التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القلم

مكيّة ، وهي اثنتان وخمسون آية.

تسميتها :

سميت سورة القلم لافتتاحها بما أقسم الله تعالى به وهو (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) وأقسم بالقلم تعظيما له ؛ لما له في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ؛ ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف ، كما قال صاحب الكشاف. والمراد بالقلم عند الأكثرين : الجنس ، أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض.

وقيل : سورة (ن).

مناسبتها لما قبلها :

هناك وجهان لتعلق السورة بما قبلها :

١ ـ ذكر الله تعالى في آخر سورة تبارك الملك تهديد المشركين بتغوير الماء ، وذكر في هذه السورة دليلا على ذلك وهو إذهاب ثمر البستان في ليلية بطائف طاف عليه ، وهو نار من السماء أحرقته ، وهم نائمون ، فلم يجدوا له أثرا.

٢ ـ ذكر الله تعالى في سورة الملك أدلة قدرته الباهرة وعلمه الواسع ، وأثبت البعث ، وهدد المشركين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، وحثهم على الإيمان

٤١

بالله وحده لا شريك له وبالبعث وبالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم برّأ الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مطلع هذه السورة من أباطيل المشركين ونسبتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السحر أو الشعر أو الجنون ، وأثنى عليه بالخلق العظيم.

ما اشتملت عليه السورة :

عنيت هذه السورة المكية كسابقتها بأصول العقيدة الإسلامية الصحيحة وهي هنا إثبات النبوة والرسالة ، والبعث والآخرة ، وبيان مصير المسلمين والمجرمين في القيامة.

بدئت السورة بالقسم بالقلم تعظيما له لنفي تهم المشركين ومزاعمهم الباطلة ، ووصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخلق العظيم : (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) إلى قوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

وأردفت ذلك ببيان سوء أخلاق بعض الكفار وافترائهم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديدهم بما أعدّ الله لهم من العذاب الأليم : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) إلى قوله : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ).

ثم ضربت المثل لكفار مكة بأصحاب الجنة (البستان) بإحراقه وإتلافه ، بسبب كفرهم وجحودهم نعمة الله ، وعزمهم على منع حقوق الفقراء والمساكين : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ ..) إلى قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

وقارنت بين المؤمنين والمجرمين ، ووبخت المشركين على أحكامهم الفاسدة ، وفنّدت دعاويهم ، وأقامت الحجج عليهم ، وأبانت أحوالهم في الآخرة وموقفهم المخزي : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ..) إلى قوله : (وَهُمْ سالِمُونَ).

ثم هددت المشركين المكذبين بالقرآن : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ..).

٤٢

وختمت السورة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أذى المشركين ، وحذرته من التبرم والتضجر في تبليغ دعوته ، حتى لا يكون مثل يونس عليه‌السلام : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ..) وأعلنت حمايته من أذاهم ، ودحضت افتراءهم بأنه مجنون ، وردت عليهم بأن القرآن عظة وعبرة للعالمين ، فكيف يكون المنزل عليه مجنونا : (وَإِنْ يَكادُ ..) إلى آخر السورة.

فضلها :

هذه السورة من أوائل ما نزل من القرآن بمكة ، فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ثم هذه ، ثم المزمل ، ثم المدثر.

كمال الدين والخلق عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))

الإعراب :

(ن) في موضع نصب إما بتقدير : اقرأ نون ، أو بتقدير : أقسم بنون ، فحذف حرف القسم ، فاتصل الفعل به ، فنصبه ، وعلى هذا يكون : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) جواب القسم. وقال أبو حيان : (ن) من حروف المعجم ، نحو (ص) و (ق) ، وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل ، والحكم على موضعها بالإعراب تخرص.

(بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي بأيكم الفتنة ، كما يقال : ماله معقول ، أي عقل ، وقيل : الباء في (بِأَيِّكُمُ) زائدة ، وتقديره : أيكم المفتون ، أي المجنون.

٤٣

البلاغة :

(بِمَجْنُونٍ مَمْنُونٍ) جناس ناقص بينهما لاختلاف الحرف الثاني.

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) وعيد وتهديد ، وحذف المفعول للتهويل.

(وَما يَسْطُرُونَ بِمَجْنُونٍ مَمْنُونٍ الْمَفْتُونُ) إلخ سجع مرصع.

(ضَلَ) و (بِالْمُهْتَدِينَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(ن) إما اسم للسورة ، أو الغرض منه التحدي ، مثل : ق ، وص بأن يأتوا بمثل القرآن أو بعضه ، ما دام مكونا من حروف اللغة العربية التي بها ينطقون ويكتبون وينظمون الشعر ، ويدبّجون الخطب البليغة (وَالْقَلَمِ) أكثر المفسرين على أن المراد به جنس القلم الذي يكتب به ، أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض. (وَما يَسْطُرُونَ) يكتبون ، فإن التفاهم يحصل بالكتابة كما يحصل بالعبارة.

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي ما أنت يا محمد في حالة جنون بسبب إنعام ربك عليك بالنبوة وغيرها ، وهذا رد لقول مشركي قريش : إنه مجنون (غَيْرَ مَمْنُونٍ) غير مقطوع (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) إذ تحتمل من قومك مالا يحتمله أمثالك (الْمَفْتُونُ) المجنون ، أو الفتون أي الجنون ، أي أبك أم بهم ، من فتن : إذا أصيب بفتنة ، أي محنة أو بلاء من ذهاب عقل أو مال أو موت ولد ، فابتلي بالجنون. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أعلم بمعنى عالم ، فالله عالم بهم ، وهم المجانين على الحقيقة. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الفائزين بكمال العقل.

سبب النزول :

نزول الآية (٢) (ما أَنْتَ ..) :

أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : كانوا يقولون للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه مجنون ، ثم شيطان ، فنزلت : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ).

نزول الآية (٤) (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) :

سئلت عائشة رضي‌الله‌عنها عن خلقه ، فقالت : كان خلقه القرآن ألست تقرأ القرآن : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى عشر آيات [المؤمنون ٢٣ / ١ ـ ١٠].

٤٤

التفسير والبيان :

(ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ن) : من الحروف المقطعة مثل : (ص) ، (ق) التي يبدأ بها في بعض السور للتنبيه والتحدي. ومعنى الآية : أقسم بالقلم الذي يكتب به ، وبما يكتبه الناس بالقلم من العلوم والمعارف ، إنك يا محمد ، لست بسبب النعمة أو بواسطة النعمة التي أنعم الله بها عليك وهي النبوة والإيمان والحصافة والخلق بالمجنون ، كما يزعمون. وهذا رد على افتراء وزعم أهل مكة أنه مجنون ، فهو استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسدا ، وأنه ذو منزلة عالية ومكانة رفيعة من إنعام الله عليه بحصافة العقل وسائر الأخلاق الفاضلة المؤهلة للنبوة. فقوله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) هو المقسم عليه.

والقسم بالقلم وما يكتب به إشارة إلى عظم النعمة بهما ، وأنهما من أجلّ النعم على الإنسان بعد النطق والبيان ، فهما طريق التثقيف وانتشار العلوم والمعارف بين الجماعات والأمم والأفراد ، ودليل على ما تقدم الأمم والشعوب ونبوغها.

وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : «أول ما خلق الله القلم ، قال : اكتب ، قال : وماذا أكتب؟ قال : اكتب القدر ، فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة ، ثم خلق النون» أي الدواة.

وروى ابن عساكر عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أول شيء خلقه الله القلم ، ثم خلق النون وهو الدواة ، ثم قال : اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل ، فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة ، ثم ختم على القلم ، فلم يتكلم إلى يوم القيامة».

وروى الطبراني مرفوعا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن

٤٥

أول ما خلق الله القلم والحوت ، قال للقلم : اكتب ، قال : ما أكتب؟ قال : كل شيء كائن إلى يوم القيامة» ثم قرأ (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ).

ثم ذكر تتمة المقسم عليه ، فقال تعالى :

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي وإن لك لثوابا عظيما على ما تحملت من مهام النبوة ، وقاسيت في إبلاغ الدعوة من أنواع الشدائد ، وذلك الثواب غير مقطوع وإنما هو مستمر ، أو لا يمنّ به عليك من جهة الناس.

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) أي وإنك لصاحب الخلق العظيم الذي أمرك الله به في القرآن ، لما تحملت من قومك ما لم يتحمله أمثالك ، ففيك الأدب الجمّ والحياء والجود والشجاعة والحلم والصفح وغير ذلك من محاسن الأخلاق. وقد امتثلت تأديب الله تعالى إياك في قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف ٧ / ١٩٩].

روى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة : أنها سئلت عن خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن. أو كان خلقه القرآن ، أما تقرأ : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق» (١) ومكارم الأخلاق : هي صلاح الدنيا والدين والمعاد. وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فيما رواه ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» إذ قال : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف ٧ / ١٩٩] فلما قبلت ذلك منه ، قال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

__________________

(١) هذه رواية ، وفي رواية أحمد والبخاري في الآدب والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة : «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق».

٤٦

وثبت في الصحيحين عن أنس قال : «خدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين ، فما قال لي : أفّ قط ، ولا قال لشيء فعلته : لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلته؟».

وأخرج أحمد عن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده خادما له قط ، ولا ضرب امرأة ، ولا ضرب بيده شيئا قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا خيّر بين شيئين قط ، إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما ، حتى يكون إثما ، فإذا كان إثما ، كان أبعد الناس من الإثم ، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله ، فيكون هو ينتقم لله عزوجل».

وبعد وصفه بأنه على خلق عظيم أوعد الله تعالى المشركين وهددهم بقوله :

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي ستعلم يا محمد ، وسيعلم الكفار المشركون مخالفوك ومكذبوك في الدنيا ويوم القيامة من المفتون المجنون الضالّ منكم ومنهم؟ وهذا ردّ على زعمهم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مفتونا ضالّا. فالمراد بالمفتون : الذي فتن بالجنون. وهو أسلوب رفيع من الخطاب ، فيه البعد عن الإثارة ، ولفت النظر والعقل.

وهذا التهديد كقوله تعالى : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر ٥٤ / ٢٦]. وقوله سبحانه : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ ٣٤ / ٢٤].

ثم أكّد الله تعالى الوعيد والوعد بقوله :

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن الله ربّك يعلم من هو في الحقيقة الضالّ ، أنت أم من اتّهمك بالضلال ، ومن هو المهتدي من الفريقين منكم ومنهم ، هداية موصلة إلى السعادة العاجلة والآجلة؟

٤٧

والمعنى : بل هم الضالون ، لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل ، واختيارهم ما فيه ضرهم ، وسيجازي الله كل فريق بما يستحق من العقاب والثواب.

والمراد بالضلال : ضلال الدين والعقيدة ، وبالاهتداء : الهداية إلى الدين. وفيه تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأمثالهما.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ القسم بالقلم وبالمكتوب إشارة إلى خطرهما ، وعظيم أثرهما ونفعهما في ميادين العلم والمعرفة والتقدم والحضارة.

٢ ـ المقسم عليه ثلاثة أمور : نفي الجنون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما زعم الكفار ، واستمرار الثواب الجزيل والعطاء العظيم له ، وكونه صاحب الخلق العظيم ، وهو خلق القرآن ، وهو أصح الأقوال كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عائشة.

ووجود هذه النعم الكثيرة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله عزوجل ، وظهورها في حقه من الفصاحة وكمال العقل والاتصاف بكل مكرمة ، ينافي حصول الجنون ، وكلام الأعداء نوع من الهذيان.

والخلق : ملكة نفسانية يقدر معها على الإتيان بالفعل الجميل بسهولة ، فإذا وصف بالعظم وهو كونه على النهج الأفضل ، لم يكن خلق أحسن منه.

روى الترمذي عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتّق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن» ، وروى أيضا عن أبي الدرداء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء».

٤٨

وروى أيضا عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال : «تقوى الله وحسن الخلق» ، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال : «الفم والفرج».

٣ ـ هدد الله تعالى وأوعد الكفار بأنهم سيعلمون حين يتبين الحق والباطل في الدنيا والآخرة من هو الذي فتن بالجنون ، ومن الذي يتبين رجحان عقله ، وسلامة منهجه ، وصحة دينه واعتقاده؟

ويؤكد ذلك أن الله تعالى هو العالم بمن حاد عن دينه ، والذين هم على الهدى والصواب والحق ، فيجازي كلّا يوم القيامة بعمله.

الأخلاق الذميمة عند الكفار

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

الإعراب :

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ أَنْ كانَ) : مفعول لأجله ، تقديره : لأن كان ذا مال وبنين ، واللام تتعلق بفعل محذوف ، تقديره : أيكفر أن كان ذا مال. ولا يجوز أن تتعلق ب (تُتْلى) لأن (إِذا) مضافة إليه ، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا فيما قبل المضاف ، كما لا يجوز أن تتعلق ب (قالَ) لأنه جواب الشرط ، وجواب الشرط لا يعمل فيما قبله.

(قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَساطِيرُ) : خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه أساطير الأولين.

٤٩

البلاغة :

(حَلَّافٍ) ، (هَمَّازٍ) ، (مَشَّاءٍ) ، (مَنَّاعٍ) صيغة مبالغة على وزن فعّال ، وكذلك (أَثِيمٍ) ، (زَنِيمٍ) صيغة مبالغة على وزن فعيل.

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) استعارة ، استعار خرطوم الفيل لأنف الإنسان ، للاستهانة والاستخفاف.

المفردات اللغوية :

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) تهييج للتصميم على مخالفتهم. (وَدُّوا لَوْ) تمنوا ، و (لَوْ) : مصدرية. (تُدْهِنُ) تلين لهم بأن تدع نهيهم عن الشرك ، أو توافقهم فيه أحيانا ، من الادّهان : وهو المداهنة واللين والمصانعة. (فَيُدْهِنُونَ) فيلينون لك بترك الطعن والموافقة ، والفاء للعطف على (تُدْهِنُ) أي تمنوا الملاينة ، ولكنهم أخروا ذلك حتى تلين ، أو للسببية ، أي ودّوا لو تدهن ، فهم يدهنون حينئذ. وفي بعض المصاحف : فيدهنوا على أنه جواب التمني المفهوم من (وَدُّوا). وعلى قراءة يدهنون يقدر قبله بعد الفاء : هم.

(حَلَّافٍ) كثير الحلف في الحق والباطل. (مَهِينٍ) حقير الرأي. (هَمَّازٍ) عيّاب طعّان مغتاب. (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يمشي بين الناس بالنميمة والسعاية للإفساد بينهم. (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) بخيل بالمال ، ويمنع الناس من الإيمان والإنفاق والعمل الصالح. (مُعْتَدٍ) ظالم ، يتجاوز الحق إلى الباطل. (أَثِيمٍ) آثم ، أو كثير الإثم والذنب. (عُتُلٍ) غليظ جاف. (زَنِيمٍ) دعي في قريش ، أي يلحق بهم في النسب وليس منهم ، وهو الوليد بن المغيرة ، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة ، قال ابن عباس : لا نعلم أن الله وصف أحدا بما وصفه به من العيوب ، فألحق به عارا لا يفارقه أبدا. وقيل : هو الذي يعرف بالشر واللؤم.

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لأن كان ، والمعنى : أيكفر لأن كان ذا مال. (آياتُنا) القرآن. (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي هي خرافات وأباطيل الأقدمين. (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) سنجعل على أنفه سمة وعلامة يتميز بها ما عاش ، فخطم أنفه بالسيف يوم بدر ، أي أصيب أنف الوليد بجراحة يوم بدر ، فبقي أثرها. والوسم : وضع علامة على الشيء لتمييزه بها عن غيره.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي في قوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) قال : نزلت في الأخنس بن شريق ، وأخرج ابن المنذر عن الكلبي مثله وهو قول

٥٠

الشعبي وابن إسحاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : نزلت في الأسود بن عبد يغوث ، أو عبد الرحمن بن الأسود.

والمشهور أن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة ، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : نزلت على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) فلم نعرفه ، حتى نزل عليه بعد ذلك : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة (١).

المناسبة :

بعد بيان ما عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كمال الدين والخلق ، بيّن ما عليه الكفار من الأخلاق الذميمة ، والدعوة إلى التشدد معهم ومخالفتهم ، مع قلة عدد المؤمنين ، وكثرة الكفار.

التفسير والبيان :

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أي داوم على مخالفة الكفار المكذبين لرسالتك ، وتشدد في ذلك. وهذا نهي صريح من الله سبحانه عن ملاينة المشركين رؤساء مكة ؛ لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه ، فنهاه الله عن طاعتهم أو مجاملتهم في شيء من العقيدة بقصد ترغيبهم في الإسلام. والمراد من النهي : التحميس والتهييج والتشدد في مخالفتهم. قال المفسرون : إن المشركين أرادوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة ، وهم يعبدون الله مدة ، وآلهتهم مدة ، فأنزل الله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ).

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي تمنوا لو تلين لهم ، فيلينون لك ، بأن تركن إلى آلهتهم ، وتقربها ، وتترك ما أنت عليه من الحق ، فيعترفون بعبادة إلهك.

__________________

(١) أي الجزء المسترخي من أذنها حين تشق ، ويبقى كالجزء المعلّق.

٥١

ونظير الآية : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ ، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) [الإسراء ١٧ / ٧٤ ـ ٧٥].

ثم خصص تعالى من جميع المكذبين الكفار من اتصف بالأوصاف المذمومة العشرة التالي ، غير الكفر ، فقال :

١ ـ ٢ : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) أي ولا تطع كل شخص كثير الحلف بالباطل حقير الرأي والفكر. ومثله قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٢٤]. وفيه إشارة إلى أن عزّة النفس منوطة بتصحيح نسبة العبودية ، ومهانة النفس مربوطة بالغفلة عن سرّ الربوبية ، وأيضا الحلاف يكذب كثيرا ، والكذاب حقير عند الناس.

٣ ـ ٤ : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي عيّاب طعّان يذكر الناس بالشرّ في وجوههم ، يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. أما اللمّاز : فهو الذي يذكر الناس في مغيبهم.

روى الجماعة إلا ابن ماجه عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يدخل الجنة قتّات» أي نمام.

٥ ـ ٦ : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ، مُعْتَدٍ ، أَثِيمٍ) أي بخيل : يمنع الخير عن الناس من الإيمان والإنفاق والعمل الصالح ، ظالم متجاوز الحق وحدود الله من أمر ونهي ، كثير الآثام والذنوب. كان للوليد بن المغيرة عشرة بنين ، وكان يقول لهم ولمن قاربهم : لئن تبع دين محمد منكم أحد ، لا أنفعه بشيء أبدا. فمنعهم الإسلام ، وهو الخير الذي منعهم.

٧ ـ ٨ : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ ، زَنِيمٍ) أي هو بعد ما ذكر من معايبه غليظ جاف فظّ ، شديد الخلق ، فاحش الخلق ، دعي في قريش ملصق بالقوم وليس هو منهم ، مشهور بالشر والسوء.

٥٢

أخرج الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا أبا داود عن حارثة بن وهب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعّف (١) ، لو أقسم على الله لأبرّه ، ألا أنبئكم بأهل النار كل عتلّ جوّاظ (٢) مستكبر».

ثم ذكر الله تعالى بعض دوافع ومظاهر كبره وكفره ، فقال :

٩ ـ ١٠ : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي أيكفر بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الله أنعم عليه بالأموال والبنين ، حيث جعل جزاء النعم الكفر والجحود؟ فذلك لا ينفعه عند ربّه. وهذا تقريع وتوبيخ على مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين بالكفر بآيات الله تعالى والإعراض عنها. وقال الزمخشري : متعلق بقوله : (وَلا تُطِعْ) ، يعني : ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال ، أي ليساره وحظه من الدنيا.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي وإنه إذا تليت عليه آيات القرآن ، زعم أنها كذب مأخوذ من قصص وأباطيل القدماء ، وليس هو من عند الله تعالى.

وهذا كقوله تعالى حكاية عن هذا الطاغية الجبار : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ، وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً ، وَبَنِينَ شُهُوداً ، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ، كَلَّا ، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً ، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقالَ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر ٧٤ / ١١ ـ ٢٥].

__________________

(١) روي بكسر العين وفتحها ، والمشهور الفتح ، ومعناه : يستضعفه الناس ويحتقرونه ، وبالكسر : المتواضع المتذلل.

(٢) الجوّاظ : الجمّاع المنّاع ، الذي يجمع المال ويمنعه.

٥٣

ثم ذكر الله تعالى عقابه في الدنيا أو الآخرة ، فقال :

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنجعل له وسما بالسواد على أنفه ، فإنه قاتل يوم بدر ، فخطم بالسيف في القتال ، قال المبرد : الخرطوم هاهنا الأنف. وعبر به إذلالا له واستخفافا به وإهانة له ؛ لأن السمة على الوجه أو الأنف شين. وقال جماعة : (سَنَسِمُهُ) سمة أهل النار ، يعني نسود وجهه يوم القيامة ، وعبر عن الوجه بالخرطوم ، فيسود وجهه بالنار قبل دخولها ، فيكون له عليه أو على أنفه علامة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ نهى الله تعالى نبيّه ـ والنهي يقتضي التحريم ـ ومثله المؤمنون ، عن ممايلة المشركين المكذبين لرسالته ، وكانوا يدعونه إلى أن يكفّ عنهم ليكفّوا عنه ، فبيّن الله تعالى أن مما يلتهم كفر.

٢ ـ تمنى الكفار ملاينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومصانعتهم ومجاملتهم في أديانهم ، فيلينون له في دينه ، فإنهم طلبوا أن يعبد آلهتهم مدة ، ويعبدوا إلهه مدة ، ولكن الله نهاه عن ذلك.

٣ ـ خصص الله من بين المكذبين النهي عمن اتصف بصفات عشر : هي الحلاف : الكثير الحلف ، المهين : الحقير الرأي والتمييز والتفكير ، الهمّاز : الذي يذكر الناس في وجوههم ، وهو غير اللماز : الذي يذمهم في مغيبهم ، النمام : الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم ، المناع للخير : للمال أن ينفق في وجوهه ، ويمنع الناس عن الإسلام ، المعتدي : أي الظالم ، المتجاوز الحد ، صاحب الباطل ، الأثيم : الكثير الإثم والذنوب ، العتلّ : الغليظ الجافي الشديد في كفره ،

٥٤

الشديد الخصومة بالباطل ، الزنيم : الملصق بالقوم الدّعي ، وكان الوليد بن المغيرة المخزومي دعيّا في قريش ، ليس من أصلهم ، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده ، كما تقدم ، [الطاغية المفتري].

٤ ـ وبّخ الله الوليد على مقابلته الإحسان والنعمة بالإساءة ، فقد أنعم الله عليه بالمال والبنين ، فكفر واستكبر. ويكون تقدير الآية : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) : ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر؟ ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه؟ ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين يقول : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

٥ ـ هدد الله الوليد بالوسم على أنفه في الدنيا ، وبالعلامة الظاهرة على أنفه في الآخرة. قال ابن عباس : (سَنَسِمُهُ) : سنخطمه بالسيف ، وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف ، فلم يزل مخطوما إلى أن مات. وقال قتادة : سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها ، وقد قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران ٣ / ١٠٦] فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) [طه ٢٠ / ١٠٢] ، وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية : (سَنَسِمُهُ ..) علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار. والراجح لدي أن هذا الوسم كان في الدارين.

وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه ؛ فألحقه به عارا ، لا يفارقه في الدنيا والآخرة ؛ كالوسم على الخرطوم (١).

قال ابن العربي بمناسبة قوله تعالى : (سَنَسِمُهُ) : كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس ، حتى إنه روي أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٣٧.

٥٥

اعتاضوا عنه بالضرب وتحميم الوجه (١) ، وهذا وضع باطل.

ومن الوسم الصحيح في الوجه : ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور علامة على قبح المعصية ، وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ، ممّن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته. وقد كان عزيزا بقول الحق ، وصار مهينا بالمعصية ، وأعظم الإهانة : إهانة الوجه ، وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لحياة الأبد ، والتحريم له على النار ؛ فإن الله قد حرّم على النّار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود حسبما ثبت في الصحيح (٢).

قصة أصحاب الجنة

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

__________________

(١) تحميم الوجه : تسخيمه بالفحم.

(٢) أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٨٤٥.

٥٦

الإعراب :

(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) كالشيء المصروم ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، مثل عين كحيل ، وكف خضيب ، ولحية دهين ، أي عين مكحولة ، وكفّ مخضوبة ، ولحية مدهونة.

(أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) تفسير ل (فَتَنادَوْا) أو (أَنِ) مصدرية ، أي بأن. وكذا قوله : (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا).

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ عَلى حَرْدٍ) : جار ومجرور ، في موضع نصب على الحال ، وتقديره : وغدوا حاردين قادرين.

البلاغة :

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ ...) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(بَلَوْناهُمْ) امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع وغيرهما من ألوان البلاء والآفات ، أي عاملناهم معاملة المختبر. (الْجَنَّةِ) البستان ، كان دون صنعاء بفرسخين ، وكان لرجل صالح ، ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأه المنجل وألقته الريح ، أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة ، فيجتمع لهم شيء كثير ، فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ، ضاق علينا ، فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح خفية عن المساكين.

(لَيَصْرِمُنَّها) يقطعون ثمرتها. (مُصْبِحِينَ) وقت الصباح كيلا يشعر بهم المساكين ، فلا يعطون منها ما كان أبوهم يتصدق به عليهم منها. (وَلا يَسْتَثْنُونَ) لا يقولون في يمينهم إن شاء الله ، وإنما سمّاه استثناء ؛ لأن معنى : لا أخرج إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله ، واحد ، والجملة مستأنفة ، أي وشأنهم ذلك. (فَطافَ عَلَيْها) على الجنة. (طائِفٌ) أي أصابها بلاء طارق أو نازل من عذاب ربّك ، وهو نار أحرقتها. (كَالصَّرِيمِ) كالبستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء ، أو كالليل في السواد بعد أن احترقت ، أي سوداء.

(فَتَنادَوْا) نادى بعضهم بعضا. (أَنِ اغْدُوا) اخرجوا في الغدوة مبكّرين. (عَلى حَرْثِكُمْ) بستاتكم أو غلتكم. (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) مريدين قطع ثماره ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله. (يَتَخافَتُونَ) يتسارّون فيما بينهم ويتناجون حتى لا يسمعهم أحد. (اغْدُوا) ساروا غدوة إلى حرثهم. (عَلى حَرْدٍ) أي على منع للفقراء ، وقيل : الحرد : القصد والسرعة. (قادِرِينَ) على الصرم في ظنهم.

٥٧

(فَلَمَّا رَأَوْها) رأوا الجنة سوداء محترقة. (لَضَالُّونَ) تائهون عنها ، أي ليست هذه. (مَحْرُومُونَ) ممنوعون ثمرتها بمنعنا الفقراء منها. (قالَ أَوْسَطُهُمْ) خيرهم وأرجحهم رأيا. (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) هلا تذكرون الله وتستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم. (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) بمنع الفقراء حقهم.

(يَتَلاوَمُونَ) يلوم بعضهم بعضا على قصدهم وإصرارهم على منع المساكين. (يا وَيْلَنا) يا هلاكنا ، و (يا) : للتنبيه. (طاغِينَ) متجاوزين حدود الله. (أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة ، وقد روي أنهم بدّلوا خيرا منها. (إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) طالبون منه العفو والخير. (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي مثل ذلك العذاب لهؤلاء أصحاب الجنة عذاب الدنيا. (الْعَذابُ) لمن خالف أمرنا من أهل مكة وغيرهم. (أَكْبَرُ) أعظم منه. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو علموا عذابها لاحترزوا عما يؤدّيهم إلى العذاب.

سبب النزول :

نزول الآية (١٧):

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر : خذوهم أخذا ، فاربطوهم في الحبال ، ولا تقتلوا منهم أحدا ، فنزلت : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي في قدرة أهل مكة على المؤمنين ، كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى عن الوليد بن المغيرة أو غيره أنه لأجل كونه ذا مال وبنين ، جحد وكفر وعصى وتمرد ، بطريق الاستفهام على سبيل الإنكار ، بيّن في هذه الآية أنه تعالى إنما أعطاه المال والبنين على سبيل الابتلاء والامتحان ، ليعرف هل يصرفه في طاعة الله ويشكر نعم الله ، فيزيده من النعمة ، أم يكفر بها فيقطعها عنه ، ويصب عليه أنواع البلاء والآفات؟ ومثله في هذا ومثل أهل

٥٨

مكة كمثل أصحاب الجنة ذات الثمار ، كلّفوا أن يشكروا النعم ويعطوا الفقراء حقوقهم ، فلما جحدوا النعمة وحرموا المساكين ، حرمهم الله الثمار كلها.

روي أن واحدا من ثقيف ، وكان مسلما ، كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء ، وكان يجعل من ناتجها عند الحصاد نصيبا وافرا للفقراء ، فلما مات ، ورثها منه بنوه ، ثم قالوا : عيالنا كثير ، والمال قليل ، ولا يمكننا أن نعطي المساكين ، مثلما كان يفعل أبونا ، فأحرق الله جنتهم.

التفسير والبيان :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ، وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي إنا اختبرنا كفار مكة وامتحناهم بالجوع والقحط بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما اختبرنا أصحاب البستان المعروف خبرهم عند قريش ، حين حلفوا أنهم سيقطعون ثمر الجنة (البستان) عند الصباح ، حتى لا يعلم بهم الفقراء ، فيأخذون ما كانوا يأخذونه ، طمعا في اقتناء كامل الغلة والزرع ، ولم يقولوا : إن شاء الله ، فالأكثرون أنهم إنما لم يستثنوا فيما حلفوا به بمشيئة الله تعالى ؛ لأنهم كانوا كالواثقين بأنهم يتمكنون من ذلك لا محالة. وقال آخرون : بل المراد أنهم يصرمون كل الزرع ، ولا يستثنون للمساكين نصيبهم أو القدر الذي كان أبوهم يدفعه إليهم.

والمقصود اختبار أهل مكة ، لمعرفة حالهم ، أيشكرون نعم الله عليهم ، فيؤمنون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أرسله الله إليهم مبشرا ونذيرا ، أم يكذبونه ويكفرون برسالته ، ويجحدون حق الله عليهم؟ فيجازوا بما يستحقونه ، كما جوزي أصحاب الجنة ، وهو ما أخبر عنه في قوله تعالى :

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي طاف على تلك الجنة من عند الله نار أحرقتها ، أي أصابتها آفة سماوية ، حتى

٥٩

صارت سوداء كالليل الأسود المظلم. ووجه التشبيه أنها يبست وذهبت خضرتها ، أو لم يبق منها شيء.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والمعاصي ، إن العبد ليذنب الذنب ، فيحرم به رزقا قد كان هيئ له ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ ، وَهُمْ نائِمُونَ ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) قد حرموا خير جنتهم بذنبهم».

ولكنهم لم يدروا بما حدث ، وانطلقوا مصمّمين على ما أرادوا ، فقال تعالى :

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ ، أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي فنادى بعضهم بعضا وقت الصباح ، ليذهبوا إلى الجذاذ أي القطع : أن اخرجوا مبكرين في الصباح إلى الثمار والزرع ، إن كنتم قاصدين للصرام أي القطع. قال مجاهد : كان حرثهم عنبا.

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أي فبادروا مسرعين إلى حرثهم ، وهم يتسارون ويتناجون ويقول بعضهم لبعض : لا تمكّنوا اليوم فقيرا يدخل عليكم ، فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم.

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي وذهبوا في الغداة مبكرين ، زاعمين أنهم قادرون على الصرام ومنع المساكين وحرمانهم. فقوله : (عَلى حَرْدٍ) على قصد المنع ، وقيل : الحرد : القصد والجدّ والسرعة. وقوله : (قادِرِينَ) من باب عكس الكلام للتهكم. وفيه أنهم طلبوا حرمان الفقراء ، فعورضوا بنقيض مقصودهم.

(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا : إِنَّا لَضَالُّونَ) أي فلما وصلوا إليها وشاهدوها وهي على الحالة المؤلمة من الاحتراق والسواد ، قال بعضهم لبعض : قد أخطأنا وتهنا طريق جنتنا ، وليست هذه.

٦٠