شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

وهذان الفعلان أغرب أفعال الشروع ، وطفق أشهرها ، وهي التي وقعت في التنزيل ، وذلك في موضعين :

أحدهما : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ) [الأعراف ، ٢٢ ، وطه : ١٢١] أي : شرعا يخيطان ورقة على أخرى كما تخصف النّعال ليستترا بها ، وقرأ أبو السمال العدوي (وطفقا) بالفتح ، وهي لغة حكاها الأخفش ، وفيها لغة ثالثة طبق ـ بباء مكسورة مكان الفاء.

والثاني : (فَطَفِقَ مَسْحاً) [ص ، ٣٣] أي : شرع يمسح بالسيف سوقها وأعناقها مسحا : أي يقطعها قطعا.

ثم قلت : السّابع اسم ما حمل على «ليس» وهي أربعة : «لات» في لغة الجميع ، ولا تعمل إلا في الحين بكثرة ، أو السّاعة أو الأوان بقلة ، ولا يجمع بين جزأيها ، والأكثر كون المحذوف اسمها ، نحو : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) و «ما» و «لا» النّافيتان في لغة الحجاز ، و «إن» النّافية في لغة أهل العالية ، وشرط إعمالهنّ نفي الخبر ، وتأخيره ، وأن لا يليهنّ معموله وليس ظرفا ولا مجرورا ، وتنكير معمولي «لا» وأن لا يقترن اسم «ما» بإن الزّائدة ، نحو : (ما هذا بَشَراً) و :

* ولا وزر ممّا قضى الله واقيا*

و «إن ذلك نافعك ولا ضارّك».

وأقول : السابع من المرفوعات : اسم ما حمل ـ في رفع الاسم ونصب الخبر ـ على «ليس» وهي أحرف أربعة نافية ، وهي : «ما» و «لا» و «لات» و «إن».

______________________________________________________

هذا ، والمعروف عن العلماء الأثبات ـ ومنهم المؤلف ـ أن «هلهل» إنما يدل على دنو الخبر ، ولا نعلم أحدا ذكر أن هذا الفعل يدل على الشروع إلا المؤلف في هذا الموضع وفيما يلي عند الكلام على خبر أفعال المقاربة حيث يذكر هذا الفعل في عداد أفعال الشروع التي يمتنع اقتران المضارع الواقع خبرا لها بأن المصدرية ، وقد ذكر في غير هذا الكتاب أنه يدل على الدنو كما قلنا ؛ فلابد أنه اطلع على ما لم نطلع عليه ؛ ولذلك تراه يقول عن هب وهلهل «وهذان الفعلان أغرب أفعال الشروع».

٢٢١

فأما «ما» فإنها تعمل هذا العمل بأربعة شروط :

أحدها : أن يكون اسمها مقدّما وخبرها مؤخرا.

والثاني : أن لا يقترن الاسم بإن الزائدة.

والثالث : أن لا يقترن الخبر بإلّا.

والرابع : ألا يليها معمول الخبر وليس ظرفا ولا جارّا ومجرورا.

فإذا استوفت هذه الشروط الأربعة عملت هذا العمل ـ سواء أكان اسمها وخبرها نكرتين ، أو معرفتين ، أو كان الاسم معرفة والخبر نكرة.

فالمعرفتان كقوله تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة ، ٢].

والنكرتان كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة ، ٤٧] ف (أحد) اسمها ، و (حاجِزِينَ) خبرها و (مِنْكُمْ) متعلق بمحذوف تقديره أعنى ، ويحتمل أن أحدا فاعل (مِنْكُمْ) لاعتماده على النفي ، و (حاجِزِينَ) نعت له على لفظه.

فإن قلت : كيف يوصف الواحد بالجمع؟ وكيف يخبر به عنه؟

قلت : جوابهما أنه اسم عام ، ولهذا جاء (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥].

والمختلفان كقوله تعالى : (ما هذا بَشَراً) [يوسف ، ٣١] ولم يقع في القرآن إعمال «ما» صريحا في غير هذه المواضع الثلاثة ، على الاحتمال المذكور في الثاني ، وإعمالها لغة أهل الحجاز ، ولا يجيزونه في نحو قوله :

٩٠ ـ بني غدانة ما إن أنتم ذهب

ولا صريف ولكن أنتم الخزف

______________________________________________________

٩٠ ـ هذا بيت من البسيط ، وهو من الشواهد التي لم أقف لها على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده الأشموني (رقم ٢١١) والمؤلف في أوضحه (رقم ١٠١) وفي القطر (رقم ٥٠).

اللّغة : «غدانة» بضم الغين المعجمة بعدها دال مهملة وبعد الألف نون موحدة ـ حي من بني يربوع «صريف» هو الفضة «الخزف» الفخار الذي يعمل من الطين ثم يشوى بالنار.

الإعراب : «بني» منادى بحرف نداء محذوف ، والأصل يا بني ، وبني مضاف «غدانة»

٢٢٢

لاقتران الاسم بإن ، ولا في نحو قوله سبحانه : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) [آل عمران ، ١٤٤] ، (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) [القمر ، ٥٠] لاقتران الخبر بإلّا ، ولا في نحو قولهم في المثل «ما مسيء من أعتب» (١) لتقدم خبرها ، ولا في نحو قوله :

______________________________________________________

مضاف إليه ، «ما» نافية «إن» زائدة ، «أنتم» ضمير منفصل مبتدأ ، «ذهب» خبر المبتدأ ، «ولا» الواو عاطفة ، لا : زائدة لتأكيد النفي «صريف» معطوف بالواو على ذهب ، «ولكن» الواو عاطفة ، ولكن : حرف استدراك ، «أنتم» ضمير منفصل مبتدأ ، «الخزف» خبر المبتدأ ، وجملة المبتدأ والخبر معطوفة بالواو على جملة المبتدأ والخبر السابقة.

الشّاهد فيه : قوله «ما إن أنتم ذهب» فإن «ما» هذه نافية ، وقد وقع بعدها «إن» وإن هذه تحتمل أن تكون زائدة لا تدل على شيء سوى مجرد التوكيد ، وتحتمل أن تكون دالة على النفي ، وهذا النفي يجوز أن يكون لتأكيد النفي المستفاد أولا من ما ، كما يجوز أن يكون نفيا للنفي المستفاد من ما فيكون الكلام دالا على إثبات كونهم ذهبا أو فضة ، فإذا اعتبرت «إن» هذه زائدة أبطلت عمل ما ؛ فرفعت بعدها المبتدأ والخبر ، وإن اعتبرت «إن» هذه نافية : فإما أن تجعلها مؤكدة للنفي المستفاد من «ما» من باب التوكيد اللفظي بإعادة اللفظ الأول بمرادفه في المعنى ، نحو قولك : «نعم جير» وإما أن تجعلها نافية لنفي «ما» فيكون ما بعدها مثبتا ؛ لأن نفي النفي إثبات ؛ فعلى الثاني يبطل عمل «ما» أيضا ؛ لأن من شروط العمل بقاء النفي ، وعلى الأول تعملها.

وقد وردت الرواية في هذا البيت بنصب «ذهب» وبرفعه ؛ فتخرج رواية نصبه على وجه واحد ، هو جعل «إن» نافية مؤكدة لنفي «ما» وتخرج رواية رفعه على أحد وجهين : إما على جعل «إن» زائدة ، وإما على جعلها نافية للنفي الذي أفادته ما ، غير أن المعنى المقصود لقائل هذا البيت لا يلتئم مع هذا الوجه الأخير ، فافهم ذلك كله.

ثم اعلم أن المؤلف راعى أشهر الروايتين ، واعتبر «إن» زائدة ؛ فقضى عليك بإهمال «ما» ، فاعرفه أيضا.

ومثله قول فروة بن مسيك المرادي ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ٤٧٥) والكامل للمبرد (١ / ٢٠٠) :

وما إن طبّنا جبن ، ولكن

منايانا ودولة آخرينا

__________________

(١) هذا مثل من أمثال العرب ، ومسيء : اسم فاعل من الإساءة ، وهو خبر مقدم ، وأعتب : أي أتى بما يزيل العتاب ويذهبه بفعل ما يرضى العاتب ، ومن : اسم موصول مبتدأ مؤخر ، وجملة «أعتب» صلة.

٢٢٣

٩١ ـ وقالوا تعرّفها المنازل من منى

وما كلّ من وافى منى أنا عارف

لتقدم معمول خبرها وليس بظرف ولا جار ومجرور.

ولا يعملها بنو تميم ولو استوفت الشروط الأربعة ، بل يقولون : «ما زيد قائم» وقرئ على لغتهم (ما هذا بَشَراً) [يوسف ، ٣١] و (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة ، ٢] بالرفع ، وقرئ أيضا : (بأمّهاتهم) بالجر بباء زائدة ، وتحتمل الحجازية والتميمية ، خلافا لأبي علي والزّمخشري زعما أن الباء تختص بلغة النصب (١).

______________________________________________________

٩١ ـ هذا بيت من الطويل ، وهو مطلع قصيدة لمزاحم بن الحارث العقيلي ، وهو من شواهد سيبويه (ج ١ ص ٣٦ و ٣٧) والأشموني (رقم ٢١٥) والمؤلف في أوضحه (رقم ١٠٥).

اللّغة : «تعرفها» تطلب معرفتها ، واسأل الناس عنها «المنازل» جمع منزل ، وهو مكان النزول «منى» بكسر الميم ـ بليدة على مسافة فرسخ من مكة.

الإعراب : «قالوا» فعل ماض وفاعله ، «تعرفها» تعرف : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والضمير البارز المتصل مفعول به ، «المنازل» منصوب على نزع الخافض ، وأصله بالمنازل ، «من منى» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من المنازل «وما» الواو عاطفة ، ما : نافية ، «كل» تروى هذه الكلمة مرفوعة وتروى منصوبة ؛ فمن رواها مرفوعة جاز أن يجعلها مبتدأ ، وعليه تكون ما تميمية ، وجاز أن يجعلها اسم ما النافية الحجازية ، ومن رواها منصوبة جعلها مفعولا به لقوله عارف الآتي في آخر البيت ، ورواية النصب هي التي رواها شراح الألفية ، وهي التي يعنيها المؤلف هنا ، وكل مضاف ، و «من» اسم موصول مضاف إليه ، مبني على السكون في محل جر ، «وافى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من ، «منى» مفعول به لوافى ، والجملة من الفعل الماضي وفاعله المستتر فيه لا محل لها صلة الموصول ، «أنا» ضمير منفصل مبتدأ ، «عارف» خبر المبتدأ.

ثم إذا قرأت «كل» بالرفع واعتبرت «ما» تميمية مهملة ؛ فجملة هذا المبتدأ وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول الذي هو «كل» ، وإذا قرأت «كل» بالرفع أيضا وجعلت ما حجازية فكل اسم ما ، وجملة أنا عارف في محل نصب خبر ما الحجازية.

__________________

(١) مما يدل على أن بني تميم يلحقون الباء الزائدة بخبر المبتدأ الواقع بعد «ما» النافية قول الفرزدق ، وهو أحد بني تميم :

لعمرك ما معن بتارك حقّه

ولا منسئ معن ، ولا متيسّر

٢٢٤

وأما «لا» فإنها تعمل بالشروط المذكورة لما ، إلا شرط انتفاء اقتران «إن» بالاسم فلا حاجة له ؛ لأنّ «إن» لا تزاد بعد «لا» ويضاف إلى الشروط الثلاثة الباقية أن يكون اسمها وخبرها نكرتين كقوله :

٩٢ ـ تعزّ فلا شيء على الأرض باقيا

ولا وزر ممّا قضى الله واقيا

______________________________________________________

فإن قرأت «كل» بالنصب كانت جملة «أنا عارف» لا محل لها من الإعراب لأنها ابتدائية ، ويكون أصل الكلام : وما أنا عارف كل من وافى منى.

الشّاهد فيه : قوله «ما كل من وافى منى أنا عارف» بنصب كل ؛ فإن «ما» ههنا نافية ، وقد وجب إهمالها لتقدم معمول خبرها على اسمها ، فخبرها هو قوله «عارف» ومعموله هو قوله «كل» ، لأن عارفا اسم فاعل يعمل عمل الفعل فيرفع فاعلا وينصب مفعولا ، وهذا كله على رواية نصب «كل» ، أما إذا رفعته فإن الإعمال جائز ، بأن تجعل «كل» اسم ما وجملة «أنا عارف» في محل نصب خبر ما والرابط بين جملة الخبر والمبتدأ على هذا الوجه ضمير منصوب بعارف محذوف ، والتقدير : وما كل من وافى منى أنا عارفه.

فقد عرفت أنه يجوز في هذا البيت ثلاثة أوجه من وجوه الإعراب : اثنان على رواية رفع «كل» وواحد على رواية نصب كل ، وعرفت أن وجها واحدا تكون فيه ما حجازية عاملة ، وهو إنما يتأتى على أحد وجهين تحتملهما رواية رفع «كل» ووجهين تكون في كل واحد منهما «ما» تميمية مهملة : واحد منها يتأتى مع رفع كل ، والثاني على رواية نصب كل ، والوجه الممتنع هو أن تنصب «كل» على أنه مفعول لعارف وتجعل «ما» حجازية ، والخلاصة أنه يجب في رواية نصب كل إهمال «ما» ويجوز في رواية رفع كل إهمال ما كما يجوز إعمالها.

٩٢ ـ هذا بيت من الطويل ، ولم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين وقد أنشده الأشموني (رقم ٢٢٣) والمؤلف في أوضحه (رقم ١٠٨) وفي القطر (رقم ٥١) وابن عقيل (رقم ٧٩) وسينشده المؤلف مرة أخرى عند الكلام على خبر ما حمل على ليس من هذا الكتاب للاستشهاد به على أن «لا» العاملة عمل ليس تنصب الخبر.

اللّغة : «تعز» تصبر وتجلد ، «وزر» بفتح الواو والزاي ـ هو في الأصل الجبل ، ثم عم استعماله في كل ما يعتصم به الإنسان ويلجأ إليه ، «واقيا» حافظا ومانعا.

الإعراب : «تعز» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «فلا» الفاء حرف دالّ على التعليل ، لا : نافية تعمل عمل ليس ، «شيء» اسم لا ، «على الأرض» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لشيء ، «باقيا» خبر لا ، «ولا» الواو عاطفة ، لا : نافية عاملة عمل ليس أيضا ، «وزر» اسم لا ، «مما» من : حرف جر ، ما : اسم موصول ، مبني على السكون في محل جر بمن ،

٢٢٥

وربما عملت في اسم معرفة ، كقوله :

٩٣ ـ أنكرتها بعد أعوام مضين لها

لا الدّار دارا ولا الجيران جيرانا

وعلى ذلك قول المتنبي :

٩٤ ـ إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى

فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا

______________________________________________________

«قضى الله» فعل وفاعل ، والجملة لا محل لها صلة الموصول ، والعائد ضمير منصوب بقضى محذوف ، والتقدير : مما قضاه الله ، «واقيا» خبر لا ، وجملة لا الثانية مع اسمها وخبرها معطوفة بالواو على جملة لا الأولى واسمها وخبرها.

الشّاهد فيه : قوله «لا شيء باقيا» وقول «لا وزر واقيا» حيث أعمل لا النافية عمل ليس في الموضعين ؛ فرفع بها الاسم ونصب الخبر ، واسمها وخبرها نكرتان في الموضعين جميعا.

٩٣ ـ هذا بيت من البسيط ، ولم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين.

اللّغة : «أنكرتها» أراد لم أعرفها بسبب دثور آياتها وانمحاء العلامات الدالة عليها ، «أعوام» جمع عام ، «مضين لها» أراد مررن على رؤيتي لها.

المعنى : يصف دارا كان يلقى أحبابه فيها قبل مضي أعوام بأنه لما مر بها لم يعرفها لتغيرها وذهاب معارفها.

الإعراب : «أنكرتها» فعل ماض ، فاعله ضمير المتكلم ، وضمير الغائبة مفعول به ، «بعد» ظرف زمان منصوب على الظرفية ، عامله أنكر ، وبعد مضاف و «أعوام» مضاف إليه ، «مضين» فعل وفاعل ، والجملة في محل جر صفة لأعوام «لها» جار ومجرور متعلق بمضى ، «لا» نافية عاملة عمل ليس ، «الدار» اسم لا مرفوع بها ، «دارا» خبر لا منصوب بها ، «ولا» الواو عاطفة ، لا : نافية أيضا ، «الجيران» هو اسم لا هذه مرفوع بها ، «جيرانا» خبر لا منصوب بها ، وجملة لا الثانية مع اسمها وخبرها معطوفة على جملة لا الأولى واسمها وخبرها.

الشّاهد فيه : قوله «لا الدار دارا» وقوله «لا الجيران جيرانا» حيث أعمل لا في الموضعين عمل ليس مع أن اسمها في الموضعين معرفة ؛ إذ هو محلى بأل ، والمؤلف ههنا قد جعل عملها في هذه الحال قليلا ، وفي كتابه القطر جعله غير جائز ، وحكم على المتنبي بأنه أخطأ في بيته الآتي (رقم ٩٤) ، وسنذكر هذا الكلام بإيضاح في شرحه.

٩٤ ـ هذا بيت من الطويل من كلام أبي الطيب المتنبي ، وهو شاعر من شعراء الدولة العباسية فلا يحتج بشعره ، ولكن المؤلف أنشده على سبيل التمثيل ، وليبين أنه مشابه للبيت السابق ، وقد أنشده في كتابه القطر (رقم ٦٤).

٢٢٦

وإعمال «لا» العمل المذكور لغة أهل الحجاز أيضا ، وأما بنو تميم فيهملونها ويوجبون تكريرها.

وأما «إن» فتعمل بالشروط المذكورة ؛ إلا أن اقتران اسمها بإن ممتنع ؛ فلا حاجة لاشتراط انتفائه ، وتعمل في اسم معرفة وخبر نكرة ، قرأ سعيد بن جبير رحمه‌الله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) بتخفيف (إن) وكسرها لالتقاء الساكنين ، ونصب (عبادا) على الخبرية ، و (أَمْثالُكُمْ) على أنه صفة لعبادا ، وفي نكرتين ، سمع «إن أحد خيرا من أحد إلّا بالعافية» وفي معرفتين ، سمع «إن ذلك نافعك ولا ضارّك».

______________________________________________________

الإعراب : «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط ، «الجود» نائب فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده ، والتقدير : إذا لم يرزق الجود ، «لم» نافية جازمة ، «يرزق» فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم بلم ، ونائب فاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الجود ، والجملة لا محل لها تفسيرية ، «خلاصا» مفعول ثان ليرزق ، والمفعول الأول هو نائب الفاعل ، «من الأذى» جار ومجرور متعلق بخلاص ، «فلا» الفاء واقعة في جواب إذا ، لا : نافية ، «الحمد» اسم لا مرفوع بها ، «مكسوبا» خبر لا النافية منصوب بها ، «ولا» الواو عاطفة ، لا : نافية أيضا ، «المال» اسم لا «باقيا» خبر لا ، وجملة لا الثانية مع اسمها وخبرها معطوفة على جملة لا الأولى واسمها وخبرها ، ولا محل لهما من الإعراب لوقوعهما جوابا لشرط غير جازم ومعطوفا عليه.

التمثيل به : في قوله «لا الحمد مكسوبا» وقوله «ولا المال باقيا» ، حيث أعمل لا النافية عمل ليس في الموضعين ، فرفع بها الاسم ونصب بها الخبر ، مع أن الاسم في الموضعين معرفة لأنه محلى بأل.

وقد اضطربت كلمة النحاة في هذا الموضوع ؛ فمنهم من منع أن يكون اسم «لا» النافية العاملة عمل ليس معرفة ، وحكم بأن ما جاء عن العرب الذين يصح الاستشهاد بكلامهم مما ظاهره ذلك فهو شاذ أو مؤول ، وما ورد عمن لا يجوز الاستشهاد بكلامهم كأبي الطيب المتنبي فهو خطأ ، وهذا هو مذهب الجمهور من النحاة ، ومنهم من أجاز القياس على ذلك ، ولكنه مع ذلك يعترف بأن الأكثر الأشهر أن يكون اسمها نكرة ، ومن هؤلاء العلامة المحقق أبو الفتح ابن جني والشريف أبو السعادات بن الشجري.

وقد اضطربت كلمة ابن هشام مؤلف كتابنا هذا ؛ فهو في بعض كتبه يجري على مذهب ابن الشجري وابن جني فيرى أن مجيء اسم لا معرفة قليل لا شاذ ، كما فعل في كتابه الذي معنا ، ويجري في بعض كتبه على أنه شاذ كما فعل في كتابه «قطر الندى» وهو في اضطرابه هذا تابع

٢٢٧

وإعمال «إن» هذه لغة أهل العالية (١).

وأما «لات» فإنها تعمل هذا العمل أيضا ، ولكنها تختص عن أخواتها بأمرين :

أحدهما : أنها لا تعمل إلا في ثلاث كلمات ، وهي «الحين» بكثرة ، و «الساعة» و «الأوان» بقلة.

والثاني : أن اسمها وخبرها لا يجتمعان ، والغالب أن يكون المحذوف اسمها والمذكور خبرها ، وقد يعكس.

فالأول كقوله تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص ، ٣].

الواو للحال و (لا) نافية بمعنى ليس ، والتاء زائدة لتوكيد النفي والمبالغة فيه ، كالتاء في راوية ، أو لتأنيث الحرف ، واسمها محذوف ، و (حِينَ مَناصٍ) خبرها ، ومضاف إليه ، أي : فنادوا والحال أنه ليس الحين حين مناص ، أي : فرار وتأخير.

والثاني كقراءة بعضهم (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ) [ص ، ٣] بالرفع ،

______________________________________________________

لاضطراب كلمة ابن مالك صاحب الألفية في كتبه ، على وفق ما ذكره ابن عقيل في شرحه على الألفية ، ووفق ما ذكره الأشموني أيضا ، فإنهما قالا : إن ابن مالك أجاز في شرح التسهيل القياس على مجيء اسم لا معرفة ، وحكم في كتابه شرح الكافية بشذوذه ، وتأول ما جاء عن العرب مما ظاهره ذلك ، ونحن نقول : إن ابن مالك لم تضطرب كلمته في هذا الموضع ، بل كلامه في عامة كتبه على أن مجيء اسم لا النافية العاملة عمل ليس معرفة شاذ ، ومع هذا فإنا نرجح أنه ليس بشاذ ، بل هو قليل ، على ما هو مذهب ابن جني وابن الشجري وارتضاه أبو حيان من بعدهم جميعا ، ويدل لذلك أنه قد جاء في جملة صالحة من الشعر ، فمنها البيت الذي أنشده المؤلف ، ومنها قول النابغة الجعدي :

وحلّت سواد القلب ، لا أنا بانيا

سواها ، ولا عن حبّها متراخيا

__________________

(١) العالية ـ بالعين المهملة ـ المراد بها ما فوق نجد إلى أرض تهامة وإلى ما وراء مكة وما والاها ، وقد اختلف النحاة في جواز إعمال «إن» النافية ؛ فذهب أكثر الكوفيين والكسائي وأبو بكر وأبو علي وأبو الفتح إلى جواز إعمالها ، وذهب أكثر البصريين والفراء إلى المنع ، ونقل السهيلي أن سيبويه يجيز إعمالها والمبرد لا يجيزه ، ونقل النحاس عنهما عكس ما نقله السهيلي ، ونقل ابن مالك عنهما القول بجواز إعمالها.

٢٢٨

أي : وليس حين مناص حينا موجودا لهم عند تناديهم ونزول ما نزل بهم من العذاب.

ومن إعمالها في «الساعة» قول الشاعر :

٩٥ ـ ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

وفي «الأوان» قوله :

٩٦ ـ طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن ليس حين بقاء

______________________________________________________

٩٥ ـ هذا بيت من الكامل ، وقد نسبوا هذا الشاهد لرجل من طيئ ، ولم يعينوه ، وقال العيني : قائله محمد بن عيسى بن طلحة بن عبد الله التيمي ، ويقال : مهلهل بن مالك الكناني ، وقد أنشده الأشموني (رقم ٢٢٨).

اللّغة : «البغاة» جمع باغ ، وهو الذي يتجاوز قدره ، «مندم» مصدر ميمي بمعنى الندم ، «مرتع» اسم مكان من رتع في المكان ـ من باب فتح ـ إذا جعله ملهى ، وأصل الرتع أن تأكل الماشية ما شاءت ، ثم استعير للإنسان ، وفي القرآن الكريم في قصة يوسف : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ.)

الإعراب : «ندم البغاة» فعل وفاعل ، «ولات» الواو واو الحال ، لات : حرف نفي يعمل عمل ليس ، واسمه محذوف ، «ساعة» خبر لات ، وساعة مضاف ، و «مندم» مضاف إليه ، والجملة من لات واسمه وخبره في محل نصب حال ، «البغي» الواو للاستئناف ، والبغي مبتدأ أول ، «مرتع» مبتدأ ثان ، مرتع مضاف ومبتغى من «مبتغيه» مضاف إليه ، ومبتغي مضاف وضمير الغائب العائد إلى البغي مضاف إليه ، «وخيم» خبر المبتدأ الثاني ، وجملة المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول.

الشّاهد فيه : قوله «ولات ساعة مندم» حيث أعمل لات في لفظ دال على الزمان ، وهو ساعة ، ولم يعمله في لفظ الحين ، وللعلماء في إعمال لات رأيان : أحدهما أنها لا تعمل إلا في لفظ الحين ، والثاني أنها تعمل فيه وفيما رادفه من الساعة والأوان ونحوهما.

ومثل بيت الشاهد ما أنشده ابن السكيت في كتاب الأضداد :

ولتعرفنّ خلائقا مشمولة

ولتندمنّ ولات ساعة مندم

٩٦ ـ هذا بيت من الخفيف من كلمة لأبي زبيد الطائي ، وكان رجل من شيبان اسمه المكاء نزل برجل من طيئ ، فأضافه وسقاه خمرا ، فلما سكر وثب إليه الشيباني بالسيف فقتله ، وفخر بذلك شيبان ، وفي هذه الحالة يقول أبو زبيد كلمته التي أولها قوله :

خبّرتنا الرّكبان أن فرحتم

وفخرتم بضربة المكّاء

٢٢٩

وأصله ليس الحين أوان صلح ، أو ليس الأوان أوان صلح ، فحذف اسمها على القاعدة ، وحذف ما أضيف إليه خبرها ، وقدّر ثبوته ، فبناه كما يبني قبل وبعد ، إلا أن أوانا شبيه بنزال فبناه على الكسر ، ونوّنه للضرورة.

ثم قلت : الثامن خبر «إنّ» وأخواتها : ولكنّ ، وكأنّ ، وليت ، ولعلّ ، نحو : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) ولا يجوز تقدّمه مطلقا ، ولا توسّطه إلّا إن كان ظرفا أو مجرورا ، نحو : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً* إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً.)

وأقول : الثامن من المرفوعات : خبر «إنّ» وأخواتها الخمسة ، فإنهن يدخلن على المبتدأ والخبر ؛ فينصبن المبتدأ كما سيأتي في باب المنصوبات ويسمى اسمها ، ويرفعن خبره كما نذكره الآن ويسمى خبرها ، نحو : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) [طه ، ١٥] (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [المائدة ، ٩٨] (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) [المنافقون ، ٤] (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى ، ١٧].

ولا تتقدم أخبارهنّ عليهنّ مطلقا ، وقد أشار إلى ذلك الشيخ شرف الدين بن عنين حيث قال :

______________________________________________________

ولعمري لعارها كأن أدنى

لكم من تقى وحسن وفاء

والبيت المستشهد به من شواهد الأشموني (رقم (٢٢٩).

الإعراب : «طلبوا» فعل وفاعل ، «صلحنا» صلح : مفعول به لطلبوا ، وصلح مضاف والضمير مضاف إليه ، «ولات» الواو واو الحال ، لات : حرف نفي يعمل عمل ليس ، واسمه محذوف ، «أوان» خبر لات مبني على الكسر في محل نصب ، ونون لأجل الضرورة ، وجملة لات واسمه وخبره في محل نصب حال ، «فأجبنا» الفاء عاطفة ، أجبنا : فعل وفاعل «أن» تفسيرية ، «ليس» فعل ماض ناقص ، واسمه محذوف ، «حين» خبر ليس ، وحين مضاف ، و «بقاء» مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «ولات أوان» حيث أعمل «لات» النافية في لفظ الأوان ، وهو من معنى الحين وليس هو لفظه ، فهو رد على سيبويه فيما نقل عنه جماعة وعلى من وافقه ، حيث اشترطوا في إعمال لات أن يكون اسمها وخبرها لفظ الحين.

واعلم أن جماعة ذهبوا إلى أن «لات» في هذا البيت عاملة عمل ليس ، وأن قوله «أوان» مبني على الكسر لشبهه في الوزن بنزال ، وأن تنوينه للضرورة ، وهذا كله ادعاء أبي سعيد السيرافي وأبي

٢٣٠

٩٧ ـ كأنّي من أخبار إنّ ولم يجز

له أحد في النّحو أن يتقدّما

عسى حرف جرّ من نداك يجرّني

إليك فإنّي من وصالك معدما

______________________________________________________

العباس المبرد ؛ فعندهما أن الكسرة التي تراها على نون أوان ليست كسرة إعراب ، بل هي إما كسرة بناء ، وإما كسرة التخلص من التقاء الساكنين ، وهذا التنوين ليس هو تنوين التمكين الذي يكون في آخر الاسم المتمكن ، ولكنه إما تنوين العوض الذي يلحق نحو «إذ» عند حذف الجملة التي تضاف إذ إليها ، كما في قوله تعالى (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) [الزلزلة ، ٤] ، وإما تنوين الضرورة الذي يلحق بعض المبنيات ، كما مر في شرح الشاهدين (رقم ٥٢ و ٥٣).

وأصل الكلام على الأول : ولات الأوان طلبوا صلحنا ، فأوان مضاف والجملة الفعلية مضاف إليه ، فحذفت هذه الجملة ، ثم بنى أوان : إما على السكون كما هو الأصل في المبنيات وإما على الكسر لشبهه في الوزن بنزال ، ثم أتى بالتنوين عوضا عن الجملة المحذوفة ؛ فإن قدرت بناء أوان على السكون فإنما حرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين. وكون هذا التنوين تنوين التعويض هو اختيار جار الله الزمخشري ، وكونه تنوين الضرورة هو ما اختاره المؤلف في مغني اللبيب ، وصرح به ههنا ، وتبعه عليه الأشموني.

وزعم الفراء أن «لات» في هذا البيت ونحوه حرف جر ، وهذه الكسرة التي تراها على نون «أوان» هي كسرة الإعراب التي تراها على دال زيد في قولك : مررت بزيد ، وهذا التنوين هو تنوين التمكين ، ولات هي التي أحدثت هذه الكسرة ، لأنها كما قلنا حرف جر.

وقد أشبعنا القول في الاستدلال والتخريج في شرحنا على شرح الأشموني ، وهذه العجالة لا تتسع لأكثر مما ذكرنا.

٩٧ ـ هذان بيتان من الطويل من كلام ابن عنين ، وهو شرف الدين أبو العباس محمد بن نصر الدين الحسين بن عنين ، الأنصاري ، الكوفي الأصل ، الدمشقي المولد والوفاة ، ولد في سنة ٥٤٩ وتوفي في سنة ٦٣٠ من الهجرة ، وقد أنشد المؤلف أولهما في القطر (رقم ٦٣).

الإعراب : «كأني» كأن : حرف تشبيه ونصب ، وياء المتكلم اسمه «من أخبار» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر كأن ، وأخبار مضاف ، و «إنّ» قصد لفظه : مضاف إليه ، «ولم» حرف نفي وجزم وقلب ، «يجز» فعل مضارع مجزوم بلم ، «له» جار ومجرور متعلق بيجز ، «أحد» فاعل يجز ، «في النحو» جار ومجرور متعلق بيجز ، «أن» حرف مصدري ونصب ، «يتقدما» فعل مضارع منصوب بأن ، والألف للإطلاق ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى خبر إن ، وأن مع ما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول به ليجز ، «عسى» فعل ماض ناقص دال على الرجاء ، «حرف» اسم عسى ، مرفوع بالضمة الظاهرة ، وحرف مضاف و «جر» مضاف إليه ، «من نداك»

٢٣١

ولا على أسمائهن ؛ فإن الحروف محمولة في الإعمال على الأفعال ، فلكونها فرعا في العمل لا يليق التوسّع في معمولاتها بالتقديم والتأخير ، اللهم إلا إن كان الخبر ظرفا أو جارّا ومجرورا ، فيجوز توسّطه بينها وبين أسمائها ، كقوله تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) [المزمل ، ١٢] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) [النازعات ، ٢٦] وفي الحديث «إن في الصّلاة لشغلا» و «إنّ من الشّعر لحكما» ويروى «لحكمة» فأما تقديمه عليها فلا سبيل إلى جوازه ، لا تقول : في الدار إن زيدا.

ثم قلت : وتكسر «إنّ» في الابتداء ، وفي أوّل الصّلة والصّفة والجملة الحاليّة ، والمضاف إليها ما يختصّ بالجمل ، والمحكيّة بالقول ، وجواب القسم ، والمخبر بها عن اسم عين ، وقبل اللّام المعلّقة ، وتكسر أو تفتح بعد «إذا» الفجائية والفاء الجزائيّة ، وفي نحو : «أوّل قولي أنّي أحمد الله» وتفتح في الباقي.

وأقول : لإنّ ثلاث حالات ، وجوب الكسر ، ووجوب الفتح ، وجواز الأمرين :

فيجب الكسر في تسع مسائل :

إحداها : في ابتداء الكلام ؛ نحو : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر ، ١] (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر ، ١].

الثانية : أن تقع في أول الصلة ، كقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ) [القصص ، ٧٦] (ما) مفعول ثان لآتيناه ، وهي موصول بمعنى الذي ، و (إنّ) وما

______________________________________________________

جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لحرف جر ، «يجرني» يجر : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى حرف جر ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به ، والجملة من الفعل المضارع وفاعله ومفعوله في محل نصب خبر عسى ، وكان الأوفق أن يقرن المضارع بأن المصدرية ، «إليك» جار ومجرور متعلق بيجر ، «فإني» الفاء للتعليل ، وإن : حرف توكيد ونصب ، وياء المتكلم اسمه ، «من وصالك» جار ومجرور متعلق بمعدم الآتي ، «معدما» خبر إن ، وقد جاء به على لغة من ينصب بها الاسم والخبر جميعا ، كقوله* إن حراسنا أسدا* وهي لغة مهجورة فتنبه.

سبب ذكرهما : ذكر المؤلف هذين البيتين استملاحا لمعناهما ، ولأن صاحبهما قرر القاعدة النحوية في أسلوب ظريف ؛ وهي أن الخبر في باب «إن» لا يتقدم أصلا ، ولا يتوسط إلا إن كان جارّا ومجرورا.

٢٣٢

بعدها صلة ، واحترزت بقولي «أول الصلة» من نحو : «جاء الّذي عندي أنّه فاضل» فإنّ واجبة الفتح وإن كانت في الصلة ، لكنها ليست في أولها (١).

الثالثة : أن تقع في أول الصفة ك «مررت برجل إنّه فاضل» ولو قلت : «مررت برجل عندي أنّه فاضل» لم تكسر ؛ لأنها ليست في ابتداء الصفة.

الرابعة : أن تقع في أول الجملة الحالية ، كقوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) [الأنفال ، ٥] ، واحترزت بقيد الأولية من نحو : «أقبل زيد وعندي أنّه ظافر».

الخامسة : أن تقع في أول الجملة المضاف إليها ما يختص بالجملة ـ وهو إذ وإذا وحيث ـ نحو : «جلست حيث إنّ زيدا جالس» وقد أولع الفقهاء وغيرهم بفتح «إن» بعد حيث ، وهو لحن فاحش (٢) ، فإنها لا تضاف إلا إلى الجملة ، و «أن» المفتوحة ومعمولاها في تأويل المفرد ، واحترزت بقيد الأولية من نحو : «جلست حيث اعتقاد زيد أنّه مكان حسن».

ولم أر أحدا من النحويين اشترط الأولية في مسألتي الحال وحيث ، ولا بد من ذلك.

السادسة : أن تقع قبل اللام المعلّقة ، نحو : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون ، ١] ، فاللام من (لرسوله) ومن (لكاذبون)

__________________

(١) لو قال : «لكونها ليست في أولها» لكان أدق ، فتأمل.

(٢) ليس الأمر كما قال المؤلف ، بل هو جائز ، وله تخريج حسن ؛ أما تخريجه على قول من أجاز أن تضاف حيث إلى المفرد كما في قول الشاعر* .. حيث لي العمائم* فظاهر ؛ لأن المصدر المنسبك من أن المفتوحة وما بعدها مفرد مجرور بإضافة حيث إليه ؛ وأما الذين أوجبوا إضافة حيث إلى الجملة ـ وهم الجمهور ـ والمؤلف تابع لهم فعلى مذهبهم يكون المصدر المنسبك من أن وما بعدها مفردا مرفوعا على أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، وجملة المبتدأ وخبره في محل جر بإضافة حيث إليها ؛ فلو فتحت الهمزة في المثال الذي ذكره المؤلف كان التقدير : جلست حيث جلوس زيد حاصل ؛ فجلوس زيد : هو المصدر المنسبك من أن المفتوحة وما بعدها ، وحاصل : هو الخبر المحذوف ؛ فتكون «إن» بعد حيث مثلها بعد إذا الفجائية.

وخلاصة هذا الكلام : أنا نسلم أن حيث لا تضاف إلا إلى الجملة ، لكننا نقرر أن الجملة لا يجب ذكر طرفيها ، بل يجوز أن يذكر أحدهما ويحذف الثاني لقرينة تدل عليه.

٢٣٣

معلّقان لفعلي العلم والشهادة ، أي : مانعان لهما من التسلّط على لفظ ما بعدهما ؛ فصار لما بعدهما حكم الابتداء ؛ فلذلك وجب الكسر ، ولو لا اللام لوجب الفتح كما قال الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال ، ٤١] و (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران ، ١٨].

السابعة : أن تقع محكية بالقول ، نحو : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم ، ٣٠] (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء ، ٢٩] (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) [سبأ ، ٤٨].

الثامنة : أن تقع جوابا للقسم ، كقوله تعالى : (حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ) [الدخان ، ١ ـ ٣].

التاسعة : أن تقع خبرا عن اسم عين ، نحو : «زيد إنّه فاضل» وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الحج ، ١٧].

وقد أتيت في شرح هذا الموضع بما لم أسبق إليه فتأملوه.

ويجب الفتح في ثماني مسائل :

إحداها : أن تقع فاعلة ، نحو : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا) [العنكبوت ، ٥١] ، أي : إنزالنا.

الثانية : أن تقع نائبة عن الفاعل ، نحو : و (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) [هود ، ٣٦] (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن ، ١].

الثالثة : أن تقع مفعولا لغير القول ، نحو : (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) [الأنعام ، ٨١].

الرابعة : أن تقع في موضع رفع بالابتداء نحو : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) [فصلت ، ٣٩].

٢٣٤

الخامسة : أن تقع في موضع خبر عن اسم معنى ، نحو : «اعتقادي أنّك فاضل».

السادسة : أن تقع مجرورة بالحرف ، نحو : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ)

[الحج ، ٦ و ٦٢ ، ولقمان ، ٣٠].

السابعة : أن تقع مجرورة بالإضافة ، نحو : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)

[الذاريات ، ٢٣].

الثامنة : أن تقع تابعة لشيء مما ذكرنا ، نحو : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة ، ٤٧] ، ونحو : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) [الأنفال ، ٧] ؛ فإنها في الأولى معطوفة على المفعول ، وهو (نعمتي) ، وفي الثانية بدل منه ، وهو (إحدى).

ويجوز الوجهان في ثلاث مسائل في الأشهر :

إحداها : بعد «إذا» الفجائية ، كقولك : «خرجت فإذا إنّ زيدا بالباب» ، قال الشاعر :

٩٨ ـ وكنت أرى زيدا كما قيل سيّدا

إذا أنّه عبد القفا واللهازم

______________________________________________________

٩٨ ـ هذا بيت من الطويل ، ولم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، وهو من شواهد شيخ النحاة سيبويه (ج ١ ص ٤٧٢) وقد أنشده الأشموني (رقم ٢٦٢) والمؤلف في أوضحه (رقم ١٣٤) وابن عقيل (رقم ٩٨).

اللّغة : «اللهازم» جمع لهزمة ـ بكسر اللام والزاي وبينهما هاء سكنة ـ وهي طرف الحلقوم ، ويقال : هي عظم ناتئ تحت الأذن ، وقوله «عبد القفا واللهازم» كناية عن الخسة والمهانة والذلة ؛ لأن العبد يصفع على قفاه حتى يتورم ، ويلكز حتى ينتأ له نتوء.

الإعراب : «كنت» كان : فعل ماض ناقص ، وتاء المتكلم اسمه ، «أرى» فعل مضارع بمعنى أظن مرفوع بضمة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «زيدا» مفعول أول ، «كما قيل» الكاف حرف جر ، وما : اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالكاف ، وقيل : فعل ماض مبني للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة ، وجملة الفعل ونائب فاعله صلة الموصول ، «سيدا» مفعول ثان لأرى ، «إذا» فجائية ، «أنه» أن : حرف توكيد ونصب ، والهاء ضمير الغائب العائد إلى زيد اسم أن ، «عبد» خبر أن ، وعبد مضاف ، و «القفا» مضاف إليه «واللهازم» معطوف على القفا.

٢٣٥

يروى بفتح «إن» وبكسرها.

الثانية : بعد الفاء الجزائيّة ، كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام ، ٥٤] قرئ بكسر «إن» وفتحها.

الثالثة : في نحو «أوّل قولي إنّي أحمد الله» وضابط ذلك : أن تقع خبرا عن قول ، وخبرها قول كأحمد ونحوه ، وفاعل القولين واحد ، فما استوفى هذا الضابط كالمثال المذكور جاز فيه الفتح على معنى أول قولي حمد الله ، والكسر على جعل «أول قولي» مبتدأ ، و «إني أحمد الله» جملة أخبر بها عن هذا المبتدأ ، وهي مستغنية عن عائد يعود على المبتدأ ؛ لأنها نفس المبتدأ في المعنى ، فكأنه قيل : أول قولي هذا الكلام المفتتح بإني ، ونظير ذلك قوله سبحانه : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) [يونس ، ١٠] وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل ما قلته أنا والنّبيّون من قبلي لا إله إلّا الله».

ثم قلت : التّاسع خبر «لا» الّتي لنفي الجنس ، نحو : «لا رجل أفضل من زيد» ، ويجب تنكيره كالاسم ، وتأخيره ولو ظرفا ، ويكثر حذفه إن علم ، وتميم لا تذكره حينئذ.

وأقول : التاسع من المرفوعات : خبر «لا» التي لنفي الجنس.

اعلم إن «لا» على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تكون ناهية ؛ فتختصّ بالمضارع وتجزمه ، نحو : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) [الإسراء ، ٣٧ ولقمان ، ١٨] (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) [الإسراء ، ٣٣] (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة ، ٤٠] وتستعار للدعاء فتجزم أيضا ، نحو : (لا تُؤاخِذْنا) [البقرة ، ٢٨٦].

الثاني : أن تكون زائدة دخولها في الكلام كخروجها ؛ فلا تعمل شيئا ، نحو :

______________________________________________________

الشّاهد فيه : قوله «إذا أنه عبد القفا» حيث روي فيه بوجهين : الأول بفتح همزة أن ، على اعتبار أنها مع اسمها وخبرها في تأويل مصدر مبتدأ ، واختلف العلماء حينئذ في خبره ؛ فقال المبرد والأعلم : إذا ظرف وهو متعلق بمحذوف خبر ، وقال قوم منهم ابن مالك : إذا حرف وخبر المبتدأ محذوف ، والوجه الثاني بكسر همزة إن على تقدير أن ما بعدها جملة غير محتاجة إلى شيء.

٢٣٦

(ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف ، ١٢] أي : أن تسجد ، بدليل أنه قد جاء في مكان آخر بغير «لا» وقوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الحديد ، ٢٩] وقوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء ، ٩٥].

الثالث : أن تكون نافية ، وهي نوعان : داخلة على معرفة فيجب إهمالها وتكرارها نحو «لا زيد في الدار ولا عمرو» وداخلة على نكرة ، وهي ضربان : عاملة عمل ليس ؛ فترفع الاسم وتنصب الخبر كما تقدم ، وهو قليل ، وعاملة عمل «إنّ» ؛ فتنصب الاسم وترفع الخبر ، والكلام الآن فيها ، وهي التي أريد بها نفي الجنس على سبيل التنصيص لا على سبيل الاحتمال.

وشرط إعمالها هذا العمل أمران (١).

أحدهما : أن يكون اسمها وخبرها نكرتين كما بيّنّا.

والثاني : أن يكون الاسم مقدما والخبر مؤخرا ، وذلك كقولك «لا صاحب علم ممقوت» و «لا طالعا جبلا حاضر».

فلو دخلت على معرفة أو على خبر مقدّم وجب إعمالها وتكرارها.

فالأول كما تقدم من قولك «لا زيد في الدار ولا عمرو» ، وأما قول [بعض] العرب «لا بصرة [اليوم] لكم» وقول عمر : «قضية ولا أبا حسن لها» يريد علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وقول أبي سفيان يوم فتح مكة «لا قريش بعد اليوم».

وقول الشاعر :

٩٩ ـ أرى الحاجات عند أبي خبيب

نكدن ولا أميّة في البلاد

______________________________________________________

٩٩ ـ هذا بيت من الوافر ، وهذا البيت من كلام عبد الله بن الزبير ـ بفتح الزاي ـ الأسدي ، يقوله في أبي خبيب عبد الله بن الزبير ـ بضم الزاي ـ بن العوام ، وكان قد طلب جدواه فلم يمنحه

__________________

(١) وبقي من شروط إعمال لا هذا العمل : ألا يدخل عليها حرف جر ؛ فإن دخل عليها حرف جر نحو «جئت بلا زاد» ونحو «غضبت من لا شيء» كانت «لا» زائدة بين الجار والمجرور.

٢٣٧

فمؤول بتقدير «مثل» : أي ولا مثل أبي حسن ، ولا مثل البصرة ، ولا مثل قريش ، ولا مثل أمية.

والثاني : كقول الله سبحانه وتعالى : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات ، ٤٧].

ويكثر حذف الخبر إذا علم ، كقول الله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) [سبأ ، ٥١] أي : فلا فوت لهم ، وقوله تعالى : (لا ضَيْرَ) [الشعراء ، ٥٠] أي : لا ضير علينا ، وبنو تميم يوجبون حذفه إذا كان معلوما ، وأما إذا جهل فلا يجوز حذفه عند أحد ، فضلا عن أن يجب ، وذلك نحو : «لا أحد أغير من الله عزوجل».

ثم قلت : العاشر المضارع إذا تجرّد من ناصب وجازم.

______________________________________________________

شيئا ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ٢٩٢).

اللّغة : «أبو خبيب» هو عبد الله بن الزبير بن العوام ، وأمه ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق ـ رضي الله تعالى عنهم أجمعين! ـ وكان قد وثب على خلافة بني أمية ؛ وصار أميرا للمؤمنين ، واستولى على الحجاز ومصر والعراق ، كني بأكبر أولاده ، «نكدن» فعل ماض من النكد ، وهو شدة العيش وضيقه ، وفي عامة نسخ الشرح «يكدن» بالياء المثناة ـ وهو تصحيف ، وكذلك وقع مصحفا في أصول نسخ الأشموني.

الإعراب : «أرى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا «الحاجات» مفعول أول لأرى ، «عند» ظرف متعلق بمحذوف حال من الحاجات ، وعند مضاف ، و «أبي» مضاف إليه ، وأبي مضاف و «خبيب» مضاف إليه ، «نكدن» نكد : فعل ماض ، ونون النسوة فاعله ، والجملة في محل نصب مفعول ثان لأرى ، «ولا» الواو واو الحال ، لا : نافية للجنس ، «أمية» اسم لا ، مبني على الفتح في محل نصب ، «في البلاد» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا ، والجملة من لا واسمها وخبرها في محل نصب حال.

الشّاهد فيه : قوله «لا أمية» حيث أوقع اسم «لا» معرفة ؛ لأن أمية علم ، وهو في الحقيقة مؤول بأحد تأويلين ، إما بأن المراد ما اشتهر به هذا العلم من الصفات ، فكأنه قال : ولا كريم في البلاد ، وإما بتقدير مضاف لا يتعرف بالإضافة كمثل ، فكأنه قال : ولا مثل أمية في البلاد ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، والوجه الثاني من وجهي التأويل المذكورين هو الذي ذكره المؤلف ههنا.

٢٣٨

وأقول : العاشر من المرفوعات ـ وهو خاتمتها ـ الفعل المضارع إذا تجرّد من ناصب وجازم كقولك : «يقوم زيد» و «يقعد عمرو».

فأما قول أبي طالب يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

١٠٠ ـ محمّد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا

فهو مقرون بجازم مقدّر ، وهو لام الدعاء ، وقوله «تبالا» أصله «وبالا» فأبدل الواو تاء ، كما قالوا في وراث ووجاه : تراث ، وتجاه :

وأما قول امرئ القيس :

______________________________________________________

١٠٠ ـ هذا بيت من الوافر ، وهو من شواهد سيبويه (ج ١ ص ٤٠٨) ولم ينسبه ، ولا نسبه الأعلم ، وأنت ترى المؤلف قد نسبه إلى أبي طالب ، ومن الناس من ينسبه إلى ابنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

اللّغة : «التبال» سوء العاقبة أو الهلاك ، وهو بفتح التاء ـ بزنة سحاب ـ وأصل فائه واو ، فأصله الوبال ، فقلبت الواو الواقعة في أول الكلمة تاء ، وهذا القلب قليل في الواو المفتوحة ، ولكنه يكثر في المضمومة ؛ فمن ذلك قولهم «جلست تجاه فلان» فإن أصل هذه التاء الواو ؛ لأنه من المواجهة فأصل تجاه وجاه ، وكذا قولهم «تخمة» فإن أصل هذه التاء واو ؛ لأنه من الوخامة ، فأصل تخمة وخمة ، فأبدلت الواو تاء قصدا للتخفيف ، ومن هنا تعلم أن تنظير المؤلف التبال بالوجاه ليس دقيقا.

الإعراب : «محمد» منادى بحرف نداء محذوف ، وأصل الكلام : يا محمد ، «تفد» فعل مضارع مجزوم بلام دعاء محذوفة ، وعلامة جزمه حذف الياء والكسرة قبلها دليل عليها ، «نفسك» نفس : مفعول به لتفد ، ونفس مضاف وضمير المخاطب مضاف إليه «كل» فاعل تفد ، وكل مضاف و «نفس» مضاف إليه ، «إذا» ظرفية تضمنت معنى الشرط ، «ما» زائدة ، «خفت» فعل وفاعل ، والجملة في محل جر بإضافة إذا إليها ، «من شيء» جار ومجرور متعلق بخفت ، «تبالا» مفعول به لخاف ، وجواب إذا محذوف يدل عليه سابق الكلام.

الشّاهد فيه : قوله «تفد» فإنه فعل مضارع لم يتقدمه في اللفظ ناصب ولا جازم ، ولكنه جاء على صورة المجزوم ، ولذلك قدره العلماء مجزوما بلام أمر محذوفة ، وأصله لتفد ، قال الأعلم : «الشاهد فيه إضمار لام الأمر في تفد ، والمعنى : لتفد نفسك ، وهذا من أقبح الضرورة ، لأن الجازم أضعف من الجار ، والجار لا يضمر ، وقد قيل : إنه مرفوع حذفت لامه ضرورة ، واكتفى بالكسرة ، وهذا أسهل في الضرورة وأقرب» اه. كلامه.

٢٣٩

١٠١ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل

فليس قوله «أشرب» مجزوما ، وإنما هو مرفوع ، ولكن حذفت الضمة للضرورة (١) أو على تنزيل «ربغ» بالضم من قوله «أشرب غير» منزلة عضد ـ بالضم (٢) ـ فإنهم قد يجرون المنفصل مجرى المتصل ، فكما يقال في عضد بالضم : عضد بالسكون ، كذلك قيل في «ربغ» بالضم «ربغ» بالإسكان.

______________________________________________________

١٠١ ـ هذا بيت من السريع من كلام امرئ القيس بن حجر الكندي.

اللّغة : «مستحقب» أصله الذي يجمع حاجاته في الحقيبة ، والمراد غير مكتسب ، «واغل» هو الذي يدخل على القوم وهم يشربون من غير أن يدعى إلى مشاركتهم.

الإعراب : «اليوم» ظرف زمان متعلق بأشرب ، «أشرب» فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة ؛ وسكن للتخفيف ، على ما ستعرفه ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «غير» حال من فاعل أشرب ، وغير مضاف و «مستحقب» مضاف إليه ، وفي مستحقب ضمير مستتر هو فاعله لأنه اسم فاعل ، «إثما» مفعول به لمستحقب ، «من الله» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لإثم ، «ولا» الواو عاطفة ، لا : زائدة لتأكيد النفي ، «واغل» معطوف على مستحقب.

الشّاهد فيه : قوله «أشرب» فإنه فعل مضارع لم يتقدمه جازم ، وهو مع ذلك ساكن الآخر ، وللعلماء في تخريج هذا الإسكان وجهان ؛ الأول : أنه ضرورة دعا إليها النظم ، الثاني : أنه لما توالى في الكلمة مع ما بعدها ثلاث حركات : أولاها فتحة وهي حركة الراء ، وثانيتها ضمة وهي حركة الباء ، وثالثتها فتحة وهي حركة الغين ، لما توالت هذه الحركات الثلاث أشبهت عضدا في وجود فتحة تتبعها ضمة ، والعرب تجوز تسكين ضاد عضد ونحوه ، فلما أشبهت هذه الأحرف الثلاثة

__________________

(١) اختلف النحاة في حذف حركة الإعراب للتخفيف وإسكان آخر الكلمة ، ولهم في ذلك ثلاثة أقوال ، الأول ـ وهو قول ابن مالك ـ أن ذلك جائز مطلقا ، فعنى سواء أكان في الشعر أم كان في النثر ، وذكر أن أبا عمرو حكى ذلك عن بني تميم ، وخرجوا على ذلك قراءة من قرأ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) بسكون الراء ، وقراءة من قرأ (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) بسكون الهمزة ، ولقول الثاني ـ وهو قول أبي العباس المبرد ـ لا يجوز ذلك مطلقا ، لا في الشعر ولا في النثر ، والقول الثالث ـ وهو قول جمهور النحاة ـ أن ذلك لا يجوز في سعة الكلام ، ولكن إذا اضطر شاعر إلى ذلك فأتى به في شعره احتمل منه ، والصحيح قول المبرد.

(٢) كل كلمة على ثلاثة أحرف ، وكان ثانيها مضموما أو مكسورا ، سواء أكانت الكلمة اسما أم كانت فعلا ، جاز لك أن تسكن ثانيها المضموم أو المكسور ، ومثال المضموم ثانيها من الأسماء عضد وعنق ، ومن الأفعال كرم ، ومثال المكسور ثانيها من الأسماء كتف وفخذ وإبل ، ومن الأفعال علم ووسع.

٢٤٠