقيا لك فيرويك الله» لم يجز النصب.

______________________________________________________

المعنى : يأمر ناقته أن تسرع السير به حتى يصل إلى ممدوحه ؛ ليعطيه العطاء الجزيل الذي يرتاح بعده عن عناء الأسفار لتحصيل المال.

الإعراب : «يا» حرف نداء ، «ناق» منادى مرخم مبني على الضم في محل نصب ، «سيري» فعل أمر ، وياء المخاطبة فاعله «عنقا» مفعول مطلق مبين للنوع ، وأصله صفة لموصوف محذوف ، وتقدير الكلام : سيري سيرا عنقا ، «فسيحا» صفة لقوله عنقا ، «إلى سليمان» جار ومجرور متعلق بسيري ، «فنستريحا» الفاء فاء السببية ، ونستريحا : فعل مضارع منصوب بأن المضمرة وجوبا بعد فاء السببية ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن ، والألف للإطلاق.

الشّاهد فيه : قوله «فنستريحا» حيث نصب الفعل المضارع ، الذي هو نستريح ، بأن مضمرة وجوبا بعد فاء السببية الواقعة في جواب الأمر المدلول عليه بقوله سيري.

١٥١ ـ هذا بيت من الرمل ، وهو من الأبيات التي لا يعلم قائلها ، وقد أنشده ابن عقيل (رقم ٣٢١) والأشموني في باب إعراب الفعل ، والمؤلف في شرح قطر الندى (رقم ١٩).

٣٢٥

وأما الاستفهام فشرطه : أن لا يكون بأداة تليها جملة اسمية خبرها جامد ؛ فلا يجوز النصب في نحو «هل أخوك زيد فأكرمه».

ولا فرق بين الاستفهام بالحرف نحو : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) [الأعراف ، ٥٣]. والاستفهام بالاسم نحو : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ) [البقرة ، ٢٤٥] يقرأ برفع (يضاعف) ونصبه ، وفي الحديث حكاية عن الله تعالى «من يدعوني فأستجيب له ، ومن يستغفرني فأغفر له» والاستفهام بالظرف نحو «أين بيتك فأزورك؟» و «متى تسير فأرافقك؟» و «كيف تكون فأصحبك؟».

فإن قلت : فما بال الفعل لم ينصب في جواب الاستفهام في قول الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج ، ٦٣].

قلت : لوجهين ؛ أحدهما : أن الاستفهام هنا معناه الإثبات ، والمعنى قد رأيت أن الله أنزل من السماء ماء ، والثاني : أن إصباح الأرض مخضرّة لا يتسبّب عما دخل عليه الاستفهام ، وهو رؤية المطر ، وإنما يتسبب ذلك عن نزول المطر نفسه ؛ فلو كانت العبارة أنزل الله من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ثم دخل الاستفهام صحّ النصب.

فإن قلت : يردّ هذا الوجه قوله تعالى : (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) [المائدة ، ٣١] فإن مواراة السوأة لا يتسبب عما دخل عليه حرف الاستفهام ، لأن العجز عن الشيء لا يكون سببا في حصوله.

قلت : ليس (أوارى) منصوبا في جواب الاستفهام ، وإنما هو منصوب بالعطف على الفعل المنصوب ، وهو (أكون).

______________________________________________________

اللّغة : «وفقني» أراد اهدني وأرشدني ، «أعدل» أميل ، «سنن» بفتح السين والنون جميعا ـ هو الطريق ، «الساعين» جمع ساع ، وهو السائر.

الإعراب : «رب» منادى بحرف نداء محذوف ، والأصل يا ربي ، فحذف ياء المتكلم اكتفاء بالكسرة التي قبلها «وفقني» وفق : فعل دعاء ، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به ، «فلا» الفاء فاء السببية ، ولا : نافية ، «أعدل» فعل مضارع منصوب بأن المضمرة وجوبا بعد فاء السببية ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «عن

٣٢٦

فإن قلت : فقد جعله الزّمخشري منصوبا في جواب الاستفهام!

قلت : هو غالط في ذلك.

وأما العرض فكقول بعض العرب «ألا تقع [في] الماء فتسبح» وكقولك : ألا تأتينا فتحدّثنا» وقول الشاعر :

١٥٢ ـ يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما

قد حدّثوك فما راء كمن سمعا

وأما التحضيض فكقولك : «هلّا اتّقيت الله تعالى فيغفر لك» و «هلّا أسلمت فتدخل الجنّة».

وهو والعرض متقاربان ، يجمعهما التنبيه على الفعل ، إلا أن في التحضيض زيادة توكيد وحث (١).

وأما قوله تعالى : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) [المنافقون ، ١٠] فمن باب النصب في جواب الدعاء ، ولكن استعيرت فيه عبارة التحضيض أو العرض للدعاء.

______________________________________________________

سنن» جار ومجرور متعلق بأعدل ، وسنن مضاف و «الساعين» مضاف إليه ، «في خير» جار ومجرور متعلق بالساعين ، وخير مضاف و «سنن» مضاف إليه ، مجرور بالكسرة الظاهرة وسكنه لأجل الوقف.

الشّاهد فيه : قوله «فلا أعدل» حيث نصب الفعل المضارع الذي هو قوله «أعدل» بأن المضمرة وجوبا بعد فاء السببية الواقعة في جواب فعل الدعاء الذي هو قوله وفق.

ومنه يتبين لك أيضا أن الفصل بلا النافية بين الفاء والفعل لا يمنع من عمل النصب.

١٥٢ ـ هذا بيت من البسيط ، وهذا الشاهد مما لم أقف على نسبته إلى قائل معين ، وقد أنشده الأشموني في باب إعراب الفعل ، والمؤلف في القطر (رقم ٢١) وابن عقيل (رقم ٣٢٦).

اللّغة : «الكرام» جمع كريم ، ويراد به الجواد ، كما يراد به الأصيل ، «تدنو» تقرب ، وأراد به هنا النزول عليهم ، «راء» اسم فاعل فعله رأى بمعنى أبصر.

__________________

(١) اعلم أن بين العرض والتحضيض اجتماعا وافتراقا : فهما يجتمعان في أن كل واحد منهما طلب ، على معنى أن المتكلم طالب من المخاطب أن يحدث الفعل الذي بعد أداة العرض والتحضيض ، وهما يختلفان في أن العرض طلب مع رفق ولين ، والتحضيض طلب مع حث وإزعاج ، ولكل منهما مواضع تليق به.

٣٢٧

وأما التّمنّي فكقوله تعالى : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) [النساء ، ٧٣] ، وقول الشاعر :

١٥٣ ـ * ألا رسول لنا منها فيخبرنا*

فهذه أمثلة النصب بعد فاء السببية في هذه المواضع الثمانية.

______________________________________________________

المعنى : يقول لمخاطبه : لقد حدثك الناس عنا ، وزعموا لك أنا قوم نكرم الضيف ، وننزله خير منزل ، فأنا أعرض عليك أن تزورنا وتلم بدارنا لتعرف حقيقة ما سمعته من أفواه المتحدثين عنا ، ولتكون عارفا بحالنا معرفة أكيدة ؛ فإن المعرفة عن طريق السماع ليست كالمعرفة عن طريق المعاينة والمشاهدة.

الإعراب : «يا» حرف نداء «ابن» منادى منصوب بالفتحة الظاهرة ، وابن مضاف و «الكرام» ، مضاف إليه ، «ألا» أداة عرض ، حرف مبني على السكون لا محل له من الإعراب ، «تدنو» فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الواو منع من ظهورها الثقل ، «فتبصر» الفاء فاء السببية ، تبصر : فعل مضارع منصوب بأن المضمرة وجوبا بعد فاء السببية ، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة ، وفاعل كل من تدنو وتبصر ضمير مستتر في كل منهما وجوبا تقديره أنت ، «ما» اسم موصول بمعنى الذي : مفعول به لتبصر ، مبني على السكون في محل نصب ، «قد» حرف تحقيق ، «حدثوك» حدث : فعل ماض ، وواو الجماعة فاعله ، وضمير المخاطب مفعول به أول ، ولهذا الفعل مفعول ثان محذوف هو رابط الصلة بالموصول ، والتقدير : فتبصر الذي حدثوكه ، والجملة لا محل لها من الإعراب صلة الموصول ، «فما» الفاء حرف دالّ على التعليل ، وما : نافية ، «راء» مبتدأ ، «كمن» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، «سمعا» فعل ماض ، والألف للإطلاق ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من المجرورة محلا بالكاف ، والجملة لا محل لها من الإعراب صلة من المجرورة محلّا بالكاف.

الشّاهد فيه : قوله «فتبصر» حيث نصب الفعل المضارع ، الذي هو قوله تبصر ، بأن المضمرة وجوبا بعد فاء السببية في جواب العرض المدلول عليه بقوله «ألا ...».

١٥٣ ـ هذا صدر بيت من البسيط لأمية بن أبي الصلت ، وعجزه قوله :

* ما بعد غايتنا من رأس مجرانا*

وهو من شواهد سيبويه (ج ١ ص ٤٢٠).

اللّغة : «ألا رسول لنا منها» رواية سيبويه والأعلم «ألا رسول لنا منا» وكلتا الروايتين صحيحة المعنى ، وضمير المؤنثة في «منها» على هذه الرواية يعود إلى المقابر ، مثلا «غايتنا» أصل الغاية في

٣٢٨

وأما النصب بعد واو المعية في المواضع المذكورة فسمع في خمسة ، وقاسه النحويون في ثلاثة.

فالخمسة المسموع فيها أحدها النفي ، كقوله تعالى : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران ، ١٤٢] ، والمعنى والله أعلم : إنكم تجاهدون ولا تصبرون وتطمعون أن تدخلوا الجنة ، وإنما ينبغي لكم الطمع في ذلك إذا اجتمع مع جهادكم الصبر على ما يصيبكم [فيه] فيعلم الله حينئذ ذلك واقعا منكم ، والواو من قوله تعالى : (ولما) واو الحال ، والتقدير : بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة وحالكم هذه الحالة.

والثاني : الأمر ، كقوله :

______________________________________________________

سباق الخيل : الأمد الذي جعل مسافة للتسابق ، «رأس مجرانا» أول ومبتدأ إجرائنا الخيول ، والمجرى ـ بضم الميم وسكون الجيم ـ مصدر ميمي بمعنى الإجراء ، وتقول : أجرى الفارس فرسه إجراء ، وقد ضرب الغاية والمجرى مثلا.

المعنى : يقول : إن الإنسان إذا مات لم يعرف مدة إقامته في القبر إلى أن يبعث ، فتمنى أن يجيئه رسول من الأموات يخبره بحقيقة ذلك.

الإعراب : «ألا» كلمة أصلها مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية للجنس ، وصار معناها التمني ، وبقي للا بعد ذلك التركيب ما كان لها قبله ، وهو الإعمال ، «رسول» اسم ألا مبني على الفتح في محل نصب ، «لنا منها» جاران ومجروران يتعلقان بمحذوف خبر ألا ، ويجوز تعليق الأول بمحذوف صفة لرسول ، والثاني بمحذوف خبر ألا ، «فيخبرنا» الفاء فاء السببية ، يخبر : فعل مضارع منصوب بأن المضمرة وجوبا بعد فاء السببية ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى رسول ، وضمير المتكلم عن نفسه وغيره مفعول به ليخبر ، «ما» اسم استفهام مبتدأ ، مبني على السكون في محل رفع ، «بعد» خبر المبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة ، وبعد مضاف ، وغاية من «غايتنا» مضاف إليه ، وغاية مضاف وضمير المتكلم ومعه غيره مضاف إليه ، «من رأس» جار ومجرور متعلق ببعد ، ورأس مضاف ، ومجرى من «مجرانا» مضاف إليه ، ومجرى مضاف والضمير مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «فيخبرنا» حيث نصب الفعل المضارع الذي هو يخبر ، بأن مضمرة وجوبا بعد فاء السببية الواقعة في جواب التمني المدلول عليه بقوله «ألا ..».

٣٢٩

١٥٤ ـ فقلت : ادعي وأدعو ؛ إنّ أندى

لصوت أن ينادي داعيان

والثالث : النّهى ، كقول الشاعر (١) :

١١٤ ـ يا أيّها الرّجل المعلّم غيره

هلّا لنفسك كان ذا التّعليم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يسمع ما تقول ويشتفى

بالقول منك وينفع التّعليم

______________________________________________________

١٥٤ ـ هذا بيت من الوافر ، وقد اختلف العلماء في نسبة هذا البيت ؛ فنسبه سيبويه (ج ١ ص ٤٢٦) إلى الأعشى ، وبحثت ديوانه فوجدته في زيادات الديوان ، ولم يروه أبو العباس ثعلب فيما رواه من شعر الأعشى ميمون ، ونسبه الأعلم في شرح شواهده إلى الحطيئة ، ونسبه آخرون إلى دثار بن شيبان النمري ، ونسبه قوم إلى ربيعة بن جشم ونسبه القالي إلى الفرزدق ، والبيت من شواهد ابن عقيل أيضا (رقم ٣٢٧) والمؤلف في أوضحه (رقم ٥٠١).

قال أبو رجاء غفر الله له : وقد روى أبو السعادات ابن الشجري في أثناء مختار شعر الحطيئة كلمة عدتها ثلاثة عشر بيتا ونسبها إلى دثار بن شيبان النمري ، أحد بني النمر بن قاسط يقولها في هجاء بني قريع ، والبيت الشاهد تاسع أبياتها.

وقد رواه أبو البركات الأنباري في كتابه الإنصاف (ص ٣٠٦) برواية أخرى (ادعي وأدع فإن أندى» وهي رواية ابن الشجري ، ومجازها عندهما أن «وأدع» مجزوم بلام الأمر محذوفة ، أي : ادعي ولأدع ـ إلخ.

اللّغة : «أندى» أفعل تفضيل من قولهم : ندي صوته يندى ندى ـ من باب فرح ـ إذا بعد أمده وامتد.

الإعراب : «قلت» قال : فعل ماض ، وضمير المتكلم فاعله ، «ادعي» فعل أمر ، وياء المخاطبة ، فاعله ، والجملة في محل نصب مقول القول ، «وأدعو» الواو واو المعية ، أدعو : فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعية ، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «إن» حرف توكيد ونصب ، «أندى» اسم إن ، «لصوت» جار ومجرور متعلق بأندى ، وقيل : اللام زائدة ، وأندى مضاف وصوت مضاف إليه ، «أن» حرف مصدري ونصب ، «ينادي» فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة «داعيان»

__________________

(١) قد سبق ذكر هذه الأبيات كلها في (ص ٢٦٤) وبينا ما فيها من قول ، ولا حاجة بنا إلى إعادة شيء منه ههنا ـ ومحل الشاهد هنا قوله «وتأتي» حيث نصب الفعل المضارع ـ الذي هو قوله تأتي ـ بأن المضمرة وجوبا بعد واو المعية الواقعة في جواب النهي المدلول عليه بقول «لا تنه ...».

٣٣٠

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وتقول : «لا تأكل السّمك وتشرب اللبن» فإذا أردت بالواو عطف الفعل على الفعل جزمت الثاني ، وكان شريك الأول في النهي ، وكأنك قلت : لا تفعل هذا ، ولا هذا وحينئذ فيلتقي ساكنان الباء واللام فتكسر الباء على أصل التقاء الساكنين ، وإن أردت عطف مصدر الفعل على مصدر مقدر مما قبله نصبت الفعل بأن مضمرة ، وكان النهي حينئذ عن الجمع بينهما ، وإن أردت الاستئناف رفعت الثاني.

والرابع : التمني ، كقوله تعالى : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١).

والخامس : الاستفهام ، كقوله وهو الحطيئة :

١٥٥ ـ ألم أك جاركم ويكون بيني

وبينكم المودّة والإخاء

______________________________________________________

فاعل ينادي ، وأن مع ما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر إن.

الشّاهد فيه : قوله «وأدعو» حيث نصب الفعل المضارع ، الذي هو قوله أدعو ، بأن المضمرة وجوبا بعد واو المعية الواقعة في جواب الأمر المدلول عليه بقوله «ادعي».

١٥٥ ـ هذا بيت من الوافر من كلمة للحطيئة يهجو فيها الزبرقان بن بدر وقومه ، ويمدح آل بغيض بن شماس ، وهذا البيت أنشده سيبويه (ج ١ ص ٤٢٥) والمؤلف في القطر (رقم ٢٢) والأشموني في باب إعراب الفعل ، وابن عقيل (رقم ٣٢٩).

الإعراب : «ألم» الهمزة للاستفهام التقريري ، لم : حرف نفي وجزم وقلب ، «أك» فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ، وعلامة جزمه سكون النون المحذوفة للتخفيف ، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «جاركم» جار : خبر أك منصوب بالفتحة الظاهرة ، وجار مضاف ، وضمير جماعة المخاطبين مضاف إليه ، «ويكون» الواو واو المعية ، يكون : فعل مضارع ناقص منصوب بأن المضمرة وجوبا بعد واو المعية ، «بيني» ، بين : ظرف متعلق بمحذوف خبر يكون تقدم على اسمه ، وبين مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «وبينكم» ظرف معطوف بالواو على الظرف

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٢٧ ، وقد قرأ حمزة وحفص في هذه الآية الكريمة بنصب «نكذب» ونصب «نكون» والاستشهاد لما نحن فيه يصلح بكل واحدة من الكلمتين ، خلافا لمن زعم أن الاستشهاد لا يكون إلا في (ونكون).

٣٣١

وينتصب الفعل المضارع بأن مضمرة جوازا ؛ لا وجوبا ؛ بعد أربعة أحرف ، وهي : الفاء ، وثم ، والواو ، وأو ، وذلك إذا عطفن على اسم صريح.

مثال ذلك بعد «أو» قول الله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) [الشورى ، ٥١] يقرأ في السبع برفع (يرسل) ونصبه ، وقال أبو بكر بن مجاهد المقرئ رحمه‌الله : قرئ (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي) [هود ، ٨٠] بنصب (آوي) ولا وجه له ، وردّ عليه ابن جني في محتسبه وغيره ، وقالوا : وجهها كوجه قراءة أكثر السبعة (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) بالنصب ، وذلك لتقدم الاسم الصريح ، وهو (قوّة) فكأنه قيل : لو أن لي بكم قوة أو إيواء إلى ركن شديد.

ومثال ذلك بعد الواو قول ميسون بنت بحدل :

١٥٦ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف

______________________________________________________

السابق ، وضمير المخاطبين مضاف إليه ، «المودة» اسم يكون «والإخاء» معطوف عليه.

الشّاهد فيه : قوله «ويكون» حيث نصب الفعل المضارع ، الذي هو قوله يكون ، بأن المضمرة وجوبا بعد واو المعية الواقعة في جواب الاستفهام.

واعلم أن ههنا ثلاثة أشياء ، الأول : أن الرواة متفقون على رواية هذا البيت بنصب «ويكون» والثاني : أن العلماء يختلفون في جواز نصب الفعل المضارع بعد فاء السببية وواو المعية في جواب الاستفهام التقريري ، فمنهم من قال : نصب المضارع في جواب الاستفهام خاص بالاستفهام الحقيقي ، والثالث : أن الاستشهاد بهذا البيت إنما يتم على مذهب من يرى التسوية بين الاستفهام التقريري والاستفهام الحقيقي ، فأما على رأي من قال : ينتصب المضارع بعد الفاء أو الواو في جواب الاستفهام الحقيقي ـ فلا يكون في هذا البيت شاهد لما نحن فيه ، ويكون انتصاب «يكون» بعد الواو في جواب النفي ، وهو شاهد غير الذي أنشد الشارح البيت من أجله.

والخلاصة أن «يكون» في هذا البيت منصوب بأن مضمرة بعد واو المعية البتة ، غاية ما في الباب أنه في جواب الاستفهام عند قوم ، وفي جواب النفي عند قوم آخرين ، ومن هنا تعرف السر في اتفاق الرواة على النصب.

١٥٦ ـ هذا بيت من الوافر لامرأة اسمها ميسون بنت بحدل ، وكانت امرأة من أهل البادية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان ونقلها إلى الحاضرة فكانت تكثر من الحنين إلى أهلها ، ويشتد بها

٣٣٢

الرواية فيه بنصب «تقرّ» وذلك بأن مضمرة ، على أنه معطوف على اللبس ، فكأنه قال : للبس [عباءة] وقرة عيني.

ومثال ذلك بعد الفاء قوله :

١٥٧ ـ لو لا توقّع معترّ فأرضيه

ما كنت أوثر إترابا على ترب

______________________________________________________

الوجد إلى حالتها الأولى ، البيت من شواهد سيبويه (ج ١ ص ٤٢٦) ولم ينسبه ولا نسبه الأعلم في شرح شواهده ، وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ٥٠٤) وفي القطر (رقم ١٥) والأشموني في باب إعراب الفعل ، وابن عقيل (رقم ٣٣٠).

الإعراب : «للبس» اللام لام الابتداء ، لبس : مبتدأ ، ولبس مضاف و «عباءة» مضاف إليه ، «وتقرّ» الواو عاطفة ، تقر : فعل مضارع منصوب بأن المضمرة جوازا بعد واو العطف ، «عيني» عين : فاعل تقر ، وياء المتكلم مضاف إليه ، «أحب» خبر المبتدأ ، «إلى» جار ومجرور متعلق بأحب ، «من لبس» جار ومجرور متعلق بأحب أيضا ، ولبس مضاف و «الشفوف» مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «وتقر» حيث نصب الفعل المضارع ـ وهو قوله «تقر» بأن المضمرة جوازا بعد واو عاطفة على اسم خالص من التقدير بالفعل ، وهو قوله لبس ، وهذا الإضمار جائز لا واجب ، يعني أنه يجوز لك أن تقول : ولبس العباءة وأن تقر عيني ، وإذا كان الاسم السابق مقدرا بالفعل لم يجز نصب المضارع بعد الواو ، والاسم الذي يقدر بالفعل هو الوصف الصريح المقترن بأل ، نحو «الحاضر فيحصل لي السرور أخي» فإن قولك الحاضر في تقدير قولك : الذي يحضر ؛ فلا يجوز نصب المضارع الذي بعده ، وهو يحصل.

ومن مجموع ما ذكرناه وذكره المؤلف تعلم أن السابق على الواو أو الفاء إما أن يكون اسما صريحا ، وإما أن يكون اسما غير صريح ، بل هو فعل في تأويل الاسم ؛ نحو قولك ما تأتينا فتحدثنا ، فإن هذا الكلام في تأويل قولك : ما يكون منك إتيان فحديث ، فإن كان اسما صريحا : فإما أن يكون خالصا من التقدير بالفعل ـ وهو المصدر ـ وإما أن يكون مقدرا بالفعل ـ وهو الوصف المقرون بأل ـ فإن كان الاسم السابق غير صريح فإضمار أن المصدرية بعده واجب ، ولا بد حينئذ من تقدم نفي أو طلب ، وإن كان الاسم السابق صريحا وكان مع ذلك خالصا من التقدير بالفعل فإضمار أن المصدرية بعده جائز ، وإن كان الاسم السابق صريحا وكان مع ذلك مقدرا بالفعل فإضمار أن المصدرية بعده ممتنع.

١٥٧ ـ هذا بيت من البسيط ، وهو من الشواهد التي لم أقف لها على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ٥٠٥) والأشموني في باب إعراب الفعل ، وابن عقيل (رقم ٣٣٢).

٣٣٣

ومثال ذلك بعد ثم قول الشاعر :

١٥٨ ـ إنّي وقتلي سليكا ثمّ أعقله

كالثّور يضرب لمّا عافت البقر

وكانت العرب إذا رأت البقرة قد عافت ورود الماء تعمد إلى الثور فتضربه فترد

______________________________________________________

اللّغة : «توقع» ارتقاب وانتظار ، «معتر» هو الفقير الذي يتعرض للمعروف ، «أوثر» أفضل وأرجح ، «إترابا» مصدر أترب الرجل إذا استغنى «ترب» بفتحتين ـ وهو الفقر والحاجة ، وهو مصدر ترب الرجل ـ من باب فرح ـ إذا افتقر.

الإعراب : «لو لا» حرف يقتضي امتناع جوابه لوجود شرطه ، «توقع» مبتدأ ، وخبره محذوف وجوبا ، وتقديره موجود ، وتوقع مضاف ، و «معتر» مضاف إليه ، «فأرضيه» الفاء عاطفة أرضي :

فعل مضارع منصوب بأن المضمرة جوازا بعد الفاء ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، وضمير الغائب مفعول به ، «ما» نافية ، «كنت» كان : فعل ماض ناقص ، وضمير المتكلم اسمه ، «أوثر» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، وجملة الفعل وفاعله في محل نصب خبر كان ، وجملة كان واسمه وخبره لا محل لها من الإعراب جواب لو لا ، «إترابا» مفعول به لأوثر ، «على ترب» جار ومجرور متعلق بأوثر.

الشّاهد فيه : قوله «فأرضيه» حيث نصب الفعل المضارع ، الذي هو قوله «أرضي» بأن المضمرة جوازا بعد الفاء العاطفة لأنها مسبوقة باسم خالص من التقدير بالفعل وهو قوله توقع الذي هو مصدر ، وهذا الإضمار جائز ولا واجب ، وقد بينا ذلك بإيضاح في شرح الشاهد السابق.

١٥٨ ـ هذا بيت من البسيط من كلام أنس بن مدركة الخثعمي ، وهو من شواهد المؤلف في أوضحه (رقم ٥٠٧) والأشموني في باب إعراب الفعل وابن عقيل رقم (٣٣١) وانظره في أبيات أخرى في معناه في كتاب الحيوان للجاحظ (١ ـ ١٨).

اللّغة : «سليكا» هو بضم السين وفتح اللام ، وهو سليك بن السلكة ـ بزنة همزة ـ وهو أحد ذؤبان العرب وشذاذهم ، وكا من حديثه أنه مر ببيت من خثعم وأهله خلوف فرأى امرأة شابة بضة فنال منها ، فعلم بذلك أنس بن مدركة ، فسار خلفه فأدركه وقتله ، «أعقله» أي أؤدي ديته ، «الثور» ذكر البقر ، «عافت البقر» كرهت ، وقد ذكر المؤلف سبب هذا التعبير ، وقد ذكر الجاحظ في الموضع الذي بيناه من الحيوان جملة صالحة من كلام العرب في ذلك ، ويقال : الثور ضرب من نبات الماء تراه البقر فتعاف الورود استقذارا للماء ، فيضربه البقار لينحيه لكي ترد.

الإعراب : «إني» إن : حرف توكيد ونصب ، وياء المتكلم اسمه ، «وقتلي» الواو عاطفة ، قتل : معطوف على اسم إن ، وقتل مضاف وياء المتكلم مضاف إليه من إضافة المصدر إلى فاعله ، «سليكا» مفعول به للمصدر ، «ثم» حرف عطف ، «أعقله» أعقل : فعل مضارع منصوب بأن المضمرة جوازا

٣٣٤

البقر حينئذ الماء ، ولا تمتنع منه ؛ فرارا من الضرب أن يصيبها ، وإنما امتنعوا من ضربها لضعفها عن حمله ، بخلاف الثور.

وقولي «اسم صريح» احتراز من نحو «ما تأتينا فتحدثنا» فإن العطف فيه وإن كان على اسم متقدم ، فإنا قد قدّمنا أن التقدير ما يكون منك إتيان فحديث ، لكن ذلك الاسم ليس بصريح ؛ فإضمار أن هناك واجب لا جائز ، بخلاف مسألتنا هذه ؛ فإن إضمار أن جائز ، بل نصّ ابن مالك في شرح العمدة على أن الإظهار أحسن من الإضمار.

ثم قلت : باب ـ المجرورات ثلاثة ؛ أحدها : المجرور بالحرف ، وهو : من ، وإلى ، وعن ، وعلى ، والباء ، واللّام ، وفي ـ مطلقا ، والكاف ، وحتّى : والواو ـ للظاهر مطلقا ، والتّاء لله وربّ مضافا للكعبة أو الياء ، وكي لما الاستفهاميّة أو أن المضمرة وصلتها ، ومذ ومنذ لزمن غير مستقبل ولا مبهم ، وربّ لضمير غيبة مفرد مذكّر يميّز بمطابق للمعنى قليلا ، ولمنكّر موصوف كثيرا.

وأقول : لما أنهيت القول في المرفوعات والمنصوبات شرعت في المجرورات ، وقسّمتها إلى ثلاثة أقسام : مجرور بالحرف ، ومجرور بالإضافة ، ومجرور بمجاورة مجرور ، وبدأت بالمجرور بالحرف لأنه الأصل.

وإنما لم أذكر المجرور بالتّبعيّة كما فعل جماعة لأن التّبعية ليست عندنا هي العاملة ، وإنما العامل عامل المتبوع ، وذلك في غير البدل ، وعامل محذوف في باب البدل ، فرجع الجرّ في باب التوابع إلى الجر بالحرف والجر بالإضافة.

______________________________________________________

بعد ثم ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، وضمير الغائب العائد إلى سليك مفعول به ، «كالثور» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر إن ، «يضرب» فعل مضارع مبني للمجهول ، ونائب فاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الثور ، والجملة في محل نصب حال من الثور ، «لما» ظرف بمعنى حين مبني على السكون في محل نصب وعامله يضرب ، «عافت» عاف : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، «البقر» فاعل عاف ، والجملة من الفعل والفاعل في محل جر بإضافة لما الحينية إليها.

الشّاهد فيه : قوله «ثم أعقله» حيث نصب الفعل المضارع ، الذي هو قوله «أعقل» بأن المضمرة جوازا بعد ثم ، المسبوق باسم خالص من التقدير بالفعل ، وهو قوله «قتل» الذي هو مصدر.

٣٣٥

وقسمت الحروف الجارة إلى ستة أقسام :

أحدها : ما يجرّ الظاهر والمضمر ، وبدأت به لأنه الأصل ، وهو سبعة أحرف : من ، وإلى ، وعن ، وعلى ، والباء ، والّلام ، وفي ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب ، ٧] (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) [المائدة ، ٤٨ و ١٠٥] (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) [الأنعام ، ٦٠] (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) [الانشقاق ، ١٩] (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة ، ١١٩] (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون ، ٢٢] (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء ، ١٣٦] (آمِنُوا بِهِ) [الإسراء ، ١٠٧] (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [البقرة ، ٢٨٤] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [البقرة ، ٢٥٥] (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) [البقرة ، ١١٦] (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [الذاريات ، ٢٠] (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ)(١).

والثاني : ما لا يجرّ إلا الظاهر ، ولا يختص بظاهر معين ، وهو ثلاثة : الكاف ، وحتى ، والواو.

والثالث : ما يجرّ لفظتين بعينهما ، وهو التاء ؛ فإنها لا تجر إلا اسم الله عزوجل وربّا مضافا إلى الكعبة أو إلى الياء ، قال الله تعالى : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ) [يوسف ، ٨٥] (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) [يوسف ، ٩٣] (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء ، ٥٧] وقالت العرب «تربّ الكعبة» و «تربّي لأفعلنّ».

الرابع : ما يجر فردا خاصا من الظواهر ، ونوعا خاصا منها ، وهي كي ؛ فإنها لا تجر إلا أمرين ؛ أحدهما «ما» الاستفهامية ، وهي الفرد الخاصّ ، يقال لك «جئتك أمس» فتقول في السؤال عن علة المجيء : «لمه؟» أو «كيمه؟» فكما أن «لمه» جار ومجرور كذلك «كيمه» والأصل لما وكيما ، ولكن «ما» الاستفهامية متى دخل عليها حرف الجر حذفت ألفها وجوبا كما قال الله تعالى : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) [النازعات ، ٤٣] (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ ، ١] (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل ، ٣٥] وحسن في الوقف أن تردف بهاء السكت ، كما قرأ البزّيّ في هذه المواضع وغيرها ، الثاني «أن» المضمرة وصلتها ، وذلك هو النوع الخاصّ ، وتقول : «جئتك كي تكرمني» فإن

__________________

(١) سورة الزخرف ، الآية : ٧١ والضمير يعود إلى الجنة دار النعيم.

٣٣٦

قدرت كي تعليليّة فالنصب بأن المضمرة ، وأن مع هذا الفعل في تأويل مصدر مجرور بكي ، وكأنك قلت : جئتك للإكرام.

الخامس : ما يجر نوعا خاصا من الظواهر ، وهو منذ ومذ ؛ فإن مجرورهما لا يكون إلا اسم زمان ، ولا يكون ذلك الزمان إلا معينا ، لا مبهما ، ولا يكون [ذلك] المعين إلا ماضيا أو حاضرا ، لا مستقبلا ، تقول : «ما رأيته منذ يوم الجمعة» و «مذ يوم الجمعة» و «منذ يومنا» و «مذ يومنا» ولا تقول : «لا أراه منذ غد» و «لا مذ غد» ، وكذا لا تقول «ما رأيته منذ وقت».

السادس : ما يجر نوعا خاصّا من المضمرات ، ونوعا خاصّا من المظهرات ، وهو «ربّ» فإنها إن جرت ضميرا فلا يكون إلا ضمير غيبة مفردا مذكرا مرادا به المفرد المذكر وغيره ، ويجب تفسيره بنكرة بعده مطابقة للمعنى المراد منصوبة على التمييز ، نحو «ربّه رجلا لقيت» و «ربّه رجلين» و «ربّه رجالا» و «ربّه امرأة» و «ربّه امرأتين» و «ربّه نساء» ، وكلّ ذلك قليل ، وإن جرّت ظاهرا فلا يكون إلا نكرة موصوفة نحو «ربّ رجل صالح لقيت» وذلك كثير.

فإن قلت : قد كان من حقك أن تؤخر التاء في الذكر عن الحروف المذكورة بعدها ؛ لاختصاص التاء باسم الله تعالى وربّ الكعبة ، واختصاصهن إما بنوع أو نوعين أو فرد ونوع كما فصّلت ، وأصل حرف الجر أن لا يختص ، والمختص بنوع أقرب إلى الأصل من مختص بفرد ، وكان ينبغي أن يتقدم المختص بنوعين وهو رب ، على المختص بفرد ونوع ، وهي كي.

قلت : إنما ذكرت التاء إلى جانب الواو لأنها شريكتها في القسم ، فتأخيرها عنها قطع للنظير عن نظيره ، ولما أردت أن أذكر شيئا من أحكام ربّ اقتضى ذلك تأخيرها لئلا يقع ذكر أحكامها فاصلا بين هذه الحروف ؛ وأيضا فإنني ذكرت حكم رب في الحذف وذكرت حكم بقية الحروف في ذلك ، فلو كانت رب مقدّمة كان ذلك أيضا قطعا للنظير عن النظير بالنسبة إلى الأحكام.

ثم قلت : ويجوز حذفها معه ، فيجب بقاء عملها ، وذلك بعد الواو كثير ، والفاء وبل قليل ، وحذف اللّام قبل كي ، وخافض أن وأنّ مطلقا.

٣٣٧

وأقول : لما ذكرت أن «ربّ» تدخل على المنكّر بينت أنه يجوز حذفها معه ، وأشرت بهذا التقييد إلى أنها لا يجوز حذفها إذا دخلت على ضمير الغيبة ، ثم بينت أنها إذا حذفت وجب بقاء عملها ، وأن هذا الحكم ـ أعني حذفها وبقاء عملها ـ على نوعين : كثير ، وقليل ؛ فالكثير بعد الواو ، كقوله :

١٥٩ ـ وبلد مغبرّة أرجاؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه

وقال :

١٦٠ ـ وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

______________________________________________________

١٥٩ ـ هذا بيت من الرجز ، أو بيتان من مشطوره ، من كلام رؤبة بن العجاج ، التميمي ، البصري ، أمضغ شعراء العرب للشيح والقيصوم ، والمرويّ في ديوان أراجيزه :

* وبلد عامية أعماؤه*

الإعراب : «وبلد» الواو واو رب ، بلد : مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد ، «مغبرة» بالجر نعت لبلد باعتبار لفظه ، «أرجاؤه» أرجاء : فاعل بمغبرة ، وهو مضاف وضمير الغائب العائد إلى بلد مضاف إليه ، والبلد يجوز تذكيره وتأنيثه ، وقد ورد بهما في القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) [الأعراف ، ٥٨] ، وقال جل شأنه : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) [سبأ ، ١٥] ، «كأن» حرف تشبيه ونصب ، «لون» اسم كأن ، ولون مضاف وأرض من «أرضه» مضاف إليه ، وأرض مضاف ، وضمير الغائب العائد إلى البلد مضاف إليه ، «سماؤه» سماء : خبر كأن ، وهو مضاف والضمير مضاف إليه ، وهذا من عكس التشبيه ؛ لأن القصد تشبيه السماء ـ قد ثار الغبار عليها ـ بلون الأرض والتشبيه المقلوب مما يستملح عند علماء البلاغة إن اشتمل على نكتة.

الشّاهد فيه : قوله «وبلد» حيث حذف حرف الجر الذي هو «رب» وأبقي عمله كما ترى بعد الواو ، وذلك في العربية كثير جدا ، والشواهد عليه من كلام الموثوق بعربيتهم لا يأتي عليها الحصر ؛ فمن ذلك قول امرئ القيس بن حجر الكندي في معلقته :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

ومنها الشاهدان رقم ١٦٠ و ١٦١ الآتيان ، وقول امرئ القيس في هذه المعلقة أيضا :

وواد كجوف العير قفر قطعته

به الذّئب يعوي كالخليع المعيّل

١٦٠ ـ هذا بيت من الطويل من كلام امرئ القيس بن حجر الكندي ، من معلقته المشهورة ،

٣٣٨

وقوله :

١٦١ ـ ودويّة مثل السّماء اعتسفتها

وقد صبغ اللّيل الحصى بسواد

والقليل بعد الفاء وبل ، مثال ذلك بعد الفاء قول امرئ القيس :

١٦٢ ـ فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

فألهيتها عن ذي تمائم محول

______________________________________________________

وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ٣١٤) والأشموني (رقم ٥٧٨).

الإعراب : «وليل» الواو واو رب ، ليل : مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الشبيه بالزائد ، «كموج» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لليل ، وموج مضاف ، و «البحر» مضاف إليه ، «أرخى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الليل ، «سدوله» سدول : مفعول به لأرخى ، وسدول مضاف وضمير الغائب العائد إلى الليل مضاف إليه ، «عليّ بأنواع» جاران ومجروران يتعلق كل منهما بأرخى ، وأنواع مضاف ، و «الهموم» مضاف إليه ، «ليبتلي» اللام لام التعليل ، ويبتلي : فعل مضارع منصوب بأن المضمرة جوازا بعد اللام ، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الياء منع من ظهورها معاملة المنصوب معاملة المرفوع ، وكان حقه أن ينصبه بالفتحة الظاهرة لأن الفتحة خفيفة على الياء ، كما علمت مما سبق.

الشّاهد فيه : قوله «وليل» حيث حذف حرف الجر الذي هو «رب» وأبقى عمله ، بعد الواو ، وذلك كثير جدا كما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.

١٦١ ـ هذا بيت من الطويل من كلام ذي الرمة ، واسمه غيلان بن عقبة ، العدوي ، البصري.

الإعراب : «ودوية» الواو واو رب ، دوية : مبتدأ ، مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الشبيه بالزائد ، «مثل» صفة لدوية ، ومثل مضاف و «السماء» مضاف إليه ، «اعتسفتها» فعل ماض وفاعل ومفعول ، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ «وقد» الواو واو الحال ، قد : حرف تحقيق «صبغ» فعل ماض «الليل» فاعل صبغ «الحصى» مفعول به لصبغ «بسواد» جار ومجرور متعلق بصبغ ، والجملة في محل نصب حال.

الشّاهد فيه : قوله «ودوية» حيث حذف حرف الجر الذي هو «رب» وأبقى عمله ، بعد الواو ، وقد بينا مثله في شرح الشاهد السابق.

١٦٢ ـ هذا بيت من الطويل ، وهذا الشاهد من كلام امرئ القيس بن حجر الكندي من معلقته المشهورة ، وهو من شواهد ابن عقيل (رقم ٢١٨) والمؤلف في كتابه أوضح المسالك (رقم ٣١٣) والأشموني (رقم ٥٧٦) ، وقد رواه سيبويه «ومثلك بكرا قد طرقت وثيّبا».

٣٣٩

وفي رواية من روى بجر «مثل» و «مرضع» ، وأما من رواه بنصبهما فمثلك مفعول لطرقت ، وحبلى : بدل منه.

ومثاله بعد «بل» قوله :

١٦٣ ـ * بل بلد ملء الفجاج قتمه*

______________________________________________________

اللّغة : «طرقت» جئت ليلا ، «تمائم» جمع تميمة ، وهي التعويذة التي توضع للصبي لتمنعه العين في زعمهم ، «محول» اسم فاعل من قولهم : أحول الصبي ، إذا أتى على ولادته حول.

الإعراب : «فمثلك» الفاء حرف نائب عن رب ، مثل : يروى هذا اللفظ منصوبا ، ويروى مخفوضا وعلى الروايتين جميعا يجوز أن يكون مفعولا مقدما على عامله وهو قوله طرقت الآتي ، فإن نصبته فهو منصوب بالفتحة الظاهرة ، وإن خفضته فهو منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الشبيه بالزائد ، ومثل مضاف وضمير المخاطبة مضاف إليه ، «حبلى» بدل من مثلك أو نعت له ، «قد» حرف تحقيق ، «طرقت» فعل وفاعل ، «ومرضع» معطوف على حبلى ، ويجوز في رواية الجر وحدها أن يكون مثل مبتدأ مرفوعا بضمة مقدرة ، وجملة قد طرقت في محل رفع خبر ، والرابط محذوف ، والتقدير : قد طرقتها ، وهذا الوجه أضعف وجوه الإعراب ، لأن حذف الرابط مما اختلف النحاة في تجويزه ، «فألهيتها» الفاء حرف عطف ، وما بعده فعل وفاعل ومفعول به ، «عن ذي» جار ومجرور متعلق بألهى ، وذي مضاف و «تمائم» مضاف إليه ، مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه لا ينصرف لصيغة منتهى الجموع ، «محول» صفة لذي تمائم.

الشّاهد فيه : قوله «فمثلك» حيث حذف حرف الجر ، الذي هو رب ، وأبقى عمله ، بعد الفاء ، وهذا إنما يتم على رواية جر «مثل» سواء أجعلت «مثل» مفعولا به تقدم على عامله ـ وهو الأرجح ـ أم جعلته مبتدأ خبره الجملة التي بعده ، مع ما في هذا الوجه من الضعف على ما قدمنا بيانه.

ومن العلماء من ذكر أن «رب» لم تضمر بعد الفاء إلا في بيتين ، أحدهما هذا البيت على اختلاف في روايته كما ذكرنا لك عند الكلام على نسبته وتخريجه ، والآخر قول الشاعر :

فحور قد لهوت بهنّ عين

نواعم في المروط وفي الرّياط

١٦٣ ـ هذا بيت من الرجز المشطور ، وهو من كلام رؤبة بن العجاج ، وهو من شواهد ابن عقيل (رقم ١١٩) والأشموني (رقم ٥٧٤).

اللّغة : «الفجاج» جمع فج ، وهو الطريق الواسع ، ومنه قوله تعالى : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ،) «قتمه» أصله قتامه ، فخففه بحذف الألف ، والقتام ـ بزنة سحاب ـ الغبار ، وبعد

٣٤٠