التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

إلا ظله .. منهم : ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».

ثم نبّه الله تعالى على أنه مطّلع على الضمائر والسرائر ، فقال :

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي سواء أخفيتم كلامكم أو جهرتم به ، فالله عليم به ، يعلم بما يخطر في القلوب وما تكنّه الضمائر ، لا يخفى عليه منه خافية ، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد ، فالله عليم به ، فاحذروا من المعاصي سرا كما تحترزون عنها جهرا ، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى. وقدّم السر على الجهر ؛ لأنه مقدم عليه عادة ، فما من أمر إلا وهو يبدأ أولا في النفس ثم يجهر به ، وللتحذير من التكتم والسر الذي قد يظن عدم العلم به. وقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كالعلّة لما قبله.

والآية خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال ، وتشمل ما كانوا يسرون به من الكلام في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن عباس : كانوا ينالون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيخبره جبريل ، فقال بعضهم لبعض : (أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ) لئلا يسمع إله محمد ، فأنزل الله هذه الآية.

ثم أقام الله تعالى الأدلة على سعة علمه ، فقال :

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي ألا يعلم الخالق الذي خلق الإنسان وأوجده السرّ ومضمرات القلوب؟ فهو تعالى الذي خلق الإنسان بيده ، وأعلم شيء بالمصنوع صانعه ، وهو العليم بدقائق الأمور ، وما في القلوب ، والخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور ، لا تخفى عليه من ذلك خافية. والمراد : ألا يعلم السّر من خلق السّر.

وقيل : معناه : ألا يعلم الله مخلوقه؟ قال ابن كثير : والأول (أي ألا يعلم الخالق) أولى لقوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). والواقع أن كلا المعنيين محتمل ،

٢١

فيمكن جعل (مَنْ) اسما للخالق جل وعز ، ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه ، كما يمكن جعلها اسما للمخلوق ، ويكون المعنى : ألا يعلم الله من خلق.

ولا بد من أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه.

ثم أقام الله تعالى الدليل على قدرته ، ونبّه إلى تمام نعمته ، فقال :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي إن الله هو الذي سخّر لكم الأرض وذلّلها لكم ، وجعلها سهلة لينة قابلة للاستقرار عليها ، لا تميد ولا تضطرب ، بما جعل فيها من الجبال ، وفجّر فيها الينابيع ، وشقّ الطرق ، وهيّأ المنافع ، وأنبت فيها الزروع وأخرج الثمار ، فسيروا في جوانبها وأقطارها وأرجائها حيث شئتم بحثا عن المكاسب والتجارات والأرزاق ، ولا يغني السعي شيئا عن تيسير الله ، لذا قال تعالى : (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض ، ومكّنكم من الانتفاع بها ، وأعطاكم القدرات على تحصيل خيراتها ، ثم اعلموا أنكم في النهاية صائرون إليه ، فإليه النشور ، أي البعث من قبوركم ، لا إلى غيره ، وإليه المرجع يوم القيامة ، فاحذروا الكفر والمعاصي في السر والعلن.

والآية دليل على قدرة الله ومزيد إنعامه على خلقه ، وعلى أن السعي واتخاذ الأسباب لا ينافي التوكل على الله ، وعلى أن الاتجار والتكسب مندوب إليه. أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله ،

٢٢

المتأكلون ، إنما المتوكل رجل ألقى حبّه في بطن الأرض ، وتوكل على الله عزوجل.

ويكون المراد من الآيتين هذه وما قبلها تهديد الكافرين بأن الله عالم بسرهم وجهرهم ، وأنه هو المنعم المتفضل عليهم بما يسّر لهم من خيرات الأرض ، فاحذروا عقابه ، فكأنه تعالى قال : أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم ، فكونوا خائفين مني ، محترزين من عقابي ، فقد أسكنتكم في هذه الأرض التي ذلّلتها لكم ، وجعلتها سببا لنفعكم ورزقكم ، وإني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض ، وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ إن خشية الله ، والخوف من عذابه وعقابه ، ومجاهدة الشيطان واجب كل إنسان ، وإن الذين يخافون الله ، ويخافون عذابه الغائب عنهم وهو عذاب يوم القيامة ، ويراقبون الله في سرهم وعلنهم ، لهم مغفرة لذنوبهم ، وثواب كبير وهو الجنة.

٢ ـ إن الله تعالى عالم على السواء بالجهر وبالسر ، وبما في الصدور من خطرات وخفايا وبما في القلوب من الخير والشر. وعليه يكون ما أخفاه المشركون من الكلام في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما جهروا به معلوما تمام العلم لله عزوجل. كذلك كل ما يكيد به الناس للإسلام وقرآنه ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهله في كل عصر ، دولا وأفرادا ، يعلم به الله ، ويعاقب أهل الكيد والمكر والشر والضلال عليه.

٣ ـ الدليل على كونه تعالى عالما بجميع الأشياء السرية والعلنية أنه هو الخالق للإنسان وأفعاله وأقواله ، ومن خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه.

٢٣

٤ ـ إن الأرض وما فيها من خيرات ومنافع وكنوز مسخرة للإنسان هي من نعمة الله وفضله ، وهي حقل التجارب ، ومرصد السلوك الإنساني ، والله الذي ذلّلها ويسّر لعباده الأرزاق فيها قادر أيضا على أن يخسفها بأهلها وسكانها ، ويكون المصير والمرجع إليه بعد البعث من القبور للحساب والجزاء ، فما على الناس إلا استعمال الأرض في الخير ، والبعد عن الشر والمنكرات والكفر والمعاصي.

أنواع من الوعيد والتهديد والعبرة بالأمم السابقة

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩))

الإعراب :

(أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ أَنْ) : في موضع نصب على البدل من (مَنْ فِي السَّماءِ) وهو بدل اشتمال. وكذا قوله : (أَنْ يُرْسِلَ) بدل من (مَنْ).

(صافَّاتٍ) حال منصوب ؛ لأن المراد بالرؤية في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) رؤية العين ، لا رؤية القلب. وقوله : (وَيَقْبِضْنَ) عطف على (صافَّاتٍ) والجملة في موضع الحال ، وتقديره : قابضات ، وعطف هنا الفعل المضارع على اسم الفاعل ؛ لما بينهما من المشابهة.

البلاغة :

(صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) بينهما طباق ؛ لأن المعنى صافات وقابضات.

(نَذِيرِ) ، (نَكِيرِ) ، (بَصِيرٌ) سجع مرصّع مراعاة لرؤوس الآيات.

٢٤

المفردات اللغوية :

(أَمْ أَمِنْتُمْ) بتحقيق الهمزتين ، أو بقلب الهمزة الأولى واوا ، أو بتسهيل الثانية مع الفصل ، أو بلا فصل ، أو مع إدخال ألف بينهما ، أو بإبدال الثانية ألفا ، والأمن : ضد الخوف. (مَنْ فِي السَّماءِ) هو الله ، على زعم العرب أنه تعالى في السماء. (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) أن يغوّر بكم الأرض ، ويغيبكم فيها ، ومنه قوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) [القصص ٢٨ / ٨١]. (تَمُورُ) ترتجّ وتتحرك وتضطرب.

(حاصِباً) ريحا شديدة فيها حصباء ترميكم بها وتهلككم. (فَسَتَعْلَمُونَ) عند معاينة العذاب. (كَيْفَ نَذِيرِ) أي إنذاري بالعذاب أنه حق ، وتخويفي به. (مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم. (نَكِيرِ) إنكاري عليهم بإنزال العذاب ، وهو تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهديد لقومه المشركين.

(أَوَلَمْ يَرَوْا) ينظروا. (فَوْقَهُمْ) في الهواء. (صافَّاتٍ) باسطات أجنحها في الجو عند طيرانها. (وَيَقْبِضْنَ) أي وقابضات يضمنها تارة أخرى. (ما يُمْسِكُهُنَ) عن الوقوع في حال البسط والقبض. (إِلَّا الرَّحْمنُ) بقدرته ، الشامل رحمته كل شيء. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) يعلم كيف يخلق الغرائب ويدبر العجائب. والمعنى : ألم يستدلوا بطيران الطير في الهواء على قدرتنا أن نعذبهم كما عذبنا الأمم المتقدمة؟

المناسبة :

بعد بيان الأدلة على علم الله وقدرته لترهيب الكافرين وتخويفهم ، أورد تعالى أدلة أخرى بقصد الوعيد والتهديد ، من إمكان الخسف العاجل بأهل الأرض ، أو إرسال الريح الحاصب التي تدمر كل شيء ، مع التذكير بإهلاك الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم نوح وفرعون وجنوده ، وإقدار الطير على الطيران في جو السماء.

التفسير والبيان :

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ، فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أي هل تأمنون أن يخسف أو يغور ويقلع الله بكم الأرض ، كما خسف بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها ، فإذا هي تضطرب وتتحرك وتموج بكم؟

٢٥

والمراد بهذا الاستفهام الوعيد والإخبار بأنه تعالى قادر على تعذيب من كفر بالله وأشرك معه إلها آخر. قال ابن عباس : أأمنتم من في السماء إن عصيتموه.

ونظير الآية قوله تعالى : (قُلْ : هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) [الأنعام ٦ / ٦٥].

ولكن من لطفه ورحمته تعالى بخلقه أنه يحلم ويصفح ، ويؤجل ولا يعجّل كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ، فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) [فاطر ٣٥ / ٤٥].

ثم أتبع الله تعالى ذلك بوعيد آخر :

(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ، فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي بل هل أمنتم ربكم الله الذي هو في السماء كما تزعمون ، وهل أمنتم سلطانه وملكوته وقهره أن يرسل عليكم ريحا مصحوبة بحجارة من السماء ، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل في مكة ، وحينئذ تعلمون إذا عاينتم العذاب كيفية إنذاري وعقابي لمن خالف وكذب به ، ولكن لا ينفعكم هذا العلم؟!

ونظير الآية قوله تعالى : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٧٨].

ثم ذكّر الله تعالى بعذاب الأمم المتقدمة مؤكدا تخويف الكفار بالمثال والبرهان ، أما المثال فهو :

(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إن الكفار الذين كانوا قبلهم ، والذين كذبوا الرسل ، شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم ، كعاد وثمود وكفار الأمم ، فحاق بهم سوء العذاب ، وانظروا كيف كان إنكاري عليهم بما أوقعته بهم من العذاب الشديد؟

٢٦

وأما البرهان فقد ذكر تعالى عدة براهين على كمال قدرته ، مما يدل على كونه تعالى قادرا على إيقاع جميع أنواع العذاب بالكفار.

وهذا هو البرهان الأول :

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي أولم ينظروا إلى الطير فوقهم في الجو أو الهواء ، وهن باسطات أجنحتها تارة ، وقابضات ضامات لها تارة أخرى ، ما يمسكهن في الهواء عند الطيران والقبض والبسط إلا الإله الرحمن القادر على كل شيء ، بما سخّر لهن من الهواء برحمته ولطفه ، إنه سبحانه عليم بصير بما يصلح كل شيء من مخلوقاته ، لا يخفى عليه شيء من دقائق الأمور وعظائمها.

ونظير الآية : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل ١٦ / ٧٩].

قالوا : وفي الآية دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى ؛ لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري لها ، وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يلي :

١ ـ الله تعالى هو القادر على أن يخسف بالكافرين والظالمين الأرض ، عقوبة على كفرهم ، كما خسف بقارون وبداره الأرض ، فإذا الأرض تذهب وتجيء وتغور بهم وتبتلعهم.

وإنما خص الله تعالى السماء في قوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء ، لا من يعظمونه في الأرض ، علما بأنه تعالى

٢٧

إله في السماء وفي الأرض ، كما قال : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) [الزخرف ٤٣ / ٨٤].

وقد احتج المشبّهة على إثبات المكان لله تعالى بقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) وأجابهم الرازي بأن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين ؛ لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطا به من جميع الجوانب ، فيكون أصغر من السماء ، والسماء أصغر من العرش بكثير ، فيلزم أن يكون الله تعالى شيئا أصغر من العرش ، وذلك محال باتفاق أهل الإسلام ؛ لأن العرش أكبر المخلوقات في السماء والأرض. ولأنه تعالى قال: (قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ : لِلَّهِ) [الأنعام ٦ / ١٢] فوجب صرف الآية عن ظاهرها إلى التأويل. وللتأويل وجوه أولاها : تقدير الآية : أأمنتم من في السماء سلطانه وملكه وقدرته ، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله وتعظيم قدرته ، كما قال : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام ٦ / ٣] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين (١).

٢ ـ إن الله تعالى هو الذي أنعم على عباده بتذليل الأرض ، وجعلها سهلة للاستقرار عليها ، وامتن عليهم ، فأباح لهم السير في نواحيها وأقطارها وآكامها وجبالها بحثا عن الرزق وللاتجار والتكسب ، وأذن لهم بالأكل مما أحله لهم ، ثم هم في النهاية مرجعهم إلى الله ، فإن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها ، والأرض ذلولا ، قادر على أن يبعثهم وينشرهم من قبورهم أحياء.

٣ ـ إن الله عزوجل هو القادر أيضا على تعذيب الكفار بإرسال حجارة من السماء ، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل ، وحين وقوع العذاب يعلمون كيف إنذار الله بالعذاب أنه حق.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٧٠

٢٨

٤ ـ أكد الله تعالى تخويفات الكفار بضرب المثل بمن كانوا قبلهم ، فإنهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم ، وكفار هذه الأمم المتقدمة ، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وأصحاب الرّسّ وقوم فرعون.

٥ ـ من البراهين الدالة على قدرته تعالى : أنه كما ذلّل الأرض للإنسان ، ذلل الهواء للطيور ، وما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عزوجل ، وهو عليم بصير بكل شيء وبما يصلح كل شيء من مخلوقاته.

توبيخ المشركين على عبادة الأصنام وإثبات قدرة الله

واختصاصه بعلم البعث

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧))

الإعراب :

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) أم : حرف عطف ، ومن : في موضع رفع بالابتداء ، و (هذَا) : مبتدأ ثان ، و (الَّذِي) : خبره. و (هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) : صلته. و (يَنْصُرُكُمْ) : جملة فعلية في موضع رفع صفة ل (جُنْدٌ). والجملة من المبتدأ الثاني

٢٩

وخبره خبر عن المبتدأ الأول. وجواب الشرط في قوله : (إِنْ أَمْسَكَ) محذوف دل عليه ما قبله ، أي فمن يرزقكم؟

(أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا ..) خبر من محذوف دل عليه خبر (من) في الجملة السابقة وهو أهدى.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ قَلِيلاً) : نعت لمصدر محذوف ، و (ما) : زائدة ، و (تَشْكُرُونَ) : مستأنف أو حال مقدرة ، أي تشكرون شكرا قليلا.

(وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ هذَا) : في موضع رفع بالابتداء ، و (الْوَعْدُ) : صفة له ، أو بدل ، و (مَتى) : خبره ، وفيه ضمير يعود على (الْوَعْدُ).

البلاغة :

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي) استفهام إنكار.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) استعارة تمثيلية ، مثّل المؤمن بمن يمشي سويا على صراط مستقيم ، ومثّل الكافر بمن يمشي مكبا على وجهه إلى طريق جهنم.

(غُرُورٍ) ، (نُفُورٍ) سجع مرصع لمراعاة رؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(أَمَّنْ هذَا) أي من هذا. (جُنْدٌ لَكُمْ) أعوان لكم. (يَنْصُرُكُمْ) يدفع العذاب عنكم.(مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) أي غيره يدفع عنكم عذابه ، أي لا ناصر لكم. (إِنِ الْكافِرُونَ) أي ما الكافرون. (إِلَّا فِي غُرُورٍ) غرّهم الشيطان بأن العذاب لا ينزل بهم ، والمراد أنه لا معتمد لهم.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) من هذا الذي يرزقكم غير الله؟ (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) إن منع عنكم رزقه ، بإمساك المطر وسائر أسباب المعيشة ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله تقديره فمن يرزقكم أي لا رازق لكم غيره. (لَجُّوا) تمادوا واستمروا. (فِي عُتُوٍّ) أي تكبر وعناد عن قبول الحق. (وَنُفُورٍ) إعراض وتباعد عن الحق.

(مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) واقعا على وجهه من حين لآخر. (سَوِيًّا) معتدلا منتصب القامة. (عَلى صِراطٍ) طريق. (مُسْتَقِيمٍ) قويم مستوي الأجزاء أو الجهة ، والمراد تمثيل المؤمن المتدين والمشرك الكافر.

(أَنْشَأَكُمْ) خلقكم. (وَالْأَفْئِدَةَ) القلوب والعقول لتتفكروا وتعتبروا.(قَلِيلاً

٣٠

ما تَشْكُرُونَ) باستعمال الحواس فيما خلقت من أجله ، وما : مزيدة ، والجملة مستأنفة. (ذَرَأَكُمْ) خلقكم متكاثرين موزعين. (تُحْشَرُونَ) تجمعون للحساب والجزاء.

(مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي الحشر أو إيقاع العذاب من الخسف والحاصب. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيه أيها النبي والمؤمنون به. (إِنَّمَا الْعِلْمُ) العلم بوقته وبمجيئه. (عِنْدَ اللهِ) لا يطلع عليه غيره. (نَذِيرٌ مُبِينٌ) رسول منذر بيّن الإنذار.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ) رأوا الوعد الموعود به. (زُلْفَةً) أي ذا زلفة ، أي قريبا منهم. (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) اسودّت وعلتها الكآبة وساءتها رؤية العذاب. (وَقِيلَ) قال لهم الخزنة. (هذَا) العذاب. (تَدَّعُونَ) تطلبون وتستعجلون استهزاء واستنكارا. وهذه حكاية حال ستأتي ، عبر عنها بلفظ الماضي للدلالة على تحقق وقوعها.

المناسبة :

بعد أن أورد الله تعالى البرهان الأول على كمال قدرته وهو تمكين الطيور من الطيران ، وبّخ المشركين على عبادة الأصنام ، وردّ على اعتقادهم شيئين أو أمرين : وهما القوة في الأعوان ، وجلب الخير من الأصنام ، ثم أورد تعالى برهانين آخرين على كمال قدرته : وهما خلق الناس وحواسهم ، وتكاثر الخلق واستمرارهم وتوزيعهم في الأرض ثم حشرهم إليه. ثم ذكر شيئين قالهما الكفار لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمره ربه بتخويفهم بعذاب الله وهما مطالبته بتعيين وقت العذاب ، ودعاؤهم عليه وعلى المؤمنين بالهلاك ، وهذا الأخير موضع الفقرة التالية.

فتكون البراهين الثلاثة على كمال قدرة الله هي الاستدلال أولا بأحوال الطيور من الحيوانات ، ثم الاستدلال بصفات الإنسان وهي السمع والبصر والعقل وحدوث ذاته ، ثم الاستدلال بضمان تكاثر الخلق وحفظ النوع الإنساني وتوزيعه في أنحاء الأرض والحشر يوم القيامة.

التفسير والبيان :

يرد الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره ، يبتغون عندهم النصر

٣١

والرزق ، فيقول منكرا عليهم ما اعتقدوه ، ومخبرا أنهم لن يحصلوه على ما أمّلوه :

١ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ ، إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي بل من هذا الجند أو العون الذي يعينكم ويمنعكم من عذاب الله إن أراد بكم سوءا؟! الواقع أنه ليس لكم من دون الله من ولي ولا واق ، ولا ناصر لكم غيره ، ولهذا فإن الكافرين هم في خداع وغرور عظيم من جهة الشيطان ، غرهم بأن العذاب لا ينزل بهم.

والتعبير بقوله : (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) إشارة إلى أن بقاء الناس في الأرض مع كفرهم وظلمهم هو برحمة الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء.

والآية رد على الكفار الذين كانوا يمتنعون من الإيمان ، ويعتمدون في زعمهم واعتقادهم المخطئ على القوة من جهة الإخوة والأعوان ، مخبرا إياهم أنه لا ناصر لهم سوى الله سبحانه.

ثم رد الله تعالى على ادعائهم وجود رازق غير الله ، وأن الأصنام مصدر جميع الخيرات لهم ، ودفع كل الآفات عنهم ، فقال :

٢ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي بل من هذا الذي إذا منع الله عنكم رزقه ، رزقكم بعده بالأمطار وغيرها؟ والمعنى أنه لا أحد يعطي ويمنع ، ويرزق وينصر إلا الله عزوجل ، وحده لا شريك له ، وهم يعلمون ذلك ، ومع هذا يعبدون غيره ، لذا وصفهم تعالى بقوله : (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي بل تمادوا واستمروا في عناد واستكبار عن الحق ، ونفور عنه ، وتابعوا طريقهم في طغيانهم وإفكهم وضلالهم ، ولم يعتبروا ولم يتفكروا.

فدلت الآيتان على أنه لا ناصر ينصر من عذاب الله ، ولا رازق يرزق غير الله إن حجب رزقه عن مخلوقاته.

٣٢

ثم ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر أو الموحد والمشرك ، فقال :

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى ، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) أرأيتم حال المؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مكبّا على وجهه ، أي يمشي متعثرا في كل وقت ، منحنيا غير مستو ، لا يدري أين يسلك ، ولا كيف يذهب ، بل هو تائه حائر ضال.

أهذا أهدى أم ذلك المؤمن الذي مثله كمن يسير معتدلا ناظرا أمامه على طريق مستو ، لا اعوجاج به ولا انحراف فيه ، فهو في نفسه مستقيم ، وطريقه مستقيمة ، سواء في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا إذ يسير على منهج الله يكون على هدى وبصيرة ، وفي الآخرة يحشر على طريق مستقيم يؤدي به إلى الجنة. وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته ، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سويا على صراط مستقيم أهدى.

ثم ذكر الله تعالى البرهان الثاني الدال على كمال قدرته قائلا :

(قُلْ : هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين : إن الله ربكم هو الذي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، وأوجد لكم حاسة السمع لسماع المواعظ به ، وحاسة البصر لنظر بدائع خلق الله ، والقلوب والعقول للتأمل والتفكير في مخلوقات الله وإدراك حقائق الأشياء ، ولكن قلّما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره ، وترك زواجره ، وفيما خلقت لأجله من الخير ، وذلك هو الشكر الحقيقي لهذه الطاقات ، لا مجرد ترداد الشكر باللسان ، وملازمة العصيان ؛ لأن شكر نعمة الله تعالى : هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه ، فإذا لم تستعمل هذه القوى في طلب مرضاة الله ، فأنتم ما شكرتم نعمته مطلقا.

٣٣

فقوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) إشارة إلى أنه تعالى أعطاهم هذه القوى العظيمة ، ولكنهم ضيّعوها في غير ما خلقت لأجله.

وإنما خصت هذه الجوارح بالذكر ؛ لأنها أداة العلم والفهم.

ثم ذكر الله تعالى البرهان الثالث على كمال قدرته ، فقال :

(قُلْ : هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وقل لهم أيضا : إن الله هو خلقكم وبثكم ووزعكم في أنحاء الأرض ، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم ، واختلاف ألوانكم وأشكالكم ، ثم إليه تجمعون بعد هذا التفرق والشتات ، فهو يجمعكم كما فرقكم ، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء.

وبعد أمر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخويف الكفار بعذاب الله ، ذكر مقالة الكفار ومطالبتهم بتعيين وقت البعث استهزاء واستنكارا ، فقال :

(وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) أي ويقول المشركون لمحمد والمؤمنين تهكما واستهزاء : متى يقع ما تعدنا به من القيامة والحشر والعذاب والنار في الآخرة ، والخسف والحاصب في الدنيا ، إن كنتم يا محمد والمؤمنون به صادقين فيما تدعونه؟ فأخبرونا به ، أو فبيّنوه لنا.

فأجابهم الله بقوله :

(قُلْ : إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قل لهم أيها النبي : إنما علم ذلك عند الله ، فلا يعلم وقت الساعة والعذاب على التعيين إلا الله عزوجل ، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة ، فاحذروه ، وإنما أنا منذر لكم ، أنذركم وأخوّفكم عاقبة كفركم ، فعليّ البلاغ وقد أديته لكم.

ثم وصف تعالى حال أولئك الكفار عند رؤية العذاب ، فقال :

٣٤

(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَقِيلَ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي فلما رأوا العذاب الموعود به قريبا في الدنيا ، وقامت القيامة وشاهدها الكفار ، ورأوا أن الأمر كان قريبا ؛ لأن كل ما هو آت قريب وإن طال زمنه ، اسودّت وجوههم ، وعلتها الكآبة ، وغشيتها الذلة والمهانة ، وقالت لهم ملائكة العذاب الخزنة على وجه التقريع والتوبيخ : هذا الذي كنتم في الدنيا تطلبونه وتستعجلون به استهزاء ، في قولكم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأحقاف ٤٦ / ٢٢].

ونظير الآية : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الزمر ٣٩ / ٤٧ ـ ٤٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ لا ناصر ولا رازق للمؤمن والكافر في الحقيقة والواقع إلا الله عزوجل ، ولكن الكافرين في غرور من الشياطين تغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب ، وفي تماد واستمرار في طغيانهم وضلالهم ونفورهم عن الحق.

٢ ـ مثل الكافر في ضلاله وحيرته كالرجل المنكّس الرأس الذي لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله ، والذي لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه ، ومثل المؤمن في هدايته وتبصره كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المستقيم المهتدي له. ولا شك بأن الثاني أهدى من الأول.

٣ ـ هناك براهين ثلاثة على كمال قدرة الله تعالى : وهي تمكين الطيور من الطيران في الهواء ، وخلق الإنسان وتزويده بطاقات السمع والبصر والفؤاد أو العقل ، وخلق الناس موزعين مفرقين على ظهر الأرض ثم حشر الناس يوم القيامة ، لمجازاة كلّ بعمله ؛ لأن القادر على البدء أقدر على الإعادة.

٣٥

٤ ـ غالب الناس لا يشكرون نعم الله باستعمال حواسهم فيما خلقت لأجله ، ولا يوحدون الله تعالى.

٥ ـ طالب الكفار بعد تخويفهم بعذاب الله بتعيين الوقت الموعود به استهزاء وإنكارا.

٦ ـ الجواب عن تساؤلهم واستعجالهم : أن علم وقت قيام الساعة عند الله وحده ، فلا يعلمه غيره. وما مهمة الرسول إلا البلاغ المبين والإنذار والتخويف البيّن من العذاب.

دعاء كفار مكة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بالهلاك

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

الإعراب :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ .. فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ) إنما جاءت الفاء في قوله : (فَمَنْ يُجِيرُ) جوابا للجملة ؛ لأن معنى (أَرَأَيْتُمْ) انتبهوا ، وتقديره : انتبهوا فمن يجير ، كما تقول : اجلس فزيد جالس ، وليست جوابا للشرط. وجواب الشرط ما دل عليه (أَرَأَيْتُمْ). ويجوز أن تكون الفاء زائدة ، ويكون الاستفهام قائما مقام مفعول. (أَرَأَيْتُمْ) مثل : أرأيت زيدا ما صنع. وهكذا الكلام على الفاء في قوله تعالى : (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ). ومنهم من قال : الفاء جواب الشرط.

(إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي غائرا ، وهو خبر (أَصْبَحَ). وقوله : (مَعِينٍ) إما فعيل من (معن) الماء : إذا كثر ، فتكون الميم أصلية ، أو يكون مفعولا من (العين) وأصله (معيون) فاستثقلت الضمة على الياء ، فحذفت ، فبقيت الياء ساكنة ، والواو ساكنة ، فحذفت الواو لسكونها وسكون ما قبلها ، وكسر ما قبل الياء مناسبة لها ؛ لأنه ليس في كلامهم ياء قبلها ضمة.

٣٦

المفردات اللغوية :

(أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (أَهْلَكَنِيَ) أماتني. (وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين. (أَوْ رَحِمَنا) بتأخير آجالنا. (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي لا ينجيهم أحد من العذاب ، و (يُجِيرُ) ينجي أو يمنع. (غَوْراً) غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء ونحوها. (مَعِينٍ) جار كثير ، سهل التناول. والمراد : لا يأتي به إلا الله تعالى ، فكيف تنكرون أن يبعثكم؟!

ويستحب أن يقول القارئ عقب قوله (مَعِينٍ) : الله رب العالمين ، كما ورد في الحديث.

سبب النزول :

روي أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، فنزلت الآية.

المناسبة :

هذا هو الأمر الثاني الذي حكاه الله عن الكفار بعد تخويفهم بعذاب الله ، فطالبوا أولا بتعيين وقت الحشر والبعث والعذاب ، ثم دعوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، كما قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور ٥٢ / ٣٠] وقال : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) [الفتح ٤٨ / ١٢].

التفسير والبيان :

أجاب الحق سبحانه وتعالى عن دعاء الكافرين بهلاك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من وجهين:

الوجه الأول ـ (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا ، فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله ، الجاحدين لنعمه : أخبروني عن أي فائدة أو منفعة لكم ، أو راحة فيما إذا أهلكني الله بالإماتة أو رحمني بتأخير الأجل ، أنا ومن معي من المؤمنين ، فلو فرض أنه وقع بنا

٣٧

ذلك ، فلا ينجي الكافرين أحد من عذاب الله ، سواء أهلك الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين معه ، كما كان الكفار يتمنونه أو ينتظرونه ، أو أمهلهم.

والمراد بالآية تنبيه الكفار وحثهم على طلب النجاة والإنقاذ بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الله بالإيمان والإقرار بالتوحيد والنبوة والبعث ، وإعلامهم بأنه لا ينفعهم وقوع ما يتمنون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من العذاب والنكال ، فسواء عذبهم الله أو رحمهم ، فلا مناص لهم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بهم.

الوجه الثاني ـ (قُلْ : هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ ، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا ، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قل لهم : إنه الله الرحمن الذي آمنا به وحده ، لا نشرك به شيئا ، وعليه توكلنا في جميع أمورنا ، لا على غيره. والتوكل : تفويض الأمور إليه عزوجل ، كما قال تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود ١١ / ١٢٣]. ولهذا قال تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ستدركون من هو في خطأ واضح منا ومنكم ، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة. وفيه تعريض بالكفرة أنهم متكلون على الرجال والأموال. وإذا كان هذا حالهم فكيف يقبل الله دعاءهم على المؤمنين؟

ثم ذكر الله تعالى الدليل على وجوب التوكل عليه لا على غيره ، فقال مظهرا الرحمة في خلقه :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي قل لهم يا محمد: أخبروني إن صار ماؤكم الذي جعله الله لكم في العيون والآبار والأنهار لمنافعكم المتعددة غائرا ذاهبا في الأرض إلى أسفل بحيث لا ينال بالدلاء وغيرها ، فمن الذي يأتيكم بماء كثير جار لا ينقطع ، أي لا يأتيكم به أحد إلا الله تعالى ، وذلك بالأمطار والثلوج والأنهار ، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض لتحقيق حاجة الناس قلة وكثرة.

٣٨

والمقصود أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه ، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. فإذا كان لا بد وأن يقولوا : هو الله ، فيقال لهم حينئذ : فلم لا تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في المعبودية؟ والآية دليل على وجوب الاعتماد على الله تعالى في كل حاجة ، مع أنه برهان آخر على كمال قدرته ووحدانيته ، وإشارة إلى أن الفتوح العقلي لا يتيسر إلا بإعانة الله تعالى.

ونظير الآية : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) [الواقعة ٥٦ / ٦٨ ـ ٦٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لا فائدة ولا جدوى من دعاء الكفار على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ؛ لأنه لا يستجاب دعاؤهم ، ولأنه إن مات المؤمنون أو رحموا فأخر الله تعالى آجالهم ، فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟ فلا حاجة بهم إلى توقع السوء وانتظاره بمن آمنوا ، ولا إلى استعجال قيام الساعة ، وما عليهم لتخليص نفوسهم من العذاب إلا إعلان الإيمان والإقرار بالتوحيد والنبوة والبعث.

٢ ـ يجب الاعتماد والتوكل على الله تعالى في كل حاجة ، بعد اتخاذ الأسباب والوسائل المقدورة للبشر ، وشأن المؤمنين أن يتكلوا على الله سبحانه ، أما الكفار فيتكلون على رجالهم وأموالهم.

٣ ـ إن الله تعالى هو القادر على إمداد خلقه بالأرزاق والأمطار والمياه النابعة ، ولا أحد غير الله عزوجل يقدر على ذلك ، والله برحمته وفضله ومنّه وكرمه يمدّ عباده بما يحتاجون ، وإن كفروا وجحدوا به.

٣٩

يحكى أن بعض المتجبرين على الله قرئت الآية : (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ..) عنده ، فقال : تأتينا به الفؤوس والمعاول ، فذهب ماء عينيه. وهذا من الإعجاز.

٤٠