التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

تعظيم يوم القيامة وإهلاك المكذبين به

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

الإعراب :

(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ الْحَاقَّةُ) الأولى : مبتدأ ، و (مَا) استفهامية ، مبتدأ ثان ، و (الْحَاقَّةُ) الثانية : خبر المبتدأ الثاني ، والمبتدأ الثاني وخبره : خبر عن المبتدأ الأول. وقوله (مَا الْحَاقَّةُ) الأصل : الحاقة ما هي؟ أي أيّ شيء هي؟ فوضع الظاهر موضع المضمر للتفخيم والتعظيم ، فهو أهول لها. (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ مَا) استفهامية مبتدأ ، و (مَا) الثانية : مبتدأ ثان ، و (الْحَاقَّةُ) خبره ، والمبتدأ الثاني وخبره في موضع نصب ب (أَدْراكَ). و (أَدْراكَ) والجملة المتصلة به : في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ الأول. و (أَدْراكَ) يتعدى إلى مفعولين ، والمفعول الأول : الكاف ، والجملة بعده في موضع المفعول الثاني. ولم يعمل (أَدْراكَ) في (مَا) الثانية ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.

(بِالطَّاغِيَةِ) إما مصدر كالعاقبة والعافية ، وإما صفة لموصوف محذوف تقديره : بالصيحة الطاغية ، فحذف الموصوف وأقيم الصفة مقامه.

(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) استئناف أو صفة جيء به لنفي توهم كون الأمور طبيعية.

(سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) حذفت تاء التأنيث من (سَبْعَ) وأثبتت في (ثَمانِيَةَ)

٨١

لأن الليالي جمع مؤنث والأيام جمع مذكر ، و (حُسُوماً) : إما منصوب على الوصف لقوله : (أَيَّامٍ) أو منصوب على المصدر ، أي تباعا. و (صَرْعى) حال من (الْقَوْمَ) لأن (فَتَرَى) من رؤية البصر ، و (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ) : في موضع نصب على الحال من ضمير (صَرْعى). وتقديره : مشبهين أعجاز نخل ، و (خاوِيَةٍ) : صفة لنخل ، وقال (خاوِيَةٍ) بالتأنيث ؛ لأن النخل يجوز فيه التأنيث والتذكير مثل (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ).

(فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) يقرأ بالإدغام ، لقرب التاء من مخرج اللام.

البلاغة :

(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) إطناب بتكرار الاسم للتهويل والتعظيم.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) ثم قال : (فَأَمَّا ثَمُودُ وَأَمَّا عادٌ) تفصيل بعد إجمال ، وفيه لف ونشر مرتب.

(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) تشبيه مرسل مجمل ، فيه الأداة ، وحذف وجه الشبه.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) استعارة ، شبه ارتفاع الماء بطغيان الإنسان على الإنسان.

المفردات اللغوية :

(الْحَاقَّةُ) أي الساعة الثابتة المجيء ، الواجبة الوقوع ، وهي القيامة ، التي يحق ، أي يثبت ويجب حدوثها وما اشتملت عليه من البعث والحساب والجزاء الذي أنكره المنكرون. (مَا الْحَاقَّةُ) أي أي شيء هي؟ وضع الظاهر فيها موضع الضمير ، تفخيما لشأنها ، وتعظيما لهولها. (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) أي وأيّ أعلمك ما هي؟ أي إنك لا تعلم كنهها ، فإنها أعظم من أن يدري بها أحد ، والجملة زيادة تعظيم لشأنها.

(بِالْقارِعَةِ) القيامة التي تقرع القلوب بالإفزاع ، وتهز النفوس بأهوالها ، والمواد بالانفطار والانتثار ، وإنما وضعت موضع ضمير (الْحَاقَّةُ) زيادة في وصف شدتها.

(بِالطَّاغِيَةِ) الواقعة التي جاوزت الحد في الشدة والقوة ، وهي الصيحة أو الرجفة ، أي الصاعقة ، وسبب إهلاكهم : تكذيبهم بالقارعة ، وطغيانهم بالكفر والمعاصي. (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) شديدة الصوت والبرد ، من الصّرّة أي الصيحة ، أو من الصّر أي البرد الذي يضرب النبات والحرث. (عاتِيَةٍ) شديدة القوة والعصف. (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) سلّطها عليهم بقدرته. (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) قال المحلي : أولها من صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال ، وكانت في عجز الشتاء وهي أيام العجوز أو العجائز ، سميت عجوزا ؛ لأنها عجز للشتاء. (حُسُوماً) متتابعات ، أو من الحسم : وهو القطع والاستئصال.

٨٢

(فَتَرَى الْقَوْمَ) إن كنت حاضرا في مهابها أو في الليالي والأيام. (صَرْعى) موتى مطروحين هالكين ، جمع صريع. (أَعْجازُ نَخْلٍ) أصول نخل. (خاوِيَةٍ) ساقطة فارغة. (مِنْ باقِيَةٍ) أي من نفس باقية. أو بقاء ، أو بقية أو باق ، والتاء للمبالغة.

(وَمَنْ قَبْلَهُ) من تقدّمه من الأمم الكافرة ، وقرئ : (وَمَنْ قَبْلَهُ) أي أتباعه وجنوده. (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) المنقلبات وهي قرى قوم لوط ، والمراد : أهلها. (بِالْخاطِئَةِ) بالخطإ ، أو بالفعلة ذات الخطأ. (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) عصى كل أمة رسولها. (رابِيَةً) زائدة في الشدة ، زيادة أعمالهم في القبح ، من ربا الشيء : زاد.

(طَغَى الْماءُ) جاوز حده المعتاد ، وارتفع وعلا فوق كل شيء من الجبال وغيرها زمن الطوفان. (حَمَلْناكُمْ) أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. (الْجارِيَةِ) السفينة التي تجري في الماء ، وهي التي صنعها نوح عليه السلاح بإلهام الله وتعليمه ، ونجا بها هو ومن كان معه مؤمنا ، وغرق الآخرون. (لِنَجْعَلَها لَكُمْ) لنجعل الفعلة ، وهي إنجاء المؤمنين وإهلاك وإغراق الكافرين. (تَذْكِرَةً) عظة. (وَتَعِيَها) وتحفظها. (أُذُنٌ واعِيَةٌ) حافظة لما تسمع ، أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه لتذكره وإشاعته والتفكر فيه والعمل بموجبه. وتنكير كلمة (أُذُنٌ) للدلالة على قلتها.

التفسير والبيان :

افتتح الله سورة الحاقة بما يدل على تعظيم شأنها ، وتفخيم أمرها ، وتهويل يومها فقال:

(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ الْحَاقَّةُ) هي القيامة ، سميت بذلك ؛ لأن الأمور تحقّ فيها ، وتثبت وتقع من غير شك ولا ريب ، و (الْحَاقَّةُ) يوم الحق ؛ لأنها تظهر فيها الحقائق.

والمعنى : القيامة التي يتحقق فيها الوعد والوعيد ، والساعة الواجبة الوقوع ، الثابتة المجيء ، أيّ شيء هي في حالها وصفاتها؟ فهي عظيمة الشأن ، شديدة الهول ، لا يدرك حقيقتها ولا يتصور أوصافها غير الله عزوجل. وأي شيء أعلمك بها أيها النبي الرسول؟ فهي خارجة عن دائرة علم المخلوقين ، لعظم شأنها ، وشدة هولها.

٨٣

قال يحيى بن سلام : بلغني أن كل شيء في القرآن : (وَما أَدْراكَ) فقد أدراه إياه وعلمه ، وكل شيء قال : (وَما يُدْرِيكَ) فهو مما لم يعلمه.

وقال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه : (وَما أَدْراكَ) فإنه أخبر به ، وكل شيء قال فيه : (وَما يُدْرِيكَ) فإنه لم يخبر به.

ثم ذكر الله تعالى نوع العقاب الذي أوقعه بالأمم السابقة التي كذبت بالقيامة تخويفا لأهل مكة وغيرهم ، فقال :

ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي كذبت قبيلة ثمود قوم صالح ، وقبيلة عاد قوم هود بالقيامة وهي القارعة التي تقرع الناس بأهوالها ، والمواد بالانفجار والانتثار. ثم فصل الله تعالى أنواع العقاب ونتائجه فقال :

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي فأما جماعة ثمود قوم صالح عليه‌السلام ، فأهلكوا هلاكا تاما بالطاغية : وهي الصيحة أو الصاعقة أو الرجفة التي جاوزت الحد في الشدّة ، كما قال تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [هود ١١ / ٦٧] أي الصاعقة ، وقال سبحانه : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [الأعراف ٧ / ٧٨ ، ٩١] أي الزلزلة ، فالألفاظ مختلفة ، ولكن معانيها واحدة.

(وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) وأما قبيلة عاد قوم هود عليه‌السلام ، فأهلكوا هلاكا ساحقا بريح شديدة الصوت ، شديدة البرد ، قاسية شديدة الهبوب ، جاوزت الحد لشدة هولها ، وطول زمنها وشدة بردها ، عتت عليهم بغير رحمة ولا شفقة ، وسلطها الله وأرسلها عليهم طوال مدة مستمرة هي سبع ليال وثمانية أيام لا تنقطع ولا تهدأ ، وكانت تقتلهم بالحصباء ، متتابعات ، تحسمهم حسوما ، أي تفنيهم وتذهبهم.

٨٤

وكانت عادة القرآن تقديم قصة عاد على ثمود ، إلا أنه قلب هاهنا ؛ لأن قصة ثمود بنيت على غاية الاختصار ، ومن عادتهم تقديم ما هو أخصر.

(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى ، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)؟ أي فتشاهد إن كنت حاضرا أولئك القوم في ديارهم أو في تلك الأيام والليالي مصروعين بالأرض موتى ، كأنهم أصول نخل ساقطة أو بالية ، لم يبق منهم أحد ، فهل تحس منهم من أحد من بقاياهم؟ بل بادوا عن آخرهم ، ولم يجعل الله لهم خلفا ، كما جاء في قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف ٤٦ / ٢٥].

وثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور».

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) أي وأتى الطاغية فرعون ومن تقدمه من الأمم الكافرة وأهل المنقلبات قرى قوم لوط بالفعلة الخاطئة ، وهي الشرك والمعاصي.

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ، فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي فعصت كل أمة رسولها المرسل إليها ، فأهلكهم الله ودمّرهم ، وأخذهم أخذة أليمة شديدة زائدة على عقوبات سائر الكفار والأمم.

ونظير مطلع الآية قوله تعالى : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ ، فَحَقَّ عِقابِ) [ص ٣٨ / ١٤] وقوله سبحانه : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ، فَحَقَّ وَعِيدِ) [ق ٥٠ / ١٤] ومن كذب برسول فقد كذّب الجميع ، كما قال تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٠٥] (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٢٣] (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٤١] (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٦٠].

٨٥

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً ، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي إننا لما تجاوز الماء حده وارتفع بإذن الله ، وجاء الطوفان في زمن نوح عليه‌السلام ، حملنا آباءكم المؤمنين وأنتم في أصلابهم ، في السفينة التي تجري في الماء ، لينجوا من الغرق ، ولنجعل نجاة المؤمنين ، وإغراق الكافرين عبرة وعظة ، تستدلون بها على عظيم قدرة الله ، وبديع صنعه ، وشدة انتقامه ، ولتفهمها وتحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت. فقوله : (لِنَجْعَلَها .. وَتَعِيَها) عائد إلى الواقعة المعلومة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة.

روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن مكحول مرسلا قال : لما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت ربي أن يجعلها أذن علي» قال مكحول : فكان علي يقول : ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا قط ، فنسيته.

وأما خبر بريدة في أن الآية نزلت بسبب علي رضي‌الله‌عنه فهو غير صحيح.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يلي :

١ ـ تفخيم شأن القيامة ، وتعظيم أمرها ، والتخويف من أهوالها ، ولا شك أنها تفزع الناس بالأفزاع والأهوال ، والسماء بالانشقاق ، والأرض بالدكّ ، والنجوم بالطمس إلى غير ذلك.

٢ ـ وجوب الاتعاظ والاعتبار بمصير الأمم السابقة التي كذبت رسلها ، وقد ذكرت الآيات هنا ثلاث قصص : قصة عاد وثمود الذين كذبوا بالقارعة وهي القيامة التي تقرع الناس بأهوالها ، وقصة فرعون ومن تقدمه وقوم لوط ، وقصة نوح عليه‌السلام مع قومه.

٨٦

أما ثمود فأهلكوا بالصيحة الطاغية ، أي المجاوزة للحدّ ، حد الصيحات من الهول ، وأما ثمود فأهلكوا بريح باردة تحرق ببردها كإحراق النار ، شديدة الهبوب ، غضبت لغضب الله عزوجل ، أرسلها وسلطها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية متتابعة ، لا تفتر ولا تنقطع ، فصار القوم في تلك الليالي والأيام موتى هالكين ، كأصول نخل بالية متآكلة الأجواف لا شيء فيها.

وأما فرعون وجنوده فأهلكوا بالإغراق في البحر ، وأما المؤتفكات أهل قرى لوط ، فدمروا بالريح التي ترميهم بالحصباء تدميرا شاملا بعقوبة زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار ، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار ، وهي الكفر والفواحش.

وأما قوم نوح فأغرقوا بالطوفان ، ونجّى الله نوحا ومن آمن معه بركوبهم في السفينة التي صنعها نوح بإلهام من الله تعالى ، ليجعل الله ذلك تذكرة وعظة لهذه الأمة ، وتحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله.

بعض أهوال القيامة

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

الإعراب :

(نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) نائب فاعل ، ووصف (نَفْخَةٌ) ب (واحِدَةٌ) وإن كانت النفخة لا تكون إلا واحدة ، على سبيل التأكيد ، كقوله تعالى : (وَقالَ اللهُ : لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ)

٨٧

[النحل ١٦ / ٥١] وإن كان الإلهان لا يكونان إلا اثنين للتأكيد. وجاء تذكير (نُفِخَ) لأن تأنيث النفخة غير حقيقي.

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ..) يومئذ : ظرف منصوب متعلق ب (وَقَعَتِ) ، وكذلك (يَوْمَئِذٍ) الثانية يتعلق ب (واهِيَةٌ) وكذلك يومئذ في (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) يتعلق ب (تُعْرَضُونَ).

البلاغة :

(وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) بينهما جناس اشتقاق ، وكذلك مثله (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ).

المفردات اللغوية :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) هي النفخة الأولى التي عندها خراب العالم ، والصور : البوق. (حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) رفعت من أماكنها. (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) دقتا وضرب بعضها ببعض ، فصارت أرضا مستوية لا عوج فيها ، وكتلة واحدة. والدك والدق متقاربان في المعنى ، غير أن الدك أبلغ. (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي فحينئذ قامت القيامة ، والواقعة : النازلة. (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) تصدعت وتشققت وتبددت. (واهِيَةٌ) مختلة ضعيفة مسترخية لا تماسك بين أجزائها.

(وَالْمَلَكُ) الملائكة ، فالمراد به الجنس. (عَلى أَرْجائِها) جوانب السماء وأطرافها ، جمع رجا أي جانب. (فَوْقَهُمْ) فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء. (ثَمانِيَةٌ) ثمانية أملاك.

(تُعْرَضُونَ) للحساب. (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) لا تخفى سريرة من السرائر.

المناسبة :

بعد أن بالغ الله تعالى في تهويل القيامة ، وذكر القصص الثلاث لبيان مآل المكذبين بها ، تفخيما لشأنها ، وتنبيها على إمكانها ، شرع سبحانه في بيان تفاصيل أحوال القيامة وأهوالها ، وابتدأ بمقدماتها.

التفسير والبيان :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) أي فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى التي يكون عندها خراب العالم. وهذا إخبار عن أهوال يوم القيامة.

٨٨

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي رفعت من أماكنها ، وأزيلت من مواقعها بالقدرة الإلهية ، فضرب بعضها ببعض ضربة واحدة ، حتى صارت كتلة واحدة ، ورجعت كثيبا مهيلا منثورا ، وتبددت وتغيرت عما هو معروف ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ..) [إبراهيم ١٤ / ٤٨]. والدك أبلغ من الدق.

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) فحينئذ قامت القيامة ، ووقعت النازلة.

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ ، فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي وتصدعت السماء ، فهي في ذلك اليوم ضعيفة مسترخية غير متماسكة الأجزاء بعد أن كانت قوية محكمة البناء.

(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها ، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي وتكون الملائكة على جوانب السماء وحافاتها على أهبة الاستعداد لتنفيذ ما يأمرهم به الله عزوجل ، ويحمل عرش ربك فوق رؤوس الملائكة الذين هم على الأرجاء ثمانية أملاك ، وقيل : ثمانية صفوف من الملائكة ، لا يعلم عددهم إلا الله عزوجل. والعرش : أعظم المخلوقات. وحمل العرش مجاز ؛ لأن حمل الإله محال ، فلا بد من التأويل ، وهو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفون ، وعلى سبيل الرمز ، كإيجاد البيت (الكعبة) وجعل الحفظة على العباد ، لا للسكنى في البيت ، ولا بسبب احتمال النسيان.

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي في ذلك اليوم يعرض العباد على الله لحسابهم ، فلا يخفى على الله سبحانه من ذواتكم وأقوالكم وأفعالكم وأموركم خافية كائنة ما كانت ، فهو يعلم السرّ وأخفى ، ويعلم بالظواهر والسرائر والضمائر ، وتعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلا ، ليكتمل سرور المؤمنين ويعظم توبيخ المذنبين.

والعرض : عبارة عن المحاسبة والمساءلة ، شبه ذلك بعرض السلطان

٨٩

العسكر ، لتعرف أحواله ، وقد صور الله تعالى تلك الصورة المهيبة ، لا لأنه يقعد على السرير.

وفي هذا تهديد شديد ، ووعيد وزجر أكيد ، وإخبار بخطورة الحساب العسير.

روى ابن أبي الدنيا عن ثابت بن الحجاج قال : قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزيّنوا للعرض الأكبر : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ)».

وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطّيّر الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه ، وآخذ بشماله» لكن الترمذي رواه عن أبي هريرة. ورواه ابن جرير أيضا عن عبد الله بن مسعود.

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل الآيات على ما يأتي :

١ ـ من مقدمات القيامة : نفخة إسرافيل في الصور (البوق). والمراد النفخة الأولى ، قال ابن عباس : هي النفخة الأولى لقيام الساعة ، فلم يبق أحد إلا مات.

٢ ـ من أهوال القيامة ومخاوفها : صيرورة الأرض والجبال كالجملة الواحدة متفتتة متكسرة إما بقدرة الله من غير واسطة ، وإما بالزلزلة التي تكون في

٩٠

القيامة ، وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال ، أو بملك من الملائكة.

٣ ـ بعد النفخة الأولى في الصور وتفتت الأرض والجبال تقوم القيامة ، وتتصدع السماء وتتفطّر ، وتصبح ضعيفة واهية غير متماسكة الأجزاء ، إيذانا بزوالها وتبدلها وخرابها ، بعد ما كانت محكمة شديدة.

٤ ـ تكون الملائكة حين انشقاق السماء على أطرافها ، بعد أن كانت السماء مكانهم ، فإذا انشقت صاروا في أطرافها ، ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السّوق إليها ، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة.

٥ ـ يكون فوق أولئك الملائكة ثمانية أملاك أو ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا الله يحملون العرش الذي أراده الله بقوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) [المؤمن ٤٠ / ٧] وقوله : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الزمر ٣٩ / ٧٥]. ذكر الثعلبي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن حملة العرش اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين ، فكانوا ثمانية». وخرجه الماوردي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحمله اليوم أربعة ، وهم يوم القيامة ثمانية».

٦ ـ في يوم القيامة الرهيب يعرض العباد على الله للحساب والجزاء ، كما قال تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) [الكهف ١٨ / ٤٨] وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به ، بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة ، فلا يخفى على الله من أمورهم شيء ، فالله عالم بكل شيء من الأعمال. وكل من الحمل والعرض لا يعني التجسيم والتشبيه بالمخلوقات ، وإنما للتصوير والرمز والتقريب إلى الأذهان.

٩١

حال الأبرار الناجين بعد الحساب

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

الإعراب :

(هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ هاؤُمُ) : اسم فعل أمر بمعنى خذوا ، و (كِتابِيَهْ) : مفعول منصوب ل (اقْرَؤُا) وفيه دليل على إعمال الفعل الثاني ، ولو أعمل الأول لقال : «اقرؤوه» ففيه تنازع بين (هاؤُمُ) و (اقْرَؤُا).

(هَنِيئاً) حال ، أي متهنئين.

(كُلُوا) إنما جمع الخطاب في (كُلُوا) بعد قوله : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ) لقوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ) و (مَنْ) مضمّن معنى الجمع.

البلاغة :

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ : هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) مقابلة مع ما بعده : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ..).

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، قُطُوفُها دانِيَةٌ ... الْخالِيَةِ) توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات ، ويسمى في علم البديع السجع المرصع.

المفردات اللغوية :

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) تفصيل للعرض على الله. (فَيَقُولُ) تفاخرا. (هاؤُمُ) خذوا. (ظَنَنْتُ) تيقنت أو علمت. (مُلاقٍ) معاين. (راضِيَةٍ) ذات رضا ، يرضى بها أصحابها. (عالِيَةٍ) مرتفعة المكان والدرجات. (قُطُوفُها) ثمارها ، أي ما يجتني من الثمر ، جمع قطف : وهو ما يجتنى بسرعة ، والقطف بالفتح : المصدر. (دانِيَةٌ) قريبة ، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع.

٩٢

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي يقال لهم : أكلا وشربا هنيئا ، أو هنئتم هنيئا ، أو متهنئين. (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) الماضية في الدنيا.

المناسبة :

بعد الإخبار بأن جميع العباد يعرضون على الله للحساب والجزاء دون أن يخفى عليه شيء من أمورهم ، أخذ في تفصيل عرض الكتب ، ومردودها على أصحابها ، مبتدئا بأهل اليمين ، ثم بأهل الشمال.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه بيمينه يوم القيامة وفرحه بذلك ، فقال :

(فَأَمَّا (١) مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَيَقُولُ : هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) أي فأما من أعطي كتابه الذي كتبته الحفظة عليه من أعماله بيمينه ، فيقول من شدة فرحه وابتهاجه لكل من لقيه : خذوا هذا الكتاب فاقرؤوا ما فيه ، لعلمه أنه صار من الناجين ، بعد أن كان خائفا مضطربا شأن أهل المحشر ، كما قال تعالى :

(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي غلب على ظني أني ألاقي حسابي ، فيؤاخذني الله بسيئاتي ، ولكنه تعالى تفضل علي بالعفو ، ولم يؤاخذني بها.

والمعنى عند أكثر المفسرين : علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة ، وأن هذا اليوم كائن لا محالة ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة ٢ / ٤٦]. قال الضحاك : كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد : ظن الآخرة يقين ، وظن الدنيا شك.

__________________

(١) أما : حرف تفصيل ، فصل بها ما وقع في يوم العرض.

٩٣

قال الزمخشري : وإنما أجري الظن مجرى العلم (اليقين) لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام ، يقال : أظن ظنا كاليقين أن الأمر كيت وكيت.

ويؤيد المعنى الأول للآية ما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يدني الله العبد يوم القيامة ، فيقرّره بذنوبه كلها ، حتى إذا رأى أنه قد هلك ، قال الله تعالى : إني سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه ، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ، أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود ١١ / ١٨]».

ثم أبان الله تعالى مصير المؤمن التقي البار أو عاقبة أمره ، فقال :

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي فهو في عيشة مرضية خالية من المكدّرات ، غير مكروهة ، في جنة مرتفعة المكان ، رفيعة القدر ، عالية المنازل ، نعيمة الدور ، دائمة الحبور ، ثمارها قريبة التناول ، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع.

روى الطبراني عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ، أدخلوه جنة عالية ، قطوفها دانية». ورواه الضياء بلفظ : «يعطى المؤمن جوازا على الصراط : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان ، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية».

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي ويقال لهم : كلوا يا أيها المتقون الأبرار في الجنة من طيباتها وثمارها ، واشربوا من أشربتها أكلا وشربا

٩٤

هنيئا ، أي لا تكدير فيه ولا تنغيص ، جزاء لما عملتم ، وبسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا.

وهذا تفضل من الله عليهم وامتنان وإنعام وإحسان ؛ لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اعملوا وسدّدوا وقاربوا ، واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنة قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة ، فيقول المؤمن الناجي ثقة بالإسلام وسرورا بنجاته لكل من يلقاه من جماعته : هلموا وخذوا واقرؤوا كتابي هذا ، إني ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي ويعذبني ، ولكنه تفضل علي بعفوه ولم يؤاخذني بها. وقال ابن عباس وغيره عن قوله : (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي أيقنت وعلمت أني ملاق حسابي في الآخرة ، ولم أنكر البعث ، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب ؛ لأنه تيقن أن الله يحاسبه ، فعمل للآخرة. ذكر الثعلبي عن ابن عباس قال : أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب ، وله شعاع كشعاع الشمس ، قيل له : فأين أبو بكر؟ فقال : هيهات هيهات!! زفّته الملائكة إلى الجنة.

٢ ـ يكون الناجي في عيش يرضاه لا مكروه فيه ، أو في عيشة مرضية ، في جنة عالية ، أي عظيمة في النفوس ، ثمارها قريبة التناول ، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع.

جاء في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنهم يعيشون ، فلا يموتون أبدا ،

٩٥

ويصحّون فلا يمرضون أبدا ، وينعمون فلا يرون بأسا أبدا ، ويشبّون فلا يهرمون أبدا».

٣ ـ يقال للناجين من قبل ربهم ، أو بواسطة الملائكة خزنة الجنة : كلوا واشربوا في الجنة أكلا وشربا هنيئا لا تكدير فيه ولا تنغيص ، بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة.

والآيات تعم جميع أهل السعادة ، كما أن الآيات التالية تعم جميع أهل الشقاوة.

حال الأشقياء يوم القيامة

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))

الإعراب :

(يا لَيْتَنِي) يا : للتنبيه. (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ما) إما استفهامية على سبيل الإنكار في موضع نصب ؛ لأنها مفعول (أَغْنى). (مالِيَهْ) فاعله ، وتقديره : أي شيء أغنى عنّي ماليه؟ أو أن تكون (ما) نافية ، ويكون مفعول (أَغْنى) محذوفا ، وتقديره : ما أغنى ماليه شيئا ، فحذفه. والهاء في (مالِيَهْ) للسكت ، وإنما أدخلت صيانة للحركة عن الحذف ، وتثبت وقفا ووصلا اتباعا لمصحف الإمام والنقل المتواتر.

٩٦

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ حَمِيمٌ) اسم ليس ، وخبرها الجار والمجرور ، وهو (لَهُ). ولا يجوز أن يكون (الْيَوْمَ) هو الخبر ؛ لأن (حَمِيمٌ) جثة ، واليوم ظرف زمان ، وظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث ، وإنما تدل على وجود حدث بعدها.

البلاغة :

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) توافق الفواصل ، مراعاة لرؤوس الآيات ، ويسمى في علم البديع كما تقدم السجع المرصّع.

المفردات اللغوية :

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ) يقول لما يرى من قبح العمل وسوء العاقبة. (يا لَيْتَها) يا ليت الموتة التي متها في الدنيا. (كانَتِ الْقاضِيَةَ) القاطعة لأمري وحياتي ، فلم أبعث بعدها. (مالِيَهْ) مالي من المال. (سُلْطانِيَهْ) حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا ، أو ملكي وسلطاني على الناس.

(خُذُوهُ) خطاب لخزنة جهنم. (فَغُلُّوهُ) شدّوه في الأغلال ، واجمعوا يديه إلى عنقه في الغلّ : وهو ما يكبل به الأسير أو المتهم من القيود والسلاسل. (الْجَحِيمَ) النار المحرقة. (صَلُّوهُ) أدخلوه وأوردوه إياها ، يصلى نارها ويحترق بها. (ذَرْعُها) طولها. (سَبْعُونَ ذِراعاً) المراد أنها سلسلة طويلة ، والمراد ذراع الملك. (فَاسْلُكُوهُ) أدخلوه فيها بعد إدخاله في النار ، بأن تلفّوها على جسده كيلا يتحرك فيها. وتقديم الجحيم والسلسلة للدلالة على التخصيص ، والاهتمام بذكر أنواع ما يعذب به ، وكلمة (ثُمَ) لتفاوت ما بينهما في الشدة.

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) تعليل على طريقة الاستئناف للمبالغة ، وذكر صفة (الْعَظِيمِ) للإشعار بأنه هو المستحق للعظمة ، فيجب الإيمان به. (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) لا يحث على إطعامه ، فضلا عن أن يبذل من ماله. (حَمِيمٌ) قريب مشفق يحميه أو صديق ينتفع به. (غِسْلِينٍ) صديد أهل النار وما يسيل منهم من قيح أو دم. (الْخاطِؤُنَ) الآثمون ، أصحاب الخطايا ، من خطئ الرجل : إذا تعمد الذنب ، لا من الخطأ المضاد للصواب.

المناسبة :

بعد بيان حال السعداء في معايشهم وسكناهم في الجنة ، بيّن الله تعالى للموازنة والمقارنة والعبرة حال الأشقياء الكفار في الآخرة ، وتعرضهم لألوان

٩٧

العذاب في نار جهنم ، مع بيان سبب ذلك : وهو عدم الإيمان بالله العظيم ، والإعراض عن مساعدة المساكين البائسين.

التفسير والبيان :

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) أي وأما الشقي الذي يعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره ، فيقول حزنا وكربا ، وألما وندما لما رأى فيه من سيئاته وقبيح أعماله : يا ليتني لم أعط كتابي. وهذا دليل على وجود العذاب النفسي قبل العذاب الجسدي.

(وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي ولم أعلم أيّ شيء حسابي الذي أحاسب به ؛ لأن كله وبال علي ، ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاطعة نهاية الحياة ، ولم أحي بعدها ، فهو يتمنى دوام الموت وعدم البعث ، لما شاهد من سوء عمله ، وما يصير إليه من العذاب. قال قتادة : تمني الموت ، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه. ونظير الآية : (وَيَقُولُ الْكافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ ٧٨ / ٤٠].

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ما أفادني ما لي شيئا ، ولم يدفع عني شيئا من عذاب الله ، وفقدت حجتي ، وذهب منصبي وجاهي وملكي ، فلم يدفع عني العذاب ، بل خلص الأمر إلي وحدي ، فلا معين لي ولا مجير. قال أبو حيان : الراجح قول ابن عباس ومن ذكر معه أن السلطان هنا هو الحجة التي كان يحتج بها في الدنيا ؛ لأن من أوتي كتابه بشماله ليس مختصا بالملوك ، بل هو عام في جميع أهل الشقاوة (١). وحينئذ يقول الله عزوجل مبينا مصيره وعاقبة أمره :

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٣٢٥ وما بعدها.

٩٨

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) أي يأمر الله الزبانية قائلا : خذوه مكبّلا بالقيود والأغلال ، بجمع يده إلى عنقه في الغلّ ، ثم أدخلوه الجحيم ليصلى حرها ، ثم أدخلوه في سلسلة (حلق منتظمة) طولها سبعون ذراعا تلفّ على جسمه ، لئلا يتحرك.

ثم بيّن الله تعالى سبب وعيده الشديد وعذابه قائلا :

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي إنه كان كافرا جاحدا لا يصدق بالله صاحب العظمة والسلطان ، ولا يحث على إطعام الفقير والمسكين البائس ، فضلا عن عدم بذله المال للبائسين ، والمعنى أنه لا يؤدي حقوق الله من توحيده وعبادته وعدم الشرك به ، ولا يؤدي حقوق العباد من الإحسان والمعاونة على البر والتقوى. وفي ذكر الحض دون الفعل تشنيع ، يفيد أن تارك الحض كتارك الفعل. وفي الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.

والعذاب متعين لازم له ، كما قال تعالى :

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي ليس له يوم القيامة قريب ينفعه ، أو صديق يشفع له ، أو ينقذه من عذاب الله تعالى ، كما جاء في آية أخرى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر ٤٠ / ١٨]. وقوله : (هاهُنا) إشارة إلى مكان عذابهم.

وطعامه ما وصف تعالى :

(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ، لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي وليس له طعام إلا ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد ودم وقيح ، لا يأكله إلا أصحاب الخطايا والذنوب. قال قتادة عن الغسلين : هو شر طعام أهل النار. والطعام : اسم بمعنى الإطعام ، كالعطاء اسم بمعنى الإعطاء.

٩٩

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إذا كان المؤمن يفاخر بكتابه ابتهاجا وفرحا ، فإن الكافر الشقي يتمنى الموت ، ويكره البعث والعودة إلى الحياة مرة أخرى. قال القفّال : تمنى الموت حين رأى من الخجل وسوء المنقلب ما هو أشدّ وأشنع من الموت.

٢ ـ ذكر الله تعالى سرور السعداء أولا ، ثم ذكر أحوالهم في العيش الطيب وفي الأكل والشرب ، ثم ذكر هنا غم الأشقياء وحزنهم ، ثم ذكر أحوالهم حينما يزج بهم في نار جهنم في الغلّ والقيد ، وتناول طعام الغسلين ، والتصلية (١) في الجحيم (وهي النار العظمى) وإدخاله في سلسلة طولها سبعون ذراعا بذراع الملك.

٣ ـ سبب الظفر بالجنة للمؤمنين السعداء الإيمان والأعمال الصالحة في الدنيا ، وسبب العذاب والوعيد الشديد للأشقياء : هو عدم الإيمان بالله العظيم وعدم بذل المال للمساكين.

٤ ـ دلت آية (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) على أن الكفار يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة. وهو المراد من قول جمهور الأصوليين : إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. عن أبي الدرداء : أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع النصف الباقي!

٥ ـ ليس للشقي في الآخرة حميم ، أي قريب يدفع عنه العذاب ، ويحزن عليه ؛ لأنهم يتحامون ويفرّون منه ، كقوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج ٧٠ / ١٠] وقوله : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر ٤٠ / ١٨].

__________________

(١) قال المبرّد : أصليته النار : إذا أوردته إياها ، وصلّيته أيضا ، كما يقال : أكرمته وكرّمته.

١٠٠