شرح شذور الذّهب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

شرح شذور الذّهب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الطلائع للنشر والتوزيع والتصدير
الطبعة: ٠
ISBN: 977-277-343-0
الصفحات: ٤٩٥

الأول المبنيّ على السكون ، وقدمته لأنه الأصل ، والثاني المبنيّ على السكون أو نائبه المذكور في الباب السابق ، وثنّيت به لأنه شبيه بالسكون في الخفة ، والثالث المبنيّ على الفتح وقدمته على المبنيّ على الكسر لأنه أخفّ منه ، والرابع المبنيّ على الفتح أو نائبه المذكور في الباب السابق ، والخامس المبنيّ على الكسر ، وقدمته على المبنيّ على الضم لأنه أخفّ منه ، والسادس المبنيّ على الكسر أو نائبه المذكور في الباب السابق (١) ، والسابع المبنيّ على الضم ، والثامن المبنيّ على الضم أو نائبه ، والتاسع ما ليس له قاعدة مستقرة ، بل منه ما يبنى على السكون ، وما يبنى على الفتح ، وما يبنى على الكسر ، وما يبنى على الضم ، وسأشرحها مفصلة إن شاء الله تعالى شرحا يزيل عنها خفاءها.

الباب الأول : ما لزم البناء على السكون ، وهو نوعان :

أحدهما : المضارع المتصل بنون الإناث (٢) ، كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ

__________________

ـ الأول : لم كان بناؤه على حركة؟ فيقال في الجواب : للتخلص من التقاء الساكنين ، مثلا ، والسؤال الثاني : لم كانت الحركة خصوص الفتحة؟ فيقال في الجواب : لأن الفتحة أخف الحركات ، مثلا ، والفعل المبني على السكون لا يسأل ـ على مذهب البصريين ـ عن علة بنائه ، ولا عن علة كون بنائه على السكون ، والفعل المبني على حركة يسأل عنه سؤالان : لم كان البناء على حركة؟ ولم كانت الحركة خصوص الفتحة ، مثلا ، وسنتعرض في كل باب من أبواب البناء لذلك.

(١) هذا النوع لا وجود له ، ولم يشرحه المؤلف ؛ فذكره هنا من باب تتميم مقتضى القسمة العقلية.

(٢) قد علمت أن البصريين لا يسألون في هذا النوع عن علة البناء لأن البناء أصل في الأفعال عندهم ، ولا يسألون عن علة كون البناء في هذا النوع على السكون لأن أصل البناء أن يكون على السكون ، فأما الكوفيون فيسألون : لم بني الفعل المضارع المتصل بنون النسوة؟ ولم كان البناء على السكون؟ والجواب على هذين السؤالين أنه حمل على الفعل الماضي الذي هو أول الأفعال ، فكما تقول «النسوة أرضعن أولادهن» تقول «النسوة يرضعن أولادهن».

لكن يمكن أن يسأل ـ على مذهب البصريين ـ فيقال : إن المضارع عندكم معرب لكونه أشبه الاسم في عدة وجوه من أوجه الشبه ، ومنها توارد المعاني المختلفة عليه ، فلم لم يجر المضارع المتصل بنون النسوة مجرى غيره فيعرب؟ والجواب عن ذلك أن اتصال النون به باعد شبهه بالاسم بسبب كون هذه النون مختصة بالفعل ، فكما أن الإضافة علة معارضة للبناء في الاسم يكون لحاق نون النسوة علة معارضة للإعراب في الفعل المضارع ، فيرجع به حينئذ إلى ما هو الأصل في الفعل وهو البناء.

١٠١

يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة ، ٢٢٨] (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) [البقرة ، ٢٣٣] ؛ فيتربصن ويرضعن : فعلان مضارعان في موضع رفع ؛ لخلوهما من الناصب والجازم ، ولكنهما لما اتّصلا بنون النسوة بنيا على السكون.

وهذان الفعلان خبريّان لفظا طلبيّان معنى ومثلهما «يرحمك الله» وفائدة العدول بهما عن صيغة الأمر التوكيد والإشعار بأنهما جديران بأن يتلقّيا بالمسارعة ؛ فكأنّهن امتثلن ؛ فهما مخبر عنهما بموجودين.

الثاني : الماضي المتصل بضمير رفع متحرك (١) ، نحو : «ضربت» و «ضربت» و «ضربت» و «ضربنا زيدا» ، والأصل فيه ضرب بالفتح ؛ فاتصل الفعل بالضمير المرفوع المتحرك ـ وهو التاء في المثل الثلاثة الأول ؛ لأنها فاعل ، و «نا» في المثال الرابع ـ وهما متحركان ، وأعني بذلك أن التاء متحركة والحرف المتصل بالفعل من «نا» ـ وهو النون ـ متحرك ؛ فلذلك بنيت الأمثلة على السكون.

واحترزت بتقييد الضمير بالرفع من ضمير النصب ؛ فإنه يتصل بالفعل ولا يغيّره عن بنائه على الفتح الذي هو الأصل فيه ، نحو : «ضربك زيد» و «ضربنا زيد» ، وبتقييده بالمتحرك من الضمير المرفوع الساكن ، نحو : «ضربا» و «ضربوا» فإنه لا يقتضي سكون الفعل أيضا ، بل يبقى آخر الفعل فيه قبل الألف مفتوحا ويضم قبل الواو كما مثلنا ، وأما نحو : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة ، ١٦] ونحو : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان ، ١٣] فالأصل اشتريوا بياء مضمومة قبل الضمير الساكن ، ودعووا بواوين أولاهما مضمومة قبل [الضمير] الساكن ، ثم تحركت الياء والواو وانفتح ما قبلهما فقلبتا ألفين ، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين ، ومعنى «دعوا هنالك ثبورا» قالوا : يا ثبوراه ، أي : يا هلاكاه.

__________________

(١) أما بناء الماضي المتصل بنون النسوة فلأن الأصل في الأفعال البناء ، وأما بناؤه على السكون فله سببان أولهما أن الأصل في البناء أن يكون على السكون ، والثاني الفرار من توالي أربع متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة ، لأن الماضي الثلاثي متحرك الحروف كلها فلو بقي آخره متحركا واتصل بالضمير المتحرك توالي أربع متحركات في شبه الكلمة الواحدة لأن الفعل والفاعل لشدة ترابطهما واستدعاء كل منهما للآخر يشبهان الكلمة الواحدة ، والعرب تستثقل ذلك.

١٠٢

الباب الثاني : ما لزم البناء على السكون أو نائبه ، وهو نوع واحد ، وهو فعل الأمر (١) ، وذلك لأنه يبنى على ما يجزم به مضارعه ؛ فيبنى على السكون في نحو : «اضرب» (٢) وعلى حذف النون في نحو : «اضربا» و «اضربوا» و «اضربي» (٣) وعلى حذف حرف العلة في نحو : «اغز» و «اخش» و «ارم» (٤).

ومن غريب ما يحكى أن بعض من يتعاطى إقراء النحو ببلدنا هذه سمع قول بعض المعربين في قوله عزوجل : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه ، ٤٤] إن (قولا) مبني على حذف النون ، فأنكر ذلك عليه ، وهو قول مشهور بين الطلبة فخفاؤه على من يتصدّى للإقراء غريب.

والفاء في الآية الكريمة عاطفة لقولا على (اذهبا) من قوله تعالى : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه ، ٤٣] وكل منهما فعل أمر وفاعل ، وهما مبنيان على حذف النون ، و (له) جارّ ومجرور متعلق بقولا ، وسمّى ابن مالك هذه اللّام لام التبليغ ، ومثله : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء ، ٥٣] (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور ، ٣٠] (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [المائدة ، ١١٧] و (قولا) مفعول مطلق ، و (ليّنا) صفة له ، أي قولا متلطّفا فيه ولا تغلظا عليه ، والقول اللين قد جاء مفسّرا في قوله تعالى : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى* وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) [النازعات ، ١٨ و ١٩].

ثم قلت : أو الفتح ، وهو سبعة : الماضي المجرّد كضرب وضربك وضربا ،

__________________

(١) القول بأن فعل الأمر مبني ، وأن بناءه على ما يجزم به مضارعه ـ هو قول البصريين ، وذهب الكوفيون إلى أنه فعل مضارع مجزوم بلام أمر محذوفة ، وزعموا أن أصل «اضرب» مثلا هو «لتضرب» فحذفت اللام فصار «تضرب» بالجزم ، ثم حذفت التاء لئلا يتوهم أنه فعل غير دال على الأمر ، ثم اجتلبت همزة الوصل لأن الضاد ساكنة ولا يبتدأ بساكن ، وفي هذا الكلام من التكلف والتعسف ما ليس يخفى.

(٢) المراد بنحو «اضرب» كل فعل أمر صحيح الآخر لم تقترن به ألف اثنين ولا واو جماعة ولا ياء مؤنثة مخاطبة.

(٣) المراد بنحو «اضربا» كل أمر اتصل به ألف اثنين ، وبنحو «اضربوا» كل أمر اتصل به واو جماعة ، وبنحو «اضربي» كل أمر اتصل به ياء المؤنثة المخاطبة.

(٤) المراد بنحو «اغز واخش وارم» كل أمر كان آخره حرف علة واوا كالأول أو ألفا كالثاني أو ياء كالثالث.

١٠٣

والمضارع الذي باشرته نون التوكيد ، نحو : (لَيُنْبَذَنَ) و (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً) [يوسف ، ٣٢] بخلاف نحو : (لَتُبْلَوُنَ وَلا يَصُدُّنَّكَ) وما ركّب من الأعداد والظّروف والأحوال والأعلام ، نحو : «أحد عشر» ونحو : هو يأتينا صباح مساء ، * وبعض القوم يسقط بين بين* ونحو : هو جاري بيت بيت : أي ملاصقا ، ونحو : «بعلبكّ» في لغيّة ، والزّمن المبهم المضاف لجملة ، وإعرابه مرجوح قبل الفعل المبنيّ نحو* على حين عاتبت المشيب على الصّبا* على حين يستصبين كلّ حليم* وراجح قبل غيره ، نحو : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) و* على حين التّواصل غير داني* والمبهم المضاف لمبنيّ نحو : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) ويجوز إعرابه.

وأقول : الباب الثالث من المبنيات : ما لزم البناء على الفتح ، وهو سبعة أنواع :

النوع الأول : الماضي المجرد مما تقدم ذكره (١) ، وهو الضمير المرفوع المتحرك ، نحو : «ضرب» و «دحرج» و «استخرج» و «ضربا» و «ضربك» و «ضربه».

وأما نحو : «رمى» و «عفا» فأصله رمى وعفو ، فلما تحركت الياء والواو وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفين ؛ فسكون آخرهما عارض ، والفتحة مقدرة في الألف ، ولهذا إذا قدر سكون الآخر رجعت الياء والواو فقيل : رميت ، وعفوت ، كما سيأتي.

__________________

(١) شمل ذلك صنفين : الأول الماضي المجرد من ضمير الرفع المتحرك ومن غيره ثلاثيّا كان نحو ضرب أو رباعيّا نحو دحرج أو مزيدا فيه نحو استخرج ، والثاني المجرد من ضمير الرفع المتحرك مع اقترانه إما بضمير الرفع الساكن كألف الاثنين نحو «ضربا» وإما بضمير النصب ككاف المخاطب في نحو ضربك وهاء الغائب في نحو ضربه.

فإن قلت : فإن ضمير النصب متحرك والماضي الثلاثي متحرك الحروف كلها ، فلماذا جاز في هذا النوع توالي أربع متحركات ولم يجز في نحو «ضربت» عند اتصال الماضي بضمير الرفع المتحرك؟

فالجواب عن هذا أنهم لا يستثقلون توالي أربع متحركات إلا في الكلمة الواحدة أو فيما هو كالكلمة الواحدة ، والفعل مع الفاعل كالكلمة الواحدة لأن أحدهما لا يستغني عن الآخر أصلا ، أما الفعل مع المفعول فليسا كالكلمة الواحدة لصحة استغناء الفعل عن المفعول ، فلهذا فروا من توالي أربع متحركات في الفعل مع الفاعل ، ولم يفروا من هذا التوالي في الفعل مع المفعول به ، فاعرف ذلك (وانظر ص ١٠٢ الماضية).

١٠٤

والنوع الثاني : المضارع الذي باشرته نون التوكيد ، كقوله تعالى : (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) [الهمزة ، ٤] واحترزت باشتراط المباشرة من نحو قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَ) [آل عمران ، ١٨٦] فإن الفعل في ذلك معرب وإن أكد بالنون ؛ لأنه قد فصل بينهما بالواو التي هي ضمير الفاعل ، وهي ملفوظ بها في قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَ) ومقدرة في قوله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَ) إذ الأصل لتسمعوننّ ، فحذفت نون الرفع استثقالا لاجتماع الأمثال ، فالتقى ساكنان الواو والنون المدغمة ؛ فحذفت الواو لالتقاء الساكنين.

والنوع الثالث : ما ركّب تركيب المزج من الأعداد ، وهو الأحد عشر ، والإحدى عشرة ، إلى التّسعة عشر والتّسع عشرة ، تقول : جاءني أحد عشر ، ورأيت أحد عشر ، ومررت بأحد عشر ، ببناء الجزأين على الفتح ، وكذلك القول في الباقي ، إلا «اثنى عشر» و «اثنتي عشرة» فإن الجزء الأول منهما معرب إعراب المثنى : بالألف رفعا ، وبالياء جرّا ونصبا.

والنوع الرابع : ما ركّب تركيب المزج من الظروف : زمانية كانت أو مكانية ، مثال ما ركب من ظروف الزمان قولك : فلان يأتينا صباح مساء ، والأصل صباحا ومساء ، أي في كل صباح ومساء ؛ فحذف العاطف ، وركّب الظّرفان قصدا للتخفيف تركيب خمسة عشر ، قال الشاعر :

٢٠ ـ ومن لا يصرف الواشين عنه

صباح مساء يبغوه خبالا

ولو أضفت فقلت «صباح مساء» لجاز ، أي : صباحا ذا مساء ؛ فلذلك أضفته إليه

______________________________________________________

٢٠ ـ هذا بيت من الوافر ، وهو البيت الرابع من قصيدة لكعب بن زهير بن أبي سلمى المزني ، أولها قوله :

ألا أسماء صرّمت الحبالا

فأصبح غاديا عزم ارتحالا

وقد قال أبو سعيد السكري شارح ديوان كعب قبل روايتها : «وقال أيضا في رجل من مزينة قتلته الأوس والخزرج ، وليست في رواية أبي عبيدة والأصمعي ، ولكنها مما انفرد بروايتها أبو عمرو وإسحاق بن مرار الشيباني» اه.

١٠٥

لما بينهما من المناسبة ، وإن كان الصباح والمساء لا يجتمعان ، ونظيره في الإضافة قوله تعالى : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات ، ٤٦] فأضيف الضّحى إلى ضمير العشية ، وقيل : الأصل أو ضحى يومها ، ثم حذف المضاف ، ولا حاجة إلى هذا.

وتقول : «فلان يأتينا يوم يوم» أي يوما فيوما : أي كلّ يوم ، قال الشاعر :

______________________________________________________

اللّغة : «يصرف» يحول ، والمراد ألا يستمع لوشاياتهم ، ورواية الديوان «ومن لا يفثأ» بفاء ثم ثاء مثلثة ثم همزة ، وأصل معناه : يكسر حدتهم ، ويردهم عما يريدون منه ، وتقول : فثأت القدر ، إذا أخرجت الوقود من تحتها وصببت عليها ماء تسكن بذلك غليانها ، «الواشين» جمع واش ، وهو الكاذب الذي يفسد ما بين المتحابين بما يلفقه ويفتريه ، وأصل هذه المادة قولهم «وشيت الثوب» إذا زخرفته ، وذلك لأن الواشي يزخرف ما يذكره من القول لينطلي على سامعه ، «يبغوه» يريد يقصدوه ويطلبوا له ، «خبالا» الخبال هو الجنون أو الإفساد ، وفي رواية الديوان «يبغوه الخبالا».

المعنى : يقول : إن من لا يباعد الوشاة عن نفسه كل لحظة لا يسلم من ضررهم ، لأنهم يقصدونه بالشر ويوقعونه في الفساد.

الإعراب : «من» اسم شرط جازم يجزم فعلين الأول فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه ، وهو مبتدأ مبني على السكون في محل رفع ، «لا» نافية ، «يصرف» فعل مضارع فعل الشرط ، مجزوم بمن ، وعلامة جزمه السكون ، وحرك بالكسر لأجل التخلص من التقاء الساكنين ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من ، «الواشين» مفعول به ليصرف ، منصوب بالياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم ، «عنه» جار ومجرور متعلق بيصرف ، «صباح مساء» ظرف زمان متعلق بيصرف ، مبني على فتح الجزأين في محل نصب ، «يبغوه» يبغوا : فعل مضارع جواب الشرط ، مجزوم وعلامة جزمه حذف النون ، وواو الجماعة فاعله ، والهاء ضمير الغائب العائد إلى من مفعول به أول ليبغوا مبني على الضم في محل نصب ، «خبالا» مفعول ثان ليبغوا ، وخبر المبتدأ الذي هو اسم الشرط قيل : هو جملة الشرط وحدها ، وقيل : هو جملة الجواب وحدها ، وقيل : هو الجملتان معا ، وهذا الأخير هو الذي نذهب إليه ونرجحه وإن كان العلماء قد رجحوا خلافه.

الشّاهد فيه : قوله «صباح مساء» حيث ركب الظرفين معا ، وجعلهما بمنزلة كلمة واحدة ، فتضمنا معنى حرف العطف ؛ فأشبها في ذلك أحد عشر وأخواته ، ولما كان المشبه به ـ وهو أحد عشر ـ مبنيّا على فتح الجزأين أعطى المشبه ـ وهو الظرفان المركبان ـ حكمه ، ولذلك بناهما على فتح الجزأين.

١٠٦

٢١ ـ آت الرّزق يوم يوم فأجمل

طلبا وابغ للقيامة زادا

ومثال ما ركّب من ظروف المكان قولك : سهّلت الهمزة بين بين (١) ، وأصله بينها وبين حرف حركتها ، فحذف ما أضيف إليه بين الأولى وبين الثانية ، وحذف العاطف ، وركّب الظرفان ، قال الشاعر :

٢٢ ـ نحمي حقيقتنا وبعض القوم يسقط بين بينا

والأصل : بين هؤلاء وبين هؤلاء ، فأزيلت الإضافة ، وركّب الاسمان تركيب خمسة عشر ، وهذان الظرفان اللذان صارا ظرفا واحدا في موضع نصب على الحال ؛

______________________________________________________

٢١ ـ لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، ولا عثرت له على سوابق أو لواحق تتصل به.

اللّغة : «آت» اسم فاعل فعله أتى «أجمل» بقطع الهمزة ـ أمر من الإجمال ، وهو الإحسان ، «ابغ» اطلب ، وهو فعل أمر ماضيه بغى بمعنى طلب.

الإعراب : «آت» خبر مقدم ، مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين ، منع من ظهورها الثقل ، «الرزق» مبتدأ مؤخر «يوم يوم» ظرف زمان متعلق بآت ، مبني على فتح الجزأين في محل نصب ، «أجمل» فعل أمر ، مبني على السكون لا محل له من الإعراب ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «طلبا» مفعول به لأجمل ، «وابغ» الواو عاطفة ، ابغ :

فعل أمر مبني على حذف الياء ، والكسرة قبلها دليل عليها ، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «للقيامة» جار ومجرور متعلق بابغ ، أو متعلق بمحذوف حال من قوله زادا الآتي ، على أنه في الأصل نعت له ، فلما تقدم عليه صار حالا ، «زادا» مفعول به لابغ.

الشّاهد فيه : قوله «يوم يوم» حيث ركب الظرفين معا ، وجعلهما بمنزلة اسم واحد ، فتضمنا معنى حرف العطف ، فبناهما على فتح الجزأين ، ولو لم يركبهما معا فيتضمنا معنى الحرف لأعربهما وأضاف الأول إلى الثاني.

٢٢ ـ هذا بيت من الكامل لعبيد بن الأبرص الأسدي ، من كلمة يقولها لأمرئ القيس بن حجر الكندي ، وكان بنو أسد قوم عبيد قد قتلوا حجرا أبا امرئ القيس ، فأنذرهم امرؤ القيس ، وهددهم ، وفي ذلك يقول عبيد من قصيدة الشاهد :

__________________

(١) هذه من عبارات الصرفيين في باب تسهيل الهمزة ، وسيبويه يذكرها كثيرا وقد يقولون «همزة بين بين».

١٠٧

إذ المراد : وبعض القوم يسقط وسطا ، والحقيقة : ما يجب على الإنسان أن يحميه من الأهل والعشيرة ، يقال : رجل حامي الحقيقة ، أي : أنه شهم لا يضام.

والنوع الخامس : ما ركّب تركيب خمسة عشر من الأحوال ، يقولون : فلان جاري بيت بيت ، وأصله بيتا لبيت : أي ملاصقا (١) ، فحذف الجار وهو اللام ، وركب الاسمان ، وعامل الحال ما في قوله «جاري» من معنى الفعل ، فإنه في معنى مجاوري ، وجوّزوا أن يكون الجارّ المقدّر «إلى» وأن لا يقدر جارّ أصلا بل فاء العطف.

وقالت العرب أيضا «تساقطوا أخول أخول» أي متفرّقين ، وهو بالخاء المعجمة ،

______________________________________________________

يا ذا المخوّفنا بقتل أبيه إذلالا وحينا

وقد استشهد بالبيت الشاهد صاحب المفصل.

اللّغة : «حقيقتنا» ما يجب على الرجل أن يحميه ، ويدافع عنه ، ويبذل نفسه في سبيل المحافظة عليه ، كالنفس والعرض والمال.

الإعراب : «نحمي» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن ، «حقيقتنا» حقيقة : مفعول به لنحمي ، وحقيقة مضاف والضمير مضاف إليه ، «وبعض» مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة ، وهو مضاف ، و «القوم» مضاف إليه ، «يسقط» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى بعض القوم ، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ ، «بين بينا» ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من الضمير المستتر في يسقط ، والتقدير : بعض القوم يسقط (هو) متوسطا : أي واقعا في وسط المعركة ، وهذا الظرف مبني على فتح الجزأين في محل نصب.

الشّاهد فيه : قوله «بين بينا» حيث ركب الظرفين معا ، وجعلهما بمنزلة اسم واحد فبناهما على فتح الجزأين ؛ لكونه أراد بهما معا الظرفية ، ولو لم يرد ذلك لوجب عليه أن يعربهما ويضيف الأول إلى الثاني ، قال صاحب المفصل : «والذي يفصل بين الضربين أن ما تضمن ثانيه معنى حرف ، بني شطراه ، لوجود علة البناء فيهما ، وما خلا من التضمن أعرب» اه ، وقد بين لك المؤلف ههنا أن الأصل في ذلك «بين هؤلاء وبين هؤلاء» فأزيلت الإضافة ، وركب الاسمان ، وهما ـ حين ركبا ـ على معنى واو العطف.

__________________

(١) وقالوا أيضا «ذهب القوم شغر بغر» بفتحات وبكسر أول الكلمتين وفتح ثانيهما ، وقالوا «ذهب القوم جذع مذع» بكسر أول الكلمتين وفتح ثانيهما ، وبنائهما على فتح الجزأين ، ومعنى العبارتين : ذهبوا متفرقين في كل وجه.

١٠٨

قال الشاعر يصف ثورا يطعن الكلاب بقرنه :

٢٣ ـ يساقط عنه روقه ضارياتها

سقاط شرار القين أخول أخولا

وفي الحديث «كان يتخوّلنا بالموعظة» أي يتعهّدنا بها شيئا فشيئا مخافة السآمة علينا ، قال أبو علي : «هو من قولهم : تساقطوا أخول أخول : أي شيئا بعد شيء» وكان الأصمعي يرويه «يتخوّننا» بالنون ـ ويقول : معناه يتعهّدنا.

فإن قلت : ما الفرق بين هذا النوع والبيت الذي أنشدته في النوع الذي قبله ، فإنك زعمت ثمّ أن «بين بين» فيه حال؟.

قلت : معنى قولي هناك أنه متعلق باستقرار محذوف ، وذلك المحذوف هو الحال ، لا أنه نفسه حال ، بخلاف هذا النوع ؛ فإن المركب نفسه حال لأنه ليس بظرف ، [بخلاف «بين بين» فإنه ظرف].

______________________________________________________

٢٣ ـ هذا بيت من الطويل من كلام ضابئ البرجمي ، كما ذكره في اللسان (مادة خ ول) ، ورواه أبو زيد في نوادره (ص ١٤٥) ولم يستشهد به سيبويه مع أنه تكلم على قوله : «أخول أخول» (ص ٥٦ ج ٢) فقال : «وأما أخول أخول فلا يخلو من أن يكون كشغر بغر وكيوم يوم» اه.

اللّغة : «روقه» بفتح الراء المهملة وسكون الواو ـ هو القرن ، «ضارياتها» جمع ضارية ، وأصله اسم فاعل من «ضرى الحيوان يضرى» من باب علم يعلم ـ وأراد بها الكلاب ، «القين» بفتح القاف وسكون الياء المثناة ـ هو الحداد ، «أخول أخول» يعني شيئا فشيئا ، وهو يؤدي معنى متفرقين.

الإعراب : «يساقط» فعل مضارع ، «عنه» جار ومجرور متعلق به ، «روقه» : فاعل يساقط ، وروق مضاف والهاء ضمير الغائب العائد على الثور مضاف إليه ، «ضارياتها» ضاريات : مفعول به ليساقط ، منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم ، وضاريات مضاف وضمير الغائبات العائد على الكلاب مضاف إليه ، «سقاط» مفعول مطلق ، عامله يساقط ، وهو مضاف ، و «شرار» مضاف إليه ، وهو مضاف ، و «القين» مضاف إليه ، «أخول أخولا» حال ، بمعنى متفرقين ، مبني على فتح الجزأين في محل نصب ، والألف الأخيرة للإطلاق.

الشّاهد فيه : قوله «أخول أخولا» فإنه ركبهما معا ، وجعلهما كالكلمة الواحدة وبناهما معا على فتح الجزأين ، لما كان يريد معنى لحال منهما ، وضمنهما معنى واو العطف فصارا شبيهين بأحد عشر وأخواته ، ولو لا ذلك لوجب أن يضيف الأول إلى الثاني كما سيأتي التنبيه عليه في كلام المؤلف.

١٠٩

وإذا أخرجت شيئا من هذه الظروف والأحوال (١) عن الظرفية والحالية تعيّنت الإضافة وامتنع التركيب ، تقول : هذه همزة بين بين ، مخفوض الأوّل غير منوّن والثاني منوّنا ، ومثله فلان يأتينا كلّ صباح مساء ، قال :

٢٤ ـ ولو لا يوم يوم ما أردنا

جزاءك والقروض لها جزاء

وهذا يفهم من كلامي في المقدمة ؛ فإني قلت : «وما ركّب من الظروف والأحوال» فعلم أن البناء المذكور مقيّد بوجود الظرفية والحالية. وأنها متى فقدت

______________________________________________________

٢٤ ـ هذا بيت من الوافر للفرزدق ، وهو بيت منفرد في ديوانه ، وهو منسوب إليه في لسان العرب ، وهو من شواهد العلامة الرضي في شرح الكافية (انظر البغدادي ج ٣ ص ١٠٨ بولاق) وهو أيضا من شواهد سيبويه (٢ / ٥٢).

اللّغة : «القروض» جمع قرض ـ بفتح القاف وسكون الراء ـ وأصله ما تدين به غيرك من المال ، ويراد به كل ما تقدم من بر وصلة ، «جزاءك» مكافأة تقابله.

المعنى : قال الأعلم : «يقول : لو لا نصرنا لك في اليوم الذي تعلم ما طلبنا جزاءك ، وجعل نصرهم قرضا يطالبونه بالجزاء عليه» اه.

الإعراب : «لو لا» حرف يدل على امتناع الشيء لوجود غيره ، «يوم» مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة ، وهو مضاف و «يوم» مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة ، وخبر المبتدأ محذوف وجوبا ، «ما» نافية ، «أردنا» فعل وفاعل ، والجملة لا محل لها جواب لو لا ، «جزاءك» مفعول به لأردنا ، ومضاف إليه ، «والقروض» الواو واو الحال ، القروض : مبتدأ أول مرفوع بالضمة الظاهرة ، «لها» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، «جزاء» مبتدأ ثان مؤخر ، وجملة هذا المبتدأ وخبره في محل رفع خبر المبتدأ السابق ، وجملة المبتدأ السابق وخبره في محل نصب حال.

__________________

(١) ههنا أمران يجب أن تتنبه لهما : الأول أن الأعداد المركبة ـ نحو أحد عشر وثلاثة عشر ـ لا يجوز فيها على أرجح اللغات إلا جعل الجزأين على تضمن معنى حرف العطف ، وأما الظروف المركبة والأحوال المركبة فيجوز ألا تكون على تضمن معناه ويشير إلى هذا أن المؤلف قصر الخروج على الظروف والأحوال ، ويترتب على هذا أن تكون الأعداد المركبة ملازمة للبناء على فتح الجزأين ، وأن الظروف والأحوال المركبة يجوز فيهما البناء وعدمه ، والأمر الثاني : أن الظروف والأحوال عند تضمن معنى الحرف والتركيب ملازمة للظرفية والحالية ؛ فإذا لم تتضمن معنى الحروف أو أضيف أولها إلى ثانيها وقعت في غير ذلك من مواقع الإعراب كما وقع الظرف مبتدأ في قول الشاعر : «ولو لا يوم يوم».

١١٠

وجب الرجوع إلى الإعراب ، وإنما قدّمت الظروف على الأحوال لأن ذلك في الظروف أكثر وقوعا ؛ فكان أولى بالتقديم.

فإن قلت : قد وقع التركيب المذكور فيما ليس بظرف ولا حال ، كقولهم : «وقعوا في حيص بيص» أي في شدّة يعسر التخلّص منها (١).

قلت : هو شاذ ، فلذلك لم أتعرض لذكره في هذا المختصر.

ولم يقع في التنزيل تركيب الأحوال ولا تركيب الظروف ، وإنما وقع فيه تركيب الأعداد ، نحو : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) [يوسف ، الآية ٤] (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة ، ٦٠] (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر ، ٣٠] أي : على سقر تسعة عشر ملكا يحفظون أمرها ، وقيل : صنفا وقيل : صفّا من الملائكة ، وقرئ : (تِسْعَةَ عَشَرَ) جمع عشير ، مثل : أيمن في جمع يمين ، وعلى هذا فتسعة مرفوع ، وأعشر مخفوض بالإضافة منوّن.

ومجيء هذا التركيب في الأحوال قليل بالنسبة إلى مجيئه في الظروف.

______________________________________________________

الشّاهد فيه : قوله «يوم يوم» حيث أجرى لفظ «يوم» الأول على ما تقتضيه العوامل فرفعه بالابتداء ، وأضافه إلى «يوم» الثاني ، فجره بالإضافة ، وذلك لأنه لم يرد بهما الظرفية ، قال سيبويه : «والعرب لا تجعل شيئا من هذه الأسماء بمنزلة اسم واحد إلا في حال الحال أو الظرف» اه ؛ ثم قال بعد ذلك : «وهذا قول جميع من نثق بعلمه وروايته عن العرب ، ولا أعلمه إلا قول الخليل» اه.

__________________

(١) تقول : «وقع القوم في حيص بيص» بفتح أولهما وآخرهما وبكسر أولهما وفتح آخرهما ، وبفتح أولهما وكسر آخرهما ـ فأما معنى هذه العبارة فمن العلماء من قال : معناها وقعوا في شدة وضيق يعسر عليهم التخلص منهما ، ومنهم من قال : معناها وقعوا في اختلاط وهرج لا مخرج لهم منهما ، وفي حديث سعيد بن جبير ، وقد سئل عن المكاتب إذا اشترط عليه أهله ألا يخرج من بلده ؛ فقال : «أثقلتم ظهره ، وجعلتم الأرض عليه حيص بيص» وقال أمية بن أبي عائذ الهذلي :

قد كنت خرّاجا ولوجا صيرفا

لم تلتحصني حيص بيص لحاص

وأما إعراب هذه العبارة فاللغتان الأولى والثانية على ما ذكر المؤلف ، والكلمتان فيهما مبنيتان على فتح الجزأين ؛ وعلى اللغة الثالثة كل كلمة من الكلمتين مبنية على الكسر.

١١١

والنوع السادس : الزّمن المبهم المضاف لجملة ، وأعني بالمبهم ما لم يدل على وقت بعينه ، وذلك نحو : الحين والوقت والساعة والزمان ؛ فهذا النوع من أسماء الزمان تجوز إضافته إلى الجملة ، ويجوز لك فيه حينئذ الإعراب والبناء على الفتح ، ثم تارة يكون البناء أرجح من الإعراب ، وتارة العكس ؛ فالأول إذا كان المضاف إليه جملة فعلية فعلها مبنيّ كقوله :

٢٥ ـ على حين عاتبت المشيب على الصّبا

وقلت : ألمّا أصح والشّيب وازع؟

______________________________________________________

٢٥ ـ هذا بيت من الطويل للنابغة الذبياني ، أحد فحول الشعراء الجاهليين ، والحكم عليهم في سوق عكاظ ، والبيت من شواهد ابن عقيل (رقم ٢١٤) وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ٢٣٥).

اللّغة : «عاتبت» العتاب هو اللوم في تسخط ، «المشيب» هو الشيب ، «الصبا» ـ بكسر الصاد ـ الصبوة ، وهي الميل إلى شهوات النفس واتباع لذائذها ، «أصح» فعل مضارع من الصحو ، وهو في الأصل ضد السكر ، ويروى «ألمّا تصح» «وازع» زاجر ، وناه ، وكاف.

الإعراب : «على» حرف جر «حين» يروى بالجر معربا ، وبالفتح مبنيا وهو المختار هنا ، وعلى كل حال فهو مجرور بعلى إما لفظا وإما محلا ، والجار والمجرور متعلق بقوله : «كفكفت» في بيت سابق على هذا البيت ، وهو قوله :

فكفكفت منّي دمعة فرددتها

على النّحر منها مستهلّ ودامع

«عاتبت» فعل وفاعل ، والجملة في محل جر بإضافة حين إليها ، «المشيب» مفعول به لعاتبت ، «على الصبا» جار ومجرور متعلق بعاتب ، «فقلت» الفاء عاطفة ، قلت : فعل وفاعل ، وجملتهما معطوفة على جملة عاتبت ، «ألما» الهمزة للإنكار ، لما : حرف نفي وجزم يدل على توقع ما بعده : أي انتظار وقوعه وحصوله ، «تصح» فعل مضارع مجزوم بلمّا ، وعلامة جزمه حذف الواو والضمة قبلها دليل عليها ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، ومن رواه أصح كالشارح ففاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا ، «والشيب» الواو للحال ، الشيب : مبتدأ ، «وازع» خبر المبتدأ ، والجملة من المبتدأ وخبره في محل نصب حال.

الشّاهد فيه : قوله «على حين عاتبت» فإنه يروى بجر «حين» على أنه معرب تأثر بالعامل الذي هو حرف الجر ، ويروى بفتحه على أنه مبني على الفتح في محل جر ، والجملة التي أضيف إليها حين جملة فعلية فعلها ماض ، والفعل الماضي مبني كما علمت مما سبق ؛ فدل ذلك على أن كلمة «حين» ونحوها إذا أضيفت إلى مبني جاز فيها وجهان ، لكن البناء أرجح ؛ لأن المضاف اكتسب البناء من

١١٢

يروى «على حين» بالخفض على الإعراب ، و «على حين» بالفتح على البناء ، وهو الأرجح ؛ لكونه مضافا إلى مبني ، وهو عاتبت (١).

والثاني : إذا كان المضاف إليه جملة فعلية فعلها معرب ، أو جملة اسمية ؛ فالأول كقوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة ، ١١٩] ، فيوم : مضاف إلى ينفع ، وهو فعل مضارع ، والفعل المضارع معرب كما تقدم ، فكان الأرجح في

______________________________________________________

المضاف إليه ، كما يكتسب منه التذكير والتأنيث ، وبيان ذلك أن المضاف إذا كان مذكرا والمضاف إليه مؤنثا ، جاز في المضاف وجهان : أحدهما التذكير نظرا إلى أصله ، والثاني التأنيث نظرا إلى المضاف إليه ، وعليه جاء قول الشاعر ، وهو ذو الرمة :

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم

الشّاهد فيه : قوله «تسفهت .. مر الرياح» حيث ألحق تاء التأنيث بالفعل الذي هو تسفهت المسند إلى مر الرياح ، والمر مذكر ، لكنه مضاف إلى الرياح وهي مؤنثة ، فاكتسب التأنيث من المضاف إليه.

ومثله قول الآخر ، وهو الأعشى ميمون بن قيس :

وتشرق بالقول الذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم

حيث أنث «شرقت» المسند إلى «صدر» وصدر مذكر ، لكنه مضاف إلى القناة المؤنث ، فاكتسب منه التأنيث ، وكذلك العكس ، ومنه قوله تعالى في بعض تخريجاته (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ.)

ومثل ما أنشدناه من الشواهد قول جرير :

لمّا أتى خبر الزّبير تضعضعت

سور المدينة والجبال الخشّع

فقد ألحق تاء التأنيث بالفعل الذي هو تضعضعت مع أن فاعله مذكر وهو سور المدينة لكون هذا الفاعل مضافا إلى مؤنث.

ونظير هذه الشواهد قول الشاعر ، وينسب إلى مجنون ليلى :

وما حبّ الدّيار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الدّيارا

فقد أعاد ضمير النسوة على حب الديار مع أنه مذكر لكونه مضافا إلى مؤنث وهو الديار.

__________________

(١) هو في الحقيقة مضاف إلى جملة «عاتب» وفاعله ، ففي عبارة المؤلف هنا تسامح.

١١٣

المضاف الإعراب ، فلذلك قرأ السبعة كلهم إلا نافعا برفع اليوم على الإعراب ؛ لأنه خبر المبتدأ ، وقرأ نافع وحده بفتح اليوم على البناء.

والبصريون يمنعون في ذلك البناء ، ويقدّرون الفتحة إعرابا (١) مثلها في «صمت يوم الخميس» ، والتزموا لأجل ذلك أن تكون الإشارة ليست لليوم ، وإلا لزم كون الشيء ظرفا لنفسه ، والثاني كقول الشاعر :

٢٦ ـ تذكّر ما تذكّر من سليمى

على حين التّواصل غير دان

______________________________________________________

٢٦ ـ هذا بيت من بحر الوافر ، ولم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ٣٣٧) والأشموني في باب الإضافة (رقم ٦٢١).

الإعراب : «تذكر» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو ، «ما» اسم موصول بمعنى الذي مفعول به لتذكر ، مبني على السكون في محل نصب ، «تذكر» فعل ماض ، وفيه ضمير مستتر جوازا هو فاعله ، والجملة لا محل لها صلة ، والعائد محذوف ، وأصله ضمير منصوب بتذكر الثاني ، والتقدير : تذكر الذي تذكره ، «من سليمى» جار ومجرور متعلق بتذكر أو بمحذوف حال من ما الموصولة ، «على» حرف جر ، «حين» يروى بالجر على أنه معرب ويروى بالفتح على أنه مبني ، وعلى كل حال هو مجرور بعلى إما لفظا وإما محلّا ، والجار والمجرور متعلق بتذكر الأول ، «التواصل» مبتدأ ، «غير» خبره وغير مضاف و «داني» مضاف إليه ، وهذه الياء متولدة عن إشباع الكسرة لأن ياء المنقوص المنون تحذف للتخلص من التقاء الساكنين ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل جر بإضافة حين إليها.

الشّاهد فيه : قوله «على حين التواصل غير دان» حيث روي لفظ «حين» على وجهين : الأول :

__________________

(١) إذا قرأت «يوم» بالرفع فهو خبر عن «هذا» واسم الإشارة يراد به اليوم ، ويوم حينئذ معرب ، وهذا الوجه لا يخالف فيه البصريون ولا الكوفيون ، وإذا قرأت «يوم» بفتح الميم غير منون فالكوفيون يجيزون أن تكون هذه الفتحة بناء ، وعلى هذا يكون «يوم» خبرا عن هذا ، مبنيّا على الفتح في محل رفع ، والإشارة لليوم أيضا ، والمعنى هو المعنى الذي تدل عليه قراءة الرفع ، وكأنه قيل : هذا اليوم هو يوم ينفع الصادقين صدقهم. والبصريون لا يجيزون أن يكون «يوم» مبنيّا ، وتخريج الآية الكريمة على مذهبهم في قراءة فتح الميم من «يوم» أن تجعل «هذا» مبتدأ ، وخبره محذوفا ، وعلى هذا يكون «يوم» ظرف زمان متعلقا بقال ، وكأنه قيل : قال الله في يوم ينفع الصادقين صدقهم هذا جزاء صدقك ، ويجوز وجه آخر ، وهو أن يكون «يوم» ظرف زمان متعلقا بمحذوف خبر عن «هذا» ، وعلى هذا تكون الإشارة للسؤال الواقع من الله تعالى ، والجواب الواقع من عيسى عليه‌السلام ، وكأنه قيل : هذا الذي ذكر من سؤال الله تعالى لعيسى وجواب عيسى عليه‌السلام واقع في اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم ، فافهم هذا التحقيق ؛ فإنه نفيس وقد حاولت تيسير عبارته عليك ، والله ينفعك به.

١١٤

روى بفتح الحين على البناء ، والكسر أرجح على الإعراب ، ولا يجيز البصريون غيره.

النوع السابع : المبهم المضاف لمبنيّ ، سواء كان زمانا أو غيره ، ومرادي بالمبهم : ما لا يتّضح معناه إلا بما يضاف إليه ، ك «مثل» و «دون» و «بين» ونحوهن ، مما هو شديد الإبهام.

فهذا النوع إذا أضيف إلى مبني جاز أن يكتسب من بنائه ، كما تكتسب النكرة المضافة إلى معرفة من تعريفها ، قال الله تعالى : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) [هود ، ٦٦] ، يقرأ على وجهين : بفتح اليوم على البناء ؛ لكونه مبهما مضافا إلى مبني وهو إذ ، وبجره على الإعراب ، وقال الله تعالى : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن ، ١١] «منا» جار ومجرور خبر مقدم ، و «دون» مبتدأ مؤخر ، وبني على الفتح لإبهامه ، وإضافته إلى مبني وهو اسم الإشارة ، ولو جاءت القراءة برفع «دون» لكان ذلك جائزا ، كما قال آخر :

٢٧ ـ ألم تريا أنّي حميت حقيقتي

وباشرت حدّ الموت والموت دونها

الرواية «دونها» بالرفع.

______________________________________________________

الجر على أنه معرب تأثر بالعامل الذي قبله ، وهو حرف الجر ، والثاني : الفتح على أنه مبني على الفتح في محل جر ، وبعده جملة اسمية من مبتدأ وخبر هي في محل جر بإضافة حين إليها ؛ فدل ذلك على أن لفظ «حين» وشبهه إذا أضيف إلى جملة اسمية جاز فيه وجهان : البناء ، والإعراب ، لكن الإعراب في هذه الحال أرجح من البناء ، وتجويز الأمرين هو ما ذهب إليه علماء الكوفة ، وذهب نحاة البصرة إلى أنه لا يجوز فيه في مثل هذه الحال إلا الجر لفظا على الإعراب ؛ لأنه إنما بني في الشاهد السابق لأنه اكتسب من المضاف إليه البناء فإذا كان المضاف إليه معربا كما هنا فلما ذا يبنى؟!!.

٢٧ ـ هذا بيت من الطويل ، ولم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين.

اللّغة : «حميت حقيقتي» أراد منعت الناس أن يصلوا إليها أو يقربوا منها ، والحقيقة ـ على ما مضى في شرح الشاهد ٢٢ ـ كل ما يجب أن يدافع الإنسان عنه من عرض أو نفس أو مال ، «باشرت حد الموت» أراد بحد الموت حدته وشدته ، «والموت دونها» أي حائل بيني وبينها.

الإعراب : «ألم» الهمزة للاستفهام التقريري ، لم : حرف نفي وجزم وقلب ، «تريا» فعل مضارع ، مجزوم بلم ، وعلامة جزمه حذف النون ، وألف الاثنين فاعل ، مبني على السكون في محل

١١٥

وقال الله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام ، ٩٤] ، يقرأ على وجهين : برفع «بين» على الإعراب ؛ لأنه فاعل ، وبفتحه على البناء ، وقال الله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات ، ٢٣] يقرأ على وجهين : برفع «مثل» على الإعراب ؛ لأنه صفة لحق ، وهو مرفوع ، وبالفتح على البناء.

ثم قلت : أو الفتح أو نائبه ، وهو : اسم لا النّافية للجنس ، إذا كان مفردا ، نحو : «لا رجال» و «لا رجلين» و «لا قائمين» و «لا قائمات» ، وفتح نحو «قائمات» أرجح من كسره.

ولك في الاسم الثّاني من نحو «لا رجل ظريف» و «لا ماء بارد» النّصب ، والرّفع ، والفتح ، وكذا الثّاني من نحو «لا حول ولا قوّة» إن فتحت الأوّل ، فإن رفعته امتنع النصب في الثّاني ، فإن فصل النّعت أو كان هو أو المنعوت غير مفرد امتنع الفتح.

وأقول : الباب الرابع من المبنيات : ما لزم الفتح أو نائبه ـ وهو (١) اثنان : الياء ، والكسرة ـ وذلك اسم لا.

______________________________________________________

رفع ، «أني» أن : حرف توكيد ونصب ، وياء المتكلم اسمه ، «حميت» فعل وفاعل ، «حقيقتي» حقيقة : مفعول به لحميت ، وهو مضاف وياء المتكلم مضاف إليه ، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر أن ، وأن مع ما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول به لترى ، فإذا كانت بصرية لم تحتج إلا إلى مفعول واحد هو هذا المصدر ، وإذا كانت علمية فهي بحاجة إلى مفعولين سدت جملة أن ومعموليها مسدهما ، «وباشرت» جملة من فعل وفاعل معطوفة بالواو على جملة حميت حقيقتي ، «حد» مفعول به لباشر ، وحد مضاف و «الموت» مضاف إليه ، «والموت» الواو واو الحال ، الموت : مبتدأ ، «دونها» دون : خبر المبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة ، ودون مضاف والضمير مضاف إليه ، والجملة من المبتدأ وخبره في محل نصب حال.

الشّاهد فيه : قوله «دونها» ، حيث وردت فيه برفع دون على أنه معرب متأثر بالعامل الذي هو المبتدأ.

__________________

(١) «وهو» أي نائب الفتح شيئان اثنان : أحدهما الياء في المثنى وجمع المذكر ، وثانيهما الكسرة في جمع المؤنث السالم ، على ما سيأتي إيضاحه ، وقوله «وذلك» أي والرابع من المبنيات.

١١٦

وخلاصة القول في ذلك أن «لا» إذا كانت للنفي ، وكان المراد بذلك النّفي استغراق الجنس بأسره بحيث لا يخرج عنه واحد من أفراده ، وكان الاسم مفردا ـ ونعني بالمفرد هنا وفي باب النداء : ما ليس مضافا ولا شبيها بالمضاف ، ولو كان مثنّى أو مجموعا ـ فإنه حينئذ يستحق البناء على الفتح في مسألتين ، والبناء على الياء في مسألتين ، والبناء على الكسر أو الفتح في مسألة واحدة.

أما ما يستحق فيه البناء على الفتح فضابطه : أن يكون الاسم غير مثنّى ولا مجموع ، نحو رجل وفرس ، ، أو مجموعا جمع تكسير ، نحو رجال وأفراس ، تقول : «لا رجل في الدار» و «لا فرس عندنا» و «لا رجال في الدّار» و «لا أفراس عندنا».

وأما ما يستحق فيه البناء على الياء فضابطه : أن يكون الاسم مثنّى أو جمع مذكر سالما ، نحو «لا رجلين» و «لا قائمين» قال الشاعر :

٢٨ ـ تعزّ فلا إلفين بالعيش متّعا

ولكن لورّاد المنون تتابع

وقال الآخر :

______________________________________________________

٢٨ ـ هذا بيت من الطويل ، ولم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ١٥٧) وأنشده الأشموني أيضا (رقم ٢٩٤).

اللّغة : «إلفين» مثنى إلف ـ بكسر الهمزة وسكون اللام ـ وهو الصاحب الأليف ، وأصله مصدر ؛ بدليل قول الشاعر :

زعمتم أنّ إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف

ثم استعمل وصفا مثل النقض والنكس ـ بكسر أولهما وسكون ثانيهما ، «وراد» جمع وارد ، «تتابع» بضم الباء ـ مصدر تتابع الناس ، إذا تبع بعضهم بعضا.

الإعراب : «تعز» فعل أمر ، مبني على حذف الألف ، والفتحة قبلها دليل عليها. وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، «فلا» الفاء حرف دال على التفريع ، لا : نافية للجنس ، «إلفين» اسم لا ، مبني على الياء في محل نصب ، «بالعيش» جار ومجرور متعلق بقوله «متع» الآتي ، «متعا» متع : فعل ماض مبني للمجهول ، وألف الاثنين نائب فاعله ، والجملة في محل رفع خبر لا ، «ولكن» الواو عاطفة ، لكن : حرف استدراك ، «لوراد» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وراد مضاف و «المنون» مضاف إليه ، «تتابع» مبتدأ مؤخر.

١١٧

٢٩ ـ يحشر الناس لا بنين ولا آ

باء إلّا وقد عنتهم شؤون

وأما ما يستحق فيه البناء على الكسر أو الفتح فضابطه أن يكون جمعا بالألف والتاء المزيدتين ، نحو «مسلمات» تقول «لا مسلمات في الدّار» قال الشاعر :

______________________________________________________

الشّاهد فيه : قوله «إلفين» ؛ فإنه قد وقع اسما للا النافية للجنس ، وهو مثنى ؛ فبني على ما كان ينصب عليه وهو الياء ، ألا ترى أنك لو أدخلت عليه عاملا يقتضي نصبه لقلت ورأيت «إلفين» مثلا؟

٢٩ ـ هذا بيت من الخفيف ، وهذا البيت من الشواهد التي لم أعثر لها على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ١٥٨).

اللّغة : «يحشر» أصل معنى الحشر الجمع ، ومنه قولهم : حشر الأمير جنده ، أي جمعهم ، والحشر في عرف الشرع : بعث الناس من القبور ، «عنتهم» أهمتهم ، تقول : عناني أمرك يعنيني ، وعناني يعنوني ، عناية ـ بكسر العين في المصدر أو فتحها ـ وعنيت به مبنيّا للمجهول أو بوزن رضي ـ كل هذا مستعمل وارد عن العرب ، «شؤون» جمع شأن ، وهو الأمر والخطب.

الإعراب : «يحشر» فعل مضارع مبني للمجهول ، «الناس» نائب فاعل ، «لا» نافية للجنس ، «بنين» اسم لا ، مبني على الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم ، وخبر لا محذوف ، «ولا» الواو عاطفة ، لا : نافية للجنس أيضا «آباء» اسم لا ، مبني على الفتح في محل نصب ، والخبر محذوف أيضا ، وجملة لا الثانية مع اسمها وخبرها معطوفة بالواو على جملة لا الأولى واسمها وخبرها ، «إلا» أداة استثناء ، «وقد» الواو واو الحال ، قد : حرف تحقيق ، «عنتهم» عنى : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، وضمير الغائبين مفعول به ، «شؤون» فاعل عني ، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل نصب حال ، وهذا الحال في المعنى مستثنى من عموم الأحوال ، وتقدير الكلام : يحشر الناس لا بنين موجودون ولا آباء موجودون في حال من الأحوال إلا في الحال التي عنتهم وأهمتهم فيها شؤون وأمور خطيرة تلهي كل واحد وتشغله بنفسه عن كل من عداه.

الشّاهد فيه : قوله «بنين» حيث وقع اسم لا جمع مذكر سالما ، وهو قوله «بنين» وبني معها على الياء المكسور ما قبلها المفتوح ما بعدها كما كان ينصب بذلك لو كان معربا. واعلم أن أبا العباس المبرد قد ذهب إلى أن اسم لا إذا كان مثنى أو مجموعا كان معربا ؛ لأن التثنية والجمع من خصائص الأسماء ؛ فهما يعارضان سبب البناء ، ألست ترى أن «أي» الشرطية والاستفهامية معربتان عند عامة العلماء ـ مع تضمنهما معنى الحرف ، بسبب ما عارض شبه الحرف من ملازمتها للإضافة التي هي من خصائص الأسماء ، وهو قول مردود عليه ، والذي يدل على فساد ما ذهب إليه أنه وافق الجمهور على بناء المنادى المثنى على الألف والمجموع

١١٨

٣٠ ـ إنّ الشّباب الذي مجد عواقبه

فيه نلذّ ولا لذّات للشّيب

يروى بكسر «لذّات» وفتحه.

______________________________________________________

جمع مذكر سالما على الواو ، مع وجود ما عارض البناء فيهما ، فهو لم يتخذ مذهبا مطردا ، ولو أنه أخذ في المنادى بما أخذ به في اسم لا لجعل المنادي معربا ، والجمهور سلكوا في البابين مسلكا واحدا ، وما استدل به لا ينهض دليلا على ما ادعاه.

٣٠ ـ هذا بيت من البسيط من كلام سلامة بن جندل السعدي ، من قصيدة طويلة يتحسر فيها على ذهاب شبابه ، وهي بطولها مذكورة في مفضليات الضبي ، وقد استشهد بهذا البيت المؤلف في أوضحه (رقم ١٥٦) وابن عقيل (رقم ١١٠) ويروى صدر البيت هكذا :

* أودى الشباب الذي ...*

اللّغة : «مجد عواقبه» المراد بهذه العبارة أن نهايته محمودة عنده ، «الشيب» جمح أشيب ، مثل بيض في جمع أبيض.

الإعراب : «إن» حرف توكيد ونصب ، «الشباب» اسمه ، «الذي» اسم موصول نعت للشباب ، «مجد» خبر مقدم ، «عواقبه» عواقب : مبتدأ مؤخر ، وعواقب مضاف وضمير الغائب مضاف إليه ، وجملة المبتدأ وخبره لا محل لها صلة الموصول ، «فيه» جار ومجرور متعلق بقوله نلذ الآتي ، «نلذ» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن ، وجملة الفعل وفاعله في محل رفع خبر إن ، «ولا» الواو حرف عطف ، لا : نافية للجنس «لذات» اسم لا ، وهو يروى بالفتح على أنه مبني على الفتح في محل نصب ، ويروى بالكسر على أنه مبني على الكسرة نيابة عن الفتحة في محل نصب ، «للشيب» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا ، أو متعلق بمحذوف صفة للذات ، ويكون خبر لا محذوفا ، ولغة طيّئ تلتزم هذا الوجه ، لأنهم لا يذكرون خبر لا أصلا ، ولهذا قيل في قول حاتم الطائي :

* ولا كريم من الولدان مصبوح*

إن حاتما قد فارق طائيته في هذا البيت ، حيث ذكر خبر لا ، أو يكون «مصبوح» نعتا لكريم على الموضع لأن لا واسمها مبتدأ على ما سيبينه المؤلف ، ويكون خبر لا محذوفا على ما هو المطرد في لغة قومه.

الشّاهد فيه : قوله «لا لذات» فإن قوله «لذات» جمع مؤنث سالم ، وقد وقع اسما للا النافية للجنس كما هو ظاهر ، وقد وردت فيه روايتان : الأولى بفتحه ، والثانية بكسره ، فيدل مجموع هاتين الروايتين على أن جمع المؤنث السالم إذا وقع اسما للا جاز فيه أمران : البناء على الفتح ، والبناء على الكسرة نيابة عن الفتحة كما هو الحال حين يكون معربا منصوبا.

١١٩

ولما ذكرت اسم «لا» أوردت مسألتين يتعلقان بباب «لا».

المسألة الأولى : أن اسمها إذا كان مفردا ، ونعت بمفرد ، وكان النعت والمنعوت متصلين ، نحو «لا رجل ظريفا في الدّار» ؛ جاز لك في النعت ثلاثة أوجه :

أحدها : النصب على محلّ اسم «لا» ؛ فإنه في موضع نصب بلا ، ولكنه بني فلم يظهر فيه إعراب ؛ فتقول : لا رجل ظريفا في الدّار».

والثاني : الرفع على مراعاة محل «لا» مع اسمها ، فإنهما في موضع رفع بالابتداء ؛ فتقول «لا رجل ظريف في الدّار» برفع ظريف ، وإنما كانت «لا» مع «رجل» في موضع رفع بالابتداء ؛ لأن «لا» قد صارت بالتركيب مع «رجل» كالشيء الواحد وقد علمت أن الاسم المصدّر به المخبر عنه حقّه أن يرتفع بالابتداء.

والثالث : الفتح ؛ فتقول : «لا رجل ظريف في الدّار» وهو أبعدها عن القياس فلهذا أخرته في الذكر ، ووجه بعده هو أن فتحه على التركيب ، وهم لا يركبون ثلاثة أشياء ويجعلونها شيئا واحدا ، ووجه جوازه أنهم قدّروا تركيب الموصوف وصفته أوّلا ثم أدخلوا عليهما «لا» بعد أن صارا كالاسم الواحد ، ونظيره قولك «لا خمسة عشر عندنا».

المسألة الثانية : أن «لا» واسمها إذا تكرّرا نحو «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» جاز لك في جملة التركيب خمسة أوجه ، وذلك لأنه يجوز في الاسم الأول وجهان : الفتح ، والرفع ؛ فان فتحته جاز لك في الثاني ثلاثة أوجه : الفتح ، والرفع ، والنصب ، مثال الفتح قوله تعالى : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ)(١) ومثال الرفع قول الشاعر :

٣١ ـ هذا لعمركم الصّغار بعينه

لا أمّ لي ـ إن كان ذاك ـ ولا أب

______________________________________________________

٣١ ـ هذا بيت من الكامل ، وينسب هذا البيت لهمام بن مرة ، وينسب لضمرة بن ضمرة بن قطن ، وينسب لغيرهما ، وقد أنشده المؤلف في أوضحه (رقم ١٦١) وابن عقيل (رقم ١١٢) والأشموني في باب لا (رقم ٢٩٨).

__________________

(١) الطور ، ٣٣ ، وقراءة حفص فيها برفع اللغو والتأثيم.

١٢٠