التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم ، وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع قالوا :

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي بل في الحقيقة والواقع حرمنا الله ثمر جنتنا ، بسبب عزمنا على منع المساكين وحرمانهم من خيرها ، فلا حظ لنا ولا نصيب ، ونحن نادمون على ما فعلنا ، كما أخبر تعالى فيما يأتي :

(قالَ أَوْسَطُهُمْ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي قال أمثلهم وأعقلهم وأعدلهم وخيرهم رأيا وتدينا : هلا تسبّحون الله وتذكرونه وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم ، وتستغفرون الله من فعلكم وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها.

ولما صدموا بالحقيقة المرة ذكروا الله واعترفوا بذنبهم قائلين :

(قالُوا : سُبْحانَ رَبِّنا ، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي قالوا : تنزيها لله عن أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا ، فإنا كنا ظالمين أنفسنا في حرماننا المساكين حقوقهم. ولكنهم أتوا بالطاعة حيث لا تنفع ، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع الندم.

ثم لام بعضهم بعضا كما قال تعالى :

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي ثم أخذ بعضهم يلوم بعضا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ أي القطاف ، ولم يجدوا سبيلا إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب ، والدعاء على أنفسهم بالهلاك ، فقال تعالى :

(قالُوا : يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي قالوا : يا هلاكنا أقبل ، فإنا كنا معتدين متجاوزين الحد ، حتى أصابنا ما أصابنا.

٦١

ثم دعوا ربهم أن يعوضهم عما حلّ بهم ، فقالوا :

(عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها ، إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي لعل الله ربّنا أن يعطينا بدلا خيرا من جنتنا ، فإنا راجون العفو والخير منه. قال مجاهد : إنهم تابوا فأبدلوا خيرا منها.

ثم ذكر الله تعالى العبرة من القصة ، فقال :

(كَذلِكَ الْعَذابُ ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل الجنة من الحرمان ، وأهل مكة من القحط والقتل عذاب الدنيا ، وهو عذاب كل من خالف أمر الله ، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ، ومنع حق المسكين والفقير ، وإن عذاب الآخرة أشد وأعظم وأشق من عذاب الدنيا ، فلو كان المشركون يعلمون ذلك ، لعادوا إلى رشدهم ، وبادروا إلى الإيمان بدعوة النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقلعوا عن الغي والضلال ، ولكنهم لا يعلمون. وهذا دليل على غفلتهم وجهلهم وبعدهم عن الحق والصواب.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت قصة أصحاب الجنة على ما يأتي :

١ ـ الدنيا دار ابتلاء واختبار ، فقد ابتلى الله تعالى أصحاب الجنة (البستان) وابتلى أهل مكة ، بأن أعطاهم ربّهم أموالا ليشكروا ، لا ليبطروا ، فلما بطروا ، وعادى المشركون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ابتلاهم بالجوع والقحط ، كما ابتلى (اختبر) أهل الجنة المعروف خبرها عندهم ؛ لأنهم من أهل اليمن القريبة منهم ، على بعد ستة أميال من صنعاء.

٢ ـ قال بعض العلماء : على من حصد زرعا أو جدّ ثمرة أن يواسي منها من حضره ، وذلك معنى قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام ٦ / ١٤١]

٦٢

وأنه غير الزكاة ، لذا نهي عن الحصاد في الليل ، لا خشية الحيّات وهوّام الأرض ؛ لأن عقوبة أصحاب الجنة كانت بسبب ما أرادوه من منع المساكين ، كما ذكر الله تعالى.

٣ ـ دلّ قوله تعالى : (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان ؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا ، فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ، نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج ٢٢ / ٢٥]. وفي الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه».

٤ ـ إن الإنسان ضعيف القوة والتدبير والرأي ، فلقد أحكم أصحاب الجنة الخطّة ، وصمموا على صرام الزرع والثمر أو العنب في الصباح الباكر قبل أن ينتشر المساكين في البساتين ، وذهبوا جادين مسرعين ، متسارّين ، أي يخفون كلامهم ويسرّونه لئلا يعلم بهم أحد قائلين : لا يدخل علينا مسكين ، أي لا تمكنوه من الدخول ، وعزموا على حرمان المساكين ، مع كونهم قادرين على نفعهم ، وهم يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم ، ففوجئوا بتدمير الله وإحراقه الحرث وإتلافه الغلة والثمر.

٥ ـ ولما رأوا الجنة محترقة لا شيء فيها ، قد صارت كالليل الأسود وأضحت كالرماد ، شكوا فيها ، وقالوا : ضللنا الطريق إلى جنتنا ، ثم لما تيقنوا منها قالوا : بل نحن محرومون ، أي حرمنا جنتنا بما صنعنا. وهذا دليل على أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

٦ ـ كان أوسطهم ، أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم قد أمرهم بالاستثناء وهو سبحان الله أي تنزيها لله عزوجل ، فقال لهم : هلّا تسبّحون الله ؛ أي تقولون :

٦٣

سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم ، وتعلقون الأمر بمشيئة الله ، وتتوبون إليه من خبث نيّتكم ، فإن الله ينتقم من المجرمين ، ولكنهم لم يطيعوه.

ثم تذكروا قوله ، واعترفوا بالمعصية ، ونزّهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل ، وإنما هم الظالمون أنفسهم في منعهم المساكين.

٧ ـ لام بعضهم بعضا في تدبير الخطة ، كشأن كل جماعة تخيب في أمرها ، فقال أحدهم لغيره : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ، وقال الآخر : أنت خوّفتنا بالفقر ، وقال الثالث : أنت الذي رغبتني في جمع المال.

٨ ـ أكد أصحاب الجنة اعترافهم بالمعصية ، فقالوا : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء ، وكان استثناؤهم تسبيحا كما قال مجاهد وغيره ، وهو في موضع : «إن شاء الله» لأن المعنى تنزيه الله عزوجل أن يكون شيء إلا بمشيئته. والخلاصة في رأي الأكثرين أن معنى قوله : (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) هلا تستثنون ، فتقولون : إن شاء الله.

٩ ـ أعلن أصحاب الجنة توبتهم وأخلصوا نيّتهم في رأي الأكثرين ، حين قالوا : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) فإنهم تعاقدوا وتعاهدوا وقالوا : إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا ، فدعوا الله وتضرعوا ، فأبدلهم الله ، من ليلتهم تلك ، ما هو خير منها. والإبدال : رفع الشيء ووضع آخر مكانه. قال مجاهد : إن هذه كانت توبة منهم ، فأبدلوا خيرا منها.

١٠ ـ هدد الله المكلفين من أهل مكة وغيرهم بقوله : (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال ، والمعنى : مثلما فعلنا بهؤلاء أصحاب الجنة ، نفعل بمن تعدّى حدودنا في الدنيا. ثم خوّف تعالى الكفار بعذاب أشد وهو عذاب الآخرة في قوله : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

٦٤

وقال ابن عباس : هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر ، وحلفوا ليقتلن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر ، وتضرب القينات على رؤوسهم ، فأخلف الله ظنهم ، وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الجنة ، لما خرجوا عازمين على الصّرام ، فخابوا.

١١ ـ الأظهر كما قال القرطبي : أن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين كان واجبا عليهم. وقيل : يحتمل أنه كان تطوعا.

جزاء المتقين وإنكار التسوية بين المطيع والعاصي

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣))

الإعراب :

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ما) : في موضع رفع مبتدأ ، و (لَكُمْ) : خبره ، و (كَيْفَ) : في موضع نصب على الحال ب (تَحْكُمُونَ).

(إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) : إنما كسرت (إِنَ) لمكان اللام في (لَما) ولولا دخول اللام في (لَما) لكانت مفتوحة ؛ لأنها مفعول (تَدْرُسُونَ) وهو كقولهم : علمت أن في الدار لزيدا.

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ) مبتدأ وخبر ، و (بالِغَةٌ) : صفة ل (أَيْمانٌ). وقرئ : بالغة بالنصب على الحال من الضمير في (لَكُمْ).

٦٥

(إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) كسرت (أَيْمانٌ) إما لمكان اللام كما كسرت فيما قبله ، أو لأن ما قبله قسم ، وهي تكسر في جواب القسم.

(يَوْمَ يُكْشَفُ .. يَوْمَ) : ظرف منصوب ، وعامله إما (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) أو فعل مقدر ، تقديره : واذكر يوم.

(خاشِعَةً ..) حال من ضمير (يُدْعَوْنَ) أو من ضمير (يَسْتَطِيعُونَ) و (أَبْصارُهُمْ) : مرفوع بفعله. و (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) : جملة فعلية إما منصوبة على الحال ، وإما مستأنفة لا موضع لها من الإعراب.

البلاغة :

(الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) بينهما طباق.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ)؟ والجمل التي بعدها : تقريع وتوبيخ.

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) تشبيه مقلوب ليكون أبلغ وأروع ؛ لأن الأصل : أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والثواب.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) كناية عن شدة الهول يوم القيامة.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ..) أي في الآخرة. (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) أي في الدرجة والمنزلة في الجنان ، وهو إنكار التسوية في نتيجة الإسلام والاجرام ، أي بين أهل الطاعة وأهل المعصية ، وهو إنكار لقول الكفرة ، فإنهم كانوا يقولون : إن صح أنّا نبعث كما يزعم محمد ومن معه ، لم يفضلونا ، بل نكون أحسن حالا منهم ، كما نحن عليه في الدنيا.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الفاسد؟ وهو التفات فيه تعجب من حكمهم ، واستبعاد له ، وإشعار بأنه صادر من اختلال فكر واعوجاج رأي. (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ) منزل من السماء. (تَدْرُسُونَ) تقرؤون ، و (أَمْ) أي بل ألكم. (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي لما تختارونه وتشتهونه. (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) عهود مؤكدة بالأيمان. (بالِغَةٌ) متناهية في التوكيد موثّقة. (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي ثابتة لكم علينا إلى هذا اليوم. (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي تحكمون به لأنفسكم ، وهو جواب القسم ؛ «لأن معنى (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) : أم أقسمنا لكم.

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي سلهم أيهم كفيل لهم بذلك الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من

٦٦

أنهم يعطون في الآخرة أفضل من المؤمنين. (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي بل ألهم أي عندهم شركاء موافقون لهم في هذا القول يكفلون لهم به. (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) أي فإن كان لهم شركاء كفلاء فليأتوا بشركائهم الكافلين لهم به. (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) أي اذكر لهم حين شدة الأمر يوم القيامة للحساب والجزاء ، أي يوم يشتد الأمر ، يقال : كشفت الحرب عن ساق : إذا اشتد الأمر فيهما. (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) يطلب منهم السجود توبيخا على تركهم السجود. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) لذهاب وقته أو زوال القدرة عليه. (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة لا يرفعون أبصارهم. (تَرْهَقُهُمْ) تغشاهم وتلحقهم. (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ) في الدنيا. (وَهُمْ سالِمُونَ) أصحاء متمكنون لا شيء يمنعهم.

المناسبة :

بعد تخويف الكفار بعذاب الدنيا في قوله تعالى : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ذكر الله تعالى أحوال السعداء ، وأبان أن للمتقين جنات النعيم ، ثم ردّ على الكفار الذين يزعمون المساواة في الآخرة بينهم وبين المسلمين من غير كتاب إلهي ، ولا عهد ممنوح مؤكد بالأيمان ، ولا كفلاء في يوم شديد الأهوال ، عسير الحساب على الصلاة وغيرها.

التفسير والبيان :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) إن لكل من اتقى الله وأطاعه ، في الدار الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص الذي لا يزول ولا ينقضي ، ولا يكدره شيء.

قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية ، قال كفار مكة للمسلمين : إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا ، فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيل ، فلا أقل من المساواة.

ثم أجاب الله تعالى عن هذا الكلام بقوله :

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)؟ أي كيف نساوي بين الفريقين في

٦٧

الجزاء ، فنجعل من يلتزم الطاعة كمن هو فاجر مجرم عاص لا يبالي بمعصيته؟ كلا فلا تسوية بين المطيع والعاصي.

ثم نفى الله تعالى وجود كل الأدلة العقلية أو النقلية التي تصلح لإثبات التسوية أو تحقيق الدعوى ، فقال :

١ ـ (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)؟ أي كيف تظنون ذلك ، وتحكمون هذا الحكم الأعوج ، كأن أمر الجزاء مفوّض إليكم؟ إن أبسط مبادئ العقل وأصول الرأي يمنع مثل هذا الظن أو الحكم. وهذا نفي الدليل العقلي.

٢ ـ (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي بل ألكم أو بأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه ، يتضمن حكما مؤكدا كما تدعونه ، وتقرؤون فيه ، فتجدون المطيع كالعاصي؟! وهل في ذلك الكتاب أن لكم في الآخرة ما تختارون وتشتهون؟ وهذا نفي الدليل النقلي.

٣ ـ (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي بل ألكم أو معكم عهود عند الله موثقة مؤكدة ثابتة إلى يوم القيامة في أن يدخلكم الجنة ، ويحصل لكم ما تريدون وتشتهون ، وينفّذ لكم الحكم الذي تصدرونه؟ وهذا نفي الوعد الإلهي بما توقعوا وظنوا.

٤ ـ (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي قل لهم يا محمد موبخا لهم ومقرّعا : من هو المتضمن المتكفل بهذا ، أو أيهم بذلك كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها؟

٥ ـ (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي بل ألهم شركاء لله بزعمهم من الأصنام والأنداد قادرون على أن يجعلوهم مثل المسلمين في الآخرة؟ فإن كان لهم شركاء ، فليأتوا بهم لمناصرتهم إن كانوا صادقين في دعواهم. وهذا نفي التقليد وإبطال جوهر الاعتقاد لدى المشركين.

٦٨

والخلاصة : المراد من الآيات أنه ليس لهم دليل عقلي في إثبات مذهبهم ، ولا نقلي ، وهو كتاب يدرسونه ، ولا عهد لهم به عند الله ، ولا كفيل لهم يتكفل بما يقولون ، ولا لهم مؤيد يوافقهم من العقلاء ، مما يدل على بطلان دعواهم.

ثم تحداهم الله تعالى بالإتيان بالشركاء يوم اشتداد الأمر ، فقال :

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ، وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي فليأتوا بشركائهم لإنقاذهم يوم يشتد الأمر ويعظم الخطب في القيامة ، وحين يدعى هؤلاء الشركاء وأنصارهم من الكفار والمنافقين إلى السجود توبيخا لهم على تركه في الدنيا ، فلا يتمكنون من السجود ؛ لأن ظهورهم تيبس وتصبح طبقا واحدا ، فلا تلين للسجود.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يكشف ربنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد ، فيعود ظهره طبقا واحدا». والمراد بقوله : (يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) شدة الأمر وعظم الخطب ؛ لأن الله تعالى منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحوادث ، فليس المراد بالساق الجارحة ، وإنما ذلك مؤول بما ذكر.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ ، تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ، وَهُمْ سالِمُونَ) أي تكون أبصارهم ذليلة خاسئة منكسرة ، تغشاهم ذلة شديدة ، وحسرة وندامة ، وقد كانوا في الدنيا مدعوين إلى الصلاة والسجود لله تعالى ، فأبوا وتمردوا وامتنعوا ، مع أنهم كانوا سالمين أصحاء ، متمكنين من الفعل ، لا علل ولا موانع تمنعهم من أداء السجود. قال النخعي والشعبي : المراد بالسجود : الصلوات المفروضة.

والخلاصة : أنهم لا يدعون إلى السجود تعبدا وتكليفا ، ولكن توبيخا

٦٩

وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا ، وبما أنهم تكبروا عن السجود في الدنيا مع صحتهم وسلامتهم ، عوقبوا بنقيض ما كانوا عليه ، بعدم قدرتهم عليه في الآخرة إذا تجلى الرب عزوجل ، فيسجد له المؤمنون ، ولا يستطيع أحد من الكافرين ولا من المنافقين أن يسجد ، بل يعود ظهره طبقا واحدا ، كما ثبت في الحديث المتقدم.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن للمتقين الملتزمين أوامر الله المجتنبين نواهيه في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص ، لا يشوبه ما ينغّصه كما يشوب جنات الدنيا.

٢ ـ لا تسوية في الجزاء الأخروي بين المسلمين والكفار ، أو بين الطائعين والعصاة ، وذلك بحكم الفضل والإحسان ، لا من قبيل الاستحقاق على الله شيئا.

٣ ـ استنكر الله تعالى حكم المشركين الأعوج في المساواة بينهم وبين المسلمين ، كأن أمر الجزاء مفوض إليهم ، حتى يحكموا بما شاؤوا أن لهم من الخير ما للمسلمين. واستنكر أيضا وجود كتاب سماوي يجدون فيه المطيع كالعاصي ، وأن لهم ما يختارون وما يشتهون.

ونفى أن يكون لهم عهود ومواثيق مؤكدة بالله تعالى ، يستوثقون بها في أن يدخلهم الجنة ، فليس الأمر كما يحكمون ويظنون.

٤ ـ أنكر الله تعالى عليهم كذلك أن يكون لهم كفيل بما زعموا ، قائم بالحجة والدعوى ، أو أن يكون لهم ناس شركاء ، أي شهداء يشهدون على ما زعموا ، إن كانوا صادقين في دعواهم.

٥ ـ من أنواع العذاب في الآخرة للكفار : أنهم يوم يشتد الأمر ، ويعظم

٧٠

الخطب يوم القيامة ، يطالبون تقريعا وتوبيخا بأداء الصلاة والسجود ، فلا يتمكنون عقابا لهم بنقيض ما كانوا عليه في الدنيا ، وتكون أبصارهم ذليلة خاسئة منكسرة ، وتغشاهم الذلة والمهانة ، وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ، ووجوههم أشد بياضا من الثلج ، وتسودّ وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سوادا من القار.

تخويف الكفار من قدرة الله تعالى وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

بالصبر والتذكير العالمي بالقرآن

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

الإعراب :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ .. مَنْ) : في موضع نصب ؛ لأنه معطوف على ياء المتكلم في (فَذَرْنِي).

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ) قال : (تَدارَكَهُ) بالتذكير ؛ لأن تأنيث النعمة غير حقيقي ، أو حملا على المعنى ؛ لأن النعمة بمعنى النعيم. وقرئ بالتأنيث تداركته نعمة بالتأنيث حملا على اللفظ (وَهُوَ مَذْمُومٌ) الجملة حال.

٧١

(وَإِنْ يَكادُ إِنْ) مخففة من الثقيلة بدليل اللام.

(لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) قرئ بضم الياء وفتحها ، وهما لغتان ، والضم أفضل.

المفردات اللغوية :

(فَذَرْنِي) دعني واتركني. (وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) اتركه إلي فإني أكفيكه ، والحديث : القرآن. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) نأخذهم تدريجيا أو قليلا قليلا. والاستدراج : أن تنزل بالمرء درجة درجة إلى حيث تريد لتوريطه فيه ، والمراد هنا : سندنيهم من العذاب تدريجيا بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة. (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أنه استدراج ، وهو الإنعام عليهم ؛ لأنهم حسبوه تفضيلا لهم على المؤمنين.

(وَأُمْلِي لَهُمْ) وأمهلهم وأطيل لهم المدة. (كَيْدِي) تدبيري. (مَتِينٌ) شديد لا يطاق ، ولا يدفع بشيء. (أَمْ تَسْئَلُهُمْ) بل أتسألهم على تبليغ الرسالة. (أَجْراً) أجرة على البلاغ. (مَغْرَمٍ) غرامة مالية يعطونكها. (مُثْقَلُونَ) محمّلون أثقالا ، فيعرضون عنك ، ولا يؤمنون بك.

(الْغَيْبُ) الشيء المغيب الذي استأثر الله بعلمه ، أو اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب. (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي يحكمون به ويستغنون به عن علمك ، ويكتبون منه ما يقولون. (لِحُكْمِ رَبِّكَ) قضاؤه فيهم وإمهالهم وتأخير نصرتك عليهم. (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) وهو يونس عليه‌السلام في الضجر والعجلة. (نادى) دعا ربه في بطن الحوت. (مَكْظُومٌ) مملوء غيظا وغما ، مأخوذ من كظم السقاء : إذا ملأه.

(تَدارَكَهُ) أدركه. (نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) رحمة من الله وهي التوفيق للتوبة وقبولها. (بِالْعَراءِ) الأرض الخالية عن الأشجار والزروع. (وَهُوَ مَذْمُومٌ) ملوم مطرود عن الرحمة والكرامة. (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) اصطفاه ورد إليه الوحي والنبوة. (مِنَ الصَّالِحِينَ) من الأنبياء الكاملين في الصلاح. (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد أن يصرعك ويسقطك من مكانك ، والمعنى : إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك ويرمونك. (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) القرآن. (وَيَقُولُونَ) حسدا وعداوة. (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) بسبب القرآن الذي جاء به ، حيرة من أمره وتنفيرا عنه. (إِلَّا ذِكْرٌ) موعظة وتذكير. (لِلْعالَمِينَ) الجن والإنس ، فلا يحدث بسببه جنون. قال البيضاوي : لما جننوه لأجل القرآن ، بيّن أنه ذكر عام ، لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلا ، وأمتنهم رأيا.

٧٢

المناسبة :

بعد تخويف الكفار بأهوال يوم القيامة وشدائدها ، خوّفهم تعالى وهددهم بما في قدرته من القهر ، ففيه الكفاية بالجزاء لمن يكذب بالقرآن ، ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر ، ونهاه عن الضجر في أمر التبليغ كحال يونس عليه السالم ، ثم أخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حسد قومه ، وحرصهم على إيقاع المكروه به بعد أن صبّره وشجعه ، ثم أعلم الناس قاطبة أن القرآن عظة للجن والإنس جميعا ، يتلقاه أهل العقول والأفهام ، وليس المجانين كما زعموا.

التفسير والبيان :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي دعني وإياهم ، وخلّ بيني وبينهم ، واترك أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن ، فأنا أكفيك أمرهم ، وأعلم كيف أجازيهم ، فلا تشغل قلبك بشأنهم ، فإنا سنأخذهم بالعذاب على غفلة ، ونسوقهم إليه درجة فدرجة ، حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج ؛ لأنهم يظنونه إنعاما ، ولا يفكرون في عاقبته ، وما سيلقون في نهايته. وهذا تهديد شديد ، وتسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فهم لا يشعرون أن الإنعام استدراج ، بل يعتقدون أن ذلك من الله تعالى كرامة ، وهو في الأمر نفسه إهانة كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٥٥ ـ ٥٦] وقال سبحانه : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا ، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً ، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام ٦ / ٤٤].

وقال الله تعالى هنا :

(وَأُمْلِي لَهُمْ ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي أمهلهم وأؤخرهم ليزدادوا إثما ، ويتورطوا ، فإن تدبيري وكيدي لأهل الكفر قوي شديد ، فلا يفوتني شيء لكل

٧٣

من خالف أمري ، وكذب رسلي ، واجترأ على معصيتي. وسمى الله الجزاء كيدا ـ والكيد احتيال ـ لكونه في صورته ، إذ نفعهم وهو يريد الضرر بهم ، لما علم من خبثهم وتماديهم في الكفر.

جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٢].

ثم أخبر الله تعالى عن إزالة كل الموانع التي تمنعهم من قبول الإسلام والحق ، فقال :

ـ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتطلب منهم أجرة على الهداية والتعليم وتبليغ رسالتك ودعوتك إياهم إلى الإيمان بالله تعالى؟ فهم من الغرامة المالية التي يتحملونها مثقلون بأدائها ، لشحهم ببذل المال. والمراد : هل طلبت منهم أجرا ، فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب؟ الحقيقة أنك يا محمد تدعوهم إلى الله عزوجل بلا أجر تأخذه منهم ، بل ترجوا ثواب ذلك عند الله تعالى ، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلا وكفرا وعنادا. وفي هذا إثبات النبوة ؛ لأن النبي ينشد الخير لذاته ، لا لمنفعة مادية.

ـ (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي بل أعندهم علم الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون ، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك ، ويحكمون لأنفسهم بما يريدون ، ويستغنون بذلك عن إجابتك وامتثال قولك.

والمراد أنه ليس لهم حجة نقلية يعتمدون عليها في الإعراض عن قبول رسالة الإسلام.

ولما بالغ الله تعالى في تزييف منهج الكفار ، وتفنيد شبهاتهم وإبطالها ،

٧٤

وزجرهم عليها ، أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أذاهم وعلى تبليغ رسالته ، فقال :

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي فاصبر يا محمد على قضاء ربك وحكمه فيك وفي هؤلاء المشركين ، وعلى أذى قومك وتكذيبهم ، وامض في تبليغ دعوتك ، دون توقف أو تعثر بمعارضتهم وإيذائهم ، فإن العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة.

ولا تكن مثل يونس عليه‌السلام في الضجر والعجلة والغضب ، حين ذهب مغاضبا على قومه ، فكان من أمره ما كان ، من ركوبه البحر ، والتقام الحوت له ، وشروده في البحار ، وندمه على ما فعل ، فنادى ربه في الظلمات في بطن الحوت ، وهو مملوء غيظا وغما على قومه ، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان ، كما جاء في آية أخرى : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ ، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٧ ـ ٨٨].

والمعنى : لا يوجد منك ما يوجد منه من الضجر والمغاضبة ، فتبتلى ببلائه ، كما قال تعالى :

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، لَنُبِذَ بِالْعَراءِ ، وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي لولا أن تداركته رحمة من الله ونعمة ، بتوفيقه للتوبة وقبولها منه ، فتاب الله عليه ، لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات ، وهو ملوم بالذنب الذي أذنبه ، مطرود من الرحمة والكرامة ، لذا قال تعالى :

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ ، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي فاصطفاه ربه واستخلصه واختاره للنبوة والوحي ، وجعله من الأنبياء المرسلين لقومه الكاملين في الصلاح ، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون ، فآمنوا جميعا. ويلاحظ أن كلمة (لَوْ لا) دلت على أن المذمومية لم تحصل.

٧٥

ثم حذر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عداوة المشركين ، قائلا :

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي إنهم ـ كما قال الزمخشري ـ من شدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء ، يكادون يزلون قدمك ، أو يهلكونك ، وكان هذا النظر يشتد منهم في حال قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، لشدة كراهيتهم ، وحسدا على ما أوتي من النبوة ، ويقولون : إنه مجنون ، حيرة في أمره ، وتنفيرا عنه ، وإلا فقد علموا أنه أعقلهم. والمعنى : أنهم جننوه لأجل القرآن.

وقال بعضهم : المراد أنهم يكادون يصيبونك بالعين ، روي أن العين كانت في بني أسد ، فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام ، فلا يمر به شيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله ، إلا عانة ، فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ذلك ، فقال : لم أر كاليوم رجلا ، فعصمه الله.

قال الهروي : أراد ليعتانونك بعيونهم ، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه ، عداوة لك.

ورد ابن قتيبة على ذلك قائلا : ليس يريد الله أنهم يصيبونك بأعينهم ، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء ، يكاد يسقطك.

ورأى ابن كثير أن المعنى : يحسدونك لبغضهم إياك ، لولا وقاية الله لك ، وحمايته إياك منهم ، وفي هذه الآية ـ على رأي البعض ـ دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عزوجل ، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.

منها : ما أخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا حسد ، والعين حق» أي بإرادة الله.

٧٦

ومنها : ما أخرجه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد تدخل الرجل العين في القبر ، وتدخل الجمل القدر» وإسناد رجاله كلهم ثقات.

ومنها : ما أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العين لتولع الرجل بإذن الله ، فيتصاعد حالقا ، ثم يتردى منه» وإسناده غريب.

(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ويقولون عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه لمجنون ، أي لمجيئه بالقرآن ، وما القرآن إلا موعظة وتذكير للجن والإنس ، فلا يتحمله إلا من كان أهلا له من العقلاء. وفيه نسبة الجهل إلى من يقول هذا القول ، وكيف يجنن من جاء بمثله من الآداب والحكم وأصول كل العلوم والمعارف؟!.

قال الحسن البصري : دواء الإصابة بالعين أن يقرأ هذه الآية : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ كفى بالله مجازيا ومنتقما ممن يكذب بالقرآن العظيم ، وإن الله سيأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون ، فعذّبوا يوم بدر. وهذا استدراج من الله تعالى ، والاستدراج : ترك المعاجلة. وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرّج.

٢ ـ إن الله يمهل ولا يهمل ، فهو سبحانه يمهل ويطيل المدة للظالمين والكفار ، ثم يعاقبهم ، فلا يفوته أحد ، وعذاب الله قوي شديد ، وتدبيره محكم لا يمكن التفلت منه.

٧٧

٣ ـ ليس للكفار والمشركين علم بالغيب الذي غاب عنهم ، فيكون حكمهم لأنفسهم بما يريدون غلطا محضا ، وتقوّلا كاذبا.

٤ ـ الصبر على قضاء الله وحكمه مطلوب شرعا ، ولا ينبغي لمؤمن العجلة والتضجر والغضب ، كما عجل صاحب الحوت يونس بن متّى عليه‌السلام حين تضجر ثم تاب وندم ، ودعا في بطن الحوت وهو مملوء غما ، فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٧].

فقبل الله بفضله ومنّه ورحمته ونعمته دعاءه ، واصطفاه ربه واختاره وجعله من الأنبياء الصالحين ، بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون هم أهل نينوى ، ولولا قبول توبته ، لنبذ في الأرض الخالية الفضاء مذموما ملوما. والذم واللوم بسبب ترك الأفضل ، فإن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. ولم يقع الذم بدليل كلمة (لَوْ لا).

٥ ـ اشتدت عداوة الكفار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانوا إذا سمعوه يقرأ القرآن ، نظروا إليه نظرة شديدة ملؤها الحقد والعداوة والبغضاء ، حتى لتكاد نظراتهم تسقطه وتزلّ قدمه ، أو تهلكه.

وينسبونه أيضا إلى الجنون إذا رأوه يقرأ القرآن ، مع أن القرآن لا يتحمله إلا من كان أهلا له من العقلاء ، وهو شرف وتذكير وموعظة للعالمين ، شرفوا باتباعه والإيمان به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهل يعقل أن يكون هذا القرآن آتيا على يد مجنون؟ وكيف يجنن من جاء بمثله؟

٧٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحاقة

مكيّة ، وهي اثنتان وخمسون آية.

تسميتها :

سميت سورة الحاقة ؛ لافتتاحها بالاستفهام عنها ، تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها ، و (الْحَاقَّةُ) اسم من أسماء يوم القيامة ؛ لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد ، ولهذا عظم الله أمرها بالسؤال عنها ، أو هي الساعة الواجبة الوقوع ، الثابتة المجيء ، التي هي آتية لا ريب فيها.

مناسبتها لما قبلها :

تتعلق السورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ وقع في سورة (ن) ذكر يوم القيامة مجملا ، في قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [٤٢] وفي هذه السورة أوضح تعالى نبأ هذا اليوم وشأنه العظيم : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ).

٢ ـ هدد الله تعالى في السورة السابقة كل من كذب بالقرآن وتوعده بقوله : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ..) [٤٤] وفي هذه السورة ذكر أحوال الأمم التي كذبت الرسل وما عوقبوا به ، للعظة والزجر والعبرة للمعاصرين.

٧٩

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة كغيرها من السور المكية التي عنيت بأصول العقيدة ، وتحدثت عن أهوال القيامة ، وصدق الوحي ، وكون القرآن كلام الله ، وتبرئة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من افتراءات الكفار واتهامات الضالين.

بدئت بتفخيم شأن القيامة وتعظيم هولها ، وتكذيب الأقوام السابقة بها ، مثل ثمود ، وعاد ، وقوم لوط ، وفرعون وأتباعه ، وقوم نوح ، وإهلاكهم بسبب تكذيبهم بها وتكذيب رسلهم ، من أول السورة إلى قوله تعالى : (أُذُنٌ واعِيَةٌ).

ثم وصفت وقائع عذاب الآخرة جزاء على إنكاره في الدنيا في قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ ..) إلى (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ).

وأردفت ذلك ببيان حال السعداء والأشقياء يوم القيامة : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ .. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) إلى قوله : (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ).

ثم أقسم رب العزة قسما بليغا على صدق الوحي والقرآن وأنه كلام الله المنزل على قلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه ليس بقول شاعر ولا كاهن : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) إلى قوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وختمت السورة ببيان البرهان القاطع على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمانته في تبليغ الوحي ، وأن القرآن تذكرة وعظة وخبر حق لا مرية فيه ، ورحمة للمؤمنين وحسرة على الكافرين : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ..) إلخ السورة.

٨٠