شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

وقرئ (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم ، ٤] بالخفض والتنوين ، على إرادة التنكير وقطع النظر عن المضاف إليه : أي لفظا ومعنى ، وقرأ الجحدري (١) والعقيلي بالجر من غير تنوين ، على إرادة المضاف إليه وتقدير وجوده.

النوع الثاني : ما ألحق بقبل وبعد من قولهم «قبضت عشرة ليس غير» والأصل ليس المقبوض غير ذلك ؛ فأضمر اسم «ليس» فيها وحذف ما أضيف إليه «غير» وبنيت «غير» على الضم ، تشبيها لها بقبل وبعد ، لإبهامها ، ويحتمل أن التقدير : ليس غير ذلك مقبوضا ، ثم حذف خبر «ليس» وما أضيفت إليه «غير» وتكون الضمّة على هذا ضمة إعراب ، والوجه الأول أولى ؛ لأن فيه تقليلا للحذف ، ولأن الخبر في باب «كان» يضعف حذفه جدا.

ولا يجوز حذف ما أضيفت إليه «غير» إلا بعد «ليس» فقط ، كما مثلنا ، وأما ما يقع في عبارات العلماء من قولهم «لا غير» فلم تتكلم به العرب ، فإما أنهم قاسوا «لا» على «ليس» أو قالوا ذلك سهوا عن شرط المسألة (٢).

النوع الثالث : ما ألحق بقبل وبعد من «عل» المراد به معيّن ، كقولك : أخذت الشيء الفلانيّ من أسفل [الدار] والشيء الفلانيّ من عل : أي من فوق الدار ، قال الشاعر :

٤٩ ـ ولقد سددت عليك كلّ ثنيّة

وأتيت فوق بني كليب من عل

______________________________________________________

لو نواه لوجب أن يمتنع من تنوين هذه الكلمة ؛ لأن الإضافة تمنع التنوين ، والمنوي كالثابت تماما ، ودل نصبه إياها على أنه لم يبنها ؛ لأن البناء في هذه الكلمة إنما يكون على الضم.

٤٩ ـ هذا بيت من الكامل ، وهو من كلام الفرزدق يهجو فيه جريرا ، وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ٣٤٩).

__________________

(١) الجحدري ـ بضم الجيم والدال المهملة ـ هو عاصم ، وهو أحد القراء السبعة ، لكن هذه القراءة غير المشهورة عنه ؛ فليست من القراءات السبع ؛ فهي قراءة شاذة.

(٢) قد ورد هذا الاستعمال الذي أنكره المؤلف في قول الشاعر :

جوابا به تنجو اعتمد فوربنا

لعن عمل أسلفت لا غير تسأل

١٤١

ولا تستعمل «عل» مضافة أصلا ، ووقع ذلك في كلام الجوهري ، وهو سهو ، ولو أردت بعل علوّا مجهولا غير معروف تعيّن الإعراب ، كقوله :

٥٠ ـ * كجلمود صخر حطّه السّيل من عل*

أي : من مكان عال.

______________________________________________________

اللّغة : «ثنية» بوزن قضية ـ هي الطريق مطلقا ههنا ، وأصله الطريق في الجبل ونحوه ، ويطلق على الطريق الوعر ، وجمعه ثنايا ، مثل قضايا ، ومنه قول الشاعر :

أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

ويريد بقوله «سددت عليك كل ثنية» أنه ضيق عليه الخناق ولم يمكنه من الإفلات ، «بني كليب» هم قوم جرير بن عطية الذي يهجوه ، ويريد بأنه أتاهم من عل أنه نزل عليهم كالقضاء الذي لا يتوقعونه ولا يعملون له حسابا.

الإعراب : «لقد» اللام موطئة للقسم ، وقد : حرف تحقيق ، «سددت» فعل وفاعل ، والجملة لا محل لها من الإعراب جواب القسم ، «عليك» جار ومجرور متعلق بسد ، «كل» مفعول به لسد ، وكل مضاف ، و «ثنية» مضاف إليه ، «وأتيت» الواو عاطفة ، وما بعدها فعل وفاعل جملتهما معطوفة بالواو على جملة سددت ، «فوق» ظرف مكان منصوب على الظرفية ، والعامل فيه أتى ، وفوق مضاف و «بني» مضاف إليه ، مجرور بالياء نيابة عن الكسرة لأنه جمع مذكر سالم ، وبني مضاف ، و «كليب» مضاف إليه ، «من» حرف جر «عل» ظرف مكان مبني على الضم في محل جر بمن والجار والمجرور متعلق بأتى.

الشّاهد فيه : قوله «من عل» فإن هذه الكلمة قد وردت في هذا البيت بالضم ؛ فدل ذلك على أنها مبنية ؛ لكون المراد بها معينا ، وإذ كان المراد بها معينا فإنه يستلزم أن يكون هناك مضاف إليه محذوف وهو منويّ من حيث المعنى ؛ إذ ليس في جوهر اللفظ ما يدل على التعيين ؛ فيكون كأنه قد قال : أتيت نحو بني كليب من فوقهم.

٥٠ ـ هذا عجز بيت من الطويل ، وهو من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي ، في وصف فرس ، وصدر البيت قوله :

* مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا*

وقد أنشد المؤلف هذا الشاهد في أوضحه (رقم ٣٥٠).

اللّغة : «مكر» أي : أنه يصلح للكر والإقدام به ، «مفر» أي : أنه يصلح للفر والهرب به من وجوه الأعداء ، والمراد بهاتين الكلمتين أنه سريع جدا ، «مقبل» أي : أنه حسن الإقبال ، «مدبر»

١٤٢

النوع الرابع : ما ألحق بقبل وبعد من «أيّ» الموصولة.

واعلم أن أيّا الموصولة معربة في جميع حالاتها ، إلا في حالة واحدة ، فإنها تبنى فيها على الضم ، وذلك إذا اجتمع شرطان ؛ أحدهما : أن تضاف ، الثاني : أن يكون صدر صلتها ضميرا محذوفا ، وذلك كقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) [مريم ، ٦٩].

(ثم) حرف عطف على جواب القسم ، وهو قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) [مريم ، ٦٨] واللام لام التوكيد التي يتلقّى بها القسم ، مثلها في (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) و (ننزع) فعل مضارع مبني على الفتح لمباشرته لنون التوكيد [والفاعل ضمير مستتر ، والنون للتوكيد] ، و (من كل) جارّ ومجرور متعلق بننزع ، و (شيعة) مضاف إليه ، و (أيّ) مفعول ، وهو موصول اسمي يحتاج إلى صلة وعائد ، والهاء والميم مضاف إليه ، و (أشد) خبر لمبتدأ محذوف : أي أيهم هو أشد ، والجملة من المبتدأ والخبر صلة

______________________________________________________

أي : حسن الإدبار «معا» أي : عنده هذا إن أردته منه وعنده هذا إن أردته منه ، «حطه السيل» أي : حدره.

الإعراب : «مكر مفر مقبل مدبر» هذه نعوت أربعة للفرس ، وهي مجرورة تبعا للمنعوت ، وهو منجرد ـ ومعناه قصير الشعر ـ في قوله :

وقد أغتدي والطّير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

«كجلمود» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف : أي هو كائن كجلمود ، وجملة المبتدأ والخبر في محل جر صفة أخرى لمنجرد ، وجلمود مضاف و «صخر» مضاف إليه ، «حطّه» حطّ : فعل ماض ، وضمير الغائب مفعول به ، «السيل» فاعل حط ، والجملة في محل جر صفة لجلمود «من عل» جار ومجرور متعلق بحط.

الشّاهد فيه : قوله «من عل» فإن كلمة «عل» قد وردت في هذا البيت مجرورة بدليل القوافي ؛ فدل على أنه أعربها بالكسرة الظاهرة لدخول حرف الجر عليها ، وذلك بسبب أنه لا يقصد علوّا خاصا ، وإنما يقصد علوّا أي علوّ ، كما هو واضح من معنى البيت ، فتنبه لذلك والله يرشدك.

ونظير هذا البيت كلمة «عل» في قول أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي يصف فرسا :

موثّق الأعلى أمين الأسفل

أقبّ من تحت عريض من عل

١٤٣

لأيّ ، و (عَلَى الرَّحْمنِ) متعلق بأشد ، و (عِتِيًّا) تمييز ، وكان الظاهر أن تفتح أيّ ؛ لأن إعراب المفعول النصب ، إلا أنها هنا مبنية على الضّمّ لإضافتها إلى الهاء والميم وحذف صدر صلتها ، وهو المقدر بقولك «هو».

ومن العرب من يعرب أيّا في أحوالها كلها ، وقد قرأ هارون ومعاذ ويعقوب «أيّهم أشدّ» بالنصب ، قال سيبويه : وهي لغة جيدة ، وقال الجرميّ : «خرجت من الخندق ـ يعني خندق البصرة ـ حتى صرت إلى مكة ، فلم أسمع أحدا يقول : «اضرب أيّهم أفضل» أي كلهم ينصب ولا يضم (١).

والمعنى أقسم بربّك لنجمعنّ المنكرين للبعث وقرناءهم من الشياطين الذين أضلّوهم مقرّنين في السلاسل كلّ كافر معه شيطانه في سلسلة ، ثم لنحضرنّهم حول جهنم جاثين على الرّكب ، (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا :) أي جراءة ، وقيل : فجورا وكذبا ، وقيل : كفرا ، أي : لننزعنّ رؤساءهم في الشرّ فنبدأ بالأكبر فالأكبر جرما ، [والأكثر جراءة] (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) [مريم ، ٧٠] أي أحقّ بدخول النار ، يقال : صلي يصلى صليّا ، كما يقال : لقي يلقى لقيّا ، ويقال : صلى يصلي صليّا مثل مضى يمضي مضيّا.

ثم قلت : أو الضّمّ أو نائبه ، وهو المنادى المفرد المعرفة ، نحو «يا زيد» و «يا جبال» و «يا زيدان» و «يا زيدون».

__________________

(١) ذهب جماعة من النحويين إلى أن «أي» في الآية الكريمة ليست موصولة ولكنها استفهامية ، وهي مبتدأ ، وأشد : خبر ، ثم اختلفوا في مفعول ننزع ؛ فقال الخليل بن أحمد شيخ سيبويه : مفعول ننزع محذوف ، وهو اسم موصول أو موصوف بموصول ، وصلة الموصول محذوفة أيضا ، وجملة (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) من المبتدأ والخبر في محل رفع نائب فاعل لفعل في جملة الصلة ، وتقدير الكلام : ثم لننزعن من كل شيعة الفريق الذي يقال فيه أيهم أشد ، وقال يونس بن حبيب شيخ سيبويه أيضا : مفعول ننزع هو جملة «أيهم أشد» فهذه الجملة في محل نصب مفعول لننزع ، وهذا الفعل لم يعمل في لفظ الجملة ؛ لأن صدرها اسم استفهام ، واسم الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وقال الكسائي والأخفش : مفعول ننزع هو قوله سبحانه «كل شيعة» و «من» التي قبله حرف جر زائد كما هي في نحو قولك : ما ضربت من أحد ، وجملة «أيهم أشد» على هذا القول لا محل لها من الإعراب مستأنفة ، وهذه المذاهب كلها مردودة ، والصواب في هذه المسألة ما ذكره المؤلف ، وهو مذهب سيبويه رحمه‌الله!

١٤٤

وأقول : الباب السابع من المبنيات : ما لزم الضمّ أو نائبه ـ وهو (١) الألف والواو ـ وهو نوع واحد وهو المنادى المفرد المعرفة.

ونعني بالمفرد هنا : ما ليس مضافا ولا شبيها به ، ولو كان مثنى أو مجموعا ، وقد سبق هذا عند الكلام على اسم «لا».

ونعني بالمعرفة ، ما أريد به معيّن ، سواء كان علما أو غيره.

فهذا النوع بينى على الضم في مسألتين :

إحداهما : أن يكون غير مثنى ولا مجموع جمع مذكر سالما ، نحو «يا زيد» و «يا رجل» وقول الله تعالى : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود ، ٤٦] (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ) [هود ، ٤٨] (يا صالِحُ ائْتِنا) [الأعراف ، ٧٧] (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) [هود ، ٥٣].

الثانية : أن يكون جمع تكسير ، نحو قولك «يا زيود» وقوله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ)(٢).

ويبنى على الألف إن كان مثنى ، نحو «يا زيدان» و «يا رجلان» إذا أريد بهما معيّن.

ويبنى على الواو إن كان جمع مذكر سالما نحو «يا زيدون» و «يا مسلمون» إذا أريد بهما معيّن.

وأما إذا كان المنادى مضافا ، أو شبيها بالمضاف ، أو نكرة غير معينة ؛ فإنه يعرب نصبا على المفعولية ؛ في باب البناء.

فالمضاف كقولك : «يا عبد الله» و «يا رسول الله» وفي التنزيل (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الزمر ، ٤٦] أي يا فاطر السموات (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) [الدخان ، ١٨] أي يا عباد الله ، ويجوز أن يكون (عِبادَ اللهِ) مفعولا بأدّوا كقوله تعالى : (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء ، ١٧] ، ويجوز أن يكون (فاطر) صفة لاسم الله تعالى ، خلافا لسيبويه.

__________________

(١) وهو : أي نائب الضم ، شيئان : الألف في المثنى ، والواو في جمع المذكر السالم.

(٢) سبأ ، ١٠ والآية الكريمة تدل على جواز نداء النكرة المقصودة.

١٤٥

والشبيه بالمضاف : هو ما اتصل به شيء من تمام معناه ، كقولك : «يا كثيرا برّه» و «يا مفيضا خيره» و «يا رفيقا بالعباد» (١).

والنكرة كقول الأعمى : «يا رجلا خذ بيدي» وقول الشاعر :

٥١ ـ أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن

نداماي من نجران أن لا تلاقيا

ويجوز في المنادى المستحق للضم أن ينصب إذا اضطرّ إلى تنوينه ، كقول الشاعر :

______________________________________________________

٥١ ـ هذا بيت من الطويل لعبد يغوث بن وقاص الحارثي ، من كلمة له يقولها وقد أسرته التيم في يوم الكلاب ـ بضم الكاف وفتح اللام مخففة بوزن الغراب ـ وقد أنشد المؤلف صدر البيت في أوضحه (رقم ٤٣٤) وأنشده كله في القطر (رقم ٨٣) وكذا ابن عقيل (رقم ٣٠٢) والأشموني في باب النداء ، وسيبويه (ج ١ ص ٣١٢).

اللّغة : «عرضت» أتيت العروض وهو مكة والمدينة وما حولهما ، وقيل : هي جبال نجد ، «نداماي» الندامى ـ بوزن السكارى ـ جمع ندمان ، وهو النديم ، وقيل : هو الجليس المصاحب مطلقا ، «نجران» مدينة بالحجاز من شق اليمن.

الإعراب : «أيا» حرف نداء ، «راكبا» منادى منصوب بالفتحة الظاهرة ، «إما» هذه لفظة مركبة من كلمتين : الأولى إن ، والثانية ما ، فأما إن فهي حرف شرط جازم وأما ما فهي زائدة ، «عرضت» عرض : فعل ماض فعل الشرط ، وتاء المخاطب فاعله ، «فبلغن» الفاء واقعة في جواب الشرط ، وبلغ : فعل أمر ، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، ونون التوكيد حرف لا محل له من الإعراب ، وجملة فعل الأمر وفاعله في محل جزم جواب الشرط ، «نداماي» ندامى : مفعول به لبلغ ، وياء المتكلم مضاف إليه «من نجران» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ندامى ، «أن» مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، والتقدير : أنه ، أي : الحال والشأن ، «لا» نافية للجنس «تلاقيا» تلاقي : اسم لا مبني على الفتح في محل نصب ، والألف للإطلاق ، وخبر لا محذوف ، والجملة من لا واسمها وخبرها في محل رفع خبر أن ، والجملة من أن واسمها وخبرها في محل نصب مفعول به لبلغ.

__________________

(١) أشار المؤلف بالتمثيل للشبيه بالمضاف بثلاثة أمثلة إلى أنه لا فرق بين أن يكون ما يتصل بالمنادى مرفوعا على الفاعلية كالمثال الأول ، أو يكون منصوبا على المفعولية كالمثال الثاني ، أو مجرورا بحرف جر يتعلق بالمنادى كالمثال الثالث ؛ وبقي مثال رابع ، وهو أن يكون قد عطف عليه ما يتم به معناه ، نحو : يا ثلاثة وثلاثين ، إذا سمي به.

١٤٦

٥٢ ـ ضربت صدرها إليّ وقالت

يا عديّا لقد وقتك الأواقي

______________________________________________________

الشّاهد فيه : قوله «أيا راكبا» فإنه نكرة غير مقصود بها معين ، ألا ترى أن الشاعر ـ وهو رجل أسير في أيدي أعدائه ـ يريد أن يبلغ قومه على لسان من يمر بهم كائنا من كان أنه لن يلقاهم بعد اليوم ، لأنه علم أن القوم سيقتلونه بلا ريب ، فهو لا يقصد راكبا دون راكب ، وهذا البيت يرد على من أنكر من النحاة جواز نداء النكرة غير المقصودة.

٥٢ ـ هذا بيت من الخفيف ، وقد أنشده ابن عقيل (رقم ٣٠٤) وقد نسبه في اللسان تبعا للجوهري إلى مهلهل بن ربيعة أخي كليب بن ربيعة ، وقال صاحب التكملة : إنه ليس للمهلهل ، وإنما هو لأخيه عدي يرثيه ، وقبل البيت قوله :

ظبية من ظباء وجرة تعطو

بيديها في ناضر الأوراق

اللّغة : «وقتك» فعل ماض ، من الوقاية وهي الحفظ والكلاءة ، «الأواقي» جمع واقية بمعنى حافظة ، وأصله الوواقي ، فقبلت الواو الأولى همزة.

الإعراب : «ضربت» ضرب : فعل ماض ، والتاء علامة التأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي يعود إلى ظبية المذكورة في البيت السابق عليه والمراد بها المرأة ، «صدرها» صدر : مفعول به ، وصدر مضاف وضمير المؤنثة مضاف إليه ، «إليّ» جار ومجرور متعلق بضرب ، «وقالت» الواو عاطفة ، قال : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي ، «يا» حرف نداء «عديّا» منادى منصوب بالفتحة الظاهرة ، وستعرف ما فيه ، «لقد» اللام موطئة للقسم ، قد : حرف تحقيق ، «وقتك» وقى : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، والكاف ضمير المخاطب مفعول به ، مبني على الفتح في محل نصب ، «الأواقي» فاعل وقى ، مرفوع بضمة مقدرة على الياء منع من ظهورها الثقل.

الشّاهد فيه : قوله «يا عديّا» فإن هذا علم مفرد ، وكان من حقه أن يبنى على الضم ؛ لأن المنادى إذا كان علما مفردا يبنى على الضم ، كما عرفت ، ولكنه اضطر إلى تنوينه ؛ فعدل عن ضمه إلى نصبه ، فشابه به النكرة غير المقصودة.

ومثل هذا قول جرير بن عطية يهجو العباس بن يزيد الكندي :

أعبدا حلّ في شعبى غريبا

ألوما لا أبا لك واغترابا

فإن هذه الهمزة لنداء القريب ، و «عبدا» منادى ، وهو نكرة مقصودة ؛ لأنه يريد واحدا بعينه هو العباس بن يزيد الكندي الذي يهجوه ، وقد علمت أن النكرة المقصودة إذا نوديت بنيت على الضم ، ولكنه لما اضطر إلى تنوينه عدل عن ضمه المستحق له إلى نصبه ؛ تشبيها له بالنكرة غير المقصودة.

١٤٧

وأن يبقي مضموما كقوله :

٥٣ ـ سلام الله يا مطر عليها

وليس عليك يا مطر السّلام

ويجوز في المنادى أيضا أن يفتح فتحة إتباع ، وذلك إذا كان علما : موصوفا بابن ، متصل به ، مضاف إلى علم ، كقولك : «يا زيد بن عمرو» وقول الشاعر :

٥٤ ـ يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت

لك الجنان وبوّئت المها العينا

______________________________________________________

٥٣ ـ هذا بيت من الوافر ، وهو من كلام الأحوص الأنصاري ، وكان يهوى امرأة ويشبب بها ولا يفصح عنها ، فتزوجها رجل اسمه مطر ، فغلب الوجد والعشق على الأحوص فقال هذا الشعر ، وهذا البيت من شواهد ابن عقيل (رقم ٢٠٣) ، وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ٤٣٦).

الإعراب : «سلام» مبتدأ ، وهو مضاف ، و «الله» مضاف إليه ، «يا» حرف نداء ، «مطر» منادى مبني على الضم في محل نصب ، ونون لأجل الضرورة ، وجملة النداء لا محل لها ؛ لأنها معترضة بين المبتدأ وخبره ، «عليها» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، «وليس» الواو حرف عطف ، ليس : فعل ماض ناقص يرفع الاسم وينصب الخبر ، «عليك» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ليس مقدم ، «يا» حرف نداء «مطر» منادى مبني على الضم في محل نصب ، والجملة لا محل لها معترضة أيضا ، «السّلام» اسم ليس تأخر عن خبره ، مرفوع بالضمة الظاهرة.

الشّاهد فيه : قوله «يا مطر» الأول ، حيث نون المنادى المفرد العلم ، وهو مطر ، وأبقاه على الضم ، حين اضطر لإقامة الوزن.

ومثله قول كثير بن عبد الرحمن المعروف بكثير عزة :

ليت التّحيّة كانت لي فأشكرها

مكان يا جمل حيّيت يا رجل

إلا أن التنوين في هذا تنوين النكرة المقصودة ، وهي قوله «يا جمل» والتنوين في بيت الشاهد تنوين العلم المفرد ، كما قررناه ، ويجمعهما أنه تنوين ما وجب ضمه.

٥٤ ـ هذا بيت من بحر البسيط ، وهو ثالث ثلاثة أبيات يقولها سيدنا أبو بكر الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ في طلحة بن عبيد الله ، الملقب بطلحة الفياض ، رضي‌الله‌عنه! وكان طلحة قد قام في يوم أحد مقاما محمودا ؛ إذ وقف دون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدفع عنه ويرد الأعداء ، وهو يقول :

نحن حمساة غالب ومالك

نذبّ عن رسولنا المبارك

نضرب عند القوم في المعارك

ضرب صفاح الكوم في المبارك

ولما انتهت المعركة أمر الرسول حسان بن ثابت أن يذكر طلحة بخير ، فقال فيه أبياتا ، وقال

١٤٨

وبقاء الضم أرجح عند المبرد ، والمختار عند الجمهور الفتح.

______________________________________________________

أبو بكر هذه الأبيات التي منها بيت الشاهد ، وقد ذكرها الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة طلحة بن عبيد الله ، انظر مختصر تاريخ دمشق (٧ ـ ٨٢).

اللّغة : «بوئت» أراد منها معنى أفردت بها ، «المها» جمع مهاة ، وأصله البقر الوحشية ، والعرب تشبه المرأة بالمهاة ، «العين» جمع عيناء ، وهي واسعة العينين.

الإعراب : «يا» حرف نداء ، «طلحة» منادى يجوز ضمه وفتحه : فإن ضممته فهو مبني على الضم في محل نصب لأنه مفرد علم ، وإن فتحته ، فقيل : هو مبني على الضم المقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الإتباع ، وقيل : هو منصوب بالفتحة الظاهرة لأنه مضاف إلى ما بعد ابن ، ولفظ ابن مقحم بين المضاف والمضاف إليه ، وقيل : هو مع ابن مركبان تركيب خمسة عشر ؛ فهو مبني على فتح الجزأين في محل نصب ، والأول هو الأوضح وهو الذي ذكره ابن مالك ، وهو الذي عناه المؤلف بقوله «فتحة إتباع» وقوله «ابن» هو بالفتح ، فإن ضممت طلحة فهو نعت له بالنظر إلى محله ؛ لأن محله النصب على ما علمت ، وإن فتحت طلحة فكذلك هو نعت له بالنظر إلى محله ؛ لأنك علمت أن فتحته فتحة إتباع وأن الضم مقدر عليه على ما رجحناه ، وابن مضاف و «عبيد الله» مركب إضافي مضاف إليه ، «قد» حرف تحقيق ، «وجبت» وجب : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، «لك» جار ومجرور متعلق بوجب ، «الجنان» فاعل وجب ، «وبوئت» الواو عاطفة ، بوئ : فعل ماض مبني للمجهول ، والتاء ضمير المخاطب نائب فاعل «المها» إما منصوب على نزع الخافض ، وإما مفعول ثان لبوئ ، «العينا» صفة للمها ، والألف للإطلاق.

الشّاهد فيه : قوله «يا طلحة بن عبيد الله» فإن المنادى هنا ـ وهو طلحة ـ علم مفرد وقد وصف بابن ، وهذا الوصف مضاف إلى علم ، وهو عبيد الله ، وهذا العلم الثاني أبو العلم الأول ، والمنادى إذا كان بهذه المثابة جاز فيه الضم على الأصل ، والفتح على أحد وجوه ثلاثة ذهب إليها العلماء :

الأول : أن هذا الفتح الذي على تاء «طلحة» ليس فتح إعراب ولا فتح بناء ، ولكنه فتح إتباع لما على نون «ابن» لأن الحاجز بينهما في النطق ليس إلا الباء الساكنة ، والحرف الساكن حاجز غير حصين فكأن الحرفين متجاوران ، واختار هذا الوجه العلامة ابن مالك في كتابه شرح التسهيل ، ولم يذكر سواه من الأوجه.

والوجه الثاني : أن هذا الفتح فتح بناء ؛ لأن الشاعر ركب الصفة والموصوف معا تركيب خمسة عشر ، فبناهما على فتح الجزأين ثم أدخل عليهما حرف النداء ، واختار هذا الوجه فخر الدين الرازي ، ولم يذكر سواه.

والوجه الثالث : أن هذا الفتح فتح الإعراب ، وذلك لأن طلحة مضاف إلى عبيد الله وابن مقحم بينهما ، والمنادى إذا كان مضافا كان حكمه النصب.

١٤٩

ثم قلت : وإمّا أن لا يطّرد فيه شيء بعينه ، وهو : الحروف كهل وثمّ وجير ومنذ ، والأسماء غير المتمكّنة ، وهي سبعة : أسماء الأفعال كصه وآمين وإيه وهيت ، والمضمرات كقومي وقمت وقمت وقمت ، والإشارات كذي وثمّ وهؤلاء وهؤلاء ، والموصولات كالّذي والتي والذين والأولاء فيمن مدّه وذات فيمن بناه وهو الأفصح ، إلا ذين وتين واللّذين واللّتين فكالمثنى ، وأسماء الشّرط وأسماء الاستفهام : كمن وما وأين ، إلا أيّا فيهما ، وبعض الظروف كإذ والآن وأمس وحيث مثلثا.

وأقول : لما أنهيت القول في المبنيات السبعة المختصة شرعت في بيان ما لا يختص ، وحصرت ذلك في نوعين ؛ أحدهما : الحروف ، وقدمتها لأنها أقعد في باب البناء ، والثاني : الأسماء غير المتمكنة ، وحصرتها في سبعة أنواع وفصّلتها ، ومثّلث كلا منها ، ورتبت أمثلة الجميع على ما يجب لها ؛ فبدأت بما بني على السّكون لأنه الأصل في البناء ، ثم ثنّيت بما بنى على الفتح لأنه أخف من غيره ، ثم ثلّثت بما بني على الكسر ، ثم ختمت بما بني على الضم.

فمثال ما بني على السكون من الحروف : هل وبل وقد ولم ، ومثال ما بني منها على الفتح : ثمّ وإنّ ولعلّ وليت ، ومثال ما بني على الكسر : جير ـ بمعنى نعم ـ واللام والباء في قولك «لزيد» و «بزيد» ولا رابع لهن ، الا «م الله» في لغة من كسر الميم ، وذلك على القول بحرفيتها ، ومثال ما بني منها على الضم : منذ في لغة من جرّ بها ، وقولهم في القسم «م الله» فيمن ضم الميم و «من الله» فيمن ضم الميم والنون ، ومن قال فيهما وفي «م الله» إنها محذوفة من قولهم «أيمن الله» فلا يصح ذكرها هنا ؛ فإنها على هذا القول من باب الأسماء ، لا من باب الحروف.

______________________________________________________

وقد اختلف العلماء أيضا في ضم «طلحة» وفتحه : أيهما أرجح؟ فذهب جمهور علماء البصرة إلى أن الفتح أرجح من الضم وأجود ، وقال ابن كيسان : إن الفتح أكثر في لسان العرب ، وذهب أبو العباس المبرد إلى أن الضم أرجح وأجود ، وقد أشار المؤلف إلى ذلك.

١٥٠

ومثال ما بني على السكون من أسماء الأفعال : صه ـ بمعنى اسكت ـ ومه بمعنى انكفف ـ ولا تقل بمعنى اكفف كما يقول كثير منهم ؛ لأن اكفف يتعدّى ، ومه لا يتعدى ، ومثال ما بني منها على الفتح : آمين ـ بمعنى استجب ، لمّا ثقل بكسر الميم وبالياء بعدها بني على الفتح ، كما بني أين وكيف عليه لثقل الياء ، وفيه أربع لغات : إحداها «آمين» بالمد بعد الهمزة من غير إمالة ، وهذه اللغة أكثر اللغات استعمالا ، ولكن فيها بعد عن القياس ؛ إذ ليس في اللغة العربية اسم على فاعيل ، وإنما ذلك في الأسماء الأعجمية كقابيل وهابيل ، ومن ثمّ زعم بعضهم أنه أعجمي ، وعلى هذه اللغة قوله :

٥٥ ـ [يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا]

ويرحم الله عبدا قال آمينا

والثانية كالأولى ، إلا أن الألف ممالة للكسرة بعدها ، ورويت عن حمزة

______________________________________________________

٥٥ ـ هذا بيت من البسيط ، وقد نسب قوم هذا البيت لقيس بن الملوح ، المعروف بمجنون ليلى ، وقد نسبه صاحب اللسان (مادة أم ن) إلى عمر بن أبي ربيعة المخزومي ، وليس بشيء ، ولا يوجد في ديوان شعره ، بل إنه لا يوجد في زيادات الديوان التي جمع فيها الشعر المنحول لعمر.

الإعراب : «يا» حرف نداء «رب» منادى ، منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اكتفاء بكسر ما قبلها منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة ، «لا» دعائية ، «تسلبني» تسلب : فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد في محل جزم بلا الدعائية ، وياء المتكلم مفعول أول لتسلب مبني على السكون في محل نصب ، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «حبها» حب : مفعول ثان لتسلب ، وحب مضاف وضمير الغائبة مضاف إليه ، «أبدا» ظرف زمان منصوب على الظرفية عامله تسلب ، «ويرحم» الواو للاستئناف ، يرحم : فعل مضارع ، «الله» فاعل يرحم ، «عبدا» مفعول به ليرحم ، وهذه الجملة خبرية لفظا إنشائية معنى ؛ لأنها دعائية ، «قال» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى عبد ، والجملة في محل نصب صفة لعبد ، «آمينا» اسم فعل أمر ، بمعنى استجب ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والألف للإطلاق ، والجملة في محل نصب مقول القول.

الشّاهد فيه : قوله «آمينا» فإنه جاء به ممدودا مخفف الميم.

١٥١

والكسائي ، والثالثة «أمين» بقصر الألف على وزن قدير وبصير ، قال :

٥٦ ـ * أمين فزاد الله ما بيننا بعدا*

وهذه اللّغة أفصح في القياس ، وأقلّ في الاستعمال (١) حتى إنّ بعضهم أنكرها ، قال صاحب الإكمال : حكى ثعلب القصر ، وأنكره غيره ، وقال : إنما جاء مقصورا في الشعر ، انتهى. وانعكس القول عن ثعلب على ابن قرقول فقال : أنكر ثعلب القصر إلا في الشعر وصححه غيره ، وقال صاحب التحرير في شرح مسلم : وقد قال جماعة إنّ القصر لم يجئ عن العرب ، وإن البيت إنما هو :

٥٦ ـ * فآمين زاد الله ما بيننا بعدا*

______________________________________________________

٥٦ ـ هذا عجز بيت من الطويل ، وصدره قوله :

* تباعد منّي فطحل إذ سألته*

ولم أقف له على نسبة إلى قائل معين.

اللّغة : «فطحل» ـ بضم الفاء وضم الحاء المهملة أو فتحها بينهما طاء مهملة ساكنة ـ وهو اسم رجل ، «سألته» يروى في مكانه «دعوته» يعني ليغيثني من المكروه.

الإعراب : «تباعد» فعل ماض ، «مني» جار ومجرور متعلق بتباعد ، «فطحل» فاعل تباعد ، «إذ» ظرف للزمان الماضي مبني على السكون في محل نصب عامله تباعد ، «سألته» فعل وفاعل ومفعول به ، والجملة في محل جر بإضافة إذ إليها ، «أمين» اسم فعل أمر ، مبني على الفتح لا محل له من الإعراب ، «زاد» فعل ماض ، «الله» فاعل زاد ، «ما» اسم موصول مفعول أول لزاد ، مبني على السكون في محل نصب ، «بيننا» بين : ظرف مكان متعلق بمحذوف تقديره استقر ، يقع هو وفاعله جملة لا محل لها من الإعراب صلة الموصول وهو ما ، وبين مضاف وضمير المتكلم المتحدث عن نفسه وغيره مضاف إليه ، «بعدا» مفعول ثان لزاد.

الشّاهد فيه : قوله «أمين» حيث جاء به مقصورا أي بهمزة واحدة ليس بعدها ألف ، وهو مع ذلك مخفف الميم.

__________________

(١) أما أنها فصيحة في القياس فلأنها على وزن قد جاءت عليه ألفاظ عربية كثيرة بعضها قياسي وكثير منها سماعي ، في حين أن الممدودة جاءت على زنة لم يجئ عليها شيء من الألفاظ العربية ، ومن العلماء من جعل الأصل في العربية المقصورة ، وادعى أن الممدودة عبارة عن المقصورة مع إشباع حركة الهمزة ، كما قالوا «درهام ، وخاتام» وأصلهما درهم وخاتم.

١٥٢

والرابعة «آمّين» بالمدّ وتشديد الميم ، روي ذلك عن الحسن ، والحسين بن الفضل ، وعن جعفر الصادق ، وأنه قال : تأويله قاصدين نحوك وأنت أكرم من أن تخيّب قاصدا ، نقل ذلك عنهم الواحديّ في البسيط ، وقال صاحب الإكمال : حكى الداودي تشديد الميم مع المدّ ، وقال : وهي لغة شاذة ، ولم يعرفها غيره ، انتهى. قلت : أنكر ثعلب والجوهري [والجمهور] أن يكون ذلك لغة ، وقالوا : لا نعرف آمّين إلا جمعا بمعنى قاصدين كقوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة ، ٢].

ومثال ما بني منها على الكسر إيه بمعنى امض في حديثك ـ ولا تقل بمعنى حدّث كما يقولون ؛ لما بينت لك في مه وأما قوله :

٥٧ ـ * إيه أحاديث نعمان وساكنه*

______________________________________________________

٥٧ ـ هذا صدر بيت من البسيط ، وقد نسبوا هذا الشاهد لابن الأثير ، ولم يعينوا واحدا من أبناء الأثير ؛ فإنهم ثلاثة رجال من أفذاذ العلماء : أحدهم محدث ، وهو أبو السعادات محمد بن محمد ابن عبد الكريم المتوفى في سنة ٦٠٦ من الهجرة ، وثانيهم مؤرخ ، وهو أبو الحسن علي بن محمد المتوفى في سنة ٦٣٠ من الهجرة ، وثالثهم أديب كبير ، وهو ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن محمد ، وثلاثتهم لا يحتج بشعرهم ولا بنثرهم على شيء من قواعد اللغة ، وقد قال المؤلف في رد هذا الشاهد «إنه ليس بعربي» وثمة «ابن أثير» آخر متأخر عن هؤلاء جميعا. وقد عثرت على بيت صدره هذا الشاهد ، وعجزه قوله :

* إنّ الحديث عن الأحباب أسمار*

وقد أنشده على هذا الوجه بيتا مفردا شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني في كتابه أزهار الرياض (١ / ٦) ولم ينسبه إلى أحد ، ورأيته ذكر العجز في قصيدة طويلة للناصر داود بن المعظم عيسى في كتابه نفح الطيب (٣ / ١٦٤ بتحقيقنا).

اللّغة : «نعمان» ـ بفتح النون وسكون العين المهملة ـ اسم واد في طريق الطائف يخرج على عرفات ، وفيه يقول الشاعر :

تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت

به زينب في نسوة عطرات

الإعراب : «إيه» اسم فعل أمر ، مبني على الكسر لا محل له من الإعراب ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «أحاديث» مفعول به لاسم الفعل ، وهو مضاف ، و «نعمان» مضاف إليه ، مجرور بالكسرة الظاهرة ، وكان حقه أن يمنعه من الصرف ؛ لأنه علم على مكان وفيه ألف ونون

١٥٣

فليس بعربي ، وعند الأصمعي أنها لا تستعمل الا منوّنة ، وخالفوه في ذلك ، واستدلوا بقول ذي الرمة :

٥٨ ـ * وقفنا فقلنا : إيه عن أمّ سالم*

وكان الأصمعيّ يخطّئ ذا الرمة في ذلك وغيره ، ولا يحتجّ بكلامه.

ومثال ما بني منها على الضم : هيت ـ بمعنى تهيّأت ـ قال تعالى : (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) [يوسف ، ٢٣] ، وقيل : المعنى هلمّ لك ؛ فلك : تبيين مثل سقيا لك (١) ، وقرئ

______________________________________________________

زائدتان ، ولكنه صرفه للضرورة ، «وساكنه» الواو عاطفة : وساكن : معطوف على نعمان ، وساكن مضاف والضمير الذي للغائب العائد إلى نعمان مضاف إليه.

سبب ذكره : قوله «إيه أحاديث نعمان» فإن إيه اسم فعل أمر ، وهو دالّ على معنى امض في حديثك ، وهذا الفعل الذي يؤدي اسم الفعل معناه لا يتعدى بنفسه إلى المفعول به ، كما سمعت ، ومن حق اسم الفعل أن يكون بمنزلة الفعل الذي يقوم هو مقامه ، فيكون متعديا إذا كان الفعل متعديا ، ولازما إذا كان الفعل لازما ، ولكن الشاعر في هذا الشاهد خالف ذلك ؛ فعدّى اسم الفعل إلى المفعول به ، مع أن الفعل الذي ناب عنه لازم ، فافهم ذلك.

٥٨ ـ هذا صدر بيت من الطويل لذي الرمة ، واسمه غيلان بن عقبة ، وعجزه قوله :

* وما بال تكليم الدّيار البلاقع*

__________________

(١) اعلم أن في هذا الموضع أمورا أحب أن أبينها لك بيانا لا لبس فيه عليك ولا غموض :

الأمر الأول : أن العلماء الذين قرؤوا القرآن الكريم قد اختلفوا في قراءة هذه الجملة وهي قوله تعالى : (هَيْتَ لَكَ) وأشهر هذه القراءات ثلاث : الأولى قراءة لهشام «هئت لك» بكسر الهاء بعدها همزة ساكنة فتاء مضمومة ، والثانية قراءة ذكوان (هَيْتَ لَكَ) بكسر الهاء بعدها ياء فتاء مضمومة ، والثالثة قراءة (هَيْتَ لَكَ) بفتح الهاء وسكون الياء وبعدها تاء مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة.

الأمر الثاني : في تخريج علماء النحو لهذه القراءات تخريجا يطابق القواعد العربية :

فأما القراءة الأولى : فلا خلاف بين أحد من النحاة في أن (هئت) فعل ماض مسند لتاء الفاعل ، كما تقول : جئت ، وكما تقول : شئت ، فهذه التاء ليست من بنية الكلمة لكنها ضمير رفع متصل ، مثل التاء في ضربت وخرجت ودحرجت واستخرجت ، وما أشبه ذلك و «لك» جار ومجرور متعلق بهاء ، ومعنى هاء على هذا الوجه تهيأ واستعد ، فكأنها قالت : تهيأت لك ، أو استعددت لك.

وأما القراءة الثانية : فهي مثل القراءة الأولى في التخريج والإعراب ، وكل ما بينهما من الفرق أن القارئ قلب الهمزة الساكنة ياء لوقوعها ساكنة بعد الكسرة ، وهذا جار على لغة أهل الحجاز ؛ فإنهم يقولون في ذئب :

١٥٤

(هيت) مثلّثة التاء ؛ فالكسر على أصل التقاء الساكنين ، والفتح للتخفيف كما في أين وكيف ، والضمّ تشبيها بحيث ، وقرئ «هئت» بكسر الهاء ، وبالهمزة ساكنة ، وبضم التاء ، وهو على هذا فعل ماض وفاعل ، من هاء يهاء كشاء يشاء ، أو من هاء يهيء كجاء يجيء.

______________________________________________________

اللّغة : «ما بال» أي : ما شأن ، «البلاقع» جمع بلقع ـ بزنة جعفر ـ وهي الخالية من السكان.

الإعراب : «وقفنا» فعل ماض وفاعله ، «فقلنا» فعل وفاعل جملتهما معطوفة بالفاء على الجملة السابقة ، «إيه» اسم فعل أمر ، مبني على الكسر لا محل له من الإعراب ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والجملة في محل نصب مقول القول ، «عن أم» جار ومجرور متعلق باسم الفعل ، وأم مضاف ، و «سالم» مضاف إليه ، «وما» الواو للاستئناف ، ما : اسم استفهام مبتدأ ، مبني

__________________

ذيب ، وفي بئر : بير ، وفي سؤل ، سول ، وفي مؤق : موق ، وفي رأل : رال ، وفي شأن : شان. وهكذا.

وأما القراءة الثالثة : فقد اختلف النحاة في تخريجها ، ولهم في ذلك رأيان : الرأي الأول أن «هيت» اسم فعل ماض ، ومعناه تهيأت واستعددت ، وهذه التاء جزء من الكلمة ، وليست ضميرا كما كانت في تخريج القراءتين الأولى والثانية ، و «لك» جار ومجرور متعلق باسم الفعل الماضي ، والرأي الثاني : أن «هيت» اسم فعل أمر معناه أقبل ، مثل هلم وتعال ، والتاء جزء من الكلمة أيضا ، وليست ضميرا كما كانت في تخريج القراءتين الأولى والثانية ، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، و «لك» جار ومجرور متعلق بمحذوف وهذا المحذوف يجوز أن يكون فعلا ؛ فيكون التقدير : أقول لك ، وكأنها بعد أن أمرت يوسف بالمجيء والإقبال عليها قد توقعت منه أن يفهم أن الكلام ليس له ، فقالت : إنما أقول لك ، ويجوز أن يكون المحذوف الذي يتعلق به الجار والمجرور اسما ؛ فيكون خبرا لمبتدأ محذوف والتقدير : إرادتي أو رغبتي كائنة لك ، أو دعائي أو كلامى كائن لك : أي موجه لك.

الأمر الثالث : في بيان لام التبيين التي أشار إليها المؤلف ، وذلك أن لام التبيين على ثلاثة أنواع ؛ النوع الأول : اللام التي تبين الفاعل من المفعول وتميز أحدهما من الآخر ومثلها قولك : ما أحبني لفلان ، وقولك : ما أبغضني لفلان ؛ فالعبارة الأولى معناها أنك تحب فلانا حبا شديدا ، والعبارة الثانية معناها أنك تبغضه بغضا شديدا ؛ فاللام داخلة على المفعول وما قبله فاعل ، فإن أردت أن فلانا يحبك حبا شديدا قلت : ما أحبني إلى فلان ، وإذا أردت أن فلانا يبغضك بغضا شديدا قلت : ما أبغضني إلى فلان ؛ فاللام في العبارتين الأوليين كانت للتفرقة بين الفاعل والمفعول والتمييز بينهما ، والنوع الثاني : اللام التي تبين فاعلية غير ملتبسة بمفعولية ، والنوع الثالث : اللام التي تبين مفعولية غير ملتبسة بفاعلية عكس الذي قبله ، ومثله قولهم : سقيا لك ، ورحمة لك ، وما أشبه ذلك ، واللام التي تبين الفاعل من المفعول تكون متعلقة بمذكور ؛ فقولك «ما أبغضني لفلان» اللام فيه متعلقة بأبغضني ، واللام التي تبين مفعولية أو فاعلية غير ملتبسة بالأخرى تكون متعلقة بمحذوف كالذي ذكرناه في بيان الرأي الثاني في توجيه القراءة الثالثة من الآية الكريمة ، وفي هذا القدر كفاية فافهمه واحرص عليه ولا تغفل عنه.

١٥٥

ومثال ما بني من المضمرات على السكون : قومي وقوما وقوموا ، ومثال ما بني منها على الفتح : قمت للمخاطب المذكّر ، ومثال ما بني منها على الكسر : قمت للمخاطبة ، ومثال ما بني منها على الضم : قمت للمتكلم.

ومثال ما بني على السكون من أسماء الإشارة : ذا للمذكر وذي للمؤنث ، ومثال ما بني [منها] على الفتح : ثمّ ـ بفتح الثاء ـ إشارة إلى المكان البعيد ، قال الله تعالى : (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) [الشعراء ، ٦٤] أي : وأزلفنا الآخرين هنالك ، أي : قرّبناهم ، ومثال ما بني منها على الكسر : هؤلاء ، ومثال ما بني منها على الضم ما حكاه قطرب من أن بعض العرب يقولون : هؤلاء ـ بالضم ـ فلذلك ذكرت هؤلاء في المقدمة مرتين : أولاهما تضبط بالكسر ، والثانية بالضم.

ومثال ما بني على السكون من الموصولات : الذي والتي ومن وما ، ومثال ما بني على الفتح : الّذين ، ومثال ما بني على الكسر : الألآء ـ بالمد ـ لغة في الألى بمعنى الذين ، قال الشاعر :

______________________________________________________

على السكون في محل رفع ، «بال» خبر المبتدأ ، وبال مضاف و «تكليم» مضاف إليه ، وتكليم مضاف و «الديار» مضاف إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله «البلاقع» صفة للديار ، وصفة المجرور مجرورة ، وعلامة جرها الكسرة الظاهرة.

الشّاهد فيه : قوله «إيه» فقد وردت هذه الكلمة غير منونة في هذا البيت ، وقد اختلف العلماء في توجيه ذلك ، فذهب الأصمعي إلى أنه خطأ ، وأنه لا يجوز ترك التنوين ، وكان الأصمعي يتحامل على جماعة من الشعراء منهم ذو الرمة ، ولكن العلماء غير الأصمعي صححوا ذلك الذي نطق به ذو الرمة ، وذهبوا إلى أن هذه الكلمة ـ وهي إيه ـ معناها أنك تطلب من مخاطبك الزيادة من الحديث ، فإن كنت تطلب الزيادة من حديث معين لم تنون ، وإن كنت تطلب الزيادة من حديث أي حديث نونت ، ويسمى هذا التنوين تنوين التنكير.

قال ابن سيده : «والصحيح أن هذه الأصوات إذا عنيت بها المعرفة لم تنون ، وإذا عنيت بها النكرة نونت ، وإنما استزاد ذو الرمة هذا الطلل حديثا معروفا ، كأنه قال : حدثنا الحديث ، أو خبرنا الخبر» اه ، وقد فسر إيه بحدث وعداه كما ترى ، وعبارة ابن سيده صريحة الدلالة على ما ذكره من أن لهذه الكلمة استعمالين : أحدهما تنون فيه ، وثانيهما يترك فيه تنوينها ، كما أنه صريح في أن ترك ذي الرمة التنوين لأنه أراد الاستعمال الذي يجب فيه حذف التنوين ؛ فهو صريح في الرد على الأصمعي.

١٥٦

٥٩ ـ أبى الله للشّمّ الألآء كأنّهم

سيوف أجاد القين يوما صقالها

ومثال ما بني منها على الضم : ذات بمعنى التي ، وذلك في لغة طيئ وحكى الفرّاء أنه سمع بعض السّؤّال يقول في المسجد الجامع : «بالفضل ذو فضّلكم الله به والكرامة ذات أكرمكم الله به» بضم ذات مع أنها صفة للكرامة : أي أسألكم بالفضل ، وقوله «به» بفتح الباء ، وأصله «بها» فحذفت الألف ، ونقلت فتحة الهاء إلى الباء بعد تقدير سلب كسرتها.

______________________________________________________

٥٩ ـ هذا بيت من الطويل من كلام كثير بن عبد الرحمن ، وهو المعروف بكثير عزة.

اللّغة : «الشم» بالضم ـ جمع أشم ، مأخوذ من الشمم ـ بفتح الشين والميم جميعا ـ وهو استواء قصبة الأنف مع ارتفاع يسير في أرنبته ، والعرب تعد ذلك من علامات السؤدد في الرجال ، انظر إلى قول حسان بن ثابت يمدح بني جفنة :

بيض الوجوه ، كريمة أحسابهم

شمّ الأنوف ، من الطّراز الأوّل

«القين» الحداد ، «صقالها» أراد صنعتها ، وإجادته إياه معناه إحسانها وإحكامها.

المعنى : يصف قوما بأن الله تعالى عصمهم من فعل السوء ، وجنبهم صفات الشر ؛ فيقول : لقد أبى الله تعالى لهؤلاء الناس ذوي السؤدد والمكارم أن يأتوا منكرا ، أو يفعلوا فعلا يلامون عليه.

الإعراب : «أبى الله» فعل ماض وفاعله ، والمفعول محذوف ، والتقدير أبى الله فعل الشر ، «للشم» جار ومجرور متعلق بأبي ، «الألاء» اسم موصول بمعنى الذين صفة للشم ، مبني على الكسر في محل جر ، «كأنهم» كأن : حرف تشبيه ونصب ، والضمير اسمه ، «سيوف» خبر كأن ، والجملة من كأن واسمه وخبره لا محل لها من الإعراب صلة الألاء ، «أجاد» فعل ماض «القين» فاعل أجاد ، «يوما» ظرف زمان منصوب بأجاد ، «صقالها» صقال : مفعول به لأجاد ، وهو مضاف والضمير مضاف إليه ، والجملة من أجاد وفاعله ومفعوله في محل رفع صفة لسيوف.

الشّاهد فيه : قوله «الألاء» فإنه اسم موصول بمعنى الذين ، وهو مبني على الكسر والدليل على أنه استعمله بمعنى الذين شيئان : أولهما أن الموصوف به جمع تكسير لمذكر وهو الشم ؛ لأنه جمع أشم ، والثاني تعبيره في الصلة بضمير المذكرين وذلك في قوله «كأنهم سيوف» وأنت تعرف أن الضمير العائد من جملة الصلة يجب أن يطابق الموصول الموضوع لمعنى هو نص فيه : في تذكيره وتأنيثه ، وفي إفراده وتثنيته وجمعه.

١٥٧

ثم استثنيت من أسماء الإشارة والأسماء الموصولة ذين وتين واللذين واللّتين ؛ فذكرت أنهما كالمثنى ، وأعني بذلك أنهما معربان : بالألف رفعا ، وبالياء المفتوح ما قبلها جرّا ونصبا ، كما أن الزّيدين والرّجلين كذلك ، وفهم من قولي «كالمثنى» أنهما ليسا مثنيين حقيقة ، وهو كذلك ؛ وذلك لأنه لا يجوز أن يثنى من المعارف إلا ما يقبل التنكير كزيد وعمرو ، ألا ترى أنهما لما اعتقد فيهما الشياع والتنكير جازت تثنيتهما ، ولهذا قلت : «الزيدان ، والعمران» فأدخلت عليهما حرف التعريف ، ولو كانا باقيين على تعريف العلمية لم يجز دخول حرف التعريف عليهما ، وذا والذي لا يقبلان التنكير ؛ لأن تعريف ذا بالإشارة ، وتعريف «الذي» بالصّلة ، وهما ملازمان لذا والذي ؛ فدلّ ذلك على أن ذين واللّذين ونحوهما أسماء تثنية ، بمنزلة قولك هما وأنتما ، وليسا بتثنية حقيقية ، ولهذا لم يصح في ذين أن تدخل عليها أل كما لا يصح ذلك في هما وأنتما.

فإن قلت : فهلّا استثنيت من الموصولات «أيّا» أيضا فإنها معربة إلا إذا أضيفت وكان صدر صلتها ضميرا محذوفا؟.

قلت : قد علم مما قدمت أن «أيّا» مبنية في هذه الحالة ، معربة فيما عداها ؛ فلم أحتج إلى إعادته.

ومثال المبني من أسماء الشرط والاستفهام على السكون : من ، وما ، ومثال المبني منهما على الفتح : أين ، وأيّان ، وليس فيهما ما بني على كسر ولا ضمّ فأذكره.

فإن قلت : فإن من أسماء الشرط «حيثما» وهي مبنية على الضم.

قلت : المبني على الضم حيث ، واسم الشرط إنما هو حيثما ، فما اتصلت بحيث وصارت جزءا منها ؛ فالضم في حشو الكلمة ، لا في آخرها.

واستثنيت من أسماء الشرط ، وأسماء الاستفهام «أيّا» فإنها معربة فيهما مطلقا بإجماع ، مثال الاستفهامية في الرفع قوله تعالى : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) [النمل ، ٣٨] (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) [التوبة ، ١٢٤] ومثالها في النصب (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [غافر ، ٨١] (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء ، ٢٢٧] فأيكم فيهما مبتدأ ، وأيّ من قوله : (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) مفعول به لتنكرون ، وأي

١٥٨

من قوله تعالى : (أَيَّ مُنْقَلَبٍ) مفعول مطلق لينقلبون ، وليست مفعولا به لسيعلم ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، ومثالها في الخفض : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ* بِأَيِّكُمُ) [القلم ، الآيتان : ٥ ، ٦] ، وأي في هذه الآية مخفوضة لفظا مرفوعة محلا ؛ لأنها مبتدأ ، والباء زائدة ، والأصل أيّكم المفتون (١) ، والجملة نصب بتبصر أو يبصرون ؛ لأنهما تنازعاها ، وهما معلّقان عن العمل بالاستفهام ، وفي الآية مباحث أخر.

ومثال الظرف المبني على السكون «إذ» وهو ظرف لما مضى من الزمان ، ويضاف لكل من الجملتين ، نحو : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) [الأنفال ، ٢٦] (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) [الأعراف ، ٨٦] [(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ)] [غافر ، ٧٠ ، ٧١] ، وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) [الزلزلة ، الآية ٤] بعد قوله سبحانه وتعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) [الزلزلة ، ١] ، وتأتي للتعليل ، نحو : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) [الكهف ، ١٦] أي : ولأجل اعتزالكم إياهم ، والاستثناء في الآية متصل إن كان هؤلاء القوم يعبدون الله وغيره ، ومنقطع إن كانوا يخصّون غير الله سبحانه بالعبادة ، وكذلك البحث في قوله تعالى : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء ، ٧٥ ـ ٧٧] وتأتي للمفاجأة كقوله :

__________________

(١) هذا الإعراب الذي ذكره المؤلف هو إعراب سيبويه شيخ النحاة لهذه الآية الكريمة ، وعليه يكون (المفتون) اسم مفعول كما هو الظاهر ، ويكون الاستفهام عمن وقعت عليه الفتنة ؛ فكأن بعضهم يقول لبعض : أي امرئ منكم أثرت فيه دعاية هذا المدعي للنبوة فجعلته يترك دين آبائه إلى دينه؟ وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن الباء أصلية وأي : مجرور بها لفظا ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، والمفتون : مبتدأ مؤخر ، ثم اختلف النقل عنه في معنى الباء ؛ فنقل عنه قوم أنه يقول : إن معنى الباء السببية ، وعلى هذا يكون المفتون مصدرا بمعنى الفتنة ، وكأن بعض هؤلاء يقول لبعض : بسبب أيكم وقعت الفتنة؟ ومجيء المصدر على زنة مفعول مما أثبته الأخفش ، ومثل لما جاء منه بالميسور والمعسور والمجلود والمحلوف والمعقول : بمعنى اليسر والعسر والجلد والحلف والعقل (انظر شرح الشاهد رقم ٦٠ الآتي) نقل عنه قوم آخرون : أن الباء بمعنى في التي للظرفية ، وعلى هذا يكون المفتون اسم مفعول كما ذهب إليه سيبويه ؛ وكأن بعض هؤلاء يقول لبعض : في أي طائفة من طوائفكم هذا الذي وقعت الفتنة عليه؟

١٥٩

٦٠ ـ استقدر الله خيرا وارضينّ به

فبينما العسر إذ دارت مياسير

ومثال المبنيّ منها على الفتح «الآن» وهو اسم لزمن حضر جميعه أو بعضه ؛ فالأول نحو قوله تعالى : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) [البقرة ، ٧١] وفي هذه الآية حذف الصفة ، أي بالحق الواضح ، ولو لا أن المعنى على هذا لكفروا لمفهوم هذه المقالة (١) ، والثاني نحو قوله تعالى : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) [الجن ، ٩] ، وقد تعرب ، كقوله :

______________________________________________________

٦٠ ـ هذا بيت من البسيط ، وقد نسبوه إلى عنبر بن لبيد العذري.

اللّغة : «مياسير» جمع ميسور بمعنى اليسر ، بدليل مقابلته بالعسر ، وفي هذا اللفظ فائدتان ؛ الأولى أنه يدل لما ذهب إليه أبو الحسن الأخفش من مجيء المصدر على زنة اسم المفعول كما جاء على زنة اسم الفاعل كالعافية ، والثانية أنه يدل على جواز جمع المصدر ، ألا ترى أنه جمع ميسورا على مياسير كما يجمع مجنون على مجانين (انظر الهامش في الصفحة السابقة).

الإعراب : «استقدر» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «الله» منصوب على التعظيم ، «خيرا» منصوب على نزع الخافض ، «وارضين» الواو عاطفة ، ارض : فعل أمر مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، ونون التوكيد حرف لا محل له من الإعراب ، «به» جار ومجرور متعلق بارض ، «فبينما» الفاء للتعليل ، بين : ظرف مكان منصوب على الظرفية ، والعامل فيه محذوف ، وما : زائدة ، «العسر» مبتدأ ، وخبره محذوف ، وتقدير الكلام : فبينما العسر حاصل ، مثلا ، «إذ» كلمة دالة على المفاجأة ، وقد اختلف فيها ، فقيل : هي ظرف مكان ، وقيل : هي ظرف زمان ، وعلى القول بأنها ظرف زمان قيل : هي بدل من بين ، وقيل : متعلق بما بعده ؛ لأنه غير مضاف إليه ، «دارت» دار : فعل ماض ، والتاء علامة التأنيث «مياسير» فاعل دارت.

الشّاهد فيه : قوله «إذ» فإنها كلمة دالة على المفاجأة ، ألا ترى أن معنى البيت فبين الأوقات التي

__________________

(١) منطوق هذه العبارة ـ بدون تقدير وصف محذوف ـ أن موسى عليه‌السلام قد جاءهم في وقت التكلم بالحق الذي يجب الإيمان به ، ويدل هذا بالمفهوم على أن ما كان قد جاءهم به قبل ذلك ليس بحق ، وهذا كفر لا شبهة فيه ؛ لأنه يجب الإيمان بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأتي في وقت من الأوقات إلا بالحق الذي يجب الإيمان به ، فإن قدرنا الوصف الذي قدره المؤلف كان المفهوم من العبارة أنه قبل وقت التكلم كان آتيا بالحق أيضا ، لكن هذا الحق الذي كان يأتي به لم يكن واضحا ظاهر المعنى لعقولهم ، وهذا لا كفر فيه ؛ لأن نقصه ليس راجعا إلى ما جاء به الرسول ، وإنما نقصه راجع إلى عقولهم.

هذا كله عند من يعتبر المفهوم اعتبار المنطوق ، فأما من لا يرون اعتبار المفهوم فلا يلتزمون هذا التقدير ، والمسألة خلافية بين علماء الأصول ، وهذه العجالة لا تتسع لذكر مقالتهم وأدلتها.

١٦٠