التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الملك ، أو : تبارك

مكيّة ، وهي ثلاثون آية.

تسميتها :

سميت سورة الملك ؛ لافتتاحها بتقديس وتعظيم الله نفسه الذي بيده الملك ـ ملك السموات والأرض ، وله وحده مطلق السلطان ، والتصرف في الأكوان كيفما يشاء ، يحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع. وتسمى السورة أيضا «الواقية» و «المنجية» لأنها تقي وتنجي من عذاب القبر وتشفع لصاحبها كما سأبيّن. وكان ابن عباس يسميها «المجادلة» لأنها تجادل عن قارئها في القبر.

مناسبتها لما قبلها :

وجه تعلق هذه السورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ وجه عام : وهو أن هذه السورة تؤكد مضمون السورة السابقة في جملتها ، فالسورة المتقدمة تبيّن مدى قدرة الله وهيمنته وتأييده لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواجهة احتمال ظهور تآمر امرأتين ضعيفتين من نسائه عليه ، وهذه السورة توضح بصيغة عامة أن بيد الله ملك السموات والأرض ومن فيهن ، وأنه القدير على كل شيء.

٥

٢ ـ وجه خاص : وهو أنه تعالى ذكر في أواخر «التحريم» مثالين فريدين متمثلين بامرأتي نوح ولوط للكافرين ، وبامرأة فرعون المؤمنة ، ومريم العذراء البتول للمؤمنين ، وهذه السورة تدل على إحاطة علم الله تعالى وتدبيره وإظهاره في خلقه ما يشاء من العجائب والغرائب ، فإن كفر امرأتي نوح ولوط لم يمنع اتصالهما بنبيين كريمين ، وإيمان امرأة فرعون ، لم يضر به اتصالها بفرعون الطاغية الجبار العنيد ، كما لم يزعزع إيمان مريم حملها غير المعهود بعيسى عليه‌السلام.

ما اشتملت عليه السورة :

سورة الملك كسائر السور المكية تعنى بأصول العقيدة الأساسية وهي إثبات وجود الله ، وعظمته ، وقدرته على كل شيء والاستدلال على وحدانيته ، والإخبار عن البعث والحشر والنشر.

بدئت بالحديث عن تمجيد الله سبحانه ، وإظهار عظمته ، وتفرده بالملك والسلطان ، وهيمنته على الأكوان ، وتصرفه في الوجود بالإحياء والإماتة (الآيات : ١ ـ ٢).

ثم أكدت الاستدلال على وجود الله عزوجل بخلقه السموات السبع ، وما زيّنها به من الكواكب والنجوم المضيئة ، وتسخيرها لرجم الشياطين ونحو ذلك من مظاهر قدرته وعلمه (الآيات : ٣ ـ ٥) مما يدل على أن نظام العالم نظام محكم لا خلل فيه ولا تغاير.

ومن مظاهر قدرته تعالى : إعداد عذاب جهنم للكافرين ، وتبشير المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير ، وذلك جمع بين الترهيب والترغيب على طريقة القرآن الكريم (الآيات : ٦ ـ ١٢).

ومن مظاهر علمه وقدرته ونعمه : علمه بالسر والعلن ، وخلقه الإنسان

٦

ورزقه ، وتذليل الأرض للعيش الهني عليها وحفظها من الخسف ، وحفظ السماء من إنزال الحجارة المحرقة المدمرة للبشر ، كما دمرت الأمم السابقة المكذبة رسلها ، وإمساك الطير ونحوها من السقوط ، وتحدي الناس أن ينصرهم غير الله إن أراد عذابهم (الآيات : ١٣ ـ ٢٠).

وأردفت ذلك في الخاتمة بإثبات البعث ، وحصر علمه بالله تعالى ، وإنذار المكذبين بدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحذيرهم من إيقاع العذاب بهم ، وإعلان وجوب التوكل على الله ، والتهديد بتغوير الماء الجاري في الأنهار والينابيع دون أن يتمكن أحد بإجرائه والإتيان ببديل عنه (الآيات : ٢٥ ـ ٣٠).

والخلاصة : أن السورة إثبات لوجود الله تعالى ووحدانيته ببيان مظاهر علمه وقدرته ، وإنذار بأهوال القيامة ، وتذكير بنعم الله على عباده ، وربط الرزق بالسعي في الأرض ثم التوكل على الله تعالى.

فضل السورة :

وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه السورة ، منها : ما أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها ، غفر له : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)».

ومنها : ما أخرجه الطبراني والحافظ الضياء المقدسي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)».

ومنها : ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس في تسمية سورة الملك بالواقية والمنجية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي المانعة ، هي المنجية ، تنجيه من عذاب القبر».

٧

بعض أدلة القدرة الإلهية

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥))

الإعراب :

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً طِباقاً) صفة (سَبْعَ) و (طِباقاً) : إما جمع «طبق» كجمل وجمال ، أو جمع «طبقة» كرحبة ورحاب : ويصح أن تكون «طباقا» مصدرا أو حالا.

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ كَرَّتَيْنِ) : منصوب في موضع المصدر ، كأنه قال : فارجع البصر رجعتين ، ويراد بالتثنية هنا الكثرة ، لا حقيقة التثنية ، بدليل قوله : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) والبصر لا ينقلب خاسئا حسيرا بمجرد مرتين ، وإنما يصير كذلك بمرار جمة ، مثل قولهم : لبيك وسعديك ، أي إلبابا بعد إلباب ، وإسعادا بعد إسعاد ، يعني : كلما دعوتني أجبتك إجابة بعد إجابة ، من قولهم : ألب بالمكان : إذا أقام به.

البلاغة :

(بِيَدِهِ الْمُلْكُ) استعارة تمثيلية ، أو في لفظ «اليد» مجاز ، ويكون قوله (الْمُلْكُ) على الحقيقة.

(لِيَبْلُوَكُمْ) استعارة تمثيلية ، شبه معاملة الله لعباده بالابتلاء والاختبار.

(الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) بينهما طباق.

(الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) وضع الموصول للتفخيم والتعظيم ، أي له السلطان والتصرف المطلق.

٨

(فَارْجِعِ الْبَصَرَ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) إطناب بتكرار الجملة مرتين لزيادة التنبيه والتذكير.

(قَدِيرٌ) ، (حَسِيرٌ) ، (السَّعِيرِ) سجع مرصع ، وكذا قوله : (الْغَفُورُ) ، (فُطُورٍ).

المفردات اللغوية :

(تَبارَكَ) تعاظم وتعالى بالذات عن كل ما سواه ، وكثير خيره وإنعامه ، من البركة : وهي النماء والزيادة الحسية أو المعنوية. (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) المالك المطلق وصاحب السلطان المتفرد ، و (بِيَدِهِ) نؤمن باليد كما جاء على مراد الله ، والظاهر من الآية هنا بيان قدرة الله وسلطانه ونفاذ تصرفه في ملكه. (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أوجده أو قدّره أزلا ، و (الْمَوْتَ) عدم الحياة المعروفة ، (وَالْحَياةَ) ما به الإحساس والحيوية. (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم في حقل الحياة ، أي ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم. (أَحْسَنُ عَمَلاً) أخلصه لله وأطوعه. (الْعَزِيزُ) القوي الغالب الذي لا يغلبه شيء ، ولا يعجزه عقاب المسيء. (الْغَفُورُ) الكثير المغفرة والستر لذنوب عباده إذا تابوا.

(طِباقاً) متطابقا بعضها فوق بعض ، بحيث يكون كالجزء منه ، وكالقبة على الأخرى. (تَفاوُتٍ) تباين وتناقض وعدم تناسب. (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) أعدّه إلى السماء. (فُطُورٍ) شقوق وصدوع ، جمع فطر. (كَرَّتَيْنِ) مرة بعد مرة أو كرة بعد كرة ، والمراد بذلك التكرار والتكثير. (يَنْقَلِبْ) يرجع. (خاسِئاً) صاغرا ذليلا عن أن يرى شيئا من العيب أو الخلل في خلق السموات. (حَسِيرٌ) كليل منقطع ، لم يدرك المطلوب بعد كثرة المراجعة.

(السَّماءَ الدُّنْيا) أقرب السموات إلى الأرض. (بِمَصابِيحَ) بنجوم وكواكب مضيئة ، جمع مصباح. (رُجُوماً) راجمات أو مراجم يرجم ويرمى بانقضاض الشهب عليها ، جمع رجم. (لِلشَّياطِينِ) شياطين الجن والإنس. (وَأَعْتَدْنا) هيأنا. (عَذابَ السَّعِيرِ) عذاب النار المستعرة الموقدة.

التفسير والبيان :

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يمجد الله تعالى نفسه الكريمة للتعليم والإرشاد ، ويخبر أنه سبحانه المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء ، وأنه التام القدرة على كل الأشياء ، لا يعجزه شيء ، بل هو بتصرف في

٩

ملكه كيف يريد ، من إعزاز وإذلال ، ورفع ووضع ، وإنعام وانتقام ، وإعطاء ومنع ، لا معقّب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل لحكمته وعدله وإطلاق سلطانه. وكلمة (تَبارَكَ) تعالى وتعاظم ، وهي تدل على غاية الكمال ومنتهى التعظيم والإجلال ، ولذا لا يجوز استعمالها في حق غير الله تعالى.

تدل الآية على أمور ثلاثة : أن الله تعالى وتعاظم عن كل ما سواه من المخلوقات ، وأنه المالك المتصرف في السموات والأرض في الدنيا والآخرة ، وهو صاحب القدرة التامة والسلطان المطلق على كل شيء.

ومن مظاهر قدرته وعلمه قوله سبحانه :

١ ـ (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) أي إنه تعالى موجد الموت والحياة ومقدرهما من الأزل ، وهو الذي جعلهم عقلاء ليدركوا معاني التكليف ويقوموا به ، وليعاملهم معاملة المختبر لأعمالهم ، فيجازيهم على ذلك ، وليعرّفهم أيهم أطوع وأخلص لله وخير عملا ، وهو القوي الغالب القاهر الذي لا يغلبه ولا يعجزه أحد ، الكثير المغفرة والستر لذنوب من تاب وأناب بعد ما عصاه وخالفه ، فهو سبحانه مع كونه عزيزا منيعا يغفر ويرحم ، ويعفو ويصفح ، كما في آية أخرى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر ١٥ / ٤٩ ـ ٥٠].

والآية دليل على أن الموت أمر وجودي ، لأنه مخلوق. والموت : انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقتها له ، والحياة : تعلق الروح بالبدن واتصالها به ، وإيجاد الحياة معناه : خلق الروح في الكائنات الحية ، ومنها إيجاد الإنسان. والمقصد الأصلي من الابتلاء : هو ظهور كمال إحسان المحسنين.

روى ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ)

١٠

قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله أذلّ بني آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ، ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ، ثم دار بقاء».

وقدم الموت على الحياة في الآية ؛ لأنه أقوى داعيا إلى العمل.

٢ ـ (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي إنه تعالى الذي أوجد وأبدع السموات السبع ، المتطابقة بعضها فوق بعض ، كل سماء منفصلة عن الأخرى كما جاء في حديث الإسراء وغيره ، يجمع بينها نظام الجاذبية ، ما تشاهد أيها الناظر المتأمل في مخلوقات الرحمن من تناقض وتباين وعدم تناسب ، واردد طرفك في السماء ، وتأمل : هل تشاهد فيها من شقوق وصدوع؟! وهذا دليل على تعظيم خلقها ، وسلامتها من العيوب ، وكون خالقها ذا قدرة تامة وعلم دقيق شامل محكم متقن.

ونظير الآية : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرعد ١٣ / ٢].

والسماء : مادة لا يعلم حقيقتها إلا الله ، تبعد عن الأرض مسيرة خمس مائة عام بالقياسات القديمة ، وتتحدد الآن بالأميال حسبما تدل عليه برامج غزو الفضاء. وقيل : إنها مدارات الكواكب ، ويرى العلماء الفلكيون أنها فراغ يدور فيها الكوكب ، وإذا عرفنا أن الكواكب ذات أبعاد متفاوتة ومسافات مختلفة ، أدركنا تصور كرات السموات السبع. وتكوّن المجموعة الشمسية والمجموعات النجمية ما يعرف باسم «الكون». والمجموعة الشمسية (أو النظام الشمسي) تطلق في علم الفلك على الشمس والكواكب السيّارة وتوابعها ، وهي بترتيب بعدها عن الشمس : عطارد ، الزهرة ، الأرض ، المريخ ، المشتري ، أورانوس ، نبتون ، بلوتو. والمجموعات النجمية شموس نائية البعد تتغير ألوان بعضها لعدة أيام أحيانا.

١١

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً ، وَهُوَ حَسِيرٌ) أي ثم ردد البصر ودقق مرة بعد مرة مهما تكاثرت المرات ، يرجع إليك البصر صاغرا ذليلا عن رؤية شيء من الخلل أو العيب في خلق السماء ، وهو كليل عيي من كثرة التأمل ومعاودة النظر. ومعنى الآية بعبارة أخرى : إنك أيها الإنسان المخاطب لو كررت البصر مهما كررت ، لانقلب إليك أو رجع إليك البصر ذليلا عن أن يرى عيبا أو خللا.

والمراد بقوله : (كَرَّتَيْنِ) تكثير النظر لمعرفة الخلل.

٣ ـ (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أي ولقد زيّنا أقرب السموات إلى الناس بكواكب ثوابت وسيارات ، فصارت في أحسن خلق وأبهج شكل ، وسميت الكواكب مصابيح ؛ لأنها تضيء كإضاءة السراج ، وجعلنا تلك الكواكب بما ينقضّ منها من الشهب أو من دونها راجمات يرجم بها الشياطين ، وأعددنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب عذاب النار المستعرة الموقدة بسبب فسادهم وإفسادهم.

ورجم الشياطين يعدّ فائدة أخرى للكواكب ، غير كونها زينة للسماء الدنيا ، كما قال تعالى : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل ١٦ / ١٦].

قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة السماء ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها في البرّ والبحر ، فمن تأول فيها غير ذلك ، فقد قال برأيه وتكلف ما لا علم له به.

ونظير الآية قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ، وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات ٣٧ / ٦ ـ ١٠].

١٢

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ تعاظم الله بالذات عن كل ما سواه ، وهو مالك السموات والأرض في الدنيا والآخرة ، والقادر على كل شيء من إنعام وانتقام.

٢ ـ الله هو الذي أوجد الموت وأوجد الحياة ليعامل العباد معاملة المختبر ، ويقيم الدليل عليهم أيهم أطوع وأخلص لله ، وهو سبحانه القوي الغالب في انتقامه ممن عصاه ، الغفور لمن تاب.

قال ابن عمر : تلا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) حتى بلغ (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فقال : أورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله.

والابتلاء : هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي؟

٣ ـ الله هو الذي أوجد أيضا السموات السبع متطابقة بعضها فوق بعض ، ما ترى في خلقها من اعوجاج وصدوع ، ولا تناقض ولا تباين ، بل هي مستقيمة مستوية ، دالة على خالقها ، لا عيب ولا خلل فيها.

٤ ـ إذا كرر الإنسان النظر في السموات مرات كثيرة ، لا يرى فيها عيبا ؛ بل يتحيّر بالنظر إليها ، ويرجع إليه بصره خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك ، وقد بلغ الغاية في الإعياء.

٥ ـ زيّن الله السماء الدنيا وهي القربى أقرب السموات إلى الناس بكواكب مصابيح لإضاءتها ، وجعل منها شهبا تنقض على مردة الشياطين ، وأعد الله للشياطين أشد الحريق بسبب الكفر والضلال والإفساد.

والآيات كلها دليل على كونه تعالى كامل القدرة والعلم.

١٣

تعذيب الكفار العصاة

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

الإعراب :

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) المراد بذنوبهم ، ووحّد لوجهين :

أحدهما ـ أنه أضافه إلى جماعة ، والإضافة إلى الجميع تغني عن جمع المضاف ، كما أن الإضافة إلى التثنية تغني عن تثنية المضاف.

والثاني ـ أن (ذنب) مصدر ، والمصدر يصلح للواحد والجمع.

(فَسُحْقاً) منصوب على المصدر ، وجعل بدلا من الفعل ، أو منصوب بتقدير فعل ، تقديره : ألزمهم الله سحقا.

البلاغة :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ زيادة لهم في العذاب.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) مقابلة ، قابلة بقوله بعدئذ : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ).

(سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) استعارة مكنية ، شبه شدة استعارها وحسيسها بصوت الحمار.

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) استعارة مكنية ، شبه جهنم في شدة غليانها ولهبها ، بإنسان شديد الغيظ والحنق على عدوه مبالغة في إيصال الضرر إليه ، وحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه ، وهو الغيظ الشديد.

١٤

(الْمَصِيرُ) ، (نَذِيرٌ) ، (كَبِيرٍ) ، (السَّعِيرِ) سجع مرصع لمراعاة رؤوس الآيات.

(ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) إطناب بتكرار الجملة مرتين لزيادة التنبيه.

المفردات اللغوية :

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) من شياطين الإنس والجن. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ساء المرجع هي. (أُلْقُوا فِيها) طرحوا فيها. (شَهِيقاً) صوتا منكرا شديدا كصوت الحمار ، والشهيق : تنفس يسبق الزفير ، وهو هنا كتنفس المتغيظ. (تَفُورُ) تغلي بهم كغلي المرجل. (تَمَيَّزُ) أي تتميز بمعنى تتقطع وتتفرق غضبا عليهم. (مِنَ الْغَيْظِ) غضبا على الكفار ، والغيظ : شدة الغضب ، وهو تمثيل لشدة اشتعالها بهم. (فَوْجٌ) جماعة أي من الكفار. (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) سؤال توبيخ ، والخزنة : الأعوان وهم مالك وأعوانه ، جمع خازن. (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) أي رسول ينذركم عذاب الله ، ويخوفكم منه ، والاستفهام يراد به التوبيخ والتبكيت.

(إِنْ أَنْتُمْ) ما أنتم. (إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) خطأ بعيد عن الصواب والحق. وهذا القول إما من الملائكة للكفار حين اعترفوا بالتكذيب ، أو من كلام الكفار للنذر من الرسل. (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) سماع تفهم. (أَوْ نَعْقِلُ) عقل تفكر. (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) في عدادهم ومن جملتهم. (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) أقروا بذنوبهم حين لا ينفعهم الاعتراف ، والاعتراف : إقرار عن معرفة. (فَسُحْقاً) أي أسحقهم الله سحقا ، أي أبعدهم الله من رحمته.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى ما أعد للشياطين من عذاب السعير في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا ، عمم الوعيد ، وأوضح أن هذا العذاب معدّ أيضا لكل كافر جاحد بربه ، ثم ذكر أوصاف النار وأهوالها الشديدة.

التفسير والبيان :

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وأعتدنا لكل الجاحدين بربهم ، المكذبين رسله من الجن والإنس عذاب نار جهنم ، وبئس المآل والمرجع وما يصيرون إليه ، وهو جهنم.

١٥

ثم ذكر صفات النار الأربع وهي :

١ ، ٢ ـ (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً ، وَهِيَ تَفُورُ) أي إذا طرح الكفار في نار جهنم ، كما يطرح الحطب في النار العظيمة ، سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمير أول نهيقها ، أو كصوت المتغيظ من شدة الغضب ، وهي تغلي بهم غليان المرجل.

٣ ـ (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي تكاد أو تقترب تتقطع ، وينفصل بعضها من بعض ، من شدة غضبها على الكفار ، وحنقها بهم.

٤ ـ (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) أي كلما طرح في جهنم جماعة من الكفار ، سألهم أعوانها وزبانيتها سؤال تقريع وتوبيخ : أما جاءكم في الدنيا رسول نذير ينذركم هذا اليوم ويخوفكم ويحذركم منه؟

فيجيبهم الكفار بقولهم من ناحيتين :

١ ـ (قالُوا : بَلى ، قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي أجاب الكفار قائلين : بلى جاءنا رسول من عند الله ربنا ، فأنذرنا وخوّفنا ، لكنا كذبنا ذلك النذير ، وقلنا له : ما نزّل الله من شيء على لسانك ، ولم يوح إليك بشيء من أمور الغيب وأخبار الآخرة والشرائع التي أمرنا الله بها.

وما أنتم أيها الرسل إلا في ذهاب عن الحق ، وبعد عن الصواب. فهذا على الأظهر من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين.

ونظير الآية قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ، يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا : بَلى ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر ٣٩ / ٧١].

١٦

وهذا دليل على عدل الله في خلقه وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، وإرسال الرسول إليه ، كما قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ١٥].

٢ ـ (وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ، ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي إننا نلوم أنفسنا ونندم على ما فعلنا ، فلو كنا نسمع ما أنزل الله من الحق سماع من يعي ، وسماع هداية ، أو نعقل عقل من يميز وينظر وينتفع ، وعقل هداية ، ما كنا من أهل النار ، وما كنا عليه من الكفر بالله والضلال ، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل ، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم ، والإيمان بما أنزل الله تعالى ، والاستماع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقدم السمع على العقل والتفهم ؛ لأن المدعو إلى شيء يسمع كلام الداعية أولا ثم يتفكر فيه.

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ، فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي فأقروا معترفين بما صدر عنهم من ذنب استحقوا به عذاب النار ، وهو الكفر وتكذيب الأنبياء ، فبعدا لهم من الله ومن رحمته. وهذا بيان بالجريمة ثم العقاب.

أخرج الإمام أحمد عن أبي البحتري الطائي قال : أخبرني من سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» وفي حديث آخر : «لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ للكافرين الجاحدين وجود الله ووحدانيته ، المكذبين رسله عذاب جهنم في الآخرة ، وبئس المرجع والمنقلب. وظاهر الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرّ لا يبقى في النار.

١٧

٢ ـ للنار أوصاف أربعة مرعبة رهيبة : هي سماع شهيق أي صوت منكر لها ، والفوران فهي تغلي بالكفار غليان المرجل ، والغضب فهي تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى ، وتعنيف الزبانية فكلما ألقي فيها جماعات منهم يسألهم خزنتها وهم مالك وأعوانه من الزبانية سؤال توبيخ وتقريع زيادة لهم في العذاب : ألم يأتكم رسول نذير في الدنيا ينذركم هذا اليوم حتى تحذروا؟!

قال ابن عباس : الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها ؛ تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير ، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.

٣ ـ يعترف الكفار بأنه قد جاءهم رسول أنذرهم وخوفهم ، فكذبوه ، وقالوا : ما أنتم يا معشر الرسل إلا في بعد عن الحق والصواب.

٤ ـ وبعد أن اعترفوا بتكذيب الرسل ، اعترفوا أيضا بجهلهم ، وهم في النار ، وقالوا : لو كنا نسمع من الرسل النذر سماع تدبر ووعي ، وتعقل وفهم ما جاؤوا به ، ما كنا من أهل النار.

قال ابن عباس : لو كنا نسمع الهدى أو نعقله ، أو لو كنا نسمع سماع من يعي ويفكّر ، أو نعقل عقل من يميّز وينظر.

ودل هذا على أن الكافر لم يعط من العقل شيئا.

عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لقد ندم الفاجر يوم القيامة ، قالوا ـ أي الفجار ـ : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) ، فقال الله تعالى : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) أي بتكذيبهم الرسل.

٥ ـ يقال للكفار حينئذ : سحقا لكم ، أي بعدا من رحمة الله ، سواء اعترفوا أو جحدوا ، فإن ذلك لا ينفعهم.

١٨

٦ ـ احتجوا بآية (وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ..) على أن الدين لا يتم إلا بالتعليم ؛ لأن السمع يقتضي إرشاد المرشد وهداية الهادي. واحتجوا بها أيضا على تفضيل السمع على البصر ؛ لأن الآية دلت على أن للسمع مدخلا في الخلاص من النار والفوز بالجنة ، فالسمع مناط الفوز ، والبصر ليس كذلك ، فوجب أن يكون السمع أفضل.

وعد المؤمنين بالمغفرة وتهديد الكافرين مرة أخرى

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥))

الإعراب :

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ مَنْ) : في موضع رفع فاعل (يَعْلَمُ) والمفعول محذوف ، أي ألا يعلم الخالق خلقه.

البلاغة :

(وَأَسِرُّوا) و (اجْهَرُوا) بينهما طباق.

(كَبِيرٌ) ، (الْخَبِيرُ) سجع ، وكذا قوله : (الصُّدُورِ) و (النُّشُورُ).

المفردات اللغوية :

(يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) يخافون عذابه غائبا عنهم لم يعاينوه بعد ، أو في حال غيبتهم عن أعين الناس ، فيطيعونه سرا وعلانية. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم. (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ثواب عظيم وهو الجنة ، يصغر دونه لذائذ الدنيا. (بِذاتِ الصُّدُورِ) بما في الضمائر أو النفوس.

١٩

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ألا يعلم السر والجهر من أوجد الأشياء على وفق حكمته. (اللَّطِيفُ) العالم بدقائق الأمور وخفاياها التي لا يدركها العالمون. (الْخَبِيرُ) المطلع على ظواهر الأشياء وبواطنها. (ذَلُولاً) سهلة منقادة لينة يسهل لكم السير فيها والانتفاع بها. (مَناكِبِها) جوانبها وطرقها ، جمع منكب : وهو في الأصل مجتمع ما بين العضد والكتف. (النُّشُورُ) الخروج من القبور ، والحياة بعد الموت ، والرجوع إلى الله بعد البعث للجزاء.

سبب نزول الآية (١٣):

(وَأَسِرُّوا ..) : قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخبّره جبريل عليه‌السلام بما قالوا فيه ونالوا منه ، فيقول بعضهم لبعض : أسرّوا قولكم لئلا يسمع إله محمد.

المناسبة :

بعد وعيد الكفار بعذاب النار ، ذكر الله تعالى للمقابلة وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير ، ثم عاد إلى تهديد الكافرين والناس جميعا بأنه عليم بكل ما يصدر عنهم في السر والعلن ، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق والقادر الذي ذلّل الأرض للعالم ، وأذن لهم بالانتفاع بما فيها من خيرات وكنوز ظاهرة وباطنة كالزروع والثمار والمعادن.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إن الذين يخافون عذاب ربهم ولم يروه ، فيؤمنون به خوفا من عذابه ، ويخافون الله في السر والعلن ، فيخشون ربهم إذا كانوا غائبين عن الناس ، بالكف عن المعاصي والقيام بالطاعات ، حيث لا يراهم أحد إلا الله تعالى ، هؤلاء لهم مغفرة عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم ، وثواب جزيل ، وهو الجنة.

ثبت في الصحيحين : «سبعة يظلّهم الله تعالى في ظل عرشه ، يوم لا ظل

٢٠