شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

٧٨ ـ تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا الّا من ربيعة أو مضر؟

فضرورة إن قدّر الفعل ماضيا ، وأما إن قدّر مضارعا ـ وأصله تتمنّى فحذفت إحدى التاءين كما قال تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) [الليل ، ١٣] ـ فلا ضرورة.

______________________________________________________

٧٨ ـ هذا بيت من الطويل للبيد بن ربيعة العامري ، من أبيات له أربعة يقولها لابنتيه ، وهو أول هذه الأبيات ، وبعده قوله :

فقوما وقولا بالّذي تعلمانه

ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر

وقولا هو المرء الذي لا صديقه

أضاع ، ولا خان الخليل ، ولا غدر

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

اللّغة : «تمنى» يجوز أن يكون فعلا ماضيا مثل تقدم وتذكر وتقدس ؛ ويجوز أن يكون فعلا مضارعا ، وأصله تتمنى مثل تتزكى وتتقدم وتتهذب ، ثم حذف إحدى التاءين ؛ لأن كل فعل تصدر بتاءين زائدتين جاز لك حذف إحداهما ، كما حذفت من قوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) [الليل ، ١٤] ، والأصل تتلظى ، ومن قوله تعالى : (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) [عبس ، ٦] ، وأصله تتصدى ، ونحو ذلك كثير في القرآن ، وفي الفصيح المستعمل من لغة العرب «ربيعة أو مضر» هما ابنا نزار بن معد بن عدنان ، وهم أبوا العرب العدنانيين ، ويراد بمثل هذا التعبير معنى : وهل أنا إلا من الناس ينزل بي ما ينزل بكل واحد منهم.

الإعراب : «تمنى» فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف ، أو فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الألف ، «ابنتاي» ابنتا : فاعل مرفوع بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى وهو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «أن» حرف مصدري ونصب ، «يعيش» فعل مضارع منصوب بأن ، «أبو هما» أبو : فاعل يعيش ، مرفوع بالواو نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الستة ، وهو مضاف وضمير الغائب مضاف إليه ، وأن المصدرية وما دخلت عليه في تأويل مصدر يقع مفعولا به لتمنى ، وتقدير الكلام : تمنى ابنتاي عيش أبيهما ، «وهل» الواو للاستئناف ، هل : حرف استفهام ، «أنا» ضمير منفصل مبتدأ ، «إلا» أداة حصر ، «من ربيعة» جار ومجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، «أو» حرف عطف «مضر» معطوف على ربيعة ، وسكن لأجل الوقف.

الشّاهد فيه : قوله «تمنى ابنتاي» فإن «ابنتاي» مثنى ابنة ، وهي مؤنثة حقيقية التأنيث ، وقد وقع هذا اللفظ فاعلا لقوله «تمنى» فإن قدرت هذا الفعل ماضيا كان خاليا من علامة التأنيث ؛ لأن علامة التأنيث في الفعل الماضى تاء ساكنة تتصل بآخره ، فعلى ذلك كان ينبغي أن يقول : تمنت ابنتاي ، ولو قدرت هذا الفعل مضارعا محذوف إحدى التاءين كان مؤنثا ؛ لأن علامة التأنيث في الفعل المضارع تاء متحركة تتصل بأوله ، وكل ما في الباب أن هذه التاء حذفت ، والمحذوف لسبب كالثابت في

٢٠١

وأما قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) [الممتحنة ، ١٢] ، فإنما جاز لأجل الفصل بالمفعول ، أو لأن الفاعل في الحقيقة «أل» الموصولة ، وهي اسم جمع ؛ فكأنه قيل : اللّاتي آمنّ ، أو لأن الفاعل اسم جمع محذوف موصوف بالمؤمنات : أي النسوة اللاتي آمنّ (١).

وأما التأنيث الراجح ففي مسألتين أيضا :

إحداهما : أن يكون الفاعل ظاهرا متصلا مجازيّ التأنيث ، كقولك : طلعت الشمس ، وقوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ) [الأنفال ن ٣٥] (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) [النمل ، ٥١] (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [القيامة ، ٩].

والثانية : أن يكون ظاهرا حقيقيّ التأنيث منفصلا بغير «إلا» كقولك : قام اليوم هند ، وقامت اليوم هند ، وكقوله :

٧٩ ـ إنّ امرأ غرّه منكنّ واحدة

بعدي وبعدك في الدّنيا لمغرور

______________________________________________________

اللفظ ، فيلزم على اعتبار الفعل ماضيا أن يكون البيت شاذّا ، لأنه لم يؤنث الفعل المسند إلى اسم ظاهر متصل حقيقي التأنيث ، ويلزم على اعتبار الفعل مضارعا جريان البيت على المستعمل المطرد ، وهذا الاعتبار أولى بالاعتبار ، لأنه لا يجوز التخريج على الشاذ أو الضرورة ما أمكن غيره.

٧٩ ـ هذا بيت من البسيط ، وقد بحثت طويلا عن هذا البيت فلم أجد أحدا نسبه إلى قائل معين ، والبيت قد استشهد به الأشموني (رقم ٣٦٥) وابن الناظم في باب الفاعل.

الإعراب : «إن» حرف توكيد ونصب ، «امرأ» اسم إن ، «غره» غر : فعل ماض ، والهاء ضمير غائب عائد إلى امرئ ، مفعول به ، «منكن» جار ومجرور متعلق بغر ، أو هو متعلق بمحذوف حال من واحدة الآتي ، «واحدة» فاعل غر ، وجملة الفعل والفاعل في محل نصب صفة لقوله امرأ ، «بعدي» بعد : ظرف متعلق بغر ، وبعد مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «وبعدك» هذا الظرف معطوف بالواو على الظرف السابق والكاف ضمير المخاطب مضاف إليه ، «في الدنيا» جار ومجرور متعلق إما بقوله مغرور الآتي ، وإما بمحذوف صفة لامرئ ، والأخير أولى عندنا من جهة المعنى ، «لمغرور» اللام هي اللام المزحلقة ، مغرور : خبر إن التي في أول البيت.

__________________

(١) أنت تعلم أن كل ما يدل على معنى الجمع يحتمل أن يؤول بالجماعة فيكون مؤنث المعنى ، ويحتمل أن يؤول بالجمع فيكون مذكر المعنى.

٢٠٢

والمبرد يخص ذلك بالشعر.

______________________________________________________

الشّاهد فيه : قوله «غره منكن واحدة» حيث أسند الفعل إلى اسم ظاهر حقيقي التأنيث ولم يؤنث هذا الفعل ، لوجود الفاصل بين الفعل وفاعله بقوله «منكن» وذكر علامة التأنيث في مثل هذه الحال أرجح من حذفها.

ومثله في المعنى قول حجر آكل المرار في هند بنت ظالم امرأته ، وكانت قد أسرها زياد بن الهبولة في يوم البردان :

إنّ من غرّه النّساء بشيء

بعد هند لجاهل مغرور

حلوة العين والحديث ، ومرّ

كلّ شيء أجنّ منها الضّمير

كلّ أنثى وإن بدا لك منها

آية الحبّ حبّها خيتعور

__________________

والذي يدل على الجمع ستة أشياء ؛ لأن هذا الدال إما أن يكون جمعا حقيقة ، أو يكون اسم جمع ، أو يكون اسم جنس جمعي ، ثم قد يكون الجمع جمع تكسير لمذكر ، أو جمع تكسير لمؤنث ، أو جمع مذكر سالما ، أو جمع مؤنث سالما. فاسم الجمع نحو قوم ورهط ونسوة ، واسم الجنس الجمعي نحو روم وزنج وكلم ، وجمع التكسير الذي لمذكر نحو رجال وزيود ، وجمع التكسير الذي لمؤنث نحو هنود وضوارب ، وجمع المذكر السالم نحو الزيدين والمؤمنين والبنين ، وجمع المؤنث السالم نحو الهندات والمؤمنات والبنات.

وعلى مقتضى هذا الذي ذكرنا من احتمال هذه الأنواع كلها للوجهين كان ينبغي أن يجوز في جميعها تأنيث الفعل المسند إليها على تأويلها بالجماعة ، وتذكيره على تأويلها بالجمع.

وقد اختلف النحاة في هذا الموضوع على ثلاثة مذاهب :

المذهب الأول : مذهب جمهور الكوفيين ، وحاصله تجويز الوجهين في جميع هذه الأنواع ، تمشيا مع هذا الأصل الذي ذكرناه.

والمذهب الثاني : مذهب أبي علي الفارسي ، وخلاصته تجويز الوجهين في جميع الأنواع إلا نوعا واحدا ، وهو جمع المذكر السالم ؛ فإنه أوجب فيه تذكير الفعل.

والمذهب الثالث : مذهب جمهور البصريين ، وخلاصته تجويز الوجهين في اسم الجمع وفي اسم الجنس الجمعي وفي جمع التكسير لمذكر وفي جمع التكسير لمؤنث ، ووجوب التذكير في جمع المذكر السالم ، ووجوب التأنيث في جمع المؤنث السالم ، قالوا : لأنك حين تجمع رجلا على رجال ، وحين تجمع هندا على هنود ، لا يبقى في الجمع لفظ المفرد على ما كان عليه ؛ فأشبه اسم الجمع الذي لا واحد له من لفظه ؛ فأما حين تجمع زيدا على الزيدين وحين تجمع هندا على الهندات فإنه يبقى لفظ الواحد في الجمع على ما كان عليه ، فأشبه جمع المذكر المفرد المذكر وأشبه جمع المؤنث المفرد المؤنث ، والمفرد المذكر يجب معه تذكير الفعل إجماعا ، فكذلك جمعه السالم ، والمفرد المؤنث الحقيقي التأنيث يجب معه تأنيث الفعل إجماعا فكذلك جمعه السالم.

وخلاصة هذا الخلاف أنهم متفقون على جواز الوجهين في الفعل المسند إلى اسم الجمع أو اسم الجنس الجمعي أو إلى جمع التكسير لمذكر أو جمع التكسير لمؤنث ، والخلاف بين البصريين جميعا والكوفيين وحدهم في

٢٠٣

ومن النوع الأول ـ أعني المؤنث الظاهر المجازيّ التأنيث ـ أن يكون الفاعل

__________________

الفعل المسند إلى جمع مذكر سالم ؛ وبين البصريين جميعا والكوفيين ـ ومعهم أبو علي الفارسي ـ في الفعل المسند إلى جمع المؤنث السالم.

وقد استدل جمهور الكوفيين وأبو علي الفارسي على جواز التذكير والتأنيث في الفعل المسند لجمع المؤنث السالم بقوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) [سورة الممتحنة ، ١٢] ؛ فقد جيء بالفعل في هذه الآية الكريمة ـ وهو «جاءك» ـ من غير علامة تأنيث ، مع أن فاعله ـ وهو «المؤمنات» ـ جمع مؤنث سالم ، فدل على أنه يجوز خلو الفعل المسند إلى جمع المؤنث السالم من علامة التأنيث ـ وهذا الوجه هو موضع النزاع بينهم وبين البصريين ـ ولا حاجة بالكوفيين والفارسي إلى الاستدلال على التأنيث ، لأنه محل اتفاق في هذا المثال ونحوه. وأجاب البصريون على استدلال الكوفيين وأبي علي بهذه الآية بثلاثة أجوبة أشار المؤلف إلى جميعها.

أما الجواب الأول : فإنا لا نسلم لكم أن السبب في تذكير الفعل هو كون الفاعل جمع مؤنث سالما ، بل السبب في تذكير الفعل هو الفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول الذي هو ضمير المخاطب ، وأنت تعلم أنه إذا فصل بين الفعل والفاعل المؤنث الحقيقي التأنيث فاصل أي فاصل جاز في الفعل التأنيث وعدمه ، تقول : زارتني اليوم هند ، وزارني اليوم هند.

وأما الجواب الثاني : فإنا لا نسلم أن الفاعل في هذه الآية الكريمة هو «المؤمنات» الذي هو جمع مؤنث سالم ، بل الفاعل «أل» الموصولة التي بمعنى اللاتي ، واللاتي ليس جمعا ، بل هو اسم جمع ؛ فيكون الفاعل في الآية الكريمة ـ عند التحقيق ـ اسم جمع ، واسم الجمع يجوز في فعله التأنيث وعدمه بالإجماع.

وأما الجواب الثالث : فإنا لا نسلم أن الفاعل هو «المؤمنات» الذي هو جمع مؤنث سالم ، بل المؤمنات صفة لموصوف محذوف ، وهذا الموصوف المحذوف هو الفاعل حقيقة ، وأصل الكلام : إذا جاءك النساء المؤمنات ، والموصوف المحذوف الذي قدرناه بالنساء اسم جمع ، لا جمع مؤنث سالم ، فحذف التاء سببه أن الفاعل اسم جمع ، ونحن لا نخالفكم في جواز حذف التاء إذا كان الفاعل اسم جمع.

ومما استدل به الكوفيون وأبو علي الفارسي على تجويز خلو الفعل المسند إلى جمع مؤنث سالم من علامة التأنيث قول عبدة بن الطبيب من قصيدة رواها المفضل الضبي في المفضليات :

فبكى بناتي شجوهنّ وزوجتي

والظّاعنون إليّ ، ثمّ تصدّعوا

حيث أتى بالفعل ـ وهو «بكى» مجردا من تاء التأنيث ، مع كون فاعله جمع مؤنث سالما ـ وهو «بناتي».

وأجاب البصريون عن الاستدلال بهذا البيت بأن الفاعل ـ وإن كان جمع مؤنث سالما ـ قد أشبه جمع التكسير ، بسبب أن مفرده ـ وهو بنت ـ لم يوجد بتمامه في لفظ الجمع ، والأصل في جمع المؤنث السالم أن تسلم فيه صيغة واحدة ، ومن أجل ذلك سموه سالما ؛ فلما أشبه هذا اللفظ جمع التكسير أخذ حكمه ، وهو جواز الوجهين في الفعل المسند إليه ، وإذا جاز في هذا اللفظ الوجهان لهذه العلة لم يلزم جواز الوجهين في كل فعل يسند إلى جمع مؤنث سالم حيث لا توجد هذه العلة.

٢٠٤

جمع تكسير ، أو اسم جمع ؛ تقول : قامت الزيود ، وقام الزيود ، وقامت النساء ، وقام النساء ، قال الله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ) [الحجرات ، ١٤] (وَقالَ نِسْوَةٌ) [يوسف ، ٣٠] وكذلك اسم الجنس ك «أورق الشّجر» و «أورقت الشّجر» ؛ فالتأنيث في ذلك كله على معنى الجماعة ، والتذكير على معنى الجمع ، وليس لك أن تقول : التأنيث في النساء والهنود حقيقي ؛ لأن الحقيقي (١) هو الذي له فرج ، والفرج لآحاد الجمع ، لا للجمع ، وأنت إنما أسندت الفعل إلى الجمع لا إلى الآحاد.

ومن هذا الباب أيضا قولهم : نعمت المرأة هند ، ونعم المرأة هند ، فالتأنيث على مقتضى الظاهر ، والتذكير [على معنى الجنس] ؛ لأن المراد بالمرأة الجنس ، لا واحدة معينة ، مدحوا الجنس عموما ، ثم خصّوا من أرادوا مدحه ، وكذلك «بئس» بالنسبة إلى الذم ، كقولك : بئس المرأة حمّالة الحطب ، وبئست المرأة [هند].

وأما التأنيث المرجوح ففي مسألة واحدة ، وهي : أن يكون الفاعل مفصولا بإلا ، كقولك : ما قام إلا هند ؛ فالتذكير هنا أرجح باعتبار المعنى ؛ لأن التقدير «ما قام

__________________

ومما استدل به الكوفيون على جواز تأنيث الفعل المسند لجمع مذكر سالم قول الله تبارك وتعالى : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) [سورة يونس ، ٩٠] ، حيث لحقت الفعل ـ وهو «آمنت» ـ تاء التأنيث «مع أن فاعله جمع مذكر سالم وهو «بنو إسرائيل» ومثله قول الشاعر وهو قريظ بن أنيف أحد بني العنبر وهو أحد شعراء الحماسة :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا

حيث أنث الفعل ـ وهو «تستبح» ـ مع أن فاعله جمع مذكر سالم ـ وهو «بنو اللقيطة».

وجواب البصريين عن الآية الكريمة والبيت واحد ، وهو من باب جوابهم السابق على بيت عبدة بن الطبيب ، وهو أن اللفظ ـ وإن كان جمع مذكر سالما ـ قد أشبه جمع التكسير بسبب أن لفظ المفرد ـ وهو ابن ـ يوجد بتمامه فيه ، والأصل في جمع المذكر السالم أن يسلم فيه بناء واحده ، ولهذا سموه سالما ، وكان أصل جمع التكسير أن يتغير فيه بناء واحده ، ولهذا سموه مكسرا ، فلما كان ذلك كذلك جاز في فعله الوجهان ؛ فالجواز في هذا الفاعل بخصوصه لعلة من العلل لا يستلزم الجواز في كل جمع مذكر سالم حيث لا توجد فيه العلة المقتضية للجواز ههنا.

وهذا بحث طويل أردنا به تدريبك على الحوار والجدل والتخريج ، فلا تمله ، وعه ، ولا تنسه ، والله يتولاك بإرشاده وتوفيقه.

(١) هذا تعليل للنفي ، يعني انتفى أن تقول هذا الكلام لأن الحقيقي ... إلخ.

٢٠٥

أحد إلا هند» فالفاعل في الحقيقة مذكر ، ويجوز التأنيث باعتبار ظاهر اللفظ ، كقوله :

٨٠ ـ ما برئت من ريبة وذمّ

في حربنا إلّا بنات العمّ

والدليل على جوازه في النثر قراءة بعضهم «إن كانت إلّا صيحة واحدة» [يس ، ٢٩] برفع (صيحة) وقراءة جماعة السلف «فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم» [الأحقاف ، ٣٥] ببناء الفعل لما لم يسمّ فاعله ، وبجعل حرف المضارعة التاء المثناة من فوق.

وزعم الأخفش أن التأنيث لا يجوز إلا في الشعر ، وهو محجوج بما ذكرنا.

الحكم الخامس : إن عاملهما لا تلحقه علامة تثنية ولا جمع ، في الأمر الغالب ، بل تقول : قام أخواك ، وقام إخوتك ، وقام نسوتك ، كما تقول : قام أخوك ، ومن العرب من يلحق علامات دالة على ذلك ، كما يلحق الجميع علامة دالة على التأنيث ، كقوله :

______________________________________________________

٨٠ ـ هذا بيت من الرجز أو بيتان من مشطوره ، ولم أقف له على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده المؤلف في أوضحه في باب الفاعل (٢١٤) والأشموني كذلك (رقم ٣٦٦).

اللّغة : «برئت» خلت ، «ريبة» أصل الريبة الشك ، «ذم» ما تعاب به.

الإعراب : «ما» نافية ، «برئت» برئ : فعل ماض ، والتاء حرف دال على التأنيث ، «من ريبة» جار ومجرور متعلق ببرئ «وذم» معطوف على ريبة ، «في حربنا» الجار والمجرور متعلق ببرئ أيضا ، وحرب مضاف والضمير مضاف إليه ، «إلا» أداة حصر ، «بنات» فاعل برئ ، وهو مضاف و «العم» مضاف إليه.

الشّاهد فيه : قوله «ما برئت إلا بنات العم» ، حيث وصل الفعل بتاء التأنيث ، مع كونه مفصولا عن فاعله بإلا ، ودخول التاء في هذه الحال مرجوح ، على ما ذكره المؤلف تبعا لابن مالك ، وحكى ابن عقيل أن الجمهور لا يجيزون التأنيث في هذه الحال كما حكى المؤلف عن الأخفش أن التأنيث لا يجوز في غير ضرورة الشعر ، ولكن الذي تنصره الأدلة هو ما ذكر المؤلف ، ومن شواهد ذلك قول ذي الرمة :

طوى النّحز والأجراز ما في غروضها

وما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع

٢٠٦

٨١ ـ تولّى قتال المارقين بنفسه

وقد أسلماه مبعد وحميم

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يتعاقبون فيكم ملائكة باللّيل وملائكة بالنهار» (١). وقول بعض العرب : «أكلوني البراغيث» وقول الشاعر :

______________________________________________________

٨١ ـ هذا بيت من الطويل من كلمة لعبد الله بن قيس الرقيات ، يرثي فيها مصعب بن الزبير ، وقد أنشده ابن عقيل (رقم ١٤٣) والأشموني (رقم ٣٥٦) والمؤلف في أوضحه (رقم ٢٠٩).

اللّغة : «المارقين» الخارجين عن الدين ، «مبعد» أراد به الأجنبي ، «حميم» هو الصديق.

الإعراب : «تولى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى مصعب المذكور في أبيات سابقة ، «قتال» مفعول به لتولى ، وقتال مضاف و «المارقين» مضاف إليه ، «بنفسه» الجار والمجرور متعلق بتولى ، ونفس مضاف والضمير العائد إلى مصعب مضاف إليه ، «وقد» الواو للحال ، وقد : حرف تحقيق ، «أسلماه» أسلم : فعل ماض ، والألف حرف دال على التثنية ، والهاء ضمير الغائب مفعول به ، «مبعد» فاعل أسلم «وحميم» معطوف عليه.

الشّاهد فيه : قوله «أسلماه مبعد وحميم» حيث وصل بالفعل ألف التثنية ، مع أن الفاعل اسم ظاهر مذكور بعده ، وهذه لغة جماعة من العرب ، وليست الألف عندهم إلا علامة على تثنية الفاعل ، كما أن التاء في نحو «قامت هند» علامة على تأنيث الفاعل عند جميع العرب.

والعرب الذين يلحقون علامة التثنية والجمع بالفعل يشبهون هاتين العلامتين بعلامة التأنيث ، فكما أنه تلحق الفعل علامة التأنيث إذا كان الفاعل مؤنثا ، فكذلك تلحق الفعل علامة التثنية إذا كان الفاعل مثنى ، وعلامة الجمع إذا كان الفاعل جمعا.

وجمهور العرب يجدون بين علامة التثنية والجمع وعلامة التأنيث فرقا ؛ فلذلك لا يقيسون إحداهما على الأخرى ، ولا يعطون إحداهما حكم الأخرى.

ومثل بيت الشاهد قول الشاعر :

نسيا حاتم وكعب لدن فا

ضت عطاياك يا ابن عبد العزيز

__________________

(١) هذا الحديث رواه مالك في الموطأ ، وهو حديث مختصر من حديث روي مطولا : «إن ملائكة يتعاقبون فيكم : ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار» ومن أجل ذلك امتنع قوم من الاحتجاج برواية مالك التي يحتج بها العلامة ابن مالك صاحب الألفية ، حتى إنه سمى هذه اللغة «لغة يتعاقبون فيكم ملائكة» كما سماها غيره من النحاة «لغة أكلوني البراغيث» لأن الرواية المطولة تدل على أن من روى الرواية المختصرة لم يراع اللفظ الذي ورد عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، فأخطأ الصياغة.

٢٠٧

٨٢ ـ نتج الرّبيع محاسنا

ألقحنها غرّ السّحائب

٨٢ ـ هذا بيت من الكامل من كلام أبي فراس الحمداني ، ابن عم سيف الدولة الحمداني ، وأبو فراس هو صاحب الشاهد (رقم ٦) السابق شرحه في أول الكتاب ، وقبل هذا البيت قوله :

يا أيّها الملك الّذي

أضحت له جمل المناقب

نتج الرّبيع محاسنا

ألقحنها ... البيت ،

وبعده :

راقت ورقّ نسيمها

فحكت لنا صور الحبائب

حضر الشّراب فلم يطب

شرب الشّراب وأنت غائب

وأبو فراس الحمداني صاحب هذا الشاهد ممن لا يحتج بشعره على قواعد اللغة ومفرداتها : لأنه مولد ، ولعل المؤلف إنما أراد التمثيل بهذا البيت ، ولم يرد الاحتجاج به ، وفرق بين الاحتجاج والتمثيل ، وقد أنشد المؤلف بيت الشاهد في أوضح المسالك (رقم ٣٠٨).

اللّغة : «نتج» هو ههنا فعل مبني للمعلوم ، وفي كلام العرب فعل من هذه المادة ملازم البناء للمجهول ، تقول : نتج القوم الناقة ـ بالبناء للمعلوم ـ وتقول : نتجت الناقة ـ بالبناء للمجهول لا غير ـ فإذا أردت معنى استولد جئت بالفعل مبنيا للمعلوم ، وإذا أردت معنى ولد جئت بالفعل مبنيا للمجهول وأسندته إلى الناقة وشبهها ، ومن الأول قول الشاعر ، وينسب إلى قيس بن حصين بن زيد الحارثي :

أكلّ عام نعم تحوونه

يلقحه قوم وتنتجونه

الإعراب : «نتج» فعل ماض مبني للمعلوم ، مبني على الفتح لا محل له من الإعراب ، «الربيع» فاعل نتج ، «محاسنا» مفعول به لنتج ، «ألقحنها» ألقح : فعل ماض ، والنون علامة على جمع الإناث ، وضمير الغائب العائد إلى المحاسن مفعول به ، «غر» فاعل ألقح ، وغر مضاف ، و «السحائب» مضاف إليه ، وسكن لأجل الوقف.

الشّاهد فيه : قوله «ألقحنها غرّ السحائب» فإن قوله «غر» فاعل «ألقح» وغر : جمع غراء ، وقد ألحق بالفعل علامة جمع المؤنث ، وهي النون ، مع إسناده إلى الفاعل الظاهر الذي هو غر السحائب ، وليست هذه النون هي الفاعل وما بعدها بدل منها ؛ لأن جعل النون علامة يجري على لغة جماعة مخصوصين من العرب ، وهم الذين يلحقون بالفعل علامات التثنية والجمع ، كما يلحق جميع العرب علامة التأنيث ، فإن جعلت النون فاعلا و «غر السحائب» بدلا منه ـ كان ذلك جاريا على لغة جمهور العرب ، ولم يكن خاصّا بلغة قوم منهم.

٢٠٨

وقول الآخر :

٨٣ ـ رأين الغواني الشّيب لاح بعارضي

فأعرضن عنّي بالخدود النواضر

وقد حمل على هذه (١) اللغة آيات من التنزيل العظيم : منها قوله سبحانه : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء ، ٣] والأجود تخريجها على غير ذلك ، وأحسن الوجوه فيها إعراب (الَّذِينَ ظَلَمُوا) مبتدأ ، (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) خبرا.

ثم قلت : الثالث المبتدأ ، وهو : المجرّد عن العوامل اللّفظيّة : مخبرا عنه ، أو وصفا رافعا لمكتفى به ؛ فالأوّل ك «زيد قائم» و (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) والثّاني شرطه نفي أو استفهام ، نحو «أقائم الزّيدان»

______________________________________________________

٨٣ ـ هذا بيت من الطويل ، وينسبه بعض الرواة لأبي عبد الرحمن محمد بن عبد الله العتبي ، من ولد عتبة بن أبي سفيان ، وهو من شواهد ابن عقيل (رقم ١٤٥) والأشموني (رقم ٣٦٠) وفي وحشيات أبي تمام (ص ٢٩٠ المعارف) «ويقال : لعمر بن أبي ربيعة» وينسب لأبي الشبل ، وفي العقد الفريد ٣ / ٤٦ لمحمد بن أبي أمية.

اللّغة : «الغواني» جمع غانية ، وهي المرأة التي استغنت بجمالها عن الزينة ، أو هي التي غنيت بزوجها عن التطلع إلى الرجال ، أو هي التي غنيت ببيت أبيها عن الأزواج لكونها في رفاهية عيش ورغد «النواضر» الجميلة ، مأخوذة من النضرة ، وهي الحسن والرواء ، وواحد النواضر ناضر.

الإعراب : «رأين» رأى : فعل ماض ، والنون علامة جمع المؤنث ، ورأى هنا بصرية فلا تحتاج إلا إلى مفعول واحد ، «الغواني» فاعل رأى ، «الشيب» مفعول به لرأى «لاح» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الشيب ، وجملة الفعل وفاعله في محل نصب حال من الشيب ، «بعارضي» بعارض : جار ومجرور متعلق بلاح ، وعارض مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «فأعرضن» الفاء حرف عطف ، أعرض : فعل ماض ، والنون ضمير جماعة النسوة فاعل ، «عني» جار ومجرور متعلق بأعرض ، «بالخدود» جار ومجرور متعلق بأعرض أيضا ، «النواضر» صفة للخدود.

الشّاهد فيه : قوله «رأين الغواني» حيث وصل الفعل ـ الذي هو رأى ـ بنون النسوة في قوله «رأين» مع ذكر الفاعل الظاهر ـ وهو قوله «الغواني» وهذه النون ليست ضميرا مثلها في قوله «فأعرضن» بل هي علامة جمع الإناث مثل تاء التأنيث في نحو قولك «قامت هند».

__________________

(١) في نسخة «وقد حمل قوم على هذه ـ إلخ».

٢٠٩

و «ما مضروب العمران».

وأقول : الثالث من المرفوعات : المبتدأ ، وهو نوعان : مبتدأ له خبر ، وهو الغالب ، ومبتدأ ليس له خبر ، لكن له مرفوع يغني عن الخبر.

ويشترك النوعان في أمرين ؛ أحدهما : أنهما مجرّدان عن العوامل اللفظية ، والثاني : أن لهما عاملا معنويّا ـ وهو الابتداء ـ ونعني به كونهما على هذه الصورة من التجرد للإسناد.

ويفترقان في أمرين ؛ أحدهما : أن المبتدأ الذي له خبر يكون اسما صريحا ، نحو : «الله ربّنا» و «محمّد نبيّنا» ومؤوّلا بالاسم ، نحو : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة ، ١٨٤] ، أي وصيامكم خير لكم ، ومثله قولهم «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» (١) ، ولذلك قلت «المجرد» ولم أقل الاسم المجرد.

ولا يكون المبتدأ المستغني عن الخبر في تأويل الاسم ألبتة ، بل ولا كل اسم ، بل [يكون] اسما هو صفة ، نحو «أقائم الزّيدان» و «ما مضروب العمران».

والثاني : أن المبتدأ الذي له خبر لا يحتاج إلى شيء يعتمد عليه ، والمبتدأ المستغني عن الخبر لا بد أن يعتمد على نفي أو استفهام كما مثّلنا ، وكقوله :

______________________________________________________

٨٤ ـ خليليّ ما واف بعهدي أنتما

إذا لم تكونا لي على من أقاطع

٨٤ ـ هذا بيت من الطويل ، ولم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وقد استشهد به الأشموني (رقم ١٣٦) والمؤلف في أوضحه (رقم ٦٤) وفي القطر (رقم ٣٨).

الإعراب : «خليلي» منادى بحرف نداء محذوف ، منصوب بالياء لأنه مثنى ، وهو مضاف وياء المتكلم المدغمة في ياء الإعراب مضاف إليه ، «ما» نافية ، «واف» مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين ، «بعهدي» بعهد : جار ومجرور متعلق بواف ، وعهد مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «أنتما» فاعل بواف سد مسد الخبر ، «إذا» ظرفية تضمنت معنى الشرط ، «لم» نافية جازمة ، «تكونا» فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ، وعلامة جزمه حذف النون ، وألف الاثنين اسم تكون ، «لي» جار ومجرور متعلق بتكون ، «على» حرف جر ، «من» اسم

__________________

(١) قد تكلمنا على هذا المثل كلاما وافيا فارجع إليه في (ص ٤١ و ١٨٥) من هذا الكتاب.

٢١٠

وقوله :

٨٥ ـ أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنا

إن يظعنوا فعجيب عيش من قطنا

وقولي «رافعا لمكتفى به» أعمّ من أن يكون ذلك المرفوع اسما ظاهرا ، ك «قوم سلمى» في البيت الثاني ، أو ضميرا منفصلا ، ك «أنتما» في البيت الأول ، وفيه ردّ على الكوفيين والزّمخشري وابن الحاجب ؛ إذ أوجبوا أن يكون المرفوع ظاهرا ، وأوجبوا في قوله تعالى : (أَراغِبٌ أَنْتَ) [مريم ، ٤٦] أن يكون محمولا على التقديم

______________________________________________________

موصول مبني على السكون في محل جر بعلي ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر تكون «أقاطع» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والجملة لا محل لها صلة ، والعائد ضمير محذوف منصوب بأقاطع ، وجواب إذا محذوف يدل عليه سياق الكلام ، والتقدير : إذا لم تكونا لي على من أقاطعه فما واف بعهدي أنتما.

الشّاهد فيه : قوله «ما واف أنتما» حيث رفع الوصف الذي هو واف ضميرا منفصلا على أنه فاعل أغنى عن الخبر ؛ لكونه معتمدا على حرف النفي وهو ما ، ولا يجوز جعل هذا الضمير مبتدأ والوصف خبرا عنه ؛ لئلا يلزم الإخبار بالمفرد وهو واف عن المثنى وهو أنتما ، وذلك لا يجوز عند أحد من العلماء ؛ لأن العرب لا يتكلمون بنظيره ، والبيت رد صارخ على من زعم أن فاعل الوصف المغنى عن الخبر لا يكون ضميرا منفصلا ، وهم الذين ذكرهم الشارح فيما بعد (ص ٢١٢ التالية).

٨٥ ـ هذا بيت من البسيط ، ولم يتيسر لي الوقوف على نسبته إلى قائل معين ، وقد أنشده الأشموني (رقم ١٣٤) والمؤلف في أوضحه (رقم ٦٥) وفي القطر (رقم ٣٩).

الإعراب : «أقاطن» الهمزة للاستفهام ، قاطن : مبتدأ ، «قوم» فاعل قاطن أغنى عن خبره ، وقوم مضاف ، و «سلمى» مضاف إليه ، «أم» حرف عطف «نووا» فعل وفاعل ، «ظعنا» مفعول به لنووا ، وجملة الفعل وفاعله معطوفة على جملة المبتدأ وفاعله ، وحسن ذلك لأن جملة المبتدأ وفاعله في قوة الجملة الفعلية ، «إن» شرطية ، «يظعنوا» فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بإن وعلامة جزمه حذف النون ، وواو الجماعة فاعله ، «فعجيب» الفاء واقعة في جواب الشرط ، عجيب : خبر مقدم ، «عيش» مبتدأ مؤخر ، والجملة في محل جزم جواب الشرط ، و «عيش» مضاف و «من» اسم موصول مضاف إليه ، مبني على السكون في محل جر ، «قطنا» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من ، والجملة لا محل لها صلة ، والألف للإطلاق.

الشّاهد فيه : قوله «أقاطن قوم سلمى» حيث اكتفى بالفاعل الذي هو قوله «قوم سلمى» عن خبر المبتدأ ؛ لكون ذلك المبتدأ الذي هو قوله «قاطن» وصفا معتمدا على أداة الاستفهام ، وهي الهمزة.

٢١١

والتأخير ، وذلك لا يمكنهم في البيت [الأول] إذ لا يخبر عن المثنى بالمفرد ، وأعمّ من أن يكون ذلك المرفوع فاعلا كما في البيتين ، أو نائبا عن الفاعل كما في قولك «أمضروب الزيدان».

وخرج عن قولي «مكتفى به» نحو «أقائم أبواه زيد» فليس لك أن تعرب أقائم مبتدأ ، وأبواه فاعلا أغنى عن الخبر ؛ لأنه لا يتم به الكلام ، بل زيد : مبتدأ [مؤخر] وقائم : خبر مقدم ، وأبواه : فاعل به.

ثم قلت : ولا يبتدأ بنكرة إلّا إن عمّت نحو «ما رجل في الدّار» أو خصّت نحو «رجل صالح جاءني» وعليهما (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ) [البقرة ، ٢٢١].

وأقول : الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة ، ولا يكون نكرة إلا في مواضع خاصة تتبّعها بعض المتأخرين ، وأنهاها إلى نيّف وثلاثين ، وزعم بعضهم أنها ترجع إلى الخصوص والعموم.

فمن أمثلة الخصوص أن تكون موصوفة : إما بصفة مذكورة ، نحو (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) [البقرة ، ٢٢١] (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) [البقرة ، ٢٢١] أو بصفة مقدرة ، كقولهم : السّمن منوان (١) بدرهم ؛ فالسمن : مبتدأ أوّل ، ومنوان : مبتدأ ثان ، وبدرهم : خبره ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول ، والمسوّغ للابتداء بمنوان أنه موصوف بصفة مقدرة : أي منوان منه.

ومنها : أن تكون مصغّرة ، نحو رجيل جاءني ؛ لأن التصغير وصف في المعنى بالصغر ؛ فكأنك قلت : رجل صغير جاءني.

ومنها : أن تكون مضافة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد».

ومنها : أن يتعلق بها معمول ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمر بمعروف صدقة ، ونهى عن

__________________

(١) منوان : تثنية منا بوزن عصا ، كما تقول : عصوان ، في تثنية العصا ، وقد يقال فيه : من ـ بفتح الميم وتشديد النون ـ والمنا : مقدار مخصوص من الموازين كالرطل ، وهو يزن رطلين تقريبا ، وسيأتي شرح المؤلف لهذه الكلمة في باب التمييز بما لا يخرج عما قلناه.

٢١٢

منكر صدقة» فأمر ونهي : مبتدآن نكرتان ، وسوّغ الابتداء بهما ما تعلّق بهما من الجار والمجرور ، وكقولك : أفضل منك جاءني.

ومن أمثلة العموم : أن يكون المبتدأ نفسه صيغة عموم ، نحو : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) [البقرة ، ١١٦] و «من يقم أقم معه» و «من جاءك أجيء معه» أو يقع في سياق النفي ، نحو «ما رجل في الدّار».

وعلى هذه الأمثلة قس ما أشبهها.

ثم قلت : الرّابع خبره ، وهو : ما تحصل به الفائدة مع مبتدأ غير الوصف المذكور.

وأقول : الرابع من المرفوعات : خبر المبتدأ ، وقولي «مع مبتدأ» فصل أول مخرج لفاعل الفعل ، وقولي «غير الوصف المذكور» فصل ثان مخرج لفاعل الوصف في نحو : «أقائم الزيدان» و «ما قائم الزيدان» والمراد بالوصف المذكور ما تقدم ذكره في حدّ المبتدأ.

ثم قلت : ولا يكون زمانا والمبتدأ اسم ذات ، ونحو : «اللّيلة الهلال» متأوّل.

وأقول : لما بيّنت في حدّ المبتدأ ما لا يكون مبتدأ ـ وهو النكرة التي ليست عامة ولا خاصة ـ بينت بعد حدّ الخبر ما لا يكون خبرا في بعض الأحيان ، وذلك اسم الزمان ؛ فإنه لا يقع خبرا عن أسماء الذوات ، وإنما يخبر به عن أسماء الأحداث ، تقول : الصّوم اليوم ، والسّفر غدا ، ولا تقول : «زيد اليوم» ولا «عمرو غدا» فأما قولهم : «اللّيلة الهلال» ـ بنصب الليلة على أنها ظرف مخبر به عن الهلال مقدّم عليه ـ فمؤول ، وتأويله على أن أصله : اللّيلة رؤية الهلال ، والرؤية حدث لا ذات ، ثم حذف المضاف ، وهو الرؤية ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، ومثله قولهم في المثل : «اليوم خمر ، وغدا أمر» التقدير : اليوم شرب خمر ، وغدا حدوث أمر.

ثم قلت : الخامس اسم كان وأخواتها ، وهي : أمسى ، وأصبح ، وأضحى ، وظلّ ، وبات ، وصار ، وليس ـ مطلقا ، وتالية لنفي أو شبهه : زال ـ ماضي يزال ـ وبرح ، وفتئ ، وانفكّ ، وصلة لما الوقتيّة : دام ، نحو (ما دُمْتُ حَيًّا.)

٢١٣

وأقول : الخامس من المرفوعات : اسم كان وأخواتها الاثنتي عشرة المذكورة ، فإنهن يدخلن على المبتدأ والخبر ، فيرفعن المبتدأ ، ويسمى اسمهن حقيقة ، وفاعلهن مجازا ، وينصبن الخبر ، ويسمى خبرهن حقيقة ، ومفعولهن مجازا.

ثم هنّ في ذلك على ثلاثة أقسام :

(١) ما يعمل هذا العمل بلا شرط ، وهي ثمانية : كان وليس وما بينهما.

(٢) وما يشترط أن يتقدم عليه نفي أو شبهه ـ وهو النهي والدعاء ـ وهي أربعة : زال ، وبرح ، وفتئ ، وانفكّ ، نحو (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود ، ١١٨] (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) [طه ، ٩١] وتقول : «لا تزل ذاكر الله» و «لا برح ربعك مأنوسا» ، و «لا زال جنابك محروسا» ويشترط في «زال» شرط آخر ، وهو أن يكون ماضي يزال ؛ فإن ماضي يزول فعل تامّ قاصر بمعنى الذهاب والانتقال ، نحو : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر ، ٤١] ، و «إن» الأولى في الآية شرطية ، والثانية نافية ، وماضي يزيل فعل تام متعدّ بمعنى ماز يميز ، يقال : زال زيد ضأنه من معز فلان : أي ميّزه منه.

(٣) وما يشترط أن يتقدم عليه «ما» المصدرية النائبة عن ظرف الزمان (١) وهو «دام» وإلى ذلك أشرت بالتمثيل بالآية الكريمة ، كقوله سبحانه وتعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم ، ٣١] أي مدّة دوامي حيّا ؛ فلو قلت : «دام زيد

__________________

(١) تسمى «ما» هذه المصدرية الوقتية ؛ أما وجه تسميتها بالمصدرية فلأنها تؤول مع صلتها بمصدر ، وهو الدوام ، وأما تسميتها بالوقتية فلنيابتها مع صلتها عن الوقت ، وهو المدة ، وهي تفيد توقيت دوام ثبوت الخبر للمبتدأ بمدة.

ومما ينبغي أن تتنبه له أن «ما» كلما كانت وقتية فهي مصدرية ألبتة ، ولا يلزم من أن تكون مصدرية أن تكون وقتية ، بل قد تكون مصدرية فقط ، نحو مثال الشارح ، ونحو قول الشاعر :

يسرّ المرء ما ذهب اللّيالي

وكان ذهابهنّ له ذهابا

ومما ينبغي أن تتنبه له أيضا أنه لا يلزم من وجود «ما» المصدرية الظرفية قبل «دام» وجوب إعمال «دام» عمل كان ، بل قد تدخل «ما» هذه على «دام» ولا تعمل لكون دام تامة ، لا ناقصة ، وذلك كما في قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [سورة هود ، ١٠٨] ، ولكن المراد هنا أنه لا يجوز أن تعمل «دام» عمل كان إلا إذا سبقتها «ما» المصدرية الظرفية ، فكلما كانت دام عاملة عمل كان فإن «ما» المصدرية الوقتية تكون سابقة عليها.

٢١٤

صحيحا» كان قولك «صحيحا» حالا لا خبرا ، وكذلك «عجبت من ما دام زيد صحيحا» لأن ما هذه مصدرية لا ظرفية ، والمعني عجبت من دوامه صحيحا.

ثم قلت : ويجب حذف «كان» وحدها بعد «أمّا» في نحو «أمّا أنت ذا نفر» ويجوز حذفها مع اسمها بعد إن ولو الشّرطيّتين ، وحذف نون مضارعها المجزوم إلّا قبل ساكن أو مضمر متّصل.

وأقول : هذه ثلاث مسائل مهمة تتعلق بكان بالنظر إلى الحذف :

إحداها : حذفها وجوبا دون اسمها وخبرها ، وذلك مشترط بخمسة أمور ؛ أحدها : أن تقع صلة لأن ، والثاني : أن يدخل على أن حرف التعليل ، الثالث : أن تتقدم العلة على المعلول ، الرابع : أن يحذف الجار ، الخامس : أن يؤتى بما ، كقولهم : «أمّا أنت منطلقا انطلقت» وأصل هذا الكلام : انطلقت لأن كنت منطلقا ، أي : انطلقت لأجل انطلاقك ، ثم دخل هذا الكلام تغيير من وجوه ؛ أحدها : تقديم العلة ـ وهي «لأن كنت منطلقا» ـ على المعلول ـ وهي «انطلقت» وفائدة ذلك الدلالة على الاختصاص ، والثاني : حذف لام العلة ، وفائدة ذلك الاختصار ، والثالث : حذف كان ، وفائدته أيضا الاختصار ، والرابع : انفصال الضمير ، وذلك لازم عن حذف كان ، والخامس : وجوب زيادة «ما» وذلك لإرادة التعويض ، والسادس : إدغام النون في الميم ، وذلك لتقارب الحرفين مع سكون الأول وكونهما في كلمتين.

ومن شواهد هذه المسألة قول العباس بن مرداس رضي‌الله‌عنه :

٨٦ ـ أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع

«أبا» منادى بتقدير يا أبا ، و «خراشة» بضم الخاء المعجمة ، و «أما أنت ذا نفر» أصله : لأن كنت ذا نفر ، فعمل فيه ما ذكرناه ، والذي يتعلق به اللام محذوف : أي

______________________________________________________

٨٦ ـ هذا بيت من البسيط من كلام العباس بن مرداس السلمي ، يقوله يخاطب خفاف بن ندبة ، وخفاف شاعر أيضا ، وندبة اسم أمه ، والبيت من شواهد سيبويه (١ / ١٤٨) والأشموني (رقم ٢٩٧) وابن عقيل (رقم ٧٥) والمؤلف في أوضحه (رقم ٩٧) وفي القطر (رقم ٤٧).

٢١٥

لأن كنت ذا نفر افتخرت عليّ ، والمراد بالضّبع السّنة المجدبة.

المسألة الثانية : حذف «كان» مع اسمها وإبقاء خبرها ، وذلك جائز لا واجب ، وشرطه : أن يتقدمها «إن» أو «لو» الشرطيتان ؛ فالأول كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النّاس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير ، وإنّ شرّا فشرّ» فتقديره : إن كان عملهم خيرا فجزاؤهم خير ، وإن كان عملهم شرّا فجزاؤهم شر ، وهذا أرجح الأوجه في مثل هذا التركيب ، وفيه وجوه أخر (١) والثاني كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التمس ولو خاتما من حديد» أي ولو كان الذي تلتمسه خاتما من حديد.

______________________________________________________

المعنى : لا ينبغي لك أن تفخر عليّ ؛ لأنك لو افتخرت عليّ لم تجد ما تفخر به إلا أن تذكر أن قومك كثيرو العدد ، وليست كثرة العدد من المفاخر ؛ لأن قومي إنما نقص عددهم وقوفهم في صفوف الجهاد ، وإغاثتهم الملهوف ، وإجابتهم الصريخ ، ولم ينقصهم الجدب ولا الجوع ؛ فهو في المعنى كقول شاعر الحماسة :

إنّي لمن معشر أفنى أوائلهم

قيل الكماة : ألا أين المحامونا

الإعراب : «أبا» منادى بحرف نداء محذوف ، وأبا مضاف و «خراشة» مضاف إليه ، «أما» هذا لفظ مركب من كلمتين ، الأولى أن المصدرية ، والثانية ما ؛ فأما أن فحرف مصدري ، وأما ما فحرف زائد للتعويض به عن كان المحذوفة ، «أنت» ضمير منفصل اسم كان المحذوفة ، «ذا» خبر كان المحذوفة ، منصوب بالألف نيابة عن الفتحة لأنه من الأسماء الستة ، وذا مضاف و «نفر» مضاف إليه ، «فإن» الفاء حرف دال على التعليل ، إن : حرف توكيد ونصب ، «قومي» قوم : اسم إن ، وهو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، «لم» نافية جازمة ، «تأكلهم» تأكل : فعل مضارع مجزوم بلم ، وضمير الغائبين العائد إلى قومي مفعول به ، «الضبع» فاعل تأكل ، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر إن.

الشّاهد فيه : قوله «أما أنت ذا نفر» حيث حذف كان ، وعوض عنها ما الزائدة ، وأبقى اسمها وهو قوله «أنت» وخبرها وهو قوله «ذا نفر» على ما بيناه في الإعراب وعلى ما هو بين في كلام المؤلف ، وليس يخفى عليك أن المحذوف من الجملة كلها هو كان وحدها بعد الذي نبهناك إليه.

__________________

(١) في هذا التركيب أربعة أوجه مشهورة :

الوجه الأول : «إن خيرا فخيرا ، وإن شرّا فشرّا» بنصب خير وشر في الموضعين جميعا ، وتخريجه على أن خيرا الأول خبر لكان المحذوفة مع اسمها ، ومثله شرّا الأول ، وخيرا الثاني مفعول ثان لفعل محذوف مع مفعوله

٢١٦

المسألة الثالثة : حذف نون «كان» وذلك مشروط بأمور ؛ أحدها : أن تكون بلفظ المضارع ، والثاني : أن يكون المضارع مجزوما (١) ، والثالث : أن لا يقع بعد النون ساكن ، والرابع : أن لا يقع بعده ضمير متصل ، وذلك نحو (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل ، ١٢٠] (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم ، ٤] ، ولا يجوز في قولك «كان» و «كن» لانتفاء المضارع ، ولا في نحو «هو يكون» و «لن يكون» لانتفاء الجزم ، ولا في نحو (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البينة ، ١] لوجود الساكن ، ولا في نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن يكنه فلن تسلّط عليه ، وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله» (٢) لوجود الضمير.

ثم قلت : السّادس اسم أفعال المقاربة ؛ وهي : كاد ، وكرب ، وأوشك ـ لدنوّ

__________________

الأول ، ومثله شرّا الثاني ، وأصل الكلام على هذا : إن كان عملهم خيرا فهم يجزون خيرا ، وإن كان عملهم شرّا فهم يجزون شرّا.

الوجه الثاني : «إن خير فخير ، وإن شر فشر» برفع خير وشر في الموضعين جميعا ، وتخريجه على أن خيرا الأول اسم لكان المحذوفة مع خبرها ، ومثله شر الأول ، وخيرا الثاني خبر لمبتدأ محذوف ، ومثله شر الثاني ، وأصل الكلام على هذا : إن كان في عملهم خير فجزاؤهم خير ، وإن كان في عملهم شر فجزاؤهم شر.

الوجه الثالث : «إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر» بنصب خير وشر الأولين ، ورفع خير وشر الثانيين ، وتخريجه على أن خيرا الأول خبر لكان المحذوفة مع اسمها ، ومثله شر الأول ، وخيرا الثاني خبر مبتدأ محذوف ، ومثله شر الثاني ، وأصل الكلام على هذا : إن كان عملهم خيرا فجزاؤهم خير ، وإن كان عملهم شرا فجزاؤهم شر.

والوجه الرابع : «إن خير فخيرا ، وإن شر فشرّا» برفع خير وشر الأولين ، ونصب خير وشر الثانيين ، بعكس الثالث ، وتخريجه على أن خيرا الأول اسم لكان المحذوفة مع خبرها ، ومثله شر الأول ، وخيرا الثاني مفعول ثان لفعل محذوف مع مفعوله الأول ، وأصل الكلام على هذا : إن كان في عملهم خير فهم يجزون خيرا ، وإن كان في عملهم شر فهم يجزون شرّا.

وأرجح هذه الأوجه الأربعة هو الوجه الثالث ، وهو الذي اقتصر عليه المؤلف هنا ، وأضعفهما هو الوجه الرابع ، وأما الوجهان الأول والثاني فهما في درجة واحدة ، ودرجتهما متوسطة بين الثالث والرابع ، فاعرف ذلك واحرص عليه.

(١) ترك المؤلف هنا شرطا ، وهو أن يكون جزم المضارع بالسكون ، وذلك يقتضي ألا يتصل بألف اثنين ولا واو جماعة ولا ياء مؤنثة مخاطبة.

(٢) قاله عليه الصلاة والسّلام لعمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه قد حدث أصحابه عن المسيخ الدجال ووصفه لهم ، ثم كانت فتنة ابن صياد ، فلما خرج النبي وأصحابه إليه رأى عمر شبهه قريبا مما سمعه من نعوت المسيخ فهم بأن يقتله ، فقال له النبي ذلك ، يريد أنه إن كان هذا هو المسيخ فإن الذي يقتله هو عيسى ابن مريم كما أخبرتكم ، وإن كان إنسانا غيره وأنت تقتله على أنه هو فلا خير لك في قتله.

٢١٧

الخبر ، وعسى ، واخلولق ، وحرى ـ لترجّيه ، وطفق ، وعلق ، وأنشأ ، وأخذ ، وجعل ، وهبّ ، وهلهل ـ للشّروع فيه ، ويكون خبرها مضارعا.

وأقول : السّادس من المرفوعات : اسم الأفعال المذكورة.

وهي تنقسم ـ باعتبار معانيها ـ إلى ثلاثة أقسام :

ما يدل على مقاربة المسمّى باسمها للخبر ، وهي ثلاثة : كاد ، وكرب ، وأوشك.

وما يدل على ترجّي المتكلم للخبر ، وهي ثلاثة أيضا : عسى ، وحرى ، واخلولق.

وما يدل على شروع المسمّى باسمها في خبرها ، وهي كثيرة ، ذكرت منها [هنا] سبعة (١) ، فكملت أفعال هذا الباب ثلاثة عشر ، كما أن الأفعال في باب «كان» كذلك.

فهذه الثلاثة عشر تعمل عمل كان ؛ فترفع المبتدأ ، وتنصب الخبر ، إلا أن خبرها لا يكون إلا فعلا مضارعا (٢) ، ثم منه ما يقترن بأن ، ومنه ما يتجرد عنها ، كما يأتي تفصيله ـ إن شاء الله تعالى ـ في باب المنصوبات ، ولو لا اختصاص خبرها بأحكام ليست لكان وأخواتها لم تنفرد بباب على حدة ، قال الله سبحانه : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) [النور ، ٣٥] (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) [الإسراء ، ٨] ، وقال الشاعر :

٨٧ ـ وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني

ثوبي فأنهض نهض الشّارب السّكر

______________________________________________________

٨٧ ـ هذان بيتان من البسيط يرويان في كلمة لعمرو بن أحمر الباهلي مع بعض تغيير في ألفاظهما ، ويرويان منسوبين لأبي حية النميري ، وانظر كتابتنا على الأشموني (رقم ٢٤٥) وانظر الأوضح (رقم ١٢٠) وسينشد المؤلف أول هذين البيتين مرة ثانية عند الكلام على خبر أفعال المقاربة من هذا الكتاب.

__________________

(١) وذكر الأزهري في تهذيب اللغة من أفعال الشروع : قام ، وقعد ، نحو قولك «قام فلان يفعل كذا ، وقعد يفعل كذا» أي شرع.

(٢) وإذا دل عليه دليل جاز حذفه ، ومنه الحديث : «من تأنى أصاب أو كاد ، ومن عجل أخطأ أو كاد» ألا ترى أنه ينساق على ذهنك أنه أراد : من تأنى أصاب أو كاد يصيب ، ومن عجل أخطأ أو كاد يخطئ.

٢١٨

وكنت أمشي على رجلين معتدلا

فصرت أمشي على أخرى من الشّجر

وقال الآخر :

______________________________________________________

اللّغة : «يثقلني» يجهدني ويتعبني ويعييني ، «أنهض» أقوم ، والنهض مصدره ، «السكر» بفتح السين وكسر الكاف ـ صفة مشبهة بمعنى الثمل ، وهو الذي أخذ منه السكر فهد قواه.

الإعراب : «وقد» حرف تحقيق ، «جعلت» جعل : فعل ماض ناقص ، وتاء المتكلم اسمه ، «إذا» ظرفية تضمنت معنى الشرط ، «ما» زائدة «قمت» فعل وفاعل ، والجملة في محل جر بإضافة إذا إليها ، «يثقلني» يثقل : فعل مضارع ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به ، «ثوبي» ثوب : فاعل يثقل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة ، وثوب مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، وستعرف ما في هذا الإعراب من مخالفة الأصل وإن كان هذا هو الظاهر ، «فأنهض» الفاء عاطفة ، أنهض : فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «نهض» مفعول مطلق مبين للنوع ، ونهض مضاف و «الشارب» مضاف إليه ، «السكر» صفة للشارب ، «وكنت» الواو عاطفة ، كان : فعل ماض ناقص ، وتاء المتكلم اسمه ، «أمشي» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والجملة في محل نصب خبر كان ، «على رجلين» جار ومجرور متعلق بأمشي «معتدلا» حال من فاعل أمشي ، «فصرت» الفاء عاطفة ، صار : فعل ماض ناقص ، وتاء المتكلم اسمه «أمشي» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والجملة في محل نصب خبر صار ، «على أخرى» جار ومجرور متعلق بأمشي «من الشجر» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لأخرى.

الشّاهد فيه : عبارة المؤلف ظاهرة في أنه لم يرد الاستشهاد بهذا البيت إلا على مجيء «جعل» فعلا من الأفعال التي تعمل عمل كان وتختص بكون خبرها لا يكون إلا فعلا مضارعا ، ولكن العلماء ينشدون هذا البيت لأن ظاهره أن المضارع الذي وقع خبرا لجعل ـ وهو «يثقلني» ـ قد رفع اسما ظاهرا مضافا إلى ضمير اسمها ، وهذا الاسم هو قوله «ثوبي» ، وهذا غير مرتضى عند جمهرة العلماء ، ولو أنه جاء بالكلام على ما هو الموافق لما ارتضوه لقال «وقد جعلت أثقل» فيكون الفعل المضارع رافعا لضمير يرجع إلى اسم جعل ، وقد تخلص العلماء من هذا الظاهر بأن جعلوا فاعل «يثقلني» ضميرا مستترا يعود إلى التاء التي هي اسم جعل ، وقوله «ثوبي» بدلا من هذا الضمير المتصل ، فإن قلت : كان يجب أن لو كان فاعل يثقلني ضميرا مستترا للمتكلم أن يقول : أثقل ؛ لأن حرف المضارعة الموضوع للدلالة على المتكلم هو الهمزة ، قلنا : إن أصل الكلام : وقد جعلت أثقل ثوبي ؛ فلما أبدل ثوبي من الضمير المستتر أو من التاء جاز إعادة الضمير على البدل ؛ لأنه هو المقصود بالحكم ، فافهم.

٢١٩

٨٨ ـ * هببت ألوم القلب في طاعة الهوى*

وقال الآخر :

٨٩ ـ وطئنا ديار المعتدين فهلهلت

نفوسهم قبل الإماتة تزهق

______________________________________________________

٨٨ ـ هذا صدر بيت من الطويل ، وعجزه قوله :

* فلجّ كأنّي كنت باللّوم مغريا*

ولم أعثر له على نسبة إلى قائل معين ، وسينشده المؤلف مرة أخرى في الكلام على خبر أفعال المقاربة ، للاستشهاد به على أن الفعل المضارع الواقع خبرا لفعل من أفعال الشروع يمتنع اقترانه بأن.

الإعراب : «هببت» هبّ : فعل ماض ناقص ، وتاء المتكلم اسمه ، «ألوم» فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، والجملة في محل نصب خبر هبّ «القلب» مفعول به لألوم ، «في طاعة» جار ومجرور متعلق بألوم ، وطاعة مضاف. و «الهوى» مضاف إليه ، «فلجّ» الفاء عاطفة ، ولجّ : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى القلب ، «كأني» كأن : حرف تشبيه ونصب ، وياء المتكلم اسمه ، «كنت» كان : فعل ماض ناقص ، وتاء المتكلم اسمه ، «باللوم» جار ومجرور متعلق بقوله مغريا الآتي ، «مغريا» خبر كان ، وجملة كان واسمه وخبره في محل رفع خبر كأن.

الشّاهد فيه : قوله «هببت ألوم» فإن قوله «هبّ» بتشديد الباء ـ فعل من أفعال الشروع ، يعمل عمل كان فيرفع الاسم وينصب الخبر ، وقد رفع الاسم الذي هو تاء المتكلم ، ونصب الخبر الذي هو جملة ألوم.

٨٩ ـ هذا بيت من الطويل ، ولم أجد أحدا نسب هذا الشاهد إلى قائل معين ، وسينشد المؤلف هذا البيت مرة أخرى في باب أفعال المقاربة من هذا الكتاب.

الإعراب : «وطئنا» فعل وفاعل ، «ديار» مفعول به ، وديار مضاف و «المعتدين» مضاف إليه ، «فهلهلت» الفاء حرف عطف ، هلهل : فعل ماض ناقص ، والتاء للتأنيث ، «نفوسهم» نفوس : اسم هلهل ، ونفوس مضاف والضمير العائد إلى المعتدين مضاف إليه ، «قبل» ظرف متعلق بقوله تزهق الآتي ، وقبل مضاف و «الإماتة» مضاف إليه ، «تزهق» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى اسم هلهل وهو نفوس ، والجملة من الفعل المضارع وفاعله في محل نصب خبر هلهل.

الشّاهد فيه : قوله «هلهلت نفوسهم تزهق» فإن هلهل فعل من أفعال الشروع ـ على ما ذكر المؤلف ههنا ـ يعمل عمل كان ، فيرفع الاسم وينصب الخبر ، وقد رفع في هذا البيت الاسم الذي هو قوله «نفوس» ونصب الخبر الذي هو جملة المضارع المجرد من أن وفاعله ، فافهم ذلك.

٢٢٠