التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

ويطوف عليهم بالآنية للخدمة ولدان يبقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن ، لا يهرمون ولا يتغيرون ، ويكونون على سن واحدة على مرّ الأزمنة ، فإذ شاهدتهم ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم لؤلؤا مفرقا في ساحات المجلس ، واللؤلؤ إذا نثر على بساط كان أحسن منه منظوما. والمراد دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها ، وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة.

وهناك في الجنة إذا رأيت ببصرك ، رأيت نعيما لا يوصف ، وملكا عظيما لا يقدر قدره.

وثيابهم الحرير الأخضر الرقيق والديباج الغليظ ، ويحلون في الجنة بحلي وأساور من ذهب أو فضة ، حسبما يروق لهم ، وإن كانوا رجالا.

ويشربون من شراب آخر غير ما ذكر موصوف بغاية الطهر والنقاء ، إما لإذهاب آثار الطعام وجعله يتفصد من الجسد عرقا ، أو للترفع عن اللذات الحسية والتخلص من مفاسد الأخلاق الرديئة ، كالحسد والحقد والبغض وغير ذلك.

٢ ـ يقال لهؤلاء الأبرار في الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم نعيمها ، تكريما لهم وإحسانا إليهم : إنما هذا المذكور من النعم ثواب عملكم ، وكان عملكم مشكورا من قبل الله ، وشكره للعبد : قبول طاعته ، وثناؤه عليه ، وإثابته إياه.

٣٠١

أحوال الطائعين والمتمردين المشركين في الدنيا

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

الإعراب :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ .. نَحْنُ) : في موضع نصب صفة لاسم «إن» للتأكيد ، ولا يجوز أن يكون (نَحْنُ) ضمير فصل هنا لا محل له من الإعراب ؛ لأن من شرط الفصل أن يقع بين معرفتين أو في حكمهما ، ولم يوجد هنا. و (نَزَّلْنا) : جملة فعلية في موضع رفع خبر «إن».

(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أَوْ) : هنا للإباحة ، أي لا تطع هذا النوع. والنهي في هذا كالأمر. ولو قال : لا تطع آثما ، لا تطع كفورا ، لانقلب المعنى ؛ لأنه حينئذ لا تحرم طاعتهما كليهما.

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ وَالظَّالِمِينَ) : منصوب بتقدير فعل ، تقديره : ويعذب الظالمين ، وجاز إضماره ؛ لأن (أَعَدَّ لَهُمْ) دلّ عليه.

البلاغة :

(بُكْرَةً وَأَصِيلاً) بينهما طباق.

(يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ، وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) مقابلة ، حيث قابل بين المحبة والترك ، وبين العاجلة والباقية.

٣٠٢

المفردات اللغوية :

(إِنَّا نَحْنُ) نحن تأكيد لاسم إن (نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) أي نزلناه مفرّقا مفصّلا منجّما لحكمة اقتضته ، ولم ننزله جملة واحدة. (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) داوم على حكم ربّك عليك بتبليغ رسالته. (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) أي الكفار. (آثِماً أَوْ كَفُوراً) الآثم : الفاجر المجاهر بالمعاصي ، والكفور : شديد التعصب للكفر المغالي فيه وهو المشرك المجاهر بكفره. قال المفسرون : وهما حينئذ عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة ، قالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج. ثم صار المراد كل آثم وكافر ، لا تطع أيا كان فيما دعاك إليه من إثم أو كفر ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) داوم على ذكره. (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أول النهار وآخره ، فيشمل صلوات الفجر ، والظهر ، والعصر. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي في بعض الليل صلّ لله ، ويشمل صلاتي المغرب والعشاء ، وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص لله. (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) أي وتهجد له طائفة طويلة من الليل ، وهي صلاة التطوع.

(الْعاجِلَةَ) الدنيا. (وَراءَهُمْ) أمامهم. (يَوْماً ثَقِيلاً) شديدا ، أي يوم القيامة ، مستعار من الثقل المتعب للحامل ، وهو كالتعليل لما أمر به ونهى عنه. (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أحكمنا وقوينا أعضاءهم ومفاصلهم وكذلك ربطها بالأعصاب والعروق ، وفي اللغة: الأسر : شدة الخلق والخلق. (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي وإذا أردنا أهلكناهم ، وبدّلنا أمثالهم في الخلقة وشدة الأعضاء.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) إن هذه السورة أو الآيات القريبة موعظة وعبرة للناس. (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) طريقا يتقرب إليه بالطاعة. (وَما تَشاؤُنَ) اتّخاذ السبيل بالطاعة. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إلا وقت مشيئة الله. (عَلِيماً) بخلقه وبما يستأهل كل أحد. (حَكِيماً) في فعله ، لا يشاء إلا ما تقتضيه حكمته. (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي يدخل من يريد وهم المؤمنون في جنته ، بعد الهداية والتوفيق للطاعة. (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ) أي عذّب أو كافا الظالمين وهم الكافرون. (عَذاباً أَلِيماً) مؤلما.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٤):

أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل

٣٠٣

قال : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه ، فأنزل الله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً).

المناسبة :

بعد بيان أحوال الكفار والمؤمنين في الآخرة ، ثبّت الله تعالى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرح صدره ، بسبب ما نسبوه إليه من كهانة وسحر ، فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله ، ثم أمره بالصبر على أذى قومه ، ثم ذكر أحوال هذين الفريقين في الدنيا ، مقدّما بيان أحوال الطائعين وهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته على أحوال الكفار العصاة.

التفسير والبيان :

امتن الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أنزله عليه من القرآن العظيم مفرّقا منجّما ، فقال :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) أي إنا نحن الإله الحق أنزلنا عليك أيها الرسول القرآن مفرّقا منجّما في الإنزال في مدى ثلاث وعشرين سنة ، ولم ننزله جملة واحدة ، ليسهل حفظه ووعيه والعمل به ، وليتثبت المؤمنون في معالجة الحوادث ، ولم تأت به من عندك كما يدّعيه المشركون.

والمراد من ذلك تثبيت قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواجهة افتراءات المشركين الذين نسبوا إليه الكهانة والسحر ، وإعلام الناس قاطبة أن ما جاء به وحي من الله تعالى ، لا من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبعد بيان هذه المقدمة ، جاء الأمر بالصبر والنهي عن طاعة الكفار ، فقال سبحانه : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي كما أكرمتك بما أنزلت عليك من القرآن ، فاصبر على قضاء الله وقدره في تأخير

٣٠٤

نصرك على المشركين ، إلى أجل اقتضته حكمته ، وفي القيام بتبليغ رسالته ووحيه الذي أوحاه إليك ، فلكل أجل كتاب ، وسيتولاك ربك بحسن تدبيره ، ولا تطع أحدا من الكافرين والمنافقين ، المغالين في الكفر ، أو مرتكبي الإثم والفجور والمعاصي إن أرادوا صدّك عما أنزل إليك ، بل بلّغ ما أنزل إليك من ربّك ، وتوكل على الله ، فإن الله يعصمك من الناس. والآثم كما تقدم : هو مرتكب المعاصي ، والكفور : هو جاحد النعمة ، المغالي في الكفر ، فكل كفور آثم ، وليس كل آثم كفورا.

ومن أمثلة الآثم : عتبة بن ربيعة ؛ لأنه كان متعاطيا لأنواع الفسوق ، يروى أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع عن هذا الأمر ، حتى أزوّجك ولدي ، فإني من أجمل قريش ولدا.

ومن أمثلة الكفور : الوليد بن المغيرة ؛ لأنه كان شديد الشكيمة في الكفر ، روي أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا أعطيك من المال حتى ترضى ، فإني من أكثرهم مالا ، فقرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول (حم) السجدة إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [الآية ١٣] فانصرفا عنه ، وقال أحدهما : ظننت أن الكعبة ستقع.

وبالرغم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يطيع أحدا منهم ، إلا أنه وجه النهي له ؛ لأنه القدوة ، وإشارة إلى أن الناس محتاجون دائما إلى مواصلة التنبيه والإرشاد ، لوجود نزعة الشر والفساد في نفوسهم ، فلو أن أحدا استغنى عن توفيق الله وإرشاده ، لكان أحق الناس بذلك هو الرسول المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجب على كل مسلم أن يرغب إلى الله تعالى ويتضرع إليه في أن يصونه عن اتباع الأهواء والشهوات.

ثم عقّب النهي بالأمر ، فقال سبحانه :

٣٠٥

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ ، وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) أي داوم على ذكر الله في جميع الأوقات بالقلب واللسان ، وصلّ لربّك أول النهار وآخره ، فأول النهار : صلاة الصبح ، وآخره : صلاة العصر. وكذلك صلّ لربّك في الليل ، وذلك يشمل صلاتي المغرب والعشاء ، وتهجد له طائفة من الليل ، كما قال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء ١٧ / ٧٩] ، وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل ٧٣ / ١ ـ ٤].

وعلى هذا تكون كلمات الآية جامعة الصلوات الخمس ، والتهجد. وبعد بيان حال الطائعين ، أبان الله تعالى أحوال الكفار والمتمردين ، وأنكر عليهم وعلى أشباههم حبّ الدنيا والإقبال عليها ، وترك الآخرة وراء ظهورهم ، فقال :

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) أي إن هؤلاء كفار مكة وأمثالهم يحبون الدار العاجلة ، وهي دار الدنيا ، ويقبلون على لذاتها وشهواتها ، ويتركون وراءهم ظهريا يوم القيامة ذا الشدائد والأهوال ، فلا يستعدون له ، ولا يعبؤون به. وسمي يوما ثقيلا : لما فيه من الشدائد والأهوال. والآية تتضمن توبيخ المتمردين واستحقارهم.

وهذا هو الخط الفاصل بين المؤمنين والكافرين ، فالمؤمنون يعملون للدنيا والآخرة ، والكفار يعملون للدنيا وحدها ، وهي النظرة المادية والسلوك المادي النفع ، مما يدل على أن الداعي لهم إلى الكفر هو حبّ العاجل.

ثم أوضح الله تعالى كمال قدرته ، وأقام الدليل بالبداءة في الخلق على الرجعة والبعث ، فقال : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ ، وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي كيف يتغافل هؤلاء الكفار عن ربّهم وعن الآخرة ، ونحن الذين

٣٠٦

خلقناهم ، وأحكمنا أعضاءهم ومفاصلهم وربطها بالعروق والأعصاب ، ولو شئنا لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم.

ونظير الآية قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ، وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) [النساء ٤ / ١٣٣] ، وقوله سبحانه : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ، وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [إبراهيم ١٤ / ١٩].

وبعد بيان أحوال السعداء وأحوال الأشقياء في الدنيا ، أرشد إلى فائدة القرآن فقال :

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي إن هذه السورة بما فيها من مواعظ ، وترغيب وترهيب ، ووعد ووعيد ، تذكرة للمتأملين ، وتبصرة للمستبصرين ، وعظة للعقلاء ، فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة ، اتّخذ طريقا للتقرب إلى ربّه بالإيمان والطاعة ، واجتناب المعصية ، ومن شاء اهتدى بالقرآن.

ثم أوضح الله تعالى أن مشيئة العبد في إطار مشيئة الله ، ولكن دون قهر ولا جبر ، فقال :

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي وما تشاؤون أن تتخذوا إلى الله سبيلا إلى النجاة ، إلا بمشيئة الله ، ولا يقدر أحد أن يهدي نفسه ، ولا يدخل في الإيمان ، ولا يجر لنفسه نفعا إلا بتوفيق الله ، فالأمر إليه سبحانه ، ليس إلى عباده ، والخير والشر بيده ، فمشيئة العبد وحدها لا تأتي بخير ولا تدفع شرا ، إلا إن أذن الله بذلك ، ولكن يثاب الإنسان على اختياره الخير ، ويعاقب على اختياره الشر ، وإن الله تعالى عليم بمن يستحق الهداية فييسرها له ، ويقيّض له أسبابها ، وعليم بمن يستحق الغواية ، فيصرفه عن الهدى ، وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، فيضع الأشياء في محالّها.

٣٠٧

والخلاصة : أن جميع ما يصدر عن العبد فبمشيئة الله ولكن دون إجبار.

ثم ختم السورة بخاتمة عجيبة تدل على أن دخول الجنة والنار ليس إلا بمشيئة الله ، فقال :

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي يدخل في جنته من يشاء من عباده أن يدخلها فيها ، فضلا من الله وإحسانا ، ويعذب الظالمين الكافرين الذين ظلموا أنفسهم ، فقد أعدّ لهم في الآخرة عذابا موجعا مؤلما ، هو عذاب جهنم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات الكريمات على ما يأتي :

١ ـ إن القرآن الكريم كلام الله ووحيه الذي أنزله على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مدى ثلاث وعشرين سنة ، مفرّقا منجّما بحسب الحوادث والمسائل ، فهو ليس مفترى به من عنده ، ولا جاء به من تلقاء نفسه كما يدّعيه المشركون.

وبما أن السورة تضمنت الوعد والوعيد ، فالناس بحاجة ماسة إلى هذا الكتاب الذي ليس بسحر ولا كهانة ولا شعر ، وأنه حق من عند الله. قال ابن عباس : أنزل القرآن متفرّقا ، آية بعد آية ، ولم ينزل جملة واحدة ، فلذلك قال : (نَزَّلْنا).

٢ ـ ما دام هذا القرآن حقا من عند الله ، ودستورا منقذا لحياة البشرية من التردي والضياع والضلال ، وجب الصبر على أذى القوم في تبليغه للناس ، والصبر على ما حكم به من الطاعات ، ومخالفة أهل الإثم والكفر ، وعدم إطاعتهم في شيء من ضلالهم.

وهذا أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونهي له ولكل واحد من أمته.

٣٠٨

٣ ـ إن العبد بأشد الحاجة للارتباط بالله والاستعانة به والاتكال عليه ، لذا كانت الصلاة صلة بين العبد وربّه ، وتقوية على الإيمان وصلابة الاعتقاد ، وتربية المهابة لله في النفس ، وتهذيب السلوك. ولأجل هذا أمر الله بذكره ليل نهار ، وبالصلاة أول النهار وآخره ، وذلك يشمل الصلوات الخمس المفروضة ، وزيد عليها التطوع في الليل.

٤ ـ وبخ الله تعالى الكفار وقرّعهم على محبتهم الدنيا وحدها ، وتركهم العمل للآخرة ، فلا يؤمنون بيوم القيامة ، ولا يستعدون لمواجهة موقف الحساب العسير الشديد في ذلك اليوم.

٥ ـ مما يدل على كمال قدرة الله تعالى : أنه هو الذي خلق الناس ، وأحكم تركيب أجسادهم ، وتشديد مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب ، وأنه قادر على إهلاك الناس والمجيء بأطوع لله منهم.

٦ ـ إن هذه السورة وأمثالها من القرآن موعظة وعبرة ، فمن أراد الخير لنفسه اتخذ طريقا موصلا إلى طاعة ربّه وطلب مرضاته. لكن الطاعة والاستقامة واتّخاذ سبيل الله لا تقع قهرا عن الله في ملكه ، وإنما بمشيئة الله ، فالأمر إليه سبحانه ، ليس لعباده ، ولا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم إلا أن تتقدم مشيئة الله ، وكل ذلك دون قهر ولا إجبار ولا إكراه من الله على اختيار شيء معين ، إنما الاختيار للإنسان ، والله عليم بأعمال عباده ، حكيم في أمره ونهيه لهم.

٧ ـ كذلك دخول الجنة برحمة الله ، ودخول النار بمشيئة الله ، فهو الذي يرحم عباده المؤمنين ، ويعذب الظالمين الكافرين عذابا مؤلما في نار جهنم ، وبئس المصير.

٣٠٩

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المرسلات

مكيّة ، وهي خمسون آية.

تسميتها :

سميت سورة المرسلات تسمية لها باسم مطلعها الذي أقسم الله به وهو (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) أي أقسم برياح العذاب التي تهب متتابعة كعرف الفرس ، أو شعر الفرس.

مناسبتها لما قبلها :

وجه اتصالها بما قبلها من وجهين :

١ ـ أنه تعالى وعد المؤمنين الأبرار ، وأوعد الظالمين الفجار في آخر السورة المتقدمة بقوله : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ثم أقسم في مطلع هذه السورة على تحقيق ما وعد به هنالك المؤمنين ، وأوعد به الظالمين ، ثم ذكر وقته وأشراطه بقوله : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ).

٢ ـ ذكر تعالى في سورة الإنسان نزرا من أحوال الكفار في الآخرة ، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها ، والأمر في هذه السورة على العكس : إطناب في وصف الكفار ، وإيجاز في وصف المؤمنين ، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين (١).

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٤٠٨

٣١٠

ما اشتملت عليه السورة :

محور هذه السورة المكية الكلام عن البعث وأحوال الآخرة ، فهي كسائر السور المكية متعلقة بأمور العقيدة ، فذكر فيها القسم على وقوع البعث ، ثم بيان مقدماته ، ثم إيراد بعض دلائل القدرة والوحدانية ، وتلاها وصف بعض الأمور الغيبية وأحوال الكفار والمؤمنين في عالم الآخرة ولوم الكفار على بعض أعمالهم.

افتتحت بالقسم بالرياح والملائكة على وقوع يوم القيامة (أو يوم الفصل) وحدوث العذاب للكفار : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ..) [الآيات ١ ـ ٧] وبيان علامات ذلك العذاب ووقته : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ..) [الآيات ٨ ـ ١٥].

ثم أوردت بعض دلائل القدرة الإلهية على البعث وإحياء الناس بعد الموت ، وهو إهلاك بعض الأمم المتقدمة وخلق الناس ، وجعل الأرض كفاتا (جامعة ضامة لمن عليها) والجبال الشامخات للتثبيت. وتضمن ذلك وعيد الكافرين بعقوبة مماثلة ، وتوبيخ المكذبين على إنكار نعم الله عليهم في الأنفس ومخلوقات الأرض : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ..) [الآيات ١٥ ـ ٢٨].

ثم حددت مصير المجرمين ، ووصفت عذاب الكافرين وصفا تشيب له الولدان : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [الآيات ٢٩ ـ ٤٠].

ثم وصفت نعيم المؤمنين المتقين ، وألوان التكريم والإحسان والإفضال في جنان الخلد : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) [الآيات ٤١ ـ ٤٥].

وختمت السورة بتقريع الكفار وتوبيخهم على بعض أعمالهم ، وأبانت سبب امتناعهم عن عبادة الله ، وهو طغيانهم وإجرامهم : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [الآيات ٤٦ ـ ٥٠].

٣١١

فضلها :

أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : بينما نحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غار بمنى ، إذ نزلت عليه (وَالْمُرْسَلاتِ) فإنه ليتلوها ، وإني لأتلقاها من فيه ، وإن فاه لرطب بها ، إذ وثبت علينا حية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتلوها» فابتدرناها ، فذهبت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وقيت شرّكم ، كما وقيتم شرّها».

وأخرج أحمد عن ابن عباس عن أمه : أنها سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا.

وفي رواية مالك والشيخين في الصحيحين عن ابن عباس : أن أم الفضل سمعته يقرأ (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) فقالت : يا بني أذكرتني بقراءتك هذه السورة ، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها في المغرب.

وقوع يوم القيامة حتما ووقته وعلاماته

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥))

الإعراب :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) إن جعلت (وَالْمُرْسَلاتِ) بمعنى الرياح ، كان (عُرْفاً) منصوبا

٣١٢

على الحال ، وإن جعلت بمعنى الملائكة كان (عُرْفاً) منصوبا بتقدير حذف حرف جر ، أي والمرسلات بعرف ، أي بمعروف ، والمعنى الأول أظهر.

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) عصفا ونشرا : منصوبان على المصدر المؤكد.

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً) : منصوبان من ثلاثة أوجه : إما على المفعول لأجله ، أي للإعذار والإنذار ، أو على البدل من (ذِكْراً) أي فالملقيات عذرا أو نذرا ، أو بالمصدر نفسه وهو (ذكر) وتقديره : أن ذكّر عذرا أو نذرا.

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ النُّجُومُ) : مرفوع بفعل دل عليه (طُمِسَتْ) وتقديره : إذا طمست النجوم طمست ، وجواب إذا مقدر ، تقديره : وقع الفصل ، أو الجواب : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ ..).

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أصل (أُقِّتَتْ) وقتت ، إلا أنه لما انضمت الواو ضما لازما ، قلبت همزة ، كقولهم في وجوه : أجوه.

البلاغة :

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً ، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) تأكيد بذكر المصدر لزيادة البيان ، وتقوية الكلام.

(عُذْراً أَوْ نُذْراً) بينهما طباق.

(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) وضع الظاهر في الجملة الأخيرة موضع الضمير ، وجيء بصيغة الاستفهام ، لزيادة تهويل الأمر وتعظيمه والتعجيب من هوله.

المفردات اللغوية :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) الأظهر أنها الرياح المتتابعة كعرف الفرس : وهو الشعر المتتابع النابت على الرقبة ، وقيل : إنها الملائكة المرسلة للمعروف والإحسان. (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) الرياح الشديدة. (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) الأظهر أنها أيضا الرياح التي تنشر المطر ، أو تنشر السحاب في آفاق السماء ، كما يشاء الرب عزوجل ، وقيل : إنها الملائكة الموكلون بالسحب يسوقونها حيث يشاء الله تعالى لنشر المطر وإحياء الأرض.

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً) أي الملائكة التي تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل ، لتفرّق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، وتلقي بالعلم والحكمة إلى الأنبياء ، للإعذار والإنذار ، الإعذار من الله للعباد لئلا يبقى لهم حجة عند الله ، والإنذار من الله تعالى للناس بالنقمة والعذاب إذا لم يؤمنوا.

٣١٣

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) جواب القسم ، أي إن الذي توعدون به يا كفار مكة وأشباهكم من مجيء القيامة والبعث والعذاب كائن لا محالة. (طُمِسَتْ) محقت وذهب نورها. (فُرِجَتْ) شقت وصدعت. (أُقِّتَتْ) جمعت لوقت ، وعين لها وقت تحضر فيه للشهادة على الأمم بالتبليغ ، قال الزمخشري : والوجه أن يكون معنى (وقتت) بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة. (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ؟) أي يقال : لأي يوم أخّرت وأمهلت للشهادة على الأمم بالتبليغ ، وهذا القول تعظيم لليوم ، وتعجيب من هوله. (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بيان ليوم التأجيل ، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق بأعمالهم : إما إلى الجنة ، وإما إلى النار. (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) تهويل لشأنه ، والمعنى : ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله؟ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بذلك ، وهذا وعيد لهم ، والويل : العذاب والخزي. وويل في الأصل : مصدر منصوب بإضمار فعل ، عدل به إلى الرفع ، للدلالة على ثبات الهلاك للمدعو عليه ، و (يَوْمَئِذٍ) ظرفه ، أو صفته.

التفسير والبيان :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أي أقسم بالرياح المتتابعة كعرف الفرس إذا ذهبت شيئا فشيئا ، وبالرياح التي ترسل عاصفة لما أمرت به من نعمة ونقمة ، وبالرياح التي تنشر السحاب وتفرقه في آفاق السماء كما يشاء الرب عزوجل. وهذا هو الأظهر كما قال ابن كثير وابن جزي صاحب التسهيل لعلوم التنزيل ، وقال القرطبي : جمهور المفسرين على أن المرسلات : الرياح.

وقيل : المقصود بالمرسلات : الملائكة المرسلة بوحي الله وأمره ونهيه بالإحسان والمعروف ، والعاصفات : الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها ، والناشرات : الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها أو ينشرون أجنحتهم في الجوّ عند النزول بالوحي. وقيل : المراد بهؤلاء وما يأتي : طوائف الأنبياء أرسلوا بالوحي المحقق لكل خير ، الذي أخذ أمرهم في العصوف والاشتداد إلى أن بلغ غايته ، وانتشرت دعوتهم ، ففرقوا بين المؤمن والكافر ، والمقر والجاحد ، وألقوا الذكر والتوحيد إلى الناس كافة ، أو إلى طائفة معينين.

٣١٤

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً) ثم أقسم بالملائكة الذين ينزلون بأمر الله على الرسل بما يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والغي ، والحلال والحرام ، وتلقي الوحي إلى الأنبياء ، إعذارا من الله إلى خلقه ، وإنذارا من عذابه إن خالفوا أمره. وقيل : المراد بالفارقات والملقيات : الرياح أيضا.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام ، أي إن ما وعدتم به من مجيء الساعة والنفخ في الصور ، وبعث الأجساد ، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، ومجازاة كل عامل بعمله خيرا أو شرا ، إن هذا كله لواقع وكائن لا محالة.

ثم بيّن الله سبحانه وقت وقوعه وأشراطه ، فقال :

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي فإذا محي نور النجوم وذهب ضوءها ، وفتحت السماء وشقت وصدعت ووهت أطرافها ، وقلعت الجبال من مكانها ، وذهب بها ، وطارت في الجو هباء ، فلا يبقى لها عين ولا أثر ، واستوى مكانها بالأرض.

ونظير الآية في النجوم : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير ٨١ / ٢] وقوله : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [الانفطار ٨٢ / ٢]. وفي السماء : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق ٨٤ / ١] وقوله : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ ، فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ ٧٨ / ١٩] وقوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان ٢٥ / ٢٥]. وفي الجبال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ، فَقُلْ : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه ٢٠ / ١٠٥].

ووجه الجمع بين الرياح في الثلاثة الأول ، وبين الملائكة في الرابع والخامس هو اللطافة وسرعة الحركة.

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) أي وإذا الرسل جمعت وجعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين

٣١٥

الأمم ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة ٥ / ١٠٩] ويقال لتعجيب العباد من هول ذلك اليوم : لأي يوم عظيم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل : وهي تعذيب من كذبهم ، وتعظيم من صدّقهم ، وظهور ما كانوا قد أوعدوا به الأمم ، وخوفوهم من العرض والحساب ونشر الدواوين ، ووضع الموازين. والمراد بذلك تهويل أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه ، وهو يوم القيامة.

ثم أجاب الله تعالى بأنهم أجّلوا ليوم الفصل بين الخلائق ، يفصل فيه بين الناس بأعمالهم ، فيفرّقون إلى الجنة والنار.

ثم عظم تعالى ذلك اليوم ثانيا ، فقال : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) أيّ وما أعلمك بيوم الفصل ، وأيّ شيء شدته ومهابته؟ يعني أنه أمر هائل لا يعرف وصفه ، ولا يقدر قدره.

ثم عقبه الله تعالى بتهويل ثالث ، فقال :

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل لهم من عذاب الله غدا ، في ذلك اليوم المصحوب بالأهوال لمن كذب الله ورسله وكتبه ، والويل تهديد بالهلاك ، ولا يصح أنه واد في جهنم ، كما قال ابن كثير.

وقد كرر هذا التهويل في السورة في تسعة مواضع أخر ، لمزيد التأكيد والتقرير ، كما مرّ في سورة الرحمن : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بالرياح وبالملائكة جامعا بينهم بسبب اللطافة وسرعة الحركة ، على أن يوم القيامة والبعث حق كائن لا محالة تحقيقا لما أوعد الله به الظالمين في السورة السابقة.

٣١٦

والمقصود بالقسم : التنبيه على جلالة المقسم به ، ومعروف مدى تأثير الرياح ، سواء لإنزال المطر أو لإصابة العذاب ، كما أن شرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه : هي شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى ، ولتنوع طوائفهم ، فمنهم الموكل بإنزال الوحي على الأنبياء ، ومنهم المرسل ليلا أو نهارا لرصد أعمال بني آدم وكتابتها ، والعمل يشمل القول من اللسان والفعل الصادر من الجوارح (الأعضاء) ومنهم الموكل بقبض الأرواح ، ومنهم الذين ينزلون من البيت المعمور إلى الكعبة (١).

٢ ـ ثم ذكر الله تعالى متى يقع يوم القيامة وعلاماته (أو أشراطه) وهو يوم ذهاب ضوء النجوم ومحي نورها ، كطمس الكتاب ، وتشقق السماء (أو انفطارها) وزوال معالمها ، ونسف الجبال والذهاب بها دون بقاء أثر لها حتى تسوى بالأرض ، وجمع الرسل ليوم القيامة في الميقات المخصص لهم للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم. والخلاصة : هذه مقدمات البعث.

٣ ـ عيّن الله تعالى ميعاد جمع الرسل : وهو يوم الفصل الذي أجّلوا إليه ، فيفصل الله تعالى فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار.

٤ ـ عظم الله تعالى ذلك اليوم وأشاع عنه التهويل ثلاث مرات : في قوله (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ) وقوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟) وقوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي العذاب والخزي لمن كذّب بالله وبرسله وبكتبه وبيوم الفصل ، فهو وعيد شديد.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢٦٥

٣١٧

تخويف الكفار وتحذيرهم من الكفر

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨))

الإعراب :

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) : إنما لم يجزم فعل نتبع بالعطف على (نُهْلِكِ) لأنه في نية الاستئناف ، وتقديره : ثم نحن نتبعهم.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً .. وَأَمْواتاً كِفاتاً) و (أَمْواتاً) إما منصوبان على الحال ، أي نجمعهم في هاتين الحالين ، أو أن يكونا بدلا من (الْأَرْضَ) على معنى أن تكون (كِفاتاً) إحياء نبت ، و (أَمْواتاً) لا تنبت ، وتقديره : ألم نجعل الأرض ذات نبات وغير ذات نبات.

البلاغة :

(الْأَوَّلِينَ) و (الْآخِرِينَ) بينهما طباق ، وكذا بين (أَحْياءً) و (أَمْواتاً).

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) استفهام تقريري ، ومثله : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ).

(مَهِينٍ مَكِينٍ) جناس ناقص غير تام.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) كقوم نوح وعاد وثمود ، وقرئ «نهلك» من هلكه بمعنى أهلكه. (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي ثم نحن نتبعهم نظراءهم ككفار مكة ، وقرئ بجزم الفعل ، عطفا على (نُهْلِكِ) فيكون المراد من (الْآخِرِينَ) المتأخرين من المهلكين ، كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم‌السلام. (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي مثل ذلك الفعل نفعل بالمجرمين أي بكل من أجرم. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بآيات الله وأنبيائه ، والتكرار للتأكيد ، أو أن الويل الأول لعذاب الآخرة ، وهذا للإهلاك في الدنيا.

٣١٨

(مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) من نطفة مذرة ذليلة ، أو من ماء ضعيف ، وهو المني. (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي مستقر حريز حصين ، وهو الرحم. (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) إلى زمان معلوم أو إلى مقدار معلوم من الوقت ، وهو وقت الولادة ، قدره الله تعالى. (فَقَدَرْنا) على تصويره وخلقه. (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) نحن. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بقدرتنا على ذلك ، أو على الإعادة. (كِفاتاً) ضامة جامعة ، من كفت الشيء : إذا ضمه وجمعه. (أَحْياءً وَأَمْواتاً) الأحياء : ما ينبت ، والأموات : ما لا ينبت.

(رَواسِيَ شامِخاتٍ) جبالا مرتفعة. (فُراتاً) عذبا.

المناسبة :

بعد تحذير الكفار وإنذارهم بأهوال يوم القيامة ، أعقبه بتخويفهم وتحذيرهم عن الكفر ، بالإهلاك كإهلاك الأمم المتقدمة ، ثم هددهم بإنكار إحسانه إليهم ، مبينا أمثلة ومظاهر لقدرة الله عزوجل ، كخلق الإنسان وحواسه ، والأرض وتثبيتها بالجبال الشامخات ، وتزويدها بينابيع المياه العذبة ، وذلك كله يستدعي شكر نعم الله في النفس والآفاق.

التفسير والبيان :

هدد الله تعالى الكفار بقوله :

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ)؟ أي ألم نهلك الكفار المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به من الأمم الماضية ، من لدن آدم عليه‌السلام كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم إلى زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالعذاب في الدنيا ، ثم نتبعهم بأمثالهم وأشباههم ، وهم كفار مكة حين كذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المواطن.

وفي هذا وعيد شديد لكل من كفر بالله وتخويف وتحذير من الكفر.

ثم أخبر تعالى بأن تلك سنة الله لا تبديل فيها ، مع بيان حكمة الإهلاك ، فقال :

٣١٩

(كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إن سنتنا في جميع الكفار واحدة ، فمثل ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله ، الذين أجرموا في حق أنفسهم ، نفعل بكل مشرك ، إما في الدنيا أو في الآخرة.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي الخزي والعذاب يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر.

ثم وبخهم بتعداد النعم والامتنان عليهم ، وبيان آثار القدرة الإلهية عليهم ، ومحتجا بالبداءة على الإعادة فقال :

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ)؟ أي ألا ترون وتدركون أننا نحن خلقناه من ماء ضعيف حقير ، وهو المني ، وضعفه واضح بالنسبة إلى قدرة الباري عزوجل ، وجعلناه وجمعناه في مستقر أو مكان حريز حصين ، وهو الرحم ، ثم أبقاه الله إلى مدة معينة هي مدة الحمل من ستة أشهر إلى تسعة أشهر.

ونحن قدّرنا أعضاءه وصفاته ، وجعلنا كل حال على الصفة التي أردنا ، فنعم المقدّر الله ، أو فنعم المقدّرون له نحن. أو على قراءة التخفيف (فقدرنا) أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا ، فنعم أصحاب القدرة نحن ، حيث خلقناكم في أحسن تقويم.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي خزي وعذاب في ذلك اليوم الهائل ، يوم القيامة لمن كذب بقدرتنا على ذلك وبهذه المنن والنعم.

وهذا توبيخ وتخويف من وجهين :

أحدهما ـ أن النعمة كلما كانت أعظم ، كان كفرانها أفحش.

والثاني ـ أن القادر على الإبداء (الخلق الأول) قادر على الإعادة ، فالمنكر

٣٢٠