شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

ولما أنهيت القول في المرفوعات شرعت في المنصوبات فقلت :

باب ، المنصوبات خمسة عشر : أحدها المفعول به ، وهو : ما وقع عليه فعل الفاعل ، ك «ضربت زيدا».

وأقول : المنصوبات محصورة في خمسة عشر نوعا ، وبدأت منها بالمفاعيل لأنها الأصل ، وغيرها محمول عليها ومشبّه بها ، وبدأت من المفاعيل بالمفعول به كما فعل الفارسيّ وجماعة منهم صاحبا المقرب والتسهيل ، لا بالمفعول المطلق كما فعل الزمخشريّ وابن الحاجب ، ووجه ما اخترناه أن المفعول به أحوج إلى الإعراب ؛ لأنه الذي يقع بينه وبين الفاعل الالتباس.

والمراد بالوقوع التعلّق المعنوي ، لا المباشرة ، أعني تعلقه بما لا يعقل إلا به ، ولذلك لم يكن إلا للفعل المتعدّي ، ولو لا هذا التفسير لخرج منه نحو : «أردت السّفر» لعدم المباشرة ، وخرج بقولنا «ما وقع عليه» المفعول المطلق ، فإنه نفس الفعل الواقع ، والظرف ، فإن الفعل يقع فيه ، والمفعول له ، فإن الفعل يقع لأجله ، والمفعول معه ، فإن الفعل يقع معه لا عليه.

ثم قلت : ومنه ما أضمر عامله : جوازا نحو : (قالُوا خَيْراً) ووجوبا في مواضع منها باب الاشتغال نحو : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ.)

______________________________________________________

عضدا استساغ لنفسه أن يسكن وسطها ، كما يسكن وسط عضد ، وهذا بيان كلام المؤلف فافهمه.

هذا وقد روى أبو العباس المبرد في الكامل (ج ١ ص ١٤٣) بيت الشاهد على وجه غير الوجه الذي يرويه النحاة عليه ، ولا يتحقق فيه شيء مما ذكروه ، وهذا الوجه هو :

حلّت لي الخمر وكنت امرأ

عن شربها في شغل شاغل

فاليوم أسقى غير مستحقب

إثما من الله ، ولا واغل

وربما كانت إحدى الروايتين مصنوعة ؛ إذ يحتمل أن أحد النحاة جاء برواية «أشرب غير مستحقب» ليستدل على أن من العرب من لا يلتزم حركات الإعراب المقررة حين يضطر إلى تركها لإقامة وزن ، ويحتمل أن بعض الرواة جاء برواية «أسقى غير مستحقب» ليصلح من فساد البيت ؛ ليدل على أن العرب لا يتكلمون إلا بالصحيح.

٢٤١

وأقول : الذي ينصب المفعول به واحد من أربعة : الفعل المتعدّى ، ووصفه (١) ، ومصدره ، واسم فعله ؛ فالفعل المتعدى نحو : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل ، ١٦] ووصفه نحو : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) [الطلاق ، ٣] ومصدره نحو : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) [البقرة ، ٢٥١ والحج ، ٤٠] واسم فعله نحو : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [المائدة ، ١٠٥].

وكونه مذكورا هو الأصل ، كما في هذه الأمثلة ، وقد يضمر : جوازا إذا دل عليه دليل مقاليّ أو حاليّ ؛ فالأول نحو : (قالُوا خَيْراً) [النحل ، ٣٠] أي : أنزل ربّنا خيرا ، بدليل (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) [النحل ، ٣٠] والثاني نحو : «قولك لمن تأهّب لسفر : «مكّة» بإضمار تريد ، ولمن سدّد سهما : «القرطاس» بإضمار تصيب.

وقد يضمر وجوبا في مواضع : منها باب الاشتغال ، وحقيقته : أن يتقدم اسم ، ويتأخر عنه فعل أو وصف صالح للعمل فيما قبله ، مشتغل عن العمل فيه بالعمل في ضميره أو ملابسه.

فمثال اشتغال الفعل بضمير السابق «زيدا ضربته» وقوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ) [الإسراء ، ١٣].

ومثال اشتغال الوصف «زيدا أنا ضاربه ، الآن أو غدا».

ومثال اشتغال العامل بملابس ضمير السابق «زيدا ضربت غلامه» و «زيدا أنا ضارب غلامه ، الآن أو غدا».

فالنصب في ذلك وما أشبهه بعامل مضمر وجوبا ؛ تقديره : ضربت زيدا ضربته ، وألزمنا كل إنسان ألزمناه.

وإنما كان الحذف هنا واجبا لأن العامل المؤخّر مفسّر له ، فلم يجمع بينهما (٢).

__________________

(١) المراد وصف الفعل المتعدي ، والمراد به اسم فاعل الفعل المتعدي لواحد كضارب وبالغ ، واسم مفعول الفعل المتعدي لاثنين نحو «زيد معطي عمرو درهما» وكذا المراد مصدر الفعل المتعدي ، واسم الفعل النائب عن فعل متعدّ.

(٢) لأن العامل المؤخر المفسر للمحذوف ، كالعوض من المحذوف ، وهم لا يجمعون في الكلام بين العوض والمعوض عنه على ما عرفته.

٢٤٢

هذا رأي الجمهور ، وزعم الكسائي أن نصب المتقدم بالعامل المؤخر على إلغاء العائد ، وقال الفراء : الفعل عامل في الظاهر المتقدم وفي الضمير المتأخر.

وردّ على الفراء بأن الفعل الذي يتعدى لواحد يصير متعديا لاثنين ، وعلى الكسائي بأن الشاغل قد يكون غير ضمير السابق ، ك «ضربت غلامه» ، فلا يستقيم إلغاؤه.

ثم قلت : ومنه المنادى ، وإنّما يظهر نصبه إذا كان مضافا أو شبهه أو نكرة مجهولة ، نحو : «يا عبد الله» و «يا طالعا جبلا» وقول الأعمى : «يا رجلا خذ بيدي».

وأقول : المنادى نوع من أنواع المفعول به ، وله أحكام تخصه فلهذا أفردته بالذكر ، وبيان كونه مفعولا به أن قولك «يا عبد الله» أصله يا أدعو عبد الله ، ف «يا» حرف تنبيه ، و «أدعو» فعل مضارع قصد به الإنشاء لا الإخبار ، وفاعله مستتر ، و «عبد الله» مفعول به ومضاف إليه ، ولما علموا أن الضرورة داعية إلى استعمال النداء كثيرا أوجبوا فيه حذف الفعل اكتفاء بأمرين :

أحدهما : دلالة قرينة الحال.

والثاني : الاستغناء بما جعلوه كالنائب عنه والقائم مقامه وهو «يا» وأخواتها.

وقد تبيّن بهذا أن حقّ المناديات كلها أن تكون منصوبة ؛ لأنها مفعولات ، ولكن النصب إنما يظهر إذا لم يكن المنادى مبنيّا ، وإنما يكون مبنيّا إذا أشبه الضمير بكونه مفردا معرفة ؛ فإنه حينئذ يبنى على الضمة أو نائبها ، نحو : «يا زيد» و «يا زيدان» و «يا زيدون» ، وأما المضاف والشبيه بالمضاف والنكرة غير المقصودة فإنهن يستوجبن ظهور النصب ، وقد مضى ذلك كله مشروحا ممثلا في باب البناء ، فمن أحبّ الوقوف عليه فليرجع إليه.

ثم قلت : والمنصوب بأخصّ بعد ضمير متكلّم ، ويكون بأل نحو «نحن العرب أقرى النّاس للضّيف» ومضافا نحو : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة» و «إيّا» فيلزمها ما يلزمها في النّداء ، نحو : «أنا أفعل كذا أيّها الرّجل» وعلما قليلا ؛ فنحو «بك الله نرجو الفضل» شاذّ من وجهين.

٢٤٣

والمنصوب بالزم أو باتّق : إن تكرّر أو عطف عليه ، أو كان «إيّاك» نحو «السّلاح السّلاح» و «الأخ الأخ» ونحو «السّيف والرّمح» ونحو «الأسد الأسد» أو «نفسك نفسك» ونحو (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) و «إياك من الأسد».

والمحذوف عامله ، والواقع في مثل أو شبهه (١) نحو «الكلاب على البقر» و «انته خيرا لك».

وأقول : من المفعولات التي التزم معها حذف العامل : المنصوب على الاختصاص ، وهو كلام على خلاف مقتضى الظاهر ، ، لأنه خبر بلفظ النداء.

وحقيقته : أنه اسم ظاهر معرفة قصد تخصيصه بحكم ضمير قبله.

والغالب على ذلك الضمير كونه لمتكلم ـ نحو أنا ، ونحن ـ ويقلّ كونه لغائب والباعث على هذا الاختصاص : فخر ، أو تواضع ، أو بيان.

فالأول كقول بعض الأنصار :

١٠٢ ـ لنا معشر الأنصار مجد مؤثّل

بإرضائنا خير البريّة أحمدا

______________________________________________________

١٠٢ ـ هذا بيت من الطويل ، ولم أجد من عين هذا الأنصاري قائل هذا البيت.

اللّغة : «معشر» المعشر : الجماعة ، «مؤثل» ـ بضم الميم وفتح الهمزة وتشديد الثاء المثلثة ـ هو المجد الأصيل العظيم ، وقد فسره الشارح بما له أصل ، وقال امرؤ القيس :

ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل

وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي

الإعراب : «لنا» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، «معشر» منصوب على الاختصاص بفعل محذوف ، ومعشر مضاف ، و «الأنصار» مضاف إليه ، «مجد» مبتدأ مؤخر ، «مؤثل» صفة لمجد ، «بإرضائنا» الباء حرف جر ، إرضاء : مجرور بالباء ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمجد ، وإرضاء مضاف وضمير المتكلم عن نفسه وغيره مضاف إليه ، مبني على السكون في محل جر ، وله محل رفع آخر ؛ لأنه فاعل المصدر الذي هو إرضاء ، «خير» مفعول به لإرضاء ،

__________________

(١) في بعض النسخ «والمحذوف عامله الواقع في مثل أو شبهه» بدون واو قبل «الواقع» على أن هذه العبارة يراد بها شيء واحد ، وفي بعض النسخ بالواو على أن المراد بالعبارة شيئان ؛ أحدهما : الواقع في مثل كالذي مثل به المصنف ، والآخر : المحذوف عامله وجوبا كالمصدر النائب عن فعله وكالحال المؤكدة لمضمون جملة.

٢٤٤

المؤثّل : الذي له أصل.

ومثال الثاني قوله :

١٠٣ ـ جد بعفو فإنّني أيّها العب

د إلى العفو يا إلهى فقير

ومثال الثالث :

١٠٤ ـ * إنّا بني نهشل لا ندّعي لأب*

وتعريفه ب «أل» نحو «نحن العرب أقرى النّاس للضيف» التقدير : نحن أخصّ العرب ، وتعريفه بالإضافة كقوله :

______________________________________________________

منصوب بالفتحة الظاهرة ، وخير مضاف ، و «البرية» مضاف إليه ، «أحمدا» بدل أو عطف بيان لخير البرية ، والألف للإطلاق.

الشّاهد فيه : قوله «يا معشر الأنصار» حيث نصبه على الاختصاص ليفيد به الفخر.

١٠٣ ـ هذا بيت من الخفيف ، ولم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين.

الإعراب : «جد» فعل دعاء ، مبني على السكون لا محل له من الإعراب ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «بعفو» جار ومجرور متعلق بجد ، «فإنني» الفاء حرف دال على التعليل ، إن : حرف توكيد ونصب ، وياء المتكلم اسمه مبني على السكون في محل نصب ، «أيها» أي : مفعول لفعل محذوف ، مبني على الضم في محل نصب ، وها : حرف تنبيه ، «العبد» نعت لأي بمراعاة لفظه ، مرفوع بالضمة الظاهرة ، «إلى العفو» جار ومجرور متعلق بقوله «فقير» الآتي آخر البيت ، «يا إلهي» يا : حرف نداء ، إله : منادى مضاف لياء المتكلم فهو منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة ، وإله مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، مبني على السكون في محل جر ، «فقير» خبر إن ، مرفوع بالضمة الظاهرة.

الشّاهد فيه : قوله «أيها العبد» حيث نصب «أيها» محلا على الاختصاص ؛ لقصد الدلالة على التواضع.

١٠٤ ـ هذا صدر بيت من البسيط ، وعجزه قوله :

* عنه ، ولا هو بالأبناء يشرينا*

وهذا البيت من أبيات رواها أبو تمام في أوائل ديوان الحماسة ، ونسبوها لبشامة بن حزن النهشلي ، وأول هذه الأبيات قوله :

٢٤٥

١٠٥ ـ نحن بني ضبّة أصحاب الجمل

ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل

______________________________________________________

إنّا محيّوك يا سلمى فحيّينا

وإن سقيت كرام النّاس فاسقينا

وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة

يوما سراة كرام النّاس فادعينا

ومن الناس من ينسبها لرجل من بني قيس بن ثعلبة ، من غير أن يعينه ، ويروى صدر بيت الشاهد «إنا بني مالك».

الإعراب : «إنا» إن : حرف توكيد ونصب ، وضمير المتكلم ومعه غيره اسم إن مبني على السكون في محل نصب ، والأصل إننا ، «بني» منصوب على الاختصاص بفعل محذوف ، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم ، وبني مضاف ، و «نهشل» مضاف إليه ، «لا» نافية ، «ندعي» فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الياء منع من ظهورها الثقل ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن ، والجملة في محل رفع خبر إن ، «لأب» جار ومجرور متعلق بندعي ، «عنه» جار ومجرور متعلق بندعي أيضا ، «ولا» الواو عاطفة لا : نافية ، «هو» ضمير منفصل مبتدأ ، «بالأبناء» جار ومجرور متعلق بيشري الآتي ، «يشرينا» يشري : فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الياء منع من ظهورها الثقل ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو ، وضمير المتكلم ومعه غيره مفعول به ، وجملة الفعل وفاعله ومفعوله في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو الضمير المنفصل.

الشّاهد فيه : قوله «بني نهشل» حيث نصبه على الاختصاص بفعل محذوف للدلالة على المدح ، قال أبو زكريا التبريزي : وانتصاب بني على إضمار فعل ؛ كأنه قال : أذكر بني نهشل ، وهذا على الاختصاص والمدح ، وخبر إن «لا ندعي» ولو رفع فقال إنا بنو نهشل ـ على أن يكون خبرا ـ و «لا ندعي» في موضع الحال ، والفرق بين أن يكون اختصاصا وبين أن يكون خبرا صراحا هو أنه لو جعله خبرا لكان قصده إلى تعريف نفسه عند المخاطب ، وكان لا يخلو فعله لذلك من خمول فيهم أو جهل من عند المخاطب بشأنهم ، فإذا جعل اختصاصا فقد أمن الأمرين جميعا ، اه ، كلامه بلفظه.

١٠٥ ـ هذا بيت من الرجز المصرع ، أو بيتان من مشطوره ، وقد رواه أبو تمام في حماسته ، ونسبه إلى الأعرج المعني ، نسبة إلى معن طيئ ، ومعن بفتح الميم وسكون العين المهملة ، وقال أبو زكريا التبريزي (ج ١ ص ٢٨٠) «وقيل : الصحيح أنها لعمر بن يثربي» اه. والبيت من شواهد الأشموني في باب الاختصاص.

اللّغة : «بني ضبة» قبيلة أبوهم ضبة بن أد ، «الجمل» يريد الجمل الذي ركبته أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق يوم خرجت تطالب بثأر عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، «ننعى» فعل مضارع من النعي وهو الإخبار بالموت ، وتقول : نعى الميت ينعاه إذا أخبر بموته ، ووقع في نسخ

٢٤٦

الأسل : الرماح.

ومن تعريفه بالإضافة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّا آل محمد لا تحلّ لنا الصدقة» و «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة».

وقد اشتمل الحديث الشريف على ما يقتضي الكشف عنه ، وهو أن «ما» من قوله

______________________________________________________

الشرح كلها «نبغي» على أنه فعل مضارع من بغاه إذا طلبه ، وهو تحريف تصويبه عن ديوان الحماسة وشروحه ، «الأسل» الرماح.

الإعراب : «نحن» ضمير منفصل مبتدأ ، «بني» منصوب على الاختصاص بفعل محذوف وجوبا ، وبني مضاف و «ضبة» مضاف إليه ، «أصحاب» خبر المبتدأ ، وأصحاب مضاف و «الجمل» مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة ، وسكن لأجل الوقف ، «ننعى» فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن ، والجملة في محل رفع خبر ثان «ابن» مفعول به لننعى ، وابن مضاف و «عفان» مضاف إليه مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه لا ينصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ، ويجوز أن يكون مصروفا ؛ فيكون مجرورا بالكسرة الظاهرة مع التنوين ، ولا يضر ذلك بوزن البيت ، «بأطراف» جار ومجرور متعلق بننعى ، وأطراف مضاف ، «الأسل» مضاف إليه ، وسكنه للوقف.

الشّاهد فيه : قوله «بني ضبة» حيث نصبه على الاختصاص بفعل محذوف ، وهو مركب إضافي تعرف فيه المضاف لإضافته إلى معرفة بالعلمية.

وقال أبو زكريا التبريزي : «انتصاب بني ضبة بفعل مضمر ، والقصد فيه الاختصاص والمدح ، وخبر المبتدأ ـ الذي هو نحن ـ «أصحاب» والتقدير : نحن ـ أذكر بني ضبة ـ أصحاب الجمل ، وهذا الكلام ينبه على أنهم مجاهدون جادون في طلب دم عثمان ، ولو قال نحن بنو ضبة لكان يسقط فخامة الذكر وتعظيمه ، وكان «أصحاب الجمل» صفة وبنو خبرا ، أو كان يجوز أن يكونا جميعا خبرين ، ويجوز أن يكون أصحاب بدلا من بنو» انتهى كلامه بحروفه.

وحاصله أنك لو قلت : «نحن بني ضبة أصحاب الجمل» على ما هي الرواية المشهورة ـ كان لك فيها وجه واحد من وجوه الإعراب ، وهو أن يكون نحن مبتدأ ، وبني ضبة : منصوبا على الاختصاص ، وأصحاب الجمل : خبر المبتدأ ، فإن قلت «نحن بنو ضبة أصحاب الجمل» فنحن مبتدأ أيضا ، ولك فيما بعده ثلاثة أوجه من وجوه الإعراب ، أحدها : أن يكون بنو ضبة خبر المبتدأ ، وأصحاب الجمل صفة له ، والثاني أن يكون بنو ضبة خبر المبتدأ ، وأصحاب الجمل بدلا منه ، والثالث أن يكون بنو ضبة خبرا أول وأصحاب الجمل خبرا ثانيا.

٢٤٧

«ما تركنا» موصول بمعنى الذي محلّه رفع بالابتداء ، و «تركنا» صلته ، والعائد محذوف : أي تركناه ، و «صدقة» خبر ما هذه على رواية الرفع ، وهو أجود ؛ لموافقته لرواية «ما تركنا [ه] فهو صدقة» وأما النصب فتقديره : ما تركنا مبذول صدقة ، فحذف الخبر لسد الحال مسدّه مثل (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)(١) ، ويجوز في «ما» أن تكون موصولا اسميّا كما تقدم ، وأن تكون شرطية ؛ فما على الأول في محل رفع ، وعلى الثاني في محل نصب (٢) ، والمعنى : أي شيء تركناه فهو صدقة.

ويكون المنصوب على الاختصاص بلفظ «أي» فيلزمها في هذا الباب ما يلزمها

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ١٤.

والتنظير بهذه الآية الكريمة على قراءة نصب «عصبة» على أنه حال ، وخبر المبتدأ ـ الذي هو نحن ـ محذوف ، وأصل الكلام : ونحن نرى عصبة ، فأما على القراءة المشهورة برفع «عصبة» فنحن مبتدأ خبره «عصبة» ولا كلام لنا فيها الآن ، ومثل الآية في قراءة النصب قولهم : حكمك لك مسمطا ، ومعناه : حكمك لك مثبتا ، فمسمطا : حال ، والخبر محذوف ، والتقدير : حكمك حاصل لك حال كونه مثبتا.

(٢) اعلم أنك إذا رويت الحديث هكذا «ما تركناه فهو صدقة» جاز لك وجهان في «ما» أحدهما : أن تكون موصولا اسميّا بمعنى الذي مبتدأ وجملة «تركناه» صلة لا محل لها من الإعراب ، وجملة «فهو صدقة» من المبتدأ وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو «ما» الموصولة ، واقتران خبر المبتدأ بالفاء على هذا الوجه جائز ، لشبه الموصول بالشرط ، فأنت تقول «الذي يؤدي واجبه فله عندي مكافأة سنية» بدون أن تجد في ذلك حرجا ، والوجه الثاني : أن تكون ما اسم شرط ، وتركناه فعل الشرط وفاعله ومفعوله ، وجملة «فهو صدقة» في محل جزم جواب الشرط ، واقتران هذه الجملة بالفاء على هذا الوجه واجب ، لأن جواب الشرط إذا كان جملة اسمية وجب أن تقترن بالفاء ، وحينئذ يكون قول المؤلف «فما على الأول في محل رفع ، وعلى الثاني في محل نصب» ليس مستقيما ، لأن ما على الوجهين في محل رفع ، أما على اعتبارها موصولا اسميّا فظاهر ، وأما على اعتبارها شرطية فلأن فعل الشرط إذا كان متعديا واستوفى مفعوله كانت ما في محل رفع بالابتداء ، وإذا كان فعل الشرط متعديا ولم يستوف مفعوله فإن ما تكون مفعولا به مقدما لهذا الفعل ، فلو أنك رويت الحديث هكذا «ما تركنا فهو صدقة» لكان كلام المؤلف مستقيما : إن جعلت «ما» موصولا اسميّا بمعنى الذي فهو في محل رفع مبتدأ ، وإن جعلتها اسم شرط فهو في محل نصب مفعول به تقدم على عامله ، والذي وجدناه في جميع النسخ هو إثبات الهاء هكذا «ما تركناه فهو صدقة» ونحن نعتقد أن هذه الهاء زيادة من المتأخرين على المؤلف ممن وقع الكتاب بأيديهم ؛ لأنهم ظنوا أنها ضرورية لتمام استدلال المؤلف على أنه رأى كون «ما» موصولا اسميّا مبتدأ صلته «تركنا» و «صدقة» خبره ، وذلك على الرواية الأولى التي هي «ما تركناه صدقة» أجود ، مع أننا نقرر أن الهاء لا تلزم لكي يتم هذا الاستدلال ، وبيان ذلك أنه يريد أن يقول ، إن جعل صدقة مرفوعا على أنه خبر ما أجود وأقوى لأنه يوافق الرواية الأخرى التي هي «فهو صدقة» إذ يلزم أن يكون قوله «فهو صدقة» خبرا إذا قدرت ما موصولا اسميّا ، ولا يجوز جعل «فهو صدقة» حالا ، فالغرض إنما هو نفي أن يكون صدقة حالا ، لأن جملة الحال لا تقترن بالفاء ، فتنبه لهذا فإنه مما لا ينبغي الإعراض عنه.

٢٤٨

في النداء : من التزام البناء على الضمة ، وتأنيثها مع المؤنث ، والتزام إفرادها ؛ فلا تثنى ولا تجمع باتفاق ، ومفارقتها للإضافة لفظا وتقديرا ، ولزوم «ها» التنبيه بعدها ، ومن وصفها باسم معرّف بأل لازم الرفع ، مثال ذلك «أنا أفعل كذا أيّها الرّجل» و «اللهمّ اغفر لنا أيّتها العصابة» المعنى : أنا أفعل كذا مخصوصا من بين الرجال ، واللهم اغفر لنا مختصّين من بين العصائب.

ويقلّ تعريفه بالعلمية ، ففي «بك الله نرجو الفضل» شذوذان : كونه بعد ضمير مخاطب ، وكونه علما (١).

ومن المحذوف عامله : المنصوب بالزم ، ويسمى إغراء.

والإغراء : تنبيه المخاطب على أمر محمود ليلزمه ، نحو :

١٠٦ ـ أخاك أخاك إنّ من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

______________________________________________________

١٠٦ ـ هذا بيت من الطويل ، وهو من شواهد سيبويه (ج ١ ص ١٢٩) وقد نسبه الأعلم إلى إبراهيم بن هرمة القرشي ، وليس كما ذكر ، بل هو من كلمة لمسكين الدارمي ، وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ٤٨٥) وفي القطر (رقم ١٣٣) وأنشده ابن عبد ربه في العقد (٢ ـ ٣٠٤ اللجنة) مع بيت آخر ، ولم ينسبهما ، وانظر الأغاني (١٨ ـ ٦٠ بولاق) وخزانة الأدب (١ ـ ٤٦٦ بولاق).

الإعراب : «أخاك» أخا : مفعول به لفعل محذوف وجوبا تقديره : الزم أخاك ، وأخا مضاف وضمير المخاطب مضاف إليه ، «أخاك» تأكيد للأول ، «إن» حرف توكيد ونصب ، «من» اسم موصول بمعنى الذي اسم إن ، «لا» نافية للجنس «أخا» اسم لا ، مبني على فتح مقدر على الألف ، منع من ظهوره التعذر ، «له» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا ، وفي هذا التعبير كلام طويل وخلافات كثيرة لا نرى أن نذكر شيئا منها في هذه العجالة ، وقد اخترنا لك أقرب الأعاريب إلى

__________________

(١) اختلف النحاة في إعراب «أيها» و «أيتها» في الاختصاص ؛ فذهب الجمهور إلى أنهما مبنيان على الضم في محل نصب بفعل محذوف وجوبا كما ذكره المؤلف ، وتقدير : أخص ، وذهب الأخفش إلى أنهما مناديان بحرف نداء محذوف ، والتقدير : يا أيها ، ويا أيتها ، وليس ببدع أن ينادي الإنسان نفسه ، كما لا يستنكر أن يخاطب الإنسان نفسه ، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : «كل الناس أفقه منك يا عمر» وذهب السيرافي إلى أن «أيها» أو «أيتها» مبتدأ خبره محذوف ، والتقدير : أيها الرجل المخصوص أنا ، أو خبر مبتدأ محذوف.

٢٤٩

وإنما يلزم حذف عامله إذا تكرر كما سبق في البيت ، أو عطف عليه نحو «المروءة والنجدة» فإن فقد التكرار والعطف جاز ذكر العامل وحذفه ، نحو «الصّلاة جامعة» ف «الصلاة» منصوب باحضروا مقدّرا ، وجامعة منصوب على الحال.

ويمكن أن يكون من هذا النوع قول الشاعر :

١٠٧ ـ أخاك الّذي إن تدعه لملمّة

يجبك كما تبغى ، ويكفك من يبغى

وإن تجفه يوما فليس مكافئا

فيطمع ذو التّزوير والوشي أن يصغى

______________________________________________________

ذهنك ، وجملة «لا» واسمها وخبرها لا محل لها من الإعراب صلة الموصول ، «كساع» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر إن ، «إلى الهيجا ، بغير» جاران ومجروران يتعلق كل منهما بساع ، وغير مضاف و «سلاح» مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «أخاك أخاك» فإن الشاعر ذكرهما على سبيل الإغراء ، وهذا من النوع الذي يجب معه حذف العامل ؛ لأنه كرر اللفظ المغرى به ، ألا ترى أنه ذكر «أخاك» مرتين.

١٠٧ ـ هذان بيتان من الطويل ، ولم أجد من نسب هذين البيتين إلى قائل معين.

اللّغة : «ملمة» بضم الميم وكسر اللام وتشديد الميم الثانية ـ أصله اسم فاعل من قولهم «ألم فلان بالقوم» إذا نزل بهم ، ومنه قول الشاعر :

* متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا*

ويراد بها النازلة من نوازل الدهر ، «يجبك» هو مضارع أجاب ، حذفت الياء منه للتخلص من التقاء الساكنين ؛ لأن الباء لما سكنت للجازم التقت ساكنة مع الياء التي هي عين الفعل ، وتقول : أجاب فلان دعاء الداعي يجيبه ، فإذا جزمت قلت : لم يجب فلان دعاء الداعي ، «تبغي» مضارع بغى الشيء يبغيه ، إذا قصده وطلبه ، ومنه قوله تعالى (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) [الكهف ، ٦٤] ، «ويكفك من يبغي» يقوم بكفايتك ونصرك وحمايتك ، ومنه قوله تعالى (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة ، ١٣٧] ، ويبغي ههنا : مضارع بغي عليك يبغي ، إذا جار عليك وظلمك وجاوز معك حدود النصفة والعدل ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) [القصص ، ٧٦] ، «تجفه» مضارع جفاه إذا انحرف عنه ومال عن وداده ، «ذو الوشي» هو الذي ينمق كلامه يقصد به الإفساد بين المحبين ويزين لهم الخلاف «أن يصغي» أراد أنه لو بدرت منك بادرة جفاء لم يعاملك بما تستوجبه حتى يطمع المفسدون بين الأحبة في أن يصغى إلى إفسادهم وتزويرهم.

٢٥٠

على تقدير الزم أخاك الذي من صفته كذا ، ويحتمل أن يكون مبتدأ والموصول خبره ، وجاء على لغة من يستعمل الأخ بالألف في كل حال ، وتسمى لغة القصر ،

______________________________________________________

الإعراب : «أخاك» أخا : مفعول به لفعل محذوف ، وهو مضاف والكاف ضمير المخاطب مضاف إليه ، «الذي» اسم موصول نعت للأخ ، مبني على السكون في محل نصب ، «إن» شرطية تجزم فعلين الأول فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه ، «تدعه» تدع : فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بإن ، وعلامة جزمه حذف الواو ، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والهاء ضمير الغائب مفعول به ، «لملمة» جار ومجرور متعلق بتدعو «يجبك» يجب : فعل مضارع جواب الشرط ، مجزوم بإن وعلامة جزمه السكون ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو والكاف ضمير المخاطب مفعول به مبني على الفتح في محل نصب ، وجملة الشرط والجواب لا محل لها صلة الموصول ، «كما» الكاف حرف جر ، وما : اسم موصول مجرور محلّا بالكاف ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف ، وتقدير الكلام : يجبك إجابة مماثلة لما تريده وتقصده ، «تبغي» فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والجملة لا محل لها صلة ما ، والعائد ضمير محذوف منصوب بتبغي ، «ويكفك» الواو حرف عطف ، يكف : فعل مضارع معطوف على يجب ، مجزوم وعلامة جزمه حذف الياء ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو ، والكاف ضمير المخاطب مفعول به أول ليكفي ، «من» اسم موصول مفعول ثان ليكفي ، «يبغي» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من ، والجملة لا محل لها صلة ، «وإن» الواو عاطفة ، إن : شرطية ، «تجفه» تجف : فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بحذف الواو ، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والهاء ضمير الغائب مفعول به ، «يوما» ظرف زمان منصوب على الظرفية ، والعامل فيه تجفو ، «فليس» الفاء واقعة في جواب الشرط ، ليس : فعل ماض ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو ، «مكافئا» خبر ليس ، والجملة من ليس واسمه وخبره في محل جزم جواب الشرط ، وجملة الشرط والجواب لا محل لها من الإعراب معطوفة على جملة الصلة التي هي جملة الشرط والجواب السابقة ، «فيطمع» الفاء فاء السببية ، يطمع : فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية في جواب النفي بليس ، «ذو» فاعل يطمع مرفوع بالواو نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الستة ، وذو مضاف ، و «التزوير» مضاف إليه ، «والوشي» معطوف على التزوير ، «أن» حرف مصدري ونصب ، «يصغي» فعل مضارع منصوب بأن ، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الياء منع من ظهورها معاملة المنصوب معاملة المرفوع ، وكان حقه أن ينصبه بالفتحة الظاهرة ، لأن الفتحة تظهر على الياء لخفتها ، كما علمت مما مر سابقا ، وأن مع ما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف ، والتقدير : في إصغائه ، والجار والمجرور متعلق بقوله يطمع.

٢٥١

كقولهم : «مكره أخاك لا بطل» (١).

ثم قلت : الثّاني المفعول المطلق ، وهو : المصدر الفضلة المؤكّد لعامله أو المبيّن لنوعه أو لعدده ، ك «ضربت ضربا» أو «ضرب الأمير» أو «ضربتين» وما بمعنى المصدر مثله ، نحو : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) و (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) و (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً.)

وأقول : الثاني من المنصوبات : المفعول المطلق.

وسمي مطلقا لأنه يقع عليه اسم المفعول بلا قيد ، تقول : ضربت ضربا ؛ فالضرب مفعول ؛ لأنه نفس الشيء الذي فعلته ، بخلاف قولك «ضربت زيدا» فإن «زيدا» ليس الشيء الذي فعلته ، ولكنك فعلت به فعلا وهو الضرب ؛ فلذلك سمي مفعولا به ، وكذلك سائر المفاعيل ، ولهذه العلة قدّم الزّمخشريّ وابن الحاجب في الذكر المفعول

______________________________________________________

الشّاهد فيه : قوله «أخاك» حيث يجوز أن يكون منصوبا ، وأن يكون نصبه على الإغراء من غير أن يكون مكررا.

واعلم أن الفرق بين نصبب المكرر ونصب غير المكرر من وجهين :

أولها : أن نصب المكرر واجب ، في كل كلام ، لا يعدل عنه إلا في ضرورة شعرية كقول الشاعر :

إنّ قوما منهم عمير وأشبا

ه عمير ومنهم السّفّاح

لجديرون بالوفاء إذا قا

ل أخو النّجدة : السّلاح السّلاح

فأما نصب غير المكرر فإنه جائز ، بل هو أقل من رفعه.

الوجه الثاني : أن عامل النصب مع المكرر لا يجوز إظهاره ؛ لأن التكرار بمنزلة العوض من العامل ، ولا يجتمع العوض والمعوض منه في الكلام ، فأما غير المكرر فإن إظهار العامل معه لا معابة فيه على من نطق به.

__________________

(١) هذا مثل من أمثال العرب ، وأول من قاله رجل اسمه أبو حنش ، وكان قوم من أشجع قد قتلوا إخوته ، وعلم خاله أن ناسا من قتلة أخيه يشربون في غار ، فاحتال عليه حتى أدخله الغار عليهم ، ثم قال له ؛ ضربا أبا حنش ؛ فلم يكن له بد من أن يجدّ في ضربهم ، فقال بعض من شاهده : إن أبا حنش لبطل ، فقال : مكره أخاك لا بطل ، كذا قالوا.

٢٥٢

المطلق على غيره ؛ لأنه المفعول حقيقة.

وحدّه ما ذكرت في المقدمة ؛ وقد تبين منه أن هذا المفعول يفيد ثلاثة أمور :

أحدها : التوكيد ، كقولك : ضربت ضربا ، وقول الله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء ، ١٦٤] (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء ، ٦٥] (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب ، ٥٦].

الثاني : بيان النّوع ، كقوله تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر ، ٤٢] ، وكقولك : جلست جلوس القاضي ، وجلست جلوسا حسنا ، و «رجع القهقرى» (١).

الثالث : بيان العدد ، كقولك : ضربت ضربتين ، أو ضربات ، وقول الله تعالى : (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة ، ٤١].

وقولي «الفضلة» احتراز من نحو قولك : ركوع زيد ركوع حسن ، أو طويل ، فإنه يفيد بيان النوع ، ولكنه ليس بفضلة.

وقولي : «المؤكد لعامله» مخرج لنحو قولك : كرهت الفجور الفجور ، فإن الثاني مصدر فضلة مفيد للتوكيد ، ولكن المؤكّد ليس العامل في المؤكّد.

ثم قلت : الثالث المفعول له ، وهو المصدر الفضلة المعلّل لحدث شاركه في الزّمان والفاعل ، ك «قمت إجلالا لك» ، ويجوز فيه أن يجرّ بحرف التّعليل ، ويجب في معلّل فقد شرطا أن يجرّ باللام أو نائبها.

وأقول : الثالث من المنصوبات : المفعول له ، ويسمى المفعول لأجله ، والمفعول من أجله.

وهو : ما اجتمع فيه أربعة أمور ؛ أحدها : أن يكون مصدرا ، والثاني : أن يكون مذكورا للتعليل ، والثالث : أن يكون المعلّل به حدثا مشاركا له في الزمان ، والرابع : أن يكون مشاركا له في الفاعل.

__________________

(١) من هذه الأمثلة يتبين أن المصدر المبين لنوع عامله : إما أن يكون مضافا كالآية الكريمة والمثال الأول ، وإما أن يكون موصوفا كالمثال الثاني ، وإما أن يكون هو نفسه نوعا من جنس ما يدل عليه العامل كالمثال الثالث ، وكقولهم : قعد القرفصاء ، وسار الخبب.

٢٥٣

مثال ذلك قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة ، ١٩] فالحذر : مصدر مستوف لما ذكرنا ؛ فلذلك انتصب على المفعول له ، والمعنى لأجل حذر الموت.

ومتى دلّت الكلمة على التعليل وفقد منها شرط من الشروط الباقية فليست مفعولا له ، ويجب حينئذ أن تجرّ بحرف التعليل (١).

فمثال ما فقد المصدرية قولك : جئتك للماء وللعشب ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة ، ٢٩] وقول امرئ القيس :

١٠٨ ـ ولو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال

ومثال ما فقد الاتّحاد في الزمان قولك : جئتك اليوم للسفر غدا ، وقول امرئ القيس أيضا :

______________________________________________________

١٠٨ ـ هذا بيت من الطويل لامرئ القيس بن حجر الكندي ، من قصيدته التي مطلعها :

ألّا عم صباحا أيّها الطّلل البالي

وهل يعمن من كان في العصر الخالي

وقد أنشده المؤلف في القطر (رقم ٨١) وأنشد عجزه الأشموني (رقم ٤٠٧).

الإعراب : «لو» حرف امتناع لامتناع ، «أن» حرف توكيد ونصب ، «ما» مصدرية ، «أسعى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، وما مع ما دخلت عليه في تأويل مصدر منصوب اسم أن ، «لأدنى» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر أن ، وأن مع ما دخلت عليه في تأويل مصدر مرفوع فاعل بفعل محذوف ، وتقدير الكلام : ولو ثبت كون سعيي ... إلخ ، وأدنى مضاف و «معيشة» مضاف إليه ، «كفاني» كفى : فعل ماض ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به ، «ولم» الواو عاطفة ، ولم : نافية جازمة ، «أطلب» فعل مضارع مجزوم بلم ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، وله مفعول محذوف يرشد إليه معنى الكلام ، «قليل» فاعل كفى ، «من المال» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لقليل ، وتقدير الكلام : لو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ، ولم أطلب الملك.

الشّاهد فيه : قوله «لأدنى» فإن اللام الداخلة على أدنى دالة على التعليل ، لكن لا يقال إن هذا من

__________________

(١) الحروف الدالة على التعليل هي : اللام ، ومن ، وفي ، والكاف ، والباء ، نحو قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) وقوله : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) وقوله : (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقوله : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) وقد مثل المؤلف للام.

٢٥٤

١٠٩ ـ فجئت وقد نضت لنوم ثيابها

لدى السّتر إلّا لبسة المتفضّل

فإنّ زمن النوم متأخر عن زمن خلع الثوب.

ومثال ما فقد الاتحاد في الفاعل قولك : قمت لأمرك إيّاي ، وقول الشاعر :

١١٠ ـ وإنّي لتعروني لذكراك هزّة

كما انتفض العصفور بلّله القطر

______________________________________________________

باب المفعول لأجله المصطلح عليه ، لأن شرط ما يسمى مفعولا لأجله أن يكون مصدرا ، والذي معنا ليس بمصدر ، بل هو أفعل تفضيل.

ويأتي النحاة بهذا البيت في باب التنازع لتقرير أنه ـ وإن تقدم فيه فعلان وهما كفاني ولم أطلب ، وتأخر عنهما معمول هو قليل من المال ـ لا يجوز أن يكون من باب التنازع ؛ لأنه لا يصح تسلط كل واحد من الفعلين على المعمول المتأخر ، محافظة على المعنى المراد ، ولهذا قدروا لأطلب معمولا يرشد إليه المعنى ، وهو ما قدرناه في آخر إعراب البيت ؛ فتنبه لما قلت.

١٠٩ ـ هذا بيت من الطويل من كلام امرئ القيس بن حجر الكندي ، صاحب الشاهد السابق ، وقد أنشد المؤلف هذا البيت في أوضح المسالك (رقم ٢٥٢) وكذلك في القطر (رقم ١٠١).

اللّغة : «نضت» ـ بالنون بعدها ضاد معجمة مخففة فيكون الفعل نضا ينضو مثل دعا يدعو ، أو مشددة فيكون الفعل نض ينض مثل شد يشد ـ ومعناه خلعت ، «لدى» أي : عند ، «لبسة المتفضل» يريد غلالة رقيقة هي التي يبقيها من يتبذل ويستعد للنوم.

الإعراب : «جئت» فعل وفاعل ، «وقد» الواو للحال ، قد : حرف تحقيق ، «نضت» نض : فعل ماض ، والتاء علامة التأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي ، والجملة في محل نصب حال ، «لنوم» جار ومجرور متعلق بنض ، «ثيابها» ثياب : مفعول به لنض ، وثياب مضاف وضمير الغائبة مضاف إليه ، «لدى» ظرف مكان منصوب بفتحة مقدرة على الألف ، والعامل فيه نض ، ولدى مضاف ، و «الستر» مضاف إليه ، «إلا» أداة استثناء ، «لبسة» منصوب على الاستثناء من ثيابها ، ولبسة مضاف و «المتفضل» مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «لنوم» ؛ فإن النوم علة لخلع الثياب ، وفاعل النوم والنض الذي هو الخلع شخص واحد ، والنوم مصدر ، ولكن زمان النوم غير زمان الخلع ؛ لأنها تخلع قبل أن تنام ، فلما لم يتحد زمان العامل الذي هو نضت ، وزمان المصدر الذي هو النوم ـ وجب أن يجره بحرف التعليل ، ولم يجز له أن ينصبه على أنه مفعول لأجله ، وقد فعل الشاعر ذلك.

١١٠ ـ هذا بيت من الطويل من كلام أبي صخر الهذلي ، من قصيدته التي منها بيت الشاهد (رقم ٦١) السابق ذكره في باب البناء عند الكلام على الظرف المبني ، وقد أنشده المؤلف في أوضح

٢٥٥

فإن فاعل «تعروني» هو الهزّة ، وفاعل الذّكرى هو المتكلم ؛ لأن التقدير لذكرى إياك.

ثم قلت : الرّابع المفعول فيه ، وهو : ما ذكر فضلة لأجل أمر وقع فيه : من زمان

______________________________________________________

المسالك (رقم ٢٥٣) وكذلك في قطر الندى (رقم ١٠٢) ، وأنشده ابن عقيل (رقم ٢٤٠).

اللّغة : «تعروني» تنزل بي وتصيبني ، «ذكراك» الذكرى ـ بكسر الذال ـ التذكر والخطور بالبال ، «هزة» بكسر الهاء أو فتحها ـ حركة واضطراب ، «انتفض» تحرك واضطرب «القطر» المطر.

الإعراب : «إني» إن : حرف توكيد ونصب ، وياء المتكلم اسمه ، «لتعروني» اللام هي اللام المزحلقة ، وما بعدها فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الواو منع من ظهورها الثقل ، والنون للوقاية ، وياء المتكلم مفعول به ، «لذكراك» اللام جارة ، ذكرى : مجرور باللام ، والجار والمجرور متعلق بتعرو ، وذكرى مضاف والكاف ضمير المخاطبة مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله ، وفاعل المصدر محذوف ، وأصل الكلام : لذكري إياك ، «هزة» فاعل تعرو ، «كما» الكاف حرف جر ، وما : مصدرية «انتفض» فعل ماض ، «العصفور» فاعله ، وما المصدرية مع ما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بالكاف ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لهزة ، وتقدير الكلام : هزة كائنة كانتفاض العصفور ، «بلله» بلل فعل ماض ، والهاء ضمير الغائب العائد إلى العصفور مفعول به ، «القطر» فاعل بلل ، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل نصب حال ، والكثير في مثلها أن تكون مقترنة بقد ، فتقول : كما انتفض العصفور قد بلله القطر ، أو بقد والواو جميعا ، نحو قوله سبحانه وتعالى (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) [الرعد ، ٦] ، ونحو قوله جل ذكره : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) [الأحقاف ، ٢١] وقوله سبحانه (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) [الأحقاف ، ٧] ، أو بالواو وحدها نحو قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) [آل عمران ، ١٦٨].

الشّاهد فيه : قوله «لذكراك» فإن اللام حرف دال على التعليل ، وقد وجب على الشاعر أن يجر به الذكرى ، لما اختلف فاعل الذكرى ، وفاعل العامل ، وبيان ذلك أن الذكرى مصدر ، وهو علة لعرو الهزة ، لكن فاعل الذكرى هو المتكلم ، وفاعل العرو ـ الذي هو العامل ـ هو قوله هزة ، فلما اختلف فاعل المصدر ـ الذي هو علة ـ وفاعل المعلل وجب أن يجره بحرف دال على التعليل ، ولم يجز له أن ينصبه مفعولا لأجله ، وهكذا فعل.

٢٥٦

مطلقا ، أو مكان مبهم ، أو مفيد مقدارا ، أو مادّته مادّة عامله ك «صمت يوما» أو «يوم الخميس» و «جلست أمامك» و «سرت فرسخا» و «جلست مجلسك» والمكانيّ غيرهنّ يجرّ بفي ك «صلّيت في المسجد» ونحو : * قالا خيمتي أمّ معبد* وقولهم : «دخلت الدّار» على التّوسّع.

وأقول : الرابع من المنصوبات الخمسة عشر : المفعول فيه ، ويسمى الظرف ، وهو عبارة عما ذكرت.

والحاصل أن الاسم قد لا يكون ذكر لأجل أمر وقع فيه ، ولا هو زمان ولا مكان وذلك كزيدا في «ضربت زيدا» وقد يكون إنما ذكر لأجل أمر وقع فيه ، ولكنه ليس بزمان ، ولا مكان ، نحو : «رغب المتقون أن يفعلوا خيرا» فإن المعنى في أن يفعلوا ، وعليه في أحد التفسيرين قوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء ، ١٢٧] وقد يكون العكس ، نحو : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً) [الإنسان ، ١٠] ونحو : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) [غافر ، ١٥] (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) [غافر ، ١٨] ونحو : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ، ١٢٤] فهذه الأنواع لا تسمى ظرفا في الاصطلاح ، بل كلّ منها مفعول به ، وقع الفعل عليه ، لا فيه ، يظهر ذلك بأدنى تأمّل للمعنى.

وقد يكون مذكورا لأجل أمر وقع فيه وهو زمان أو مكان ؛ فهو حينئذ منصوب على معنى «في» وهذا النوع خاصة هو المسمى في الاصطلاح ظرفا ، وذلك كقولك : صمت يوما ، أو يوم الخميس ، وجلست أمامك.

وأشرت بالتمثيل بيوما ويوم الخميس إلى أن ظرف الزمان يجوز أن يكون مبهما وأن يكون مختصّا ، وفي التنزيل : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً) [سبأ ، ١٨] (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر ، ٤٦] (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الأحزاب ، ٤٢].

وأما ظرف المكان فعلى ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون مبهما ، ونعني به ما لا يختصّ بمكان بعينه ، وهو نوعان ؛ أحدهما : أسماء الجهات الست ، وهي : فوق ، وتحت ، ويمين ، وشمال ، وأمام ، وخلف ؛ قال الله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف ، ٧٦] (فَناداها مِنْ

٢٥٧

تَحْتِها) [مريم ، ٢٤] في قراءة من فتح ميم (من) (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) [الكهف ، ٧٩] وقرئ «وكان أمامهم ملك» (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) [الكهف ، ١٧]. وأصل تزور تتزاور ، أي : تتمايل ، مشتق من الزّور ـ بفتح الواو ـ وهو الميل ومنه زاره ، أي : مال إليه ، ومعنى (تَقْرِضُهُمْ) تقطعهم ، من القطيعة ، وأصله من القطع ، والمعنى تعرض عنهم إلى الجهة المسماة بالشمال ، وحاصل المعنى أنها لا تصيبهم في طلوعها ولا في غروبها ، وقال الشاعر :

١١١ ـ صددت الكأس عنّا أمّ عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا

______________________________________________________

١١١ ـ هذا بيت من الوافر ، وهو مروي في معلقة عمرو بن كلثوم ، أحد بني تغلب بن وائل ، وبعده قوله :

وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو

بصاحبك الّذي لا تصبحينا

وقال التبريزي بعد ذكر البيتين : «بعضهم يروي هذين البيتين لعمرو ابن أخت جذيمة الأبرش ، وذلك لما وجده مالك وعقيل في البرية ، وكانا يشربان ، وأم عمرو هذه المذكورة تصد الكأس عنه ، فلما قال هذا الشعر سقياه وحملاه إلى خاله جذيمة ، ولهما حديث» اه ، وبيت الشاهد من أبيات سيبويه (ج ١ ص ١١٣ و ٢٠١) ونسبه في المرتين إلى عمرو بن كلثوم ، وذكر الأعلم في شرحه مثل ما ذكرنا عن التبريزي.

الإعراب : «صددت» فعل وفاعل ، «الكأس» مفعول به لصد «عنا» جار ومجرور متعلق بصد ، «أم» منادى بحرف نداء محذوف ، منصوب بالفتحة الظاهرة ، وأم مضاف و «عمرو» مضاف إليه ، «وكان» الواو واو الحال ، كان : فعل ماض ناقص ، «الكأس» اسم كان مرفوع بالضمة الظاهرة ، «مجراها» مجرى : مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر ، ومجرى مضاف وضمير الغائبة العائد إلى الكأس مضاف إليه ، «اليمينا» ظرف مكان منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، والجملة من المبتدأ وخبره في محل نصب خبر كان ، ويجوز أن يكون قوله «مجراها» بدلا من الكأس ، و «اليمينا» ظرف مكان متعلقا بمحذوف خبر كان ، وألف «اليمينا» للإطلاق ، وقد ذكر المؤلف ذلك والجملة من كان واسمها وخبرها في محل نصب حال.

الشّاهد فيه : قوله «اليمينا» حيث نصبه على الظرف ، وقال الأعلم : «الشاهد فيه نصب اليمين على الظرف ، وكونه في موضع الخبر عن المجرى ، والتقدير : وكان الكأس جريها على ذات اليمين ، ويجوز أن يكون مجراها بدلا من الكأس ، وقوله اليمين خبرا عنه على أن يجعلها هي المجرى على

٢٥٨

يجوز كون «مجراها» مبتدأ ، و «اليمين» ظرف مخبر به : أي مجراها في اليمين ، والجملة خبر كان ، ويجوز كون «مجراها» بدلا من الكأس بدل اشتمال ؛ فاليمين أيضا ظرف ؛ لأن المعتمد في الإخبار عنه إنما هو البدل لا الاسم ، ويجوز في وجه [ضعيف] تقدير اليمين خبر كان لا ظرفا ، وذلك على اعتبار المبدل منه دون البدل ، وقال الآخر :

١١٢ ـ لقد علم الضّيف والمرملون

إذا اغبرّ أفق وهبّت شمالا

______________________________________________________

السعة» اه ، وقال سيبويه في باب ترجمته : هذا باب ما ينصب من الأماكن والوقت «ومن ذلك أيضا : هو ناحية من الدار ، وهو ناحية الدار ، وهو نحوك ، وهو مكانا صالحا ، وداره ذات اليمين ، وشرقي كذا ، وقال جرير :

هبّت جنوبا فذكرى ما ذكرتكم

عند الصّفاة الّتي شرقيّ حورانا

وقالوا : منازلهم يمينا ويسارا وشمالا ، وقال عمرو بن كلثوم : * صددت الكأس* البيت ـ أي : على ذات اليمين ، حدثنا بذلك يونس عن أبي عمرو ، وهو رأيه» اه. كلامه بحروفه.

١١٢ ـ هذا بيت من المتقارب من كلمة لجنوب بنت العجلان بن عامر الهذلية ، ترثي فيها أخاها عمرا الملقب ذا الكلب ، وبعده قولها :

بأنّك ربيع وغيث مريع

وأنّك هناك تكون الثّمالا

وهذا البيت الذي أنشدناه من شواهد المؤلف في أوضحه (رقم ١٤٨) وفي القطر (رقم ٥٨) والأشموني (رقم (٢٨١).

اللّغة : «المرملون» جمع مرمل ، وهو اسم فاعل فعله أرمل إذا نفد زاده ، وأراد بهم المحتاجين ، «اغبر أفق» كنت بذلك عن مجيء الشتاء ؛ لأن الشتاء عندهم زمان الجدب والحاجة.

الإعراب : «لقد» اللام موطئة للقسم ، قد : حرف تحقيق ، «علم الضيف» فعل وفاعل ، والجملة لا محل لها من الإعراب جواب القسم ، «والمرملون» الواو عاطفة ، المرملون : معطوف على الضيف ، «إذا» ظرفية متعلقة بعلم ، ومحلها النصب ، «اغبر أفق» فعل وفاعل ، والجملة في محل جر بإضافة إذا إليها ، «وهبت» الواو عاطفة لجملة على جملة ، هب : فعل ماض ، والتاء علامة التأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى الريح المفهومة من الكلام ، «شمالا» منصوب على الظرفية متعلق بهب.

الشّاهد فيه : قولها «شمالا» حيث نصبته على الظرفية ، لما كان المراد هبوب الريح من ناحية الشمال ، ولم يكن مرادها هبوب الشمال نفسها ، على نحو ما قررناه في الشاهد السابق.

٢٥٩

النوع الثاني : ما ليس اسم جهة ، ولكن يشبهه في الإبهام ، كقوله تعالى : (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) [يوسف ، ٩] (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) [الفرقان ، ١٣].

والقسم الثاني : أن يكون دالّا على مساحة [معلومة] من الأرض ، ك «سرت فرسخا» و «ميلا» و «بريدا» وأكثرهم يجعل هذا من المبهم ، وحقيقة القول فيه أن فيه إبهاما واختصاصا : أما الإبهام فمن جهة أنه لا يختص ببقعة بعينها ، وأما الاختصاص فمن جهة دلالته على كمية معينة ؛ فعلى هذا يصح فيه القولان.

والقسم الثالث : اسم المكان المشتق من المصدر ، ولكن شرط هذا أن يكون عامله من مادته ، ك «جلست مجلس زيد» و «ذهبت مذهب عمرو» (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) [الجن ، ٩] ، ولا يجوز «جلست مذهب عمرو» ونحوه.

وما عدا هذه الأنواع الثلاثة من أسماء المكان لا يجوز انتصابه على الظرف ؛ فلا تقول «صلّيت المسجد» ولا «قمت السّوق» ولا «جلست الطّريق» ؛ لأن هذه الأمكنة خاصّة ، ألا ترى أنه ليس كلّ مكان يسمى مسجدا ولا سوقا ولا طريقا؟ وإنما حكمك في هذه الأماكن ونحوها أن تصرّح بحرف الظرفية وهو «في» وقال الشاعر ـ وهو رجل من الجن سمعوا بمكة صوته ولم يروا شخصه ـ يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر رضي‌الله‌عنه حين هاجر :

١١٣ ـ جزى الله ربّ النّاس خير جزائه

رفيقين قالا خيمتي أمّ معبد

هما نزلا بالبرّ ثمّ ترحّلا

فأفلح من أمسى رفيق محمّد

______________________________________________________

١١٣ ـ هذه ثلاثة أبيات من الطويل ، وقد ذكر المؤلف صاحب هذه الأبيات ، وقصتها في هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حدثت ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنهما قالت : لما خفي علينا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاني نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام ، فخرجت إليهم ، فقال : أين أبوك؟ فقلت : والله لا أدري أين أبي! قالت : فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشا خبيثا ـ فلطم خدي لطمة خرج منها قرطي ـ والقرط بضم فسكون ـ حلية الأذن ـ قالت : ثم انصرفوا ، ولم ندر أين توجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أتى رجل من الجن يسمعون صوته ولا يرونه ، وهو ينشد ـ ثم ذكرت الأبيات الثلاثة التي ذكرها المؤلف ـ وذكرت بعدها :

٢٦٠