شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

ويجب ثبوتها في فاعلي نعم وبئس المظهرين ، نحو : (نِعْمَ الْعَبْدُ) و (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) «فنعم ابن أخت القوم» فأمّا المضمر فمستتر مفسّر بتمييز نحو : «نعم امرأ هرم» ومنه : (فَنِعِمَّا هِيَ)(١) وفي نعتي الإشارة مطلقا وأيّ في النّداء ، نحو : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) ونحو : (ما لِهذَا الْكِتابِ) وقد يقال : يا أيهذا.

ويجب في السّعة حذفها من المنادى ، إلا من اسم الله تعالى ، والجملة المسمّى بها ، ومن المضاف ، إلا إذا كانت صفة معربة بالحرف ، أو مضافة إلى ما فيه أل.

وأقول : الخامس من المعارف : المحلى بالألف واللام العهدية ، أو الجنسية.

وأشرت إلى أن كلا منهما قسمان ؛ لأن العهدية إما أن يشار بها إلى معهود ذهني أو ذكريّ ؛ فالأول كقولك : «جاء القاضي» إذا كان بينك وبين مخاطبك عهد في قاض خاص ، والثاني كقوله تعالى : (فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ) [النور ، ٣٥] الآية ، فإن أل في المصباح وفي الزجاجة للعهد في مصباح وزجاجة المتقدم ذكرهما.

وأل الجنسية قسمان ؛ لأنها إما أن تكون استغراقية ، أو مشارا بها إلى نفس الحقيقة ؛ فالأول كقوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء ، ٢٨] أي : كل فرد من أفراد الإنسان ، ونحو (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة ، ٢] أي : أن هذا الكتاب هو

__________________

(١) نعمّا : لفظ مركب من كلمتين : إحداهما «نعم» التي تدل على إنشاء المدح ، والثانية «ما» ، وقد اختلف العلماء في «ما» هذه في مثل هذا التركيب ، ولهم في ذلك ثلاثة مذاهب :

الأول : أن «ما» هذه نكرة تامة ؛ فهي تمييز للفاعل المستتر ، وكأنه قيل : نعم الشيء شيئا هي ، فالشيء هو الفاعل ، وعبرنا به عن الضمير المستتر في نعم ، وشيئا هو التمييز ؛ وهو الذي وضعت «ما» موضعه ، و «هي» مبتدأ مؤخر ، وهو المخصوص بالمدح ، وهذا المذهب هو الذي يريده المؤلف بالإتيان بهذا المثال في هذا الموضع.

والمذهب الثاني : أن «ما» معرفة تامة ، وهي فاعل نعم ، وجملة «نعمّا» من الفعل وفاعله في محل رفع خبر مقدم ، و «هي» مبتدأ مؤخر ، وهو المخصوص بالمدح.

والمذهب الثالث : أن «ما» لا معنى لها ؛ لأنها ركبت مع «نعم» فصارتا كلمة واحدة وعليه يكون «نعمّا» فعلا ماضيا دالّا على إنشاء المدح ، و «هي» فاعلا بنعمّا.

فالجملة على هذا المذهب الأخير جملة فعلية ، وعلى المذهبين السابقين هي جملة اسمية ؛ لأنها من مبتدأ وخبر ، وهذا المذهب الأخير هو مذهب الفراء ومن وافقه.

١٨١

كل الكتب ، إلا أن الاستغراق في الآية الأولى لأفراد الجنس ، وفي الثانية لخصائص الجنس ، كقولك : «زيد الرّجل» أي الذي اجتمع فيه صفات الرجال المحمودة ، والثاني نحو : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء ، ٣٠] أي : من هذه الحقيقة ، لا من كل شيء اسمه ماء.

وقولي «العهدية أو الجنسية» خرج به المحلى بالألف واللام الزائدتين ؛ فإنها ليست لعهد ولا جنس ، وذلك كقراءة بعضهم (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون ، ٨] بفتح ياء (ليخرجن) وضم رائه ، وذلك لأن الأذلّ على هذه القراءة حال ، والحال واجبة التنكير ؛ فلهذا قلنا : إن أل زائدة لا معرّفة ، والتقدير : ليخرجن الأعز منها ذليلا ، ولك أن تقدر أن الأصل خروج الأذل ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فانتصب على المصدر على سبيل النيابة ، وحينئذ فلا يحتاج لدعوى الزيادة.

ثم ذكرت أن «أل» المعرفة يجب ثبوتها في مسألتين ، ويجب حذفها في مسألتين :

أما مسألتا الثبوت فإحداهما : أن يكون الاسم فاعلا ظاهرا والفعل «نعم» أو «بئس» كقوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ) [ص ، ٣٠] (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [المرسلات ، ٢٣] (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذاريات ، ٤٨] و (بِئْسَ الشَّرابُ) [الكهف ، ٢٩] ، وأشرت بالتمثيل بقوله تعالى : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) [الجمعة ، ٥] ، إلى أنه لا يشترط كون «أل» في نفس الاسم الذي وقع فاعلا كما في (نِعْمَ الْعَبْدُ) [النحل ، ٣٠] ، بل يجوز كونها فيما أضيف هو إليه ، نحو (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) [ص ، ٣٠] (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [النحل ، ٢٩] ، (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ)(١).

__________________

(١) يشترط في هذا التمييز خمسة شروط : أولها : أن يكون نكرة ، فلا يصح الإتيان به معرفة.

والثاني : أن يكون عامّا ، ونريد بالعام ما يكون له أفراد متعددة ، كرجل وامرأة وفتاة وكتاب ، فإن لم يكن له إلا فرد واحد كقمر وشمس لم يصح أن يكون تمييزا هنا ، نعم لو قلت «نعم شمسا شمس يومنا» أو قلت : «نعم قمرا قمر ليلتنا» صح ذلك ؛ لأن القمر يتعدد بتعدد الليالي ، والشمس تتعدد بتعدد الأيام ؛ فصار من قبيل النكرة العامة ذات الأفراد.

١٨٢

ولو كان فاعل نعم وبئس مضمرا وجب فيه ثلاثة أمور ؛ أحدها : أن يكون مفردا ، لا مثنى ولا مجموعا ، مستترا لا بارزا ، مفسرا بتمييز بعده ، كقولك : نعم رجلا زيد ، ونعم رجلين الزّيدان ، ونعم رجالا الزّيدون ، وقول الشاعر :

٧٠ ـ نعم امرأ هرم لم تعر نائبة

إلّا وكان لمرتاع بها وزرا

______________________________________________________

٧٠ ـ هذا بيت من البسيط ، وقد زعم قوم أنه من كلام زهير بن أبي سلمى المزني من قصيدة له يمدح فيها هرم بن سنان المري ، اغترارا بذكر اسم هرم فيه ، مع أن زهيرا كان كثير المدح لهرم بن سنان المري ، ولم أجد البيت في إحدى نسخ ديوان زهير بن أبي سلمى التي بين يدي على اختلاف رواتها وشراحها.

اللّغة : «لم تعر» أي لم تنزل ، «لمرتاع» أي فزع ، خائف ، «وزرا» أي ملجأ وحصنا ، يريد أنه يدفع عنهم آثار نوائب الدهر بإحساناته إليهم.

الإعراب : «نعم» فعل ماض دال على إنشاء المدح ، مبني على الفتح لا محل له من الإعراب ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى امرأ الآتي ، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر مقدم ، «امرأ» تمييز ، «هرم» مبتدأ مؤخر ، «لم» نافية جازمة ، «تعر» فعل مضارع مجزوم بلم ، وعلامة جزمه حذف الواو والضمة قبلها دليل عليها ، «نائبة» فاعل تعر ، «إلا» أداة استثناء ، «وكان» الواو واو الحال ، كان : فعل ماض ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى هرم ، «لمرتاع» جار ومجرور متعلق بقوله وزرا الآتي ، «بها» جار ومجرور متعلق بقوله مرتاع ، «وزرا» خبر كان منصوب بالفتحة الظاهرة ، والجملة من كان واسمها وخبرها في محل نصب حال ، وهذا الحال في المعنى مستثنى من عموم الأحوال ، ألست ترى أن معنى الكلام : لم تعر الناس نائبة في حال من الأحوال إلا في الحال التي يكون هرم فيها وزرا للمرتاعين بها؟

الشّاهد فيه : قوله «نعم امرأ هرم» فإن نعم فعل ماض فيه ضمير مستتر ، ومرجعه هو قوله «امرأ» الذي وقع تمييزا مفسرا لهذا الضمير لإبهامه ، فعاد الضمير هنا على متأخر لفظا ورتبة ، أما تأخره لفظا

__________________

والشرط الثالث : أن تكون النكرة مما يقبل أل ؛ فخرج بذلك لفظ «مثل» ولفظ «غير» ونحوهما مما هو متوغل في التنكير ولا يقبل أل ، بناء على ما ذهب إليه كثير من النحاة.

والشرط الرابع : أن يؤخر هذا التمييز عن الفعل الذي هو بئس أو نعم ؛ فلا يصح تقديمه عليهما.

والشرط الخامس : أن يقدم هذا التمييز عن المخصوص بالمدح أو الذم : فلا يجوز أن يؤخر عنه.

والمثال الجامع لهذه الشروط هو ما ذكره المؤلف من قوله «نعم رجلا زيد» وقد اكتفى بذلك المثال المستوفي لكل هذه الشروط عن ذكر هذه الشروط.

١٨٣

والثانية : أن يكون الاسم نعتا : إما لاسم الإشارة نحو (ما لِهذَا الْكِتابِ) [الكهف ، ٤٩] (ما لِهذَا الرَّسُولِ) [الفرقان ، ٧] وقولك : «مررت بهذا الرّجل» أو نعت «أيها» في النداء ، نحو (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [المائدة ، ٦٧] (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) [الانفطار ، ٦] ، ولكن قد تنعت «أيّ» باسم الإشارة كقولك «يا أيّهذا» (١) ، والغالب حينئذ أن تنعت الإشارة كقوله :

٧١ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي؟

وقد لا تنعت كقوله :

______________________________________________________

فواضح ، وأما تأخره رتبة فإن من البديهي أن رتبة التمييز متأخرة عن رتبة الفاعل ؛ لأن كل فعل يحتاج ألبتة إلى فاعل ، والأصل فيه أن يتصل بالفعل ، والغالب أن الكلام لا يحتاج إلى التمييز ، ولكن هذا الموضع مما يغتفر فيه عود الضمير على المتأخر على نحو ما علمت مما سبق ، وشيء آخر يوضح لك هذا ، وهو أن الفاعل عمدة ، والتمييز فضلة ، بدليل أن الفاعل مرفوع وهو جزء من الجملة ، والتمييز منصوب وليس جزءا من الجملة.

وفي البيت شاهد آخر : وذلك في قوله «إلا وكان لمرتاع بها وزرا» وذلك حيث اقترنت جملة الحال الماضوية الواقعة بعد إلا بالواو ، والمستعمل الكثير في اللسان أن تجيء جملة الحال ـ إذا كانت بهذه المثابة ـ غير مقترنة بالواو.

٧١ ـ هذا بيت من الطويل ، وهو من معلقة طرفة بن العبد البكري أحد شعراء الجاهلية ، وهو من شواهد ابن عقيل (رقم ٣٢٩).

اللّغة : «الزاجري» الذي يزجرني ويكفني ويمنعني ، «الوغى» هو في الأصل الأصوات والجلبة ، ثم استعملوه في الحرب والقتال لما فيهما من الأصوات ، «مخلدي» أراد هل تضمن لي البقاء بزجرك إياي ومنعك لي من منازلة الأقران؟

الإعراب : «ألا» أداة استفتاح وتنبيه ، «أيهذا» أي : منادى بحرف نداء محذوف مبني على الضم في محل نصب ، وها : حرف تنبيه ، وذا : اسم إشارة نعت لأيّ ، مبني على السكون في

__________________

(١) اعلم أن «يا» إذا نعتت بمذكر فإن لفظها يذكر ، كما في الآيتين اللتين تلاهما المؤلف ، وإذا نعتت بمؤنث فإن لفظها يؤنث ، كما في قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) [سورة الفجر ، ٢٧] ، وكما في قول أوس بن حجر :

أيّتها النّفس أجملي جزعا

إنّ الّذي تحذرين قد وقعا

١٨٤

٧٢ ـ * أيّهذان كلا زاديكما*

______________________________________________________

محل رفع ، «الزاجري» الزاجر : بدل من اسم الإشارة ، أو نعت له ، أو عطف بيان عليه ، مرفوع بضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم ، وياء المتكلم مفعول به ؛ مبني على السكون في محل نصب ، وقيل : مضاف إليه مبني على السكون في محل جر ، وهو ضعيف ، «أحضر» فعل مضارع يروى مرفوعا فلا لبس فيه ، لأنه فعل مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم وعلامة رفعه الضمة الظاهرة ، ويروى منصوبا ، فهو منصوب بأن المصدرية المحذوفة ، وستعرف ما فيه ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «الوغى» مفعول به لأحضر ، «وأن» الواو عاطفة ، أن : مصدرية ناصبة ، «أشهد» فعل مضارع منصوب بأن ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «اللذات» مفعول به منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم ، «هل» حرف استفهام مبني على السكون لا محل له من الإعراب ، «أنت» ضمير منفصل مبتدأ ، «مخلدي» مخلد : خبر المبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة ، ومخلد مضاف وياء المتكلم مضاف إليه مبني على السكون في محل جر.

الشّاهد فيه : قوله «أيهذا الزاجري» حيث نعت «أي» باسم الإشارة ثم نعت اسم الإشارة بالاسم المحلى بالألف واللام ، وهذا هو الغالب إذا نعت «أي» باسم الإشارة.

وفي البيت شاهد آخر ، وهو انتصاب الفعل المضارع ، الذي هو قوله «أحضر» بأن المصدرية المحذوفة ، وذلك عند من روى هذا الفعل بالنصب ، وهم الكوفيون ، والذي سهل النصب مع الحذف ذكر «أن» في المعطوف ، وهو قوله «وأن أشهد» فافهم ذلك ، ونظير ذلك قولهم في مثل هذا «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» بنصب تسمع ، فأما البصريون فيروون البيت برفع «أحضر» والمثل برفع «تسمع» ، وذلك لأنهم لا يجيزون أن ينتصب الفعل المضارع بحرف محذوف في غير المواضع المحفوظة ، من قبل أن نواصب المضارع عوامل ضعيفة ، والعامل الضعيف لا يعمل إلا وهو مذكور (انظر ص ٤١ السابقة).

٧٢ ـ هذا صدر بيت من الرمل ، وعجزه قوله :

* ودعاني واغلا في من يغل*

وفي بعض نسخ الشرح ذكر البيت كاملا ، ولم أقف له على نسبة إلى قائل معين.

اللّغة : «واغلا» هو الرجل الذي يدخل على القوم وهم يشربون من غير أن يدعى لذلك ، «يغل» أصله يوغل ـ بفتح الياء وسكون الواو وكسر الغين ، فحذفت الواو لوقوعها بين عدوّتيها ، على نحو ما علمت مما سبق للمؤلف أول الكتاب في ص ٤٩.

الإعراب : «أيهذان» أي : منادى بحرف نداء محذوف ، مبني على الضم في محل نصب ، ها :

١٨٥

وأما مسألتا الحذف فإحداهما : أن يكون الاسم منادى ؛ فتقول في نداء الغلام والرجل والإنسان : يا غلام ، ويا رجل ، ويا إنسان ، ويستثنى من ذلك أمران : أحدهما : اسم الله تعالى (١) ؛ فيجوز أن تقول : يا ألله ، فتجمع بين «يا» والألف واللام ، ولك قطع ألف اسم الله تعالى وحذفها ، والثاني : الجملة المسمى بها ؛ فلو سميت بقولك «المنطلق زيد» ثم ناديته قلت : يا المنطلق زيد.

الثانية : أن يكون الاسم مضافا ، كقولك في الغلام والدار : غلامي ، وداري ، ولا تقل : الغلامي ، ولا الداري ، فتجمع بين أل والإضافة ، ويستثنى من ذلك مسألتان ؛ إحداهما : أن يكون المضاف صفة معربة بالحروف ؛ فيجوز حينئذ اجتماع أل والإضافة ، وذلك نحو «الضّاربا زيد» و «الضّاربو زيد» (٢) ، والثانية : أن يكون

______________________________________________________

حرف تنبيه ، ذان : اسم إشارة نعت لأيّ ، مبني على الألف في محل رفع ، وقيل مرفوع بالألف نيابة عن الضمة لأنه ملحق بالمثنى ، «كلا» فعل أمر مبني على حذف النون وألف الاثنين فاعله ، مبني على السكون في محل رفع ، «زاديكما» زادي : مفعول به منصوب بالياء نيابة عن الفتحة لأنه مثنى ، والكاف ضمير المخاطب مضاف إليه مبني على الضم في محل جر ، والميم حرف عماد ، والألف حرف دالّ على تثنية المخاطب ، «ودعاني» الواو عاطفة ، دعا : فعل أمر مبني على حذف النون ، وألف الاثنين فاعل ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به «واغلا» حال من المفعول به ، وهو ياء المتكلم ، «فيمن» في : حرف جر ، من : اسم موصول مبني على السكون في محل جر بفي ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لواغل ، «يغل» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على الاسم الموصول ، والجملة لا محل لها صلة الموصول.

الشّاهد فيه : قوله «أيهذان» حيث نعت «أي» باسم الإشارة الذي للمثنى ، وهو قوله «ذان» ، ولم ينعت اسم الإشارة باسم محلى بالألف واللام ، وذلك قليل.

__________________

(١) الأكثر في نداء اسم الله تعالى أن تحذف حرف النداء ، وتعوض منه ميما مشددة في آخر الاسم ؛ فتقول : اللهم ؛ وربما جمع بين الميم المشددة وحرف النداء ، وهذا خاص بالشعر ، ومنه قول الراجز :

إنّي إذا ما حدث ألمّا

أقول : يا اللهمّ ، يا اللهمّا

(٢) ومن ذلك قول عنترة بن شداد :

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر

للحرب دائرة على ابني ضمضم

الشاتمي عرضي ولم أشتمهما

والنّاذرين إذا لم ألقهما دمي

١٨٦

المضاف صفة والمضاف إليه معمولا لها وهو بالألف واللام ؛ فيجوز حينئذ أيضا الجمع بين أل والإضافة ، وذلك نحو «الضّارب الرّجل» و «الرّاكب الفرس» (١) وما عداهما لا يجوز فيه ذلك ، خلافا للفرّاء في إجازة «الضّارب زيد» ونحوه مما المضاف فيه صفة والمضاف إليه معرفة بغير الألف واللام ، وللكوفيين كلهم في إجازة نحو «الثّلاثة الأثواب» (٢) ونحوه مما المضاف [فيه] عدد والمضاف إليه معدود ، وللرّمّانيّ والمبرّد والزّمخشري في قولهم [في] «الضّاربي» و «الضّاربك» و «الضّاربه» : إن الضمير في موضع خفض بالإضافة.

ثم قلت : السّادس المضاف لمعرفة ، ك «غلامي» و «غلام زيد».

وأقول : هذا خاتمة المعارف ، وهو المضاف لمعرفة ، وهو في درجة ما أضيف إليه ، ف «غلام زيد» في رتبة العلم ، و «غلام هذا» في رتبة الإشارة ، و «غلام الّذي جاءك» في رتبة الموصول ، و «غلام القاضي» في رتبة ذي الأداة ، ولا يستثنى من ذلك إلا المضاف إلى المضمر ك «غلامي» ؛ فإنه ليس في رتبة المضمر ، بل هو في رتبة العلم ، وهذا هو المذهب الصحيح ، وزعم بعضهم أن ما أضيف إلى معرفة فهو في رتبة ما تحت تلك المعرفة دائما ، وذهب آخر إلى أنه في رتبتها مطلقا ، ولا يستثنى المضمر ، والذي يدل على بطلان القول الثاني قوله :

٧٣ ـ * ... كخذروف الوليد المثقّب*

______________________________________________________

٧٣ ـ هذا الشاهد قطعة من بيت من الطويل لامرئ القيس بن حجر الكندي ، أحد فحول الشعراء في الجاهلية ، والبيت بتمامه هكذا :

__________________

ومحل الاستشهاد به في قوله «الشاتمي عرضي» فإن «الشاتمي» صفة ؛ لكونه اسم فاعل ، وهي معربة بالحروف ؛ لكونها مثنى ، وقد أضيفت إلى «عرضي» الذي هو مفعول به لهذه الصفة.

(١) ومن شواهد ذلك قول النابغة الذبياني :

الواهب المائة الأبكار زيّنها

سعدان توضح في أوبارها اللّبد

(٢) إذا أريد تعريف العدد المضاف إلى المعدود ـ على ما اختاره البصريون ـ أدخلت أل على المضاف إليه كقول ذي الرمة :

وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى

ثلاث الأثافي والدّيار البلاقع؟

١٨٧

فوصف المضاف للمعرّف بالأداة بالاسم المعرف بالأداة ، والصّفة لا تكون

______________________________________________________

فأدرك لم يجهد ، ولم يثن شأوه

يمرّ كخذروف الوليد المثقّب

وهذا البيت من قصيدة له طويلة كان قد ساجل بها علقمة الفحل أمام امرأة اسمها أم جندب ، وتحاكما إليها في أن يصف كل واحد منهما فرسه في قصيدة ، ومطلع قصيدة امرئ القيس قوله :

خليليّ مرّا بي على أمّ جندب

لنقضي حاجات الفؤاد المعذّب

ومطلع قصيدة علقمة قوله :

ذهبت من الهجران في كلّ مذهب

ولم يك حقّا كلّ هذا التّجنّب

لغة بيت الشّاهد : «أدرك» أي أدرك هذا الفرس الوحش الذي كان يطارده ، «لم يجهد» أي على طبيعته من غير أن أجهده أو أبعثه أو أثيره ، «شأوه» الشأو : الشوط البعيد ، «الخذروف» لعبة للصبيان يديرونها بخيط في أكفهم فلا تكاد ترى لسرعة دورانها.

المعنى : يصف فرسه بأنه أدرك الصيد من غير أن يجهده ، وأنه كان سريعا سرعة تشبه سرعة خذروف الوليد.

الإعراب : «أدرك» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الفرس المذكور في أبيات قبل هذا البيت ، «لم» نافية جازمة ، «يجهد» فعل مضارع مبني للمجهول ، مجزوم بلم ، ونائب فاعله ضمير الفرس ، والجملة في محل نصب حال من فاعل أدرك ، «ولم» الواو عاطفة ، لم : نافية جازمة ، «يثن» فعل مضارع مبني للمجهول ، مجزوم بلم ، وعلامة جزمه حذف الألف والفتحة قبلها دليل عليها ، «شأوه» شأو : نائب فاعل يثن ، وهو مضاف والضمير مضاف إليه ، والجملة في محل نصب بالعطف على جملة الحال ، «يمر» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الفرس ، «كخذروف» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف ، وتقدير الكلام : يمر مرّا كائنا كمر خذروف ، وخذروف مضاف و «الوليد» مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة ، «المثقب» صفة لخذروف.

الشّاهد فيه : قوله «كخذروف الوليد المثقب» فإن قوله «المثقب» نعت لقوله خذروف في قوله «خذروف الوليد» على ما علمناه من الإعراب ، وهذا النعت محلى بالألف واللام ، والمنعوت مضاف إلى المحلى بالألف واللام ، والنعت لا يجوز أن يكون أعرف من المنعوت ؛ فدلنا ذلك على أن المحلى بأل ليس أعرف من المضاف إلى المحلى بأل ؛ فثبت أن المضاف إلى معرفة يكون في رتبة هذه المعرفة ، وفي كلام المؤلف دليل على استثناء المضاف إلى الضمير ، فتنبه لهذا وافهمه.

١٨٨

أعرف من الموصوف ، وعلى بطلان الثالث قولهم : مررت بزيد صاحبك (١).

ثم قلت : باب ـ المرفوعات عشرة : أحدها الفاعل ، وهو : ما قدّم الفعل أو شبهه عليه وأسند إليه على جهة قيامه به أو وقوعه منه ك «علم زيد» و «مات بكر» و «ضرب عمرو» و (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ).

وأقول : شرعت من هنا في ذكر أنواع المعربات ، وبدأت منها بالمرفوعات ؛ لأنها أركان الإسناد ، وثنّيت بالمنصوبات ؛ لأنها فضلات غالبا (٢) ، وختمت بالمجرورات ؛ لأنها تابعة في العمديّة والفضليّة لغيرها ، وهو المضاف ؛ فإن كان عمدة فالمضاف إليه عمدة ، كما في قولك : «قام غلام زيد» ، وإن كان فضلة فالمضاف إليه فضلة ، كما في قولك : «رأيت غلام زيد» ، والتابع يتأخر عن المتبوع.

وبدأت من المرفوعات بالفاعل لأمرين ؛ أحدهما : أن عامله لفظي ، وهو الفعل أو شبهه ، بخلاف المبتدأ ؛ فإن عامله معنوي ، وهو الابتداء (٣) ، والعامل اللفظي أقوى من العامل المعنوي ؛ بدليل أنه يزيل حكم العامل المعنوي ، تقول في زيد قائم : «كان زيد قائما» و «إنّ زيدا قائم» و «ظننت زيدا قائما» ولما بيّنت أنّ عامل الفاعل أقوى كان الفاعل أقوى ، والأقوى مقدّم على الأضعف ، الثاني : أن الرفع في الفاعل للفرق بينه وبين المفعول ، وليس هو في المبتدأ كذلك ، والأصل في الإعراب أن يكون للفرق بين المعاني فقدّمت ما هو الأصل.

والضمير في قولي «وهو» للفاعل ، وقولي «ما قدّم الفعل أو شبهه عليه» مخرج لنحو «زيد قام» و «زيد قائم» فإنّ زيدا فيهما أسند إليه الفعل وشبهه ولكنهما لم يقدّما

__________________

(١) وجه دلالة هذا المثال أن النعت ـ وهو قولهم : صاحبك ـ مضاف إلى الضمير ، والمنعوت علم ؛ فلو كان المضاف إلى الضمير في رتبة الضمير لكانت الصفة أعرف من الموصوف ؛ ومن المقرر عند النحاة أن الصفة لا يجوز أن تكون أعرف من الموصوف ؛ فدل اتفاقهم على صحة هذا المثال ـ مع هذا المقرر عندهم ـ على أن المضاف إلى الضمير ـ مثل صاحبك ـ في رتبة العلم كزيد.

(٢) إنما قال المؤلف «غالبا» لأن بعض المنصوبات ليس فضلة ، بل هو ركن من أركان الإسناد ، وذلك مثل اسم إن ، فإنه المحكوم عليه ، وخبر كان ، فإنه المحكوم به.

(٣) هذا مذهب البصريين ، وهو الراجح ، وذهب الكوفيون إلى أن العامل في المبتدأ هو الخبر ، وعليه يكون العامل عندهم في المبتدأ لفظيّا ، وهو مذهب ضعيف.

١٨٩

عليه ، ولا بد من هذا القيد ؛ لأن به يتميز الفاعل من المبتدأ.

وقولي «أسند إليه» مخرج لنحو «زيدا» في قولك «ضربت زيدا» و «أنا ضارب زيدا» ؛ فإنه يصدق عليه فيهما أنه قدّم عليه فعل أو شبهه ، ولكنهما لم يسندا إليه.

وقولي «على جهة قيامه به أو وقوعه منه» مخرج لمفعول ما لم يسمّ فاعله ، نحو : «ضرب زيد» و «عمرو مضروب غلامه» فزيد والغلام وإن صدق عليهما أنهما قدم عليهما فعل وشبهه وأسندا إليهما ، لكن هذا الإسناد على جهة الوقوع عليهما ، لا على جهة القيام به كما في قولك : علم زيد ، أو الوقوع منه كما في قولك : ضرب عمرو.

ومثّلت لما أسند إليه شبه الفعل بقوله تعالى : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) [فاطر ، ٢٨] فألوانه : فاعل لمختلف ؛ لأنه اسم فاعل ؛ فهو في معنى الفعل ، والتقدير : وصنف مختلف ألوانه ، أي يختلف ألوانه ، فحذف الموصوف وأنيب الوصف عن الفعل ، وقوله تعالى : (كَذلِكَ) أي : اختلافا كالاختلاف المذكور في قوله تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) [فاطر ، الآية ٢٧].

ثم قلت : الثاني نائبه ، وهو : ما حذف فاعله ، وأقيم هو مقامه (١) ، وغيّر عامله إلى طريقة فعل أو يفعل أو مفعول ، وهو المفعول به ، نحو (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وإن فقد فالمصدر نحو (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ،)

__________________

(١) الأغراض التي يحذف من أجلها الفاعل على نوعين : الأول أغراض لفظية أي راجعة إلى اللفظ المتكلم به ، والثاني أغراض معنوية.

وأهم الأغراض اللفظية ثلاثة أغراض :

الأول : رغبة المتكلم في إيجاز العبارة ، أي أن يأتي بها مختصرة من غير تعقيد ، ومن أفصح أمثلة ذلك قوله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.)

الثاني : رغبة المتكلم في أن يحافظ على السجع في الكلام المنثور ، ومثاله قولهم «من طابت سريرته حمدت سيرته» فإنه لو قيل في هذه العبارة «حمد الناس سيرته» لتغيرت حركة إعراب الفاصلة الثانية فلم توافق حركة إعراب الفاصلة الأولى.

الثالث : رغبة المتكلم في المحافظة على الوزن في الكلام المنظوم نحو قول الأعشى :

علّقتها عرضا وعلّقت رجلا

غيري ، وعلّق أخرى غيرها الرّجل

وأهم الأغراض المعنوية سبعة أغراض :

١٩٠

أو الظّرف نحو «صيم رمضان» و «جلس أمامك» أو المجرور نحو (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ومنه (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها) [البقرة ، ٤٨].

وأقول : الثاني من المرفوعات : نائب الفاعل ، وهو الذي يعبرون عنه بمفعول ما لم يسمّ فاعله ، والعبارة الأولى أولى لوجهين ؛ أحدهما : أن النائب عن الفاعل يكون مفعولا وغيره ، كما سيأتي ، والثاني : أن المنصوب في قولك : «أعطي زيد دينارا» يصدق عليه أنه مفعول للفعل الذي لم يسمّ فاعله ، وليس مقصودا لهم ، ومعنى قولي «أقيم هو مقامه» أنه أقيم مقامه في إسناد الفعل إليه.

ولما فرغت من حدّه شرعت في بيان ما يعمل بعد حذف الفاعل ؛ فذكرت أن الفعل يجب تغييره إلى فعل أو يفعل ، ولا أريد بذلك هذين الوزنين ؛ فإن ذلك لا يتأتّى إلا في الفعل الثلاثي ، وإنما أريد أنه يضمّ أوّله مطلقا ، ويكسر ما قبل آخره في الماضي ، ويفتح في المضارع ، ثم بعد ذلك يقام المفعول به مقام الفاعل ؛ فيعطى أحكامه كلها ؛ فيصير مرفوعا بعد أن كان منصوبا ، وعمدة بعد أن كان فضلة ، وواجب التأخير عن الفعل بعد أن كان جائز التقديم عليه.

والمفعول به عند المحققين مقدّم في النيابة على غيره وجوبا ؛ لأنه قد يكون فاعلا في المعنى كقولك «أعطيت زيدا دينارا» ألا ترى أنه آخذ؟ وأوضح من هذا «ضارب زيد عمرا» لأن الفعل صادر من زيد وعمرو ؛ فقد اشتركا في إيجاد الفعل ، حتى إن

__________________

الأول : أن يكون الفاعل معلوما لكل أحد بحيث لا يحتاج المتكلم لذكره ، ومن أمثله قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ.)

والثاني : أن يكون المتكلم غير عالم بالفاعل ، نحو قولك «سرق متاعي» وأنت لا تعلم السارق.

الثالث : أن يرغب المتكلم في الإبهام على السامع ، نحو قولك «صنع مع زيد جميل» إذا كنت تعرف صانع الجميل ولكنك رغبت في الإبهام على السامع.

الرابع : أن يقصد المتكلم تعظيم الفاعل بصون اسمه عن أن يجري على لسانه أو عن أن يقترن في الكلام بالمفعول ، نحو قولك «خلق الخنزير».

الخامس : أن يقصد المتكلم تحقير الفاعل بأن لا يجري اسمه على لسانه.

السادس : خوف المتكلم على الفاعل أن يناله أحد بمكروه.

السابع : خوف المتكلم من الفاعل أن يناله بأذى ، وذلك إذا كان جبارا لا يسلم الناس من شروره.

١٩١

بعضهم جوّز في هذا المفعول أن يرفع وصفه فيقول : «ضارب زيد عمرا الجاهل» لأنه نعت المرفوع في المعنى.

ومثّلت لنيابته عن الفاعل بقوله تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) [البقرة ، ٢١٠ ، وسورة هود ، الآية ٤٤] وأصله قضى الله الأمر ، فحذف الفاعل للعلم به ، ورفع المفعول به ، وغيّر الفعل بضم أوّله وكسر ما قبل آخره ، فانقلبت الألف ياء.

فإن لم يكن في الكلام مفعول به أقيم غيره : من مصدر ، أو ظرف زمان ، أو مكان ، أو مجرور.

فالمصدر كقوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة ، ١٣] وقوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة ، ١٧٨] وكون «نفخة» مصدرا واضح ، وأما «شيء» فلأنه كناية عن المصدر ، وهو العفو ، والتقدير ـ والله أعلم ـ فأيّ شخص من القاتل عفي له عفو ما من جهة أخيه ، والأخ هنا محتمل لوجهين : أحدهما : أن يكون المراد به المقتول ف «من» للسببية ، أي بسببه ، وإنما جعل أخا تعطيفا عليه وتنفيرا عن قتله ، لأن الخلق كلهم مشتركون في أنهم عبيد الله ؛ فهم كالإخوة في ذلك ، ولأنهم أولاد أب واحد وأم واحدة ؛ والثاني : أن المراد به وليّ الدّم ، وسمّي أخا ترغيبا له في العفو ، و «من» على هذا لابتداء الغاية ، وهذا الوجه أحسن ، لوجهين : أحدهما : أن كون «من» لابتداء الغاية أشهر من كونها للسببية ، والثاني : أن الضمير في قوله تعالى : (وَأَداءٌ إِلَيْهِ) راجع إلى مذكور في هذا الوجه دون الأول.

وظرف الزمان ، كقولك «صيم رمضان» وأصله صام الناس رمضان.

وظرف المكان ، كقولك «جلس أمامك» والدليل على أن الأمام من الظروف المتصرفة التي يجوز رفعها قول الشاعر :

٧٤ ـ فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها

فموضع «كلا» رفع بالابتداء ، و «خلفها» بدل منه ، و «أمامها» عطف عليه ،

______________________________________________________

٧٤ ـ هذا بيت من الكامل من معلقة لبيد بن ربيعة العامري التي مطلعها :

عفت الدّيار محلّها فمقامها

بمنى تأبّد غولها فرجامها

١٩٢

والجملة التي هي «تحسب» وما بعدها في موضع رفع خبر المبتدأ ، والعائد على المبتدأ الهاء المتصلة بأنّ ، وإنما يصف الشاعر بقرة وحش بالتبلّد وأنها لا تدري على أي شيء تقدم ، ولا بدّ من تقدير واو حال قبل «كلا» فكأنه قال : فغدت هذه

______________________________________________________

اللّغة : «عفت» درست وذهبت معالمها ، وهو هنا لازم ، وقد يأتي متعديا ، «الديار» جمع دار ، «محلها» هو بدل من الديار ، وهو موضع حلول أهليها : أي نزولهم وسكناهم ، «فمقامها» بضم الميم ـ موضع إقامتهم ، «تأبد» توحش ، «غولها» قيل : هو جبل ، وقيل : هو اسم ماء معروف عندهم ، «فعدت» يروى بالغين المعجمة ـ من الغدو. ويروى بالعين المهملة من العدو ، وهو شدة الجري ، «الفرجين» مثنى فرج ، وهو الثغرة في الجبل ، «مولى المخافة» أي الموضع الذي فيه المخافة : أي الخوف.

المعنى : يصف بقرة من بقر الوحش سمعت صوت الصيادين فأخذت تعدو في الجبل ، وهي كلما ذهبت إلى طريق حسبت أنه المكان الذي تجد فيه الصيادين ، سواء في ذلك الطريق الذي أمامها والطريق خلفها. الإعراب : «فغدت» الفاء حرف عطف ، غدا : فعل ماض ، والتاء علامة التأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى بقرة الوحش ، «كلا» مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر ، وكلا مضاف و «الفرجين» مضاف إليه ، «تحسب» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى البقرة أيضا ، «أنه» أن : حرف توكيد ونصب ، والهاء ضمير الغائب العائد إلى كلا الفرجين اسم أن ، «مولى» خبر أن مرفوع بضمة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر ، ومولى مضاف و «المخافة» مضاف إليه ، وأن واسمها وخبرها في محل نصب سدت مسد مفعولي تحسب ، وجملة تحسب مع فاعله ومفعوليه في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو كلا ، وجملة المبتدأ والخبر في محل نصب حال على تقدير الواو ، «خلفها» خلف : بدل من كلا ، وبدل المرفوع مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة ، وخلف مضاف والضمير الذي للغائبة العائد إلى البقرة مضاف إليه ، «وأمامها» الواو عاطفة ؛ أمام : معطوف على خلف ، والمعطوف على المرفوع مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة ، وأمام مضاف والضمير الذي للغائبة مضاف إليه أيضا ، وفي هذا البيت أعاريب أخرى كثيرة أضربنا عنها صفحا ؛ لأنها لا تخلو من تكلفات بعيدة.

الشّاهد فيه : قوله «أمامها» فإن الرواية قد وردت برفعه ؛ بدليل أن هذه القصيدة ميمية مرفوعة القوافي ، ورفعه على أنه معطوف على خلفها الذي هو بدل من «كلا» الذي هو مبتدأ على ما علمت في إعراب البيت ؛ فدل ذلك على أن «أمام» من الظروف المتصرفة : أي التي تخرج عن النصب على الظرفية وعن الجر بمن ، إلى التأثر بالعوامل ؛ فتكون أحيانا مرفوعة بعامل من العوامل التي تقتضي الرفع كما هنا ، ونحو ذلك.

١٩٣

الوحشية وكلا النّقرتين اللتين هما خلفها وأمامها تحسب أنه مولى المخافة ، أي : المكان الذي تؤتى فيه.

والمجرور ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) [الأنعام ، ٧٠] ف (يؤخذ) فعل مضارع مبني لما لم يسم فاعله ، وهو خال من ضمير مستتر فيه ، و (منها) جار ومجرور في موضع رفع : أي لا يكن أخذ منها ، ولو قدر ما هو المتبادر من أن في (يؤخذ) ضميرا مستترا هو القائم مقام الفاعل ، و (منها) في موضع نصب ، لم يستقم ؛ لأن [ذلك] الضمير عائد حينئذ على (كل عدل) و «كل عدل» حدث ، والأحداث لا تؤخذ ، وإنما [تؤخذ] الذوات ، نعم إن قدر أن (لا يؤخذ) بمعنى لا يقبل صحّ ذلك.

وفهم من قولي «فإن فقد فالمصدر ـ إلى آخره» أنه لا يجوز إقامة غير المفعول به مع وجود المفعول به ، وهو مذهب البصريين إلا الأخفش ، واستدلّ المخالفون بنحو قول الشاعر :

٧٥ ـ أتيح لي من العدا نذيرا

به وقيت الشّرّ مستطيرا

وبقراءة أبي جعفر «ليجزى قوما بما كانوا يكسبون» (١) فأقيم فيهما الجار والمجرور ، وترك المفعول به منصوبا.

______________________________________________________

٧٥ ـ هذا بيت من الرجز أو بيتان من مشطوره ليزيد بن القعقاع.

اللّغة : «أتيح لي» هيئ لي وقدر ، «نذيرا» مخوفا ومحذرا ، «وقيت الشر» حفظت منه.

__________________

(١) الجاثية ، ١٤ ـ وأبو جعفر يقرأ في هذه الآية بضم الياء من «ليجزى» على أنه فعل مضارع مبني للمجهول ، وينصب «قوما» على أنه مفعول به ليجزى ، ونائب الفاعل هو «بما» وهو الجار والمجرور ؛ فدلت هذه القراءة في هذه الآية الكريمة على جواز إنابة الجار والمجرور مع وجود المفعول به ، ولو أنه قد تقدم المفعول به على النائب عن الفاعل ، وهذا رأي الكوفيين الذين يجوزون إنابة الجار والمجرور عن الفاعل مع وجود المفعول به في الكلام مطلقا ، نعني أنه سواء عندهم أتقدم المفعول به على الجار والمجرور أم تأخر عنه.

وقد رد جمهور البصريين على استدلالهم بهذه القراءة بوجهين :

أولهما : أن الجار والمجرور ليس هو نائب الفاعل ، ولكن الفاعل ضمير مستتر يعود إلى مصدر يجزي وهو الجزاء.

وثانيهما : أن هذه القراءة شاذة ، والقراءة الشاذة لا تصلح للاحتجاج بها ؛ لأنها تشبه ما قد يكون من ضرورات الشعر ، وهذا الجواب ضعيف فيما نرى.

١٩٤

ثم قلت : ولا يحذفان ، بل يستتران ، ويحذف عاملهما : جوازا ، نحو «زيد»

______________________________________________________

المعنى : يريد أن أعداءه قد دبروا له ليوقعوه في شر يتفاقم خطبه ويتطاير شرره ، وأن المقادير هيأت له من ينذره بما بيتوه له ، فكان ذلك سببا في حفظه من الوقوع في الشر.

الإعراب : «أتيح» فعل ماض مبني للمجهول ، «لي» جار ومجرور ، وهو نائب فاعل أتيح ، «من العدا» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من قوله نذيرا الآتي ، وكان أصله صفة له ؛ فلما تقدم عليه أعرب حالا ، «نذيرا» مفعول به ثان لأتيح منصوب بالفتحة الظاهرة ، «به» جار ومجرور متعلق بوقيت الآتي ، «وقيت» وقي : فعل ماض مبني للمجهول ، وتاء المتكلم نائب فاعل ، «الشر» مفعول ثاني لوقي ، ومفعوله الأول هو نائب الفاعل ، «مستطيرا» حال من الشر.

الشّاهد فيه : قوله «أتيح لي نذيرا» فإن أتيح فعل ماض مبني للمجهول ، وأصل هذا الفعل وهو مبني للمعلوم يتعدى إلى مفعولين يصل لأحدهما بنفسه وللآخر باللام ، فتقول : أتاح الله لي ظروفا حسنة ، فلفظ الجلالة هو الفاعل ، والجار والمجرور أحد المفعولين ، وظروفا : هو المفعول الثاني ، ولو أردت أن تبني هذا الفعل للمجهول في مثالنا كنت تقول : أتيحت لي ظروف حسنة ؛ فتغير صورة الفعل ، وتسنده إلى المفعول الذي كان يتعدى إليه بنفسه ، وتترك الجار والمجرور ، إلا أن هذا الشاعر لما بنى الفعل للمجهول أسنده إلى الجار والمجرور مع ذكر المفعول به ؛ بدليل أن هذا المفعول به منصوب ، وهذا جائز عند الكوفيين والأخفش ، ومقصور على ضرورة الشعر عند سائر البصريين.

ومما ورد منه واستدل به أنصار الكوفيين والأخفش قول جرير يهجو الفرزدق :

ولو ولدت قفيرة جرو كلب

لسبّ بذلك الجرو الكلابا

فقوله «بذلك» جار ومجرور هو نائب فاعل لقوله «سب» الذي هو فعل ماض مبني للمجهول ، و «الكلابا» مفعول ثان منصوب بالفتحة الظاهرة ، فأنت ترى جريرا قد أقام الجار والمجرور مقام الفاعل مع وجود المفعول به حينما اضطرته قافية البيت لذلك.

ومثل هذا البيت أيضا قول الراجز ، وينسب إلى رؤبة بن العجاج :

لم يعن بالعلياء إلّا سيّدا

ولا شفى ذا الغيّ إلّا ذو هدى

فقوله «يعن» فعل مضارع مبني للمجهول ، وقوله «بالعلياء» جار ومجرور ، وهو نائب فاعله ، وقوله «سيدا» مفعول به ثان ليعن المبني للمجهول ، وقد أناب هذا الراجز الجار والمجرور كما ترى مع وجود المفعول به ، والدليل على أنه أناب الجار والمجرور ولم ينب المفعول به أنه أتى بالمفعول به منصوبا ، ولو أنابه لرفعه ؛ لما علمت أن من أحكام إنابة المفعول به أنه يرتفع بعد أن كان منصوبا.

ومثل هذه الشواهد قول الشاعر :

١٩٥

لمن قال «من قام» أو «من ضرب» ووجوبا ، نحو (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ* وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) ولا يكونان جملة فنحو (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) على إضمار التّبيّن ، ونحو (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) على الإسناد إلى اللّفظ ، ويؤنّث فعلهما لتأنيثهما : وجوبا في نحو «الشّمس طلعت» و «قامت هند» أو «الهندان» أو «الهندات» وجوازا : راجحا في نحو «طلعت الشّمس» ومنه «قامت الرّجال» أو «النّساء» أو «الهنود» و «حضرت القاضي امرأة» ومثل قامت النّساء «نعمت المرأة هند» ومرجوحا في نحو «ما قام إلّا هند» وقيل : ضرورة ، ولا تلحقه علامة تثنية ولا جمع ، وشذّ نحو «أكلوني البراغيث».

وأقول : ذكرت هنا خمسة أحكام يشترك فيها الفاعل والنائب عنه :

الحكم الأول : أنهما لا يحذفان ، وذلك لأنهما عمدتان ، ومنزّلان من فعلهما منزلة الجزء.

فإن ورد ما ظاهره أنهما فيه محذوفان فليس محمولا على ذلك الظاهر ، وإنما هو محمول على أنهما ضميران مستتران (١) ؛ فمن ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» ؛ ففاعل «يشرب» ليس ضميرا عائدا إلى ما تقدم ذكره ـ وهو الزاني ـ لأن ذلك خلاف

______________________________________________________

وإنّما يرضي المنيب ربّه

ما دام معنيّا بذكر قلبه

فإن قوله «معنيّا» اسم مفعول يعمل عمل الفعل المبني للمجهول وهو منصوب لأنه خبر دام ، وقوله «بذكر» جار ومجرور ، وهو نائب فاعل لمعنيّ ، وقوله «قلبه» مفعول ثان لمعنيّ ، ولم ينب الشاعر المفعول به مع وجوده في الكلام ، بدليل أنه جاء به منصوبا ، وأناب الجار والمجرور.

وكل هذه الشواهد محمولة على الضرورة الشعرية عند جمهور البصريين.

__________________

(١) هذا الكلام على إطلاقه صحيح بالنسبة لنائب الفاعل ، ولكنه غير صحيح بالنسبة للفاعل ، وذلك لأن الفاعل قد حذف في مواضع عديدة ، ومنها مواضع قياسية ، وذكر المؤلف نفسه في كتابه قطر الندى بعض هذه المواضع ، ونحن نجمل لك ذكر هذه المواضع حتى لا تضيع عليك فائدة نرجو أن تنتفع بها.

١٩٦

المقصود ، ولا الأصل «ولا يشرب الشارب» فحذف الشارب ؛ لأن الفاعل عمدة فلا يحذف ، وإنما هو ضمير مستتر في الفعل عائد على الشارب الذي استلزمه «يشرب» [فإن «يشرب» يستلزم الشارب] وحسّن ذلك تقدّم نظيره ـ وهو «لا يزني الزّاني» ـ وعلى ذلك فقس ، وتلطّف لكل موضع بما يناسبه (١) ، وعن الكسائي إجازة حذف

__________________

ـ الموضع الأول : فاعل المصدر في نحو وقله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) [البلد ، ١٤ و ١٥].

والموضع الثاني : فاعل أفعل في التعجب إذا تقدم له نظير يدل عليه ، نحو قوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) [مريم ، ٣٨].

والموضع الثالث : عند نيابة نائب الفاعل عنه ، نحو قوله تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) [البقرة ، ٢١٠].

والموضع الرابع : في إقامة البدل مقام الفاعل نحو قولهم : ما قام إلا هند ؛ فهند عند التحقيق ليست فاعل قام ، بل هي بدل من فاعل قام ، وأصل الكلام : ما قام أحد إلا هند ، والدليل على أن هندا ليست فاعلا أنهم التزموا تذكير الفعل المسند إلى اسم واقع بعد إلا ، سواء أكان هذا الفاعل مذكرا نحو «ما قام إلا زيد» أم كان مؤنثا نحو «ما قام إلا هند» ، ولو اعتبروا ما بعد إلا فاعلا لأنثوا الفعل إذا كان ما بعد إلا مؤنثا.

والموضع الخامس : فاعل قل وكثر ونحوهما إذا اتصلت بهما «ما» الزائدة ، نحو قولك : قلما يكون ذلك ، وكثر ما كان ذلك.

والموضع السادس : إذا أقيم المضاف إليه مقام المضاف كما في قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر ، ٢٢] فإن التقدير ـ والله أعلم ـ وجاء أمر ربك.

والموضع السابع : إذا أقيم مقام الفاعل حال مفصلة ، نحو قول الشاعر :

كرة ضربت بصوالجة

فتلقّفها رجل رجل

أصل الكلام : فتلقفها الناس رجلا رجلا ، فحذف الفاعل ، وأناب عنه الحال المفصلة.

والموضع الثامن : الفاعل الذي حذف للتخلص من التقاء الساكنين ، وذلك في الفعل المسند إلى ضمير الجماعة عند توكيده بنون التوكيد ، نحو قولك : اضربنّ يا قوم.

(١) أنت تعلم أن الفعل يدل بالوضع على شيئين : الأول الحدث ، والثاني الزمان ، والحدث هو مدلول المصدر ، كما تعلم أن الفعل يدل بدلالة الالتزام على الفاعل ، ضرورة أنه لا بد لكل حدث من محدث أحدثه ، فإذا قلت «ضرب» مثلا أشعر هذا الفعل بالحدث الذي هو الضرب وبزمان وقوعه ، ودل عقلا على أن له محدثا وهو الضارب.

وقد رأينا العرب تذكر ضمير الغائب البارز مع الفعل وهي تريد به الحدث الذي هو جزء من مدلول الفعل وهو مدلول المصدر ، كما وقع في قول الشاعر :

إذا زجر السّفيه جرى إليه

وخالف والسّفيه إلى خلاف

يريد إذا زجر السفيه جرى إلى السفه ، وتذكر الفعل أحيانا وتجعل فاعله المصدر نفسه كما في الشاهد ٧٦ أو ضميرا مستترا يعود إلى المصدر ، فقسنا على هذا ما إذا ذكر الفعل ولم يذكر معه فاعله ، فجعلناه ضميرا مستترا يعود إلى اسم الفاعل الذي استلزمه الفعل.

١٩٧

الفاعل ، وتابعه على ذلك السّهيلي وابن مضاء.

الثاني : أن عاملهما قد يحذف لقرينة ، وأنّ حذفه على قسمين : جائز وواجب.

فالجائز كقولك «زيد» جوابا لمن قال لك : «من قام؟» أو «من ضرب؟» فزيد في جواب الأول فاعل فعل محذوف ، وفي جواب الثاني نائب عن فاعل فعل محذوف ، وإن شئت صرّحت بالفعلين فقلت «قام زيد» و «ضرب عمرو».

والواجب ضابطه : أن يتأخر عنه فعل مفسّر له ، وقد اجتمع المثالان في الآية الكريمة (١) ف (السَّماءُ) فاعل ب (انْشَقَّتِ) محذوفة ، كالسماء في قوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) [الرحمن ، ٣٧] إلا أن الفعل هنا مذكور ، و «الأرض» نائب عن فاعل «مدّت» محذوفة ، وكلّ من الفعلين يفسره الفعل المذكور ، فلا يجوز أن يتلفّظ به ؛ لأن المذكور عوض عن المحذوف ، وهم لا يجمعون بين العوض والمعوّض عنه.

الحكم الثالث : أنهما لا يكونان جملة ، هذا هو المذهب الصحيح ، وزعم قوم أن ذلك جائز ، واستدلّوا بقوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف ، ٣٥] ، (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) [إبراهيم ، ٤٥] ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) [البقرة ، ١١] فجعلوا جملة (لَيَسْجُنُنَّهُ) فاعلا ل (بدا) وجملة (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) فاعلا ل (تَبَيَّنَ) وجملة (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) قائمة مقام فاعل (قيل) ، ولا حجة لهم في ذلك : أما الآية الأولى فالفاعل فيها ضمير مستتر عائد : إمّا على مصدر الفعل ، والتقدير : ثم بدا لهم بداء ، كما تقول : «بدا لي رأي» ويؤيد ذلك أن إسناد «بدا» إلى البداء قد جاء مصرّحا به في قول الشاعر :

٧٦ ـ لعلّك والموعود حقّ لقاؤه

بدا لك في تلك القلوص بداء

______________________________________________________

٧٦ ـ هذا بيت من الطويل ، وقد نسب في اللسان (ب د ا) هذا الشاهد إلى الشماخ بن ضرار الغطفاني ، ولم أجده في ديوانه المطبوع ، ووجدته في الأغاني (٤ / ١٥٧ بولاق) أول أربعة أبيات منسوبة إلى محمد بن بشير الخارجي في مدح زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهجاء رجل

__________________

(١) هي قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ* وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) وقد تلاها المؤلف في المتن ، من سورة الانشقاق ، الآيات ١ ـ ٣.

١٩٨

وإما على السّجن ـ بفتح السين ـ المفهوم من قوله تعالى : (لَيَسْجُنُنَّهُ) ويدلّ عليه قوله تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف ، ٣٢] وكذلك القول في الآية الثانية : أي وتبين هو ، أي التبيّن ، وجملة الاستفهام مفسّرة ، وأما الآية الثالثة فليس الإسناد فيها من الإسناد المعنوي الذي هو محلّ الخلاف ، وإنما هو [من] الإسناد اللفظي ، أي : وإذا قيل لهم هذا اللفظ ، والإسناد اللفظىّ جائز في جميع الألفاظ ، كقول العرب «زعموا مطيّة الكذب» وفي الحديث «لا حول ولا قوّة إلّا بالله كنز من كنوز الجنّة».

الحكم الرابع : أن عاملهما يؤنّث إذا كانا مؤنثين ، وذلك على ثلاثة أقسام : تأنيث واجب ، وتأنيث راجح ، وتأنيث مرجوح.

فأما التأنيث الواجب ففي مسألتين :

______________________________________________________

كان قد وعده قلوصا ، ثم مطله ولم يف له بعدته ولكنه وقع ثمة محرفا.

اللّغة : «حق لقاؤه» يروى في مكانه «حق وفاؤه» ، و «القلوص» بفتح القاف ـ الناقة الشابة ، «بدا لك بداء» ظهر لك رأي آخر غير الرأي الذي كنت قد رأيته حين وعدتني القلوص.

المعنى : يقول : لعلك قد تغير رأيك في شأن هذه الناقة ، وظهر لك في أخريات التفكير ما لم يكن ظاهرا ، وما قضي لا بد كائن.

الإعراب : «لعل» حرف ترجّ ونصب ، والكاف ضمير المخاطب اسمه ، مبني على الفتح في محل نصب ، «والموعود» الواو واو الحال ، الموعود : مبتدأ «حق» خبر المبتدأ «وفاؤه» وفاء : فاعل حق ؛ لأنه صفة مشبهة أو مصدر ، وهو مضاف والضمير مضاف إليه ، وجملة المبتدأ وخبره في محل نصب حال ، «بدا» فعل ماض ، «لك» جار ومجرور متعلق ببدا ، «في تلك» الجار والمجرور متعلق ببدا أيضا ، واللام للبعد ، والكاف حرف خطاب ، «القلوص» بدل من اسم الإشارة أو عطف بيان عليه ، «بداء» فاعل بدا ، والجملة من الفعل وفاعله خبر لعل في أول البيت.

الشّاهد فيه : قوله «بدا لك بداء» حيث أسند الفعل ـ وهو بدا ـ إلى بداء ، وهو مصدر ذلك الفعل ، وهذا يرشح أن هذا الفعل لو ورد في كلام آخر وليس معه اسم مرفوع على أنه فاعل جاز أن يقدر الفاعل ضميرا عائدا إلى مصدره كما في الآية الكريمة (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف ، ٣٥] ، على نحو ما ذكره المؤلف.

١٩٩

إحداهما : أن يكون الفاعل المؤنث ضميرا متصلا ؛ ولا فرق في ذلك بين حقيقيّ التأنيث ومجازيّه ؛ فالحقيقيّ نحو : «هند قامت» فهند : مبتدأ ، وقام : فعل ماض ، والفاعل [ضمير] مستتر في الفعل ، والتقدير : قامت هي ، والتاء علامة التأنيث ، وهي واجبة لما ذكرناه ، والمجازيّ نحو : «الشّمس طلعت» وإعرابه ظاهر ، ولمّا مثّلت به في المقدمة للتأنيث الواجب علم أن وجوب التأنيث مع الحقيقيّ من باب أولى ، بخلاف ما لو عكست ، فأما قول الشاعر :

٧٧ ـ إنّ السّماحة والمروءة ضمّنا

قبرا بمرو على الطريق الواضح

ولم يقل «ضمّنتا» فضرورة.

الثانية : أن يكون الفاعل اسما ظاهرا متصلا حقيقيّ التأنيث : مفردا ، أو تثنية له ، أو جمعا بالألف والتاء ؛ فالمفرد كقوله تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) [آل عمران ، ٣٥] والمثنى كقولك : قامت الهندان ، والجمع كقولك : قامت الهندات ؛ فأما قوله :

______________________________________________________

٧٧ ـ هذا بيت من الكامل من كلام زياد الأعجم مولى عبد القيس ، من قصيدة له تعد من نادر الكلام ونقي المعاني ، يرثي فيها المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة.

اللّغة : «مرو» أشهر مدن خراسان وقصبتها ، وبينها وبين نيسابور سبعون فرسخا ويقال لها «مرو الشاهجان» ، وعلى بعد خمسة أيام منها مدينة أخرى يقال لها «مرو الروذ».

الإعراب : «إن» حرف توكيد ونصب ، «السماحة» اسم إن ، «والمروءة» معطوف عليه ، «ضمّنا» ضمن فعل ماض مبني للمجهول ، وألف الاثنين نائب فاعل ، مبني على السكون في محل رفع ، وهو المفعول الأول ، «قبرا» مفعول ثان لضمن «بمرو» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لقبر «على الطريق» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة ثانية لقبر ، «الواضح» صفة للطريق.

الشّاهد فيه : قوله «ضمّنا» فإن «ضمّن» فعل ماض مسند إلى ضمير المؤنث ، وهو الألف العائدة إلى السماحة والمروءة ، وكان من حقه أن يؤنث هذا الفعل فيقول «ضمنتا» ، لأن كل فعل أسند إلى ضمير مؤنث يجب تأنيثه ، سواء أكان هذا المؤنث الذي يعود إليه الضمير مؤنثا حقيقي التأنيث أم كان مؤنثا مجازي التأنيث ؛ فترك الشاعر في هذا البيت تأنيث الفعل جار على خلاف الواجب ، وذلك شاذ لا يقاس عليه في السعة ، ومن أحكام ما يشذ عن المطرد الجاري على ألسنة العرب أنه ليس لنا أن نستعمل مثله لا في نثرنا ، وهو بديهي ، ولا في شعرنا ؛ لأن ما كان يجوز للعرب من الضرائر في أشعارهم لا يجوز لنا في أشعارنا ، فافهم هذا.

٢٠٠