التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

خلق الله الإنسان وهدايته السبيل

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣))

الإعراب :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ هَلْ) إما بمعنى قد أي أقد ؛ لأن الأصل أهل ثم حذفت الهمزة ، أو يكون الاستفهام بمعنى التقرير ، وهو تقرير موجه لمن أنكر البعث ، يراد به انتزاع إقراره بهذه الحقيقة الأبدية فيقال له : من أحدث الإنسان بعد العدم؟ ونظرا لبداهة الجواب كان لا بد من (نعم) وإذا أقر بأن الخالق هو الله فكيف يمتنع عليه إعادة هذا الإنسان الذي خلقه أول مرة؟ فإن من قدر على إحداث شيء بعد أن لم يكن كان على إعادته أولى.

(لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) الجملة حال من الإنسان. (نَبْتَلِيهِ) في موقع الحال.

(إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) منصوبان على الحال من هاء : (هَدَيْناهُ).

البلاغة :

(شاكِراً) و (كَفُوراً) بينهما طباق. وكفور صيغة مبالغة وعبر به وليس بالكافر مراعاة للفواصل وإشعارا بأن الإنسان لا يخلو عن كفران غالبا وإنما المؤاخذة بالتوغل بالكفر.

(مَذْكُوراً بَصِيراً كَفُوراً مَنْثُوراً طَهُوراً مَشْكُوراً ..) إلخ سجع مرصع وهو من مراعاة الفواصل.

المفردات اللغوية :

(هَلْ) استفهام تقرير وتقريب فهو بمعنى «قد». (الْإِنْسانَ) آدم عليه‌السلام أو جنس الإنسان وهو الراجح لقوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ حِينٌ) جزء محدود من الزمان قدره بعضهم بأربعين سنة (الدَّهْرِ) الزمان الممتد غير المحدود. (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) كان

٢٨١

شيئا منسيا لا يذكر معدوما لا يعرف. (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي جنس الإنسان. (نُطْفَةٍ) قليل من الماء. (أَمْشاجٍ) أخلاط جمع مشج ومشيج أي من اختلاط ماء الرجل وماء المرأة وامتزاجهما. (نَبْتَلِيهِ) نختبره بالتكليف أي مريدين اختباره عند التكليف والتأهل. (فَجَعَلْناهُ) بسبب ذلك. (سَمِيعاً بَصِيراً) ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات فهو كالمسبب من الابتلاء ولذلك عطف بالفاء على (نَبْتَلِيهِ).

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) بيّنا له طريق الخير والهدى بإقامة الأدلة وإنزال الآيات وبعث الرسل.

التفسير والبيان :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) أي قد أتى على الإنسان (جنس الإنسان) زمن كان فيه منسيا غير موجود فلم يكن آدم وبنوه شيئا معروفا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة المتقدمين عليه وهم الملائكة والجن. وهذا إخبار بكون الإنسان في بدء الخلق معدوما غير مخلوق والآية كالتقدمة والتوطئة للتي تعقبها وكالتأكيد لخاتمة السورة المتقدمة. وهي حقيقة لا ينكرها أحد ويؤكدها علماء طبقات الأرض الذين قالوا : لم يوجد الإنسان على الأرض إلا بعد خلقها بأحقاب طوال.

قال الفرّاء وثعلب : المعنى أنه كان جسدا مصوّرا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا. والمراد بالإنسان هنا جنس بني آدم لقوله تعالى بعدئذ : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ).

ثم أخبر الله تعالى عن بدء تكاثر نوع الإنسان بعد خلق آدم عليه‌السلام فقال : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي إننا نحن الخالق الإله أوجدنا أو خلقنا ابن آدم من مني أو ماء قليل مختلط ممتزج بين ماءي الرجل والمرأة من يدين بهذا الخلق ابتلاءه أي اختباره بالخير

٢٨٢

والشر وبالتكاليف الشرعية بعد بلوغ سن التكليف وأهلية الخطاب التشريعي وزوّدناه بطاقات الفهم والوعي والإدراك وهي السمع والبصر ليتمكن من حمل رسالة التكليف واجتياز الامتحان واستماع الآيات والتأمل في دلائل الكون والتفكر في براهين الوجود الدالة على الخالق الواحد الأحد.

فبالسمع والبصر والفؤاد وسائر الحواس يتمكن هذا الإنسان من الطاعة والمعصية. ولما جعله تعالى بهذا التركيب وامتن عليه بهاتين الصفتين (السمع والبصر) وهما آلة التمييز والفهم وأشرف الحواس التي تدرك بها أعظم المدركات أخبر تعالى أنه هداه السبيل أي أرشده إلى الطريق وعرفه مآله طريق النجاة ومآل طريق الهلاك وبيّن له طريق الهدى وطريق الضلال فقال :

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي بيّنا وأوضحنا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر وبصّرناه بعواقب الأمور وعرّفناه منافع الأشياء ومضارّها التي يهتدي إليها بطبعه السليم وكمال عقله فآل أمره إلى أن ينقسم نوع الإنسان إلى قسمين : شاكر لأنعم الله مؤمن به مهتد بهديه. وكافر جاحد للنعمة معرض عن الطاعة صادّ عن الهدي الإلهي.

ونظير الآية : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ٩٠ / ١٠] أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشر فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد وهذا قول الجمهور ولم نجبره أو نكرهه على شيء من الإيمان أو الكفر وإنما اختار الإنسان لنفسه ما شاء كما قال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت ٤١ / ١٧].

وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها».

٢٨٣

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ لم يكن الإنسان قبل خلقه بأمر ربه شيئا معروفا وظل على هذا النحو حينما من الزمان غير معروف.

٢ ـ أوجد الله أصل الإنسان من تراب ثم نفخ فيه من روحه ثم حدث التناسل والتكاثر من شيء ضعيف مهين وهو التقاء نطفتي الرجل والمرأة.

٣ ـ كان القصد من خلق الإنسان هو الابتلاء والاختبار لذا أمده الله تعالى بمفاتيح المعرفة والهداية والعلم وأعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر وهما كنايتان عن الفهم والتمييز.

٤ ـ أخبر الله تعالى أنه بعد أن ركّب الإنسان وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بيّن له سبيل الهدى والضلال بقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ).

٥ ـ الآية المتقدمة دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل وهذا صحيح ؛ لأن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف وهي الحواس الظاهرة والباطنة.

٦ ـ المراد من هداية السبيل : خلق الدلائل وخلق العقل الهادي وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب.

٧ ـ أيا كان نوع الإنسان ومنهجه شاكرا أو كفورا فقد بيّن الله ما يحتاج إليه من الخير والطاعة.

٨ ـ ليس المراد بالشاكر : من يشتغل بفعل الشكر وفعل الكفران وإلا لم

٢٨٤

يتحقق الحصر المفهوم من كلمة (إِمَّا) بل المراد من الشاكر : الذي يكون مقرا معترفا بوجوب شكر خالقه عليه والمراد من الكفور : الذي لا يقرّ بوجوب الشكر عليه إما لأنه ينكر الخالق أو لأنه وإن كان يثبته لكنه ينكر وجوب الشكر عليه وحينئذ يتحقق الحصر : وهو أن المكلف : إما أن يكون شاكرا وإما أن يكون كفورا. وبهذا يرد على الخوارج الذين احتجوا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين المطيع والكافر لأن الشاكر هو المطيع والكفور هو الكافر (١).

جزاء الكفار والأبرار يوم القيامة

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢))

الإعراب :

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً سَلاسِلَ) : قرئ بتنوين لمجاورته (أَغْلالاً) وقرئ من غير تنوين ؛ لأنه ممنوع من الصرف.

وكذا أيضا (قَوارِيرَا) [الآية ١٥] قرئ منونا وغير منون.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عَيْناً) منصوب من ستة أوجه : على أنه بدل من قوله :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢٣٩

٢٨٥

(كافُوراً) أو على التمييز أو لقيامه مقام مفعول محذوف ل (يَشْرَبُونَ) تقديره : يشربون من كأس ماء عين أو على البدل من (كَأْسٍ) على الموضع أو على الحال من ضمير (مِزاجُها) وفيه خلاف أو منصوب بتقدير أعني. و (يَشْرَبُ بِها) الباء إما بمعنى «من» أي يشرب منها أو زائدة أي يشرب ماءها ؛ لأن العين لا تشرب وإنما يشرب ماؤها.

البلاغة :

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) لف ونشر مشوّش فإنه تعالى قال : (شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ثم أعاد بالذكر على الثاني دون الأول.

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ) جناس اشتقاق.

(يَوْماً عَبُوساً) مجاز عقلي إسناد العبوس إلى اليوم من إسناد الشيء إلى زمانه مثل: نهاره صائم.

(فَوَقاهُمُ) و (لَقَّاهُمْ) جناس غير تام.

المفردات اللغوية :

(أَعْتَدْنا) هيأنا. (سَلاسِلَ) قيودا توضع في الأرجل يسحبون بها إلى النار. (وَأَغْلالاً) أطواقا وقيودا توضع في الأيدي وتجمع إلى أعناقهم جمع غلّ : وهو القيد. (وَسَعِيراً) نارا مسعّرة بها يحرقون ويعذبون.

(الْأَبْرارَ) أهل الطاعة والإخلاص جمع برّ والبررة جمع بارّ كما جاء في الصحاح. (كَأْسٍ) قدح أو إناء زجاجة فيها خمر والمراد : من خمر تسمية للحالّ باسم المحل و (مِنْ) : للتبعيض. (مِزاجُها) ما تمزج به. (كافُوراً) طيب معروف له رائحة جميلة.

(يَشْرَبُ بِها) أي منها. (عِبادُ اللهِ) أولياؤه. (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) يقودونها ويجرونها حيث شاؤوا إجراء سهلا ويخرجونها من الأرض والمراد أنها تحت تصرفهم وأمرهم. (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ بِالنَّذْرِ) : التزام قربة لله تعالى والمراد يؤدون ما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات. (شَرُّهُ) شدائده. (مُسْتَطِيراً) فاشيا منتشرا في البلاد. (عَلى حُبِّهِ) محبة الطعام أو الإطعام. (مِسْكِيناً) محتاجا لفقره. (وَيَتِيماً) من لا أب له. (وَأَسِيراً) من أسر من الكفار في حرب إسلامية ويشمل أيضا الأسير المؤمن والمملوك والمسجون. (لِوَجْهِ اللهِ) ابتغاء لرضوانه وطلب ثوابه لا لتوهم المنّ وتوقع المكافأة المنقصة للأجر. (شُكُوراً) شكرا.

(يَوْماً) عذاب يوم. (عَبُوساً) تعبس فيه الوجوه أي كريه المنظر لشدته.

٢٨٦

(قَمْطَرِيراً) شديد العبوس والهول مظلما. (فَوَقاهُمُ) دفع عنهم بسبب خوفهم وتحفظهم منه. (وَلَقَّاهُمْ) أعطاهم. (نَضْرَةً) حسنا وبهاء. (وَسُرُوراً) حبورا. (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) بصبرهم على أداء الواجبات واجتناب المحرّمات وإيثار الأموال. (جَنَّةً) بستانا يأكلون منه. (وَحَرِيراً) يلبسونه.

سبب النزول :

نزول الآية (٨):

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ ..) : أخرج ابن المنذر عن ابن جرير في قوله : (وَأَسِيراً) قال : لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأسر أهل الإسلام ولكنها نزلت في أسارى أهل الشرك كانوا يأسرونهم في العذاب فنزلت فيهم فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرهم بالإصلاح إليهم.

وقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا. وقال أهل التفسير : نزلت في علي وفاطمة رضي‌الله‌عنهما وجارية لهما اسمها فضة لكن القصة لم تصح.

قال القرطبي : والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا ؛ فهي عامة(١).

المناسبة :

بعد بيان أن الله هدى الناس إلى طريق الخير وطريق الشرّ ثم انقسامهم بعدئذ فريقين : شاكرا وكافرا ذكر تعالى على جهة الوعيد أنه أعد للكافرين قيودا ونارا وللمؤمنين الطائعين جنة فيها ألوان النعيم من المأكل والمشرب والملبس لتتم المقابلة أو المقارنة بين الجزاءين مع بيان العلة أو السبب لكل جزاء.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٠

٢٨٧

التفسير والبيان :

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) أي إننا هيأنا وأعددنا لكل من كفر بالله وبنعمه وخالف أمره سلاسل في أرجلهم يقادرون بها إلى الجحيم قيودا تشد بها أيديهم إلى أعناقهم ونارا تستعر وتتوقد لنعذبهم ونحرقهم بها. والسلاسل : القيود في جهنم كل سلسلة سبعون ذراعا كما جاء في سورة الحاقة. والأغلال : ما تغل به الأيدي إلى الأعناق.

ونظير الآية : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر ٤٠ / ٧١ ـ ٧٢].

فهذا إخبار عما أرصده الله عزوجل للكافرين الأشقياء من خلقه ثم أتبعه بما أعد للمؤمنين الطائعين فقال :

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي إن المؤمنين أهل الطاعة والإخلاص الذين يؤدون حق الله بالتزام فرائضه واجتناب معاصيه يشربون من خمر ممزوجة بكافور بارد أبيض طيب الرائحة ليكمل ريح الخمر وطعمها ويطيب وممزوجة أيضا بماء عين يشرب منها عباد الله الصالحون يجرونها إلى حيث أرادوا من منازلهم وقصورهم وينتفعون بها كما يشاءون ويشقّونها شقّا كما يشقّ النهر ويتفجر الينبوع. وقيل : الكافور : اسم عين في الجنة يقال له عين الكافور.

وقوله : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) معناه يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم. والتفجير : الإنباع.

ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أسباب لهذا التكريم وثواب الأبرار فقال :

١ ـ ٢ ـ (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي يوفون

٢٨٨

بما أوجبوه على أنفسهم من نذور تقربا إلى الله تعالى ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها. والنذر في الشرع : ما أوجبه المكلف على نفسه لله تعالى من صلاة أو صوم أو ذبح أو غيرها مما لم يكن عليه واجبا بالشرع. قال الرازي : اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين : التعظيم لأمر الله وإليه الإشارة بقوله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) والشفقة على خلق الله وإليه الإشارة بقوله : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ). ويخافون عذاب يوم هو يوم القيامة كانت شدائده وأهواله فاشية منتشرة في كل جهة وعامة على الناس إلا من رحم الله.

وإنما سميت الأهوال شرّا ؛ لكونها مضرة بمن تنزل عليه ولكونها صعبة عليه كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شرورا.

والآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر ؛ لأنه تعالى عقبه بقوله : (يَخافُونَ يَوْماً) وهذا يقتضي أن الخوف من عذاب الله هو سبب الوفاء بالنذر.

٣ ـ (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أي ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له المحتاج الفقير العاجز عن الكسب واليتيم الحزين الذي فقد أباه وعائله والأسير المقيد المحبوس أو المملوك سواء من أهل الإيمان أو من المشركين. وخصّ الطعام بالذكر لكونه إنقاذا للحياة وإصلاحا للإنسان وإحسانا لا ينسى.

وفي قوله (عَلى حُبِّهِ) تنبيه على ما ينبغي أن يكون عليه المطعم بل كل عامل من إخلاص عمله لله.

ونظير الآية قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد ٩٠ / ١١ ـ ١٦] وقوله سبحانه : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة ٢ / ١٧٧] وقوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران ٣ / ٩٢].

٢٨٩

وبما أن تمام الطاعة لا يكون إلا بالإخلاص وقرن النية بالعمل ذكر النية بعد تلك الأعمال فقال :

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي إنما قصدنا من هذا الإطعام هو ابتغاء رضوان الله وحده ورجاء ثوابه دون منّ عليكم ولا ثناء من الناس ولا توقع مكافأة تنقص الأجر ولا طلب مجازاة منكم ولا إرادة شكر منكم لنا بل هو خالص لوجه الله تعالى.

وهذا أي طلب رضا الله عنهم هو الهدف الأول ثم أعقبه بالهدف الثاني وهو خوف يوم القيامة وأهوالها فقال سبحانه :

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي إننا مع طلب رضوان الله نخاف من أهوال يوم تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته صعب شديد. ووصف اليوم بالعبوس مجاز وصف بصفة أهله أو تشبيها في ضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل والقمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله بلاء.

ويلاحظ أنه سبحانه وصفهم بالخوف من أهوال القيامة في موضعين : في قوله المتقدم: (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) وقوله هنا : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً).

ثم أوضح الله تعالى أنه حقق للأبرار الهدفين وذكر ما سيجزيهم على أعمالهم وإخلاصهم فذكر الثاني أولا ثم الأول فقال : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي فدفع الله عنهم شرّ ذلك اليوم العبوس وآمنهم مما خافوا منه بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجهه وأعطاهم بدل العبوس في الكفار نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب لطلبهم رضا الله. والنضرة : البياض والنقاء في وجوههم من أثر النعمة.

٢٩٠

ونظير الآية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس ٨٠ / ٣٨ ـ ٣٩].

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) أي وكافأهم بسبب صبرهم على التكاليف جنة يدخلونها وحريرا يلبسونه ، أي أعطاهم منزلا رحبا ، وعيشا رغدا ، ولباسا حسنا ، كما قال تعالى : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [الحج ٢٢ / ٢٣]. والتعبير بقوله : (فَوَقاهُمُ) و (لَقَّاهُمْ) بصيغة الماضي ، لتأكيد تحقق الوعد.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن انقسام الناس باختيارهم إلى فريقين : شاكر وكافر ، اقتضى تنوع الجزاء بعد التكليف والتمكين من المأمورات ، فمن كفر فله العقاب من السلاسل في الأرجل ، والأغلال في الأيدي ، والنار المستعرة التي تحرق الجسد ؛ ومن وحّد وشكر ، فله الثواب الجزيل والجنة بما فيها من ألوان النعيم.

والآية دليل على أن الجحيم بسلاسلها وأغلالها مخلوقة ؛ لأن قوله تعالى : (أَعْتَدْنا) إخبار عن الماضي.

ويلاحظ أن الاختصار في ذكر العقاب ، مع الإطناب في شرح الثواب ، يدل على أن جانب الرحمة أغلب وأقوى (١).

٢ ـ وصف الله تعالى نعيم أهل الجنة بما يبهر ، فذكر أن الأبرار : أهل التوحيد والصدق يشربون في الجنة الخمر غير المسكرة ، الممزوجة بالكافور ، المختومة بالمسك ، المختلطة بعين ماء عذبة في الجنة ، يشربون منها ، وتكون تحت تصرفهم وأمرهم يجرونها كما يشاءون ، ويشقّقونها شقّا ، كما يفجر النهر في الدنيا.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢٥٦ وما بعدها.

٢٩١

وتلك العين هي السلسبيل كما جاء في حديث ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن الحسن البصري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع عيون في الجنة : عينان تجريان من تحت العرش ، إحداهما التي ذكر الله : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) والأخرى الزنجبيل ، والأخريان نضّاختان من فوق العرش : إحداهما التي ذكر الله عينا فيها ، تسمى سلسبيلا ، والأخرى التسنيم». وقال : فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم ، يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم ، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللأبرار منها مزاج.

٣ ـ إن علة أو سبب هذا النعيم للأبرار أمور ثلاثة : وفاؤهم بالنذور وأداؤهم ما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيرها من الواجبات ؛ وخوفهم من يوم القيامة ذي الشدائد والأهوال الفاشية المنتشرة في كل مكان ؛ وإطعامهم الطعام على قلّته وحبهم له وشغفهم به ذا مسكنة وفقر وحاجة ، ويتيما من يتامى المسلمين ، والأسير المؤمن أو الكافر الذي يؤسر فيحبس.

وقد أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأسارى قائلا : «استوصوا بالأسارى خيرا» (١). ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى ، غير أنه من صدقة التطوع ، فأما المفروضة فلا. وتقدم لدينا أن الآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر.

وأجاز عامة العلماء الإحسان إلى الكفار في بلاد الإسلام من التطوعات لا من الواجبات. وإطعام الأسير واجب أولا على الإمام (الدولة) فإن لم يفعله وجب على المسلمين.

٤ ـ إطعام هؤلاء بقصدين أو غرضين : رضا الله عنهم ، وخوف يوم القيامة.

__________________

(١) أخرجه الطبراني عن أبي عزيز ، وهو حديث حسن.

٢٩٢

٥ ـ أعطى الله الأبرار ما يحقق الغرضين ، فوقاهم ودفع عنهم شرور ومحاذير ومخاطر يوم القيامة وآمنهم من خوفهم ، وأعطاهم وآتاهم حين لقوه نضرة أي حسنا ، وسرورا ، أي حبورا ، فتحقق لهم الغرضان : الحفظ من هول القيامة ، وطلب رضا الله تعالى.

قال الرازي : اعلم أن هذه الآية أحد ما يدل على أن شدائد الآخرة لا تصل إلا إلى أهل العذاب.

٦ ـ كذلك جزاهم الله بصبرهم على طاعة الله وعلى معصية الله ومحارمه جنان الخلد يدخلونها ، والحرير يلبسونه. روى ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الصبر ، فقال : «الصبر أربعة : أولها ـ الصبر عند الصدمة الأولى ، والصبر على أداء الفرائض ، والصبر على اجتناب محارم الله ، والصبر على المصائب» (١).

هذا مع العلم بأن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها.

مساكن أهل الجنة وأشربتهم وخدمهم وألبستهم

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٦

٢٩٣

الإعراب :

(مُتَّكِئِينَ فِيها ..) حال من الهاء والميم في (جَزاهُمْ). وكذلك (لا يَرَوْنَ) في موضع نصب على الحال من ذلك الضمير ، أو من ضمير (مُتَّكِئِينَ).

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) منصوب بالعطف على قوله : (جَنَّةً) في آية : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً) و (ظِلالُها) : فاعل (دانِيَةً).

(عَيْناً فِيها ..) بدل من (زَنْجَبِيلاً).

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ .. ثَمَ) : في موضع نصب إما لأنه ظرف مكان ، ويكون مفعول (رَأَيْتَ) محذوفا ، وإما لأنه مفعول (رَأَيْتَ). و (ثَمَ) : مبني على الفتح لتضمنه لام التعريف ؛ لأنه معرفة ، أو لتضمنه معنى الإشارة ، والأصل في الإشارة أن يكون بالحرف ، فكأنه تضمن معنى الحرف.

(عالِيَهُمْ ثِيابُ .. عالِيَهُمْ) بفتح الياء منصوب لكونه ظرفا بمعنى فوقهم ، أو على الحال من الهاء والميم في (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) أي يعلوهم في هذه الحالة. وقرئ بالسكون فيكون مبتدأ ، و (ثِيابُ) : خبره ، وعالي : لفظه لفظ الواحد ، والمراد به الجمع ، كالسامر في قوله تعالى : (سامِراً تَهْجُرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٦٧]. ويصح كونه صفة (وِلْدانٌ). و (ثِيابُ سُندُسٍ) : مرفوع ب (عالِيَهُمْ) سواء كان حالا أو وصفا. و (خُضْرٌ) إما بالجر صفة ل (سُندُسٍ) وإما بالرفع صفة ل (ثِيابُ). وكذلك (إِسْتَبْرَقٌ) بالجر عطفا على (سُندُسٍ) ، أو بالرفع عطفا على (ثِيابُ). و (إِسْتَبْرَقٌ) في أصله : اسم أعجمي : وهو غليظ الديباج ، وأصله (إِسْتَبْرَقٌ) فأبدلوا من الهاء قافا. وهو منصرف لأنه يحسن فيه دخول الألف واللام ، وليس اسم علم كإبراهيم ، ومن لم يصرفه فقد وهم.

البلاغة :

(شَمْساً) و (زَمْهَرِيراً) بينهما طباق.

(إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) تشبيه رائع ، أي كاللؤلؤ المنثور.

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) إيجاز بالحذف ، أي يقال لهم : إن هذا.

(وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) مجاز عن قبول الطاعة والثواب الكثير.

(زَمْهَرِيراً) ، (قَوارِيرَا) ، (تَقْدِيراً) ، (مَنْثُوراً) ، (كَبِيراً) ، (طَهُوراً)، (مَشْكُوراً) سجع مرصع ، أي مراعاة الفواصل.

٢٩٤

المفردات اللغوية :

(مُتَّكِئِينَ) جالسين بتمكن وراحة ، والغالب أن يكون الجلوس على جانب واحد ، بالاعتماد على وسادة. (الْأَرائِكِ) السرر في الحجال ، جمع أريكة : وهي السرير المجلل بالأستار أو الحجلة أو الكلّة (الناموسية). (لا يَرَوْنَ) لا يجدون. (شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) أي لا حرّا ولا بردا ، والزمهرير : البرد الشديد. (وَدانِيَةً) قريبة. (ظِلالُها) ظلال أشجارها. (وَذُلِّلَتْ) سخرت وسهّلت ثمارها ، وصارت في متناول الأيدي. (قُطُوفُها) ثمارها ، جمع قطف ، والمراد : أدنيت ثمارها ، فينالها القائم والقاعد والمضطجع.

(بِآنِيَةٍ) صحاف أو أواني الطعام ، جمع إناء. (وَأَكْوابٍ) آنية الشراب ، جمع كوب : وهو قدح أو كوز مستدير الفتحة ، لا عروة فيه. (قَوارِيرَا) أوعية زجاجية ، جمع قارورة : وهي الزجاجة المعروفة. (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قدرها السقاة الطوافون على قدر ريّ الشارب ، من غير زيادة ولا نقصان ، وذلك ألذ الشراب. (كَأْساً) أي خمرا ، والكأس في الأصل : القدح الذي تكون فيه الخمر. (مِزاجُها) ما تمزج به. (زَنْجَبِيلاً) ماء يشبه الزنجبيل في الطعم ، وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به ، والزنجبيل : نبات ذو عرق يوضع في أخلاط البهارات ، له رائحة طيبة وله لذع في اللسان ، ينبت في بلاد الشام والهند والصين.

(عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) سميت بذلك لسلاسة انحدارها في الحلق ، وسهولة مساغها. والسلسبيل : الشراب اللذيذ. (مُخَلَّدُونَ) دائمو البهاء والحسن ، لا يشيبون. (حَسِبْتَهُمْ) ظننتم لحسنهم. (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) كاللؤلؤ المنتثر في الصفاء والبياض. (ثَمَ) هناك. (نَعِيماً) لا يوصف. (وَمُلْكاً كَبِيراً) واسعا لا غاية له. (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) يعلوهم ثياب الحرير الخضر ، والسندس : ما رقّ من الحرير ، وهو الظهائر. (وَإِسْتَبْرَقٌ) ما غلظ من الديباج ، وهو البطائن. (وَحُلُّوا) ألبسوا حلية. (أَساوِرَ) جمع سوار. (مِنْ فِضَّةٍ) وفي موضع آخر : (مِنْ ذَهَبٍ) [الزخرف ٤٣ / ٧١] ، للدلالة على أنهم يحلّون من النوعين معا ، ومفرّقا. (شَراباً طَهُوراً) نقيا من الشوائب ، والطهور : صيغة مبالغة في طهارته ونظافته ، خلافا لخمر الدنيا. (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي يقال لهم : إن ما أعدّ لكم من الثواب جزاء أعمالكم الصالحة. (مَشْكُوراً) مجازي عليه ، غير مضيّع.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٠):

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ ..) : أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : دخل عمر بن

٢٩٥

الخطاب على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو راقد على حصير من جريد ، وقد أثّر في جنبه ، فبكى عمر فقال : ما يبكيك؟ قال : ذكرت كسرى وملكه ، وهرمز ، وصاحب الحبشة وملكه ، وأنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حصير من جريد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما ترضى أن لهم الدنيا ، ولنا الآخرة ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً).

المناسبة :

بعد بيان طعام أهل الجنة ولباسهم ، ذكر الله تعالى أوصاف مساكنهم وكيفية جلوسهم فيها وأشربتهم وأوانيهم وخدمهم واعتدال هوائهم ، ثم أشار إلى تجملهم بمحاسن الثياب والحلي ، وذكر في النهاية أن هذه النعم جزاء عملهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن أوضاع أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم ، وما أسبغ عليهم من الفضل العظيم ، فقال تعالى :

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ ، لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) أي جزاهم الله جنة ، متكئين فيها على الأسرة المظللة بالحجال أو الكلل ، لا يرون فيها حرّ الشمس ، ولا برد الزمهرير ، بل إن هواءها معتدل ، جاء في الحديث : «هواء الجنة سجسج ، لا حرّ ولا قرّ» والسجسج : الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس (١).

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) أي وإن ظلال الأشجار قربة منهم ، مظللة عليهم ، زيادة في نعيمهم ، وإن كان لا شمس هناك ، وسخرت وأدنيت ثمارها لمتناوليها تسخيرا ، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع ، لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك. فقوله : (وَدانِيَةً) أي وجزاهم جنة أخرى

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٨

٢٩٦

دانية عليهم ظلالها.

ولا يخفى أن هذا الظل ليس بالمعنى المصطلح عليه في الدنيا ، وهو الضوء النوراني ، فإنه لا شمس هناك ، فمعنى دنوّ الظلال : أن أشجار الجنة خلقت بحيث لو كان هناك شمس ، لكانت تلك الأشجار قريبة الظلال على أهل الجنة ، وقد أكّد هذا المعنى بقوله : (وَذُلِّلَتْ ..) أي لا تمتنع على قطّافها كيف شاؤوا (١).

ثم أخبر الله تعالى عن شرابهم وأوانيهم التي فيها يشربون ، فقال :

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام ، وهي من فضة ، وبأكواب الشراب : وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم ، وهي أيضا من فضة ، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير وهي الزجاج ، حتى يرى داخلها ، من خارجها ، وجاءت في الشكل والحجم كما يريدون لا تزيد ولا تنقص.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : «ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة».

وجاء في آية أخرى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) [الزخرف ٤٣ / ٧١]. وهذا يدل على أنهم تارة يسقون بأكواب الفضة ، وتارة بأكواب الذهب. والصحاف : هي القصاع. والفرق بين الآنية والأكواب : أن الأكواب كما تقدم هي الكيزان التي لا عرى لها ، والآنية هي ما له عرى ، كالقدح.

ثم وصف الله تعالى مشروبهم نفسه قائلا :

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) أي ويسقى الأبرار أيضا في هذه الأكواب في الجنة خمرا ممزوجة بالزنجبيل ، فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور

__________________

(١) غرائب القرآن : ٢٩ / ١٢٤

٢٩٧

كما تقدم وهو بارد ، وتارة بالزنجبيل وهو حار ، ليعتدل. أما المقرّبون فإنهم يشربون من كلّ منهما صرفا.

(عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) أي ويسقون من عين في الجنة تسمى السلسبيل ، سميت بذلك لسلاسة مائها ، وسهولة جريها وانحدارها وإساغتها في حلوقهم. قال ابن الأعرابي عن السلسبيل : لم أسمعه إلا في القرآن.

وقال ابن عباس : وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة ، فليس منه في الدنيا إلا الاسم.

والفائدة في تسمية العين بالسلسبيل بعد تسميتها بالزنجبيل هي أنها في طعم الزنجبيل ولذته ، ولكن ليس فيها اللذع الذي هو مناف للسلاسة.

ثم وصف خدمهم بقوله :

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي ويطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة ، يبقون فيها على حالة واحدة من الشباب والطراوة والنضارة ، لا يهرمون ولا يتغيرون ولا يموتون ، إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج غيرهم وصباحة وجوههم ، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم ، ظننتهم كاللؤلؤ المنثور ، قال ابن كثير : ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.

شبههم بالمنثور ؛ لأنهم سراع في الخدمة ، بخلاف الحور العين ، فإنه شبّههن باللؤلؤ المكنون ؛ لأنهن لا يمتهنّ بالخدمة.

ثم أجمل نعيمهم ؛ لأنه أعلى وأعظم مما سبق ، ولأنه مما لا يحصر ولا يخطر ببال أحد ، ما دام في الدنيا ، فخاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كل راء قائلا :

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ ، رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) أي وإذا نظرت نظرا بعيدا

٢٩٨

في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبرة والسرور ، رأيت نعيما لا يوصف ، وسلطانا وملكا عظيما لا يقدر قدره. جاء في الحديث عن ابن عمر قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ، ينظر إلى أقصاه ، كما ينظر إلى أدناه» (١).

ثم وصف ملابسهم وحليهم بقوله :

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ، وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي لباسهم الذي يعلوهم هو الحرير الرفيع الرقيق الأخضر ، والديباج الغليظ ، وحلوا بأساور من فضة ، وفي آية أخرى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) [الكهف ١٨ / ٣١ ، فاطر ٣٥ / ٣٣] أي تارة تكون حليهم الفضة ، وتارة الذهب.

ثم ذكر الله تعالى شرابا آخر لهم غير الممزوج بالكافور أو بالزنجبيل ، فقال :

(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أي وسقاهم ربّهم بشراب غير ما سبق يطهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة ، كما روي عن علي رضي‌الله‌عنه. والطهور مبالغة طاهر ، والمراد أنها ليست بنجسة ، ولا مستقذرة طبعا ، ولا تؤول إلى النجاسة ، ولكنها ترشح عرقا من أبدانهم ، له ريح كريح المسك.

قال أبو قلابة وإبراهيم النخعي : يؤتون بالطعام ، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون ، فتضمر بطونهم من ذلك ، ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك.

ثم ذكر الله تعالى علة هذا الفضل والنعيم ، فقال :

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً ، وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي ويقال لهؤلاء الأبرار الممتعين بالجنان ، تكريما لهم وإحسانا إليهم : إن هذا المذكور من أنواع النعم ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٥٧

٢٩٩

كان لكم جزاء بأعمالكم ، أي ثوابا لها ، وجزاكم الله تعالى على القليل بالكثير ، ويقبل طاعتكم ، فشكر الله سبحانه لعمل عبده : هو قبوله لطاعته.

ونظير الآية قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة ٦٩ / ٢٤] ، وقوله سبحانه : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف ٧ / ٤٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ يكون الأبرار أهل الجنة في غاية النعيم والراحة ، فهم متكئون على الأرائك أي السرر في الحجال ، ولا يرون في الجنة شدة حرّ كحر الشمس ، ولا بردا مفرطا ، وظلال الأشجار في الجنة قريبة منهم ، فهي مظلّة عليهم ، زيادة في نعيمهم ، وإن كان لا شمس ولا قمر ، كما أن أمشاطهم الذهب والفضة ، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثمّ.

وتسخر لهم الثمار تسخيرا ، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع ، لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك ، كما قال قتادة.

ويدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية من فضة أو من ذهب ، وبقوارير في صفاء الزجاج وبياض الفضة ، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة ، وقد قدّر أقدارها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم.

ويسقون في الجنة خمرا في آنية ، ممزوجة بالزنجبيل تطييبا لرائحتها وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته ؛ لأنه يحذو اللسان ، ويهضم المأكول ، فرغّبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب.

ويشربون أيضا في الجنة من عين تسمى السلسبيل : وهو الشراب اللذيذ.

٣٠٠