التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

فتشهد عليه جوارحه ، ويقال له : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء ١٧ / ١٤].

الخامسة ـ الآية في الحر المالك لأمر نفسه. أما العبد : فإن أقر بموجب عقوبة من القتل فما دونه ، نفذ عليه. وقال محمد بن الحسن : لا يقبل ذلك منه ؛ لأن بدنه مستغرق لحق السيد ، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه ، ودليل الرأي الأول قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبادة بن الصامت : «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ، فإن من يبد لنا صفحته ، نقم عليه الحدّ».

السادسة ـ قيل : إن معنى قوله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) أي عليه من يبصر أعماله ، ويحصيها ، وهم الكرام الكاتبون. والراجح ما ذكر من المعنى المتقدم.

حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حفظ القرآن وحال الناس في الآخرة

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))

الإعراب :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال ابن الأنباري رحمه‌الله تعالى : في هذه الآية دليل على إثبات الرؤية ؛ لأن النظر إذا قرن بالوجه ، وعدّي بحرف الجر ، دل على أنه بمعنى النظر بالبصر ، فيقال : نظرت الرجل : إذا انتظرته ، ونظرت إليه : إذا أبصرته.

وكلمة (وُجُوهٌ) مبتدأ ، وابتدأ بالنكرة ؛ لأنها تخصصت بقوله (يَوْمَئِذٍ) و (ناضِرَةٌ) خبر (وُجُوهٌ).

٢٦١

البلاغة :

(بَنانَهُ بَيانَهُ) جناس ناقص ؛ لاختلاف بعض الحروف.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ .. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ .. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ..) مقابلة بين نضارة وجوه المؤمنين ، وكلاحة وجوه المجرمين.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) مجاز مرسل في رأي الزمخشري ، من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، فقال : الوجه عبارة عن الجملة ، قال البيضاوي : وتفسيره بالجملة خلاف الظاهر ، وإن المستعمل بمعناه لا يعدّى بإلى لذا قال النيسابوري في غرائب القرآن : ٢٨ / ١١٠ : الأولى أن يراد بالوجوه : العيون ، فيكون من إطلاق الكل على الجزء ، لا عكسه.

المفردات اللغوية :

(لا تُحَرِّكْ بِهِ) لا تحرك يا محمد بالقرآن لسانك قبل فراغ جبريل منه ، أي قبل أن يتم وحيه. (لِتَعْجَلَ بِهِ) لتأخذه على عجل ، مخافة أن يتفلت أو يضيع منك. (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك. (وَقُرْآنَهُ) وإثبات قراءته في لسانك. (فَإِذا قَرَأْناهُ) بلسان جبريل عليك. (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) استمع قراءته ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمع ثم يقرؤه ، ويكرر قراءته حتى يرسخ في ذهنه. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) تفسير ما أشكل فيه من المعاني ، وبيان ما فيه من الحلال والحرام. وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.

(كَلَّا) ردع للإنسان عن الاغترار بالدنيا العاجلة. (الْعاجِلَةَ) دار الدنيا وما فيها. (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) تتركون العمل والاستعداد لها ، وهو إشعار بأن بني آدم مطبوعون على الاستعجال. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة. (ناضِرَةٌ) حسنة مضيئة ، متهللة بشرا بما تراه من النعيم. (ناظِرَةٌ) رائية عيانا تنظر إلى ربها بلا حجاب. وقال مجاهد : تنتظر الثواب من ربها. (باسِرَةٌ) شديدة العبوس ، كالحة متغيرة مسودّة. (تَظُنُ) توقن وتتوقع. (فاقِرَةٌ) داهية عظيمة تكسر فقار الظهر.

سبب النزول :

نزول الآية (١٦):

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ..) : أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أنزل الوحي ، يحرّك به لسانه ، يريد أن يحفظه ، فأنزل الله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) الآية.

٢٦٢

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أن منكر القيامة والبعث معرض عن آيات الله تعالى ومعجزاته ، وأنه قاصر شهواته على الفجور ، غير مكترث بما يصدر منه ، ذكر حال من يثابر على تعلّم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها ، رجاء قبوله إياها ، ليظهر بذلك تباين حال من يرغب في تحصيل آيات الله ، ومن يرغب عنها ، فتلك الآيات تضمنت حال الإعراض عن آيات الله ، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها ، وبضدها تتميز الأشياء (١).

ثم ذكر تعالى سبب إنكار البعث وهو حب الإنسان الدنيا العاجلة ، وترك الآخرة ، ووبخ أهله ، ثم أوضح تعالى انقسام الناس في الآخرة إلى فريقين : فريق المؤمنين المستمتعين بالنعيم وبرؤية الله عزوجل ، وفريق المشركين الذين يترقبون نزول الدواهي العظام من العذاب بهم.

التفسير والبيان :

علّم الله عزوجل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيفية تلقي الوحي من الملك جبريل ، فقال : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرصا منه على القرآن الموحى به إليه ، يبادر إلى أخذه ، ويسابق الملك في قراءته ، ويحرك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا أنزل عليه ، قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي ، حرصا على أن يحفظه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية.

أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي ، لتأخذه على عجل ، مخافة أن يتفلت منك كما قال تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ، وَقُلْ : رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه ٢٠ / ١١٤].

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٣٨٨

٢٦٣

إن علينا جمعه في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيء ، وعلينا إثبات قراءته في لسانك على الوجه القويم.

فإذا أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل ، فاستمع له وأنصت ، ثم اقرأه كما أقرأك ، وكرره حتى يرسخ في ذهنك.

ثم إننا بعد حفظه وتلاوته نفسر لك ما فيه من الحلال والحرام ، ونبين ونوضح لك ما أشكل منه ، ونلهمك معناه كما أردنا وشرعنا.

وهكذا اشتملت الآيات الأربع على أحوال ثلاث : هي جمعه في صدره ، وحفظه ، في الآية الأولى والثانية ، وتلاوته وتيسير أدائه كما أنزل ، في الآية الثالثة ، وتفسيره وبيانه وإيضاح معناه في الآية الرابعة.

ثم انتقل البيان إلى حال الإنسان السابق المنكر البعث ، فوبخه وقرعه على إنكاره البعث ، فقال تعالى مبينا سبب الإنكار :

(كَلَّا ، بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي أردعكم عما تقولون أيها المشركون من إنكار البعث ، فإنه يحملكم على التكذيب بيوم القيامة ، ومخالفة ما أنزله الله عزوجل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم ، محبتكم واهتمامكم بدار الدنيا العاجلة ، وتشاغلكم عن الآخرة وترككم العمل لها. ولفظ (كَلَّا) عند سائر المفسرين : معناه حقا ، أي حقا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ، والمعنى أنهم يحبون الدنيا ويعملون لها ، ويتركون الآخرة ويعرضون عنها.

وقال الزمخشري : كلا : ردع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عادة العجلة ، وإنكار لها عليه ، وحث على الأناة والتؤدة ، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) كأنه قال : بل أنتم يا بني آدم ؛ لأنكم خلقتم من عجل ، وطبعتم عليه ،

٢٦٤

تعجلون في كل شيء ، ومن ثم تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة (١).

ثم أبان الله تعالى حال المؤمنين وحال الكافرين في الآخرة ، فقال :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي وجوه المؤمنين في الجنة حسنة بهية مشرقة مسرورة ، ترى ربها عيانا ، ووجوه الفجار في النار عابسة كالحة كئيبة ، توقن أن سينزل بها داهية عظيمة تكسر فقار الظهر. قال الأزهري عن مجاهد الذي فسر النظر بالانتظار : قد أخطأ مجاهد ؛ لأنه لا يقال : نظر إلى كذا بمعنى انتظر ، فإن قول القائل : نظرت إلى فلان ، ليس إلا رؤية عين ، فإذا أرادوا الانتظار ، قالوا : نظرته ، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدا.

قال الزمخشري في قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) : تنظر إلى ربها خاصة ، لا تنظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم المفعول ، فإنه يدل على معنى الاختصاص ، ثم رجح أن الآية تفيد معنى التوقع والرجاء (٢).

وهذا منه بسبب كونه من المعتزلة الذين يقولون : لا يدل ظاهر الآية على رؤية الله تعالى ؛ لأن النظر المقرون بحرف (إلى) ليس اسما للرؤية ، بل لمقدمة الرؤية ، وهي تقليب الحدقة نحو المرئي ، التماسا لرؤيته ، فيكون نظر العين مقدمة للرؤية ، وتأولوا قوله تعالى : (ناظِرَةٌ) بمعنى أن أولئك الأقوام ينتظرون ثواب الله.

وأجاب الرازي بأننا نسلم أن النظر عبارة عن تقليب الحدقة .. إلخ لكنا نقول : لما تعذر حمله على حقيقته ، وجب حمله على مسببه وهو الرؤية ، إطلاقا لاسم السبب على المسبب ، وحمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار ؛ لأن

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤

(٢) المرجع السابق : ص ٢٩٤

٢٦٥

تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ، ولا تعلق بينه وبين الانتظار ، فكان حمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار.

ثم أجاب عن قولهم : النظر جاء بمعنى الانتظار بأن هذا كثير في القرآن ، ولكنه لم يقرن البتة بحرف (إلى) كقوله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد ٥٧ / ١٣] وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف ٧ / ٥٣] وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) [البقرة ٢ / ٢١٠]. وإذا فرضنا أن النظر المعدّى بحرف (إلى) جاء في اللغة بمعنى الانتظار ، لكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه ؛ لأن لذة الانتظار مع يقين الوقوع ، كانت حاصلة في الدنيا ، فلا بد وأن يحصل في الآخرة شيء أزيد منه ، حتى يحسن ذكره ، في معرض الترغيب في الآخرة (١). وقال النيسابوري : وحاصل كلامهم أن النظر إن كان بمعنى الرؤية فهو المطلوب ، وإن كان بمعنى تقليب الحدقة نحو المرئي ، فهذا في حقه تعالى محال ؛ لأنه منزه عن الجهة والمكان ، فوجب حمله على مسببه وهو الرؤية ، وهذا مجاز مشهور (٢).

وأيدت الأحاديث المتواترة ما فهمه الجمهور من دلالة الآية على رؤية الله تعالى ، فقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها كما قال ابن كثير ، ثم أورد الأحاديث وقال : وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام ، وهداة الأنام (٣).

وكذلك قال الشوكاني في تفسيره العظيم (فتح القدير) بعد أن فسر آية (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) بقوله : أي إلى خالقها ، ومالك أمرها ، ناظرة ، أي تنظر

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي : ٣٠ / ٢٢٦ ـ ٢٢٩

(٢) غرائب القرآن : ٢٨ / ١١١

(٣) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٥٠

٢٦٦

إليه : هكذا تواترت الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون ربهم يوم القيامة ، كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر.

روى البخاري في صحيحة : «إنكم سترون ربكم عيانا» ، وأخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : «أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال : هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر ، ليس دونهما سحاب؟ قالوا : لا ، قال : إنكم ترون ربكم كذلك».

وفي الصحيحين أيضا عن جرير قال : نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القمر ليلة البدر ، فقال : «إنكم ترون ربكم ، كما ترون هذا القمر ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها ، فافعلوا».

وفي الصحيحين أيضا عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جنتان من ذهب ، آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عزوجل إلا رداء الكبرياء على وجهه ، في جنة عدن».

وأخرج مسلم عن صهيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال : يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم فيقولون : ألم تبيّض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة ، وتنجّنا من النار! قال : فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم ، وهي الزيادة» ثم تلا هذه الآية : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية [يونس ١٠ / ٢٦].

وقال الألوسي : والذي يقطع الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب : ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدارقطني وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى

٢٦٧

وجهه غدوة وعشية» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فهو تفسير منه عليه الصلاة والسلام ، ومن المعلوم أنه أعلم الأولين والآخرين ، لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين (١).

ونظير الآية قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس ٨٠ / ٣٨ ـ ٤٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تكفل الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أمور لحفظ القرآن إلى الأبد : وهي جمعه في صدره عليه الصلاة والسلام ، وتلاوته ، وتفسيره لبيان ما فيه من الحدود والحلال والحرام ، والوعد والوعيد ، والمشكلات.

٢ ـ إن التعجل مذموم مطلقا ، ولو في أمور الدين.

٣ ـ إن سبب إنكار المشركين البعث والحساب والجزاء هو إيثار الدار الدنيا والحياة العاجلة فيها ، وترك الاستعداد للآخرة والعمل لها ، فعلى المؤمن أن يفر من غير الله إلى الله ، ولا يستعين في كل أموره إلا به ، على نقيض الكافر الذي كان يفر من الله إلى غيره حين قال : (أين المفر؟).

٤ ـ ثبوت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الآخرة ، وحرمان الفجار منها ، كان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ، ثم تلا هذه الآية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ). وقد تقدم في

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٩ / ١٤٤

٢٦٨

حديث مسلم عن صهيب أن رؤية الله عزوجل هي الزيادة في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ١٠ / ٢٦].

٥ ـ تكون وجوه الكفار الفجار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة ، مستيقنة أنه سيحل بها عذاب شديد ، وداهية عظيمة.

تفريط الكافر في الدنيا وإثبات البعث

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

الإعراب :

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) أي لم يصدق ولم يصل ، كقوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد ٩٠ / ١١] أي لم يقتحم.

(يَتَمَطَّى) أصله يتمطط ، أي يتبختر ، من المطيطاء (اسم مشية بني مخزوم في الجاهلية ومنهم أبو جهل) فأبدل من الطاء الآخرة ياء ، مثل تظنيت وأصله : تظننت ، وأمليت وأصله : أمللت ، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أَوْلى) مبتدأ ، و (لَكَ) خبره ، وحذف خبر (أَوْلى) الثاني ، اجتزاء بخبر الأول عنها وأولى : ممنوع من الصرف للتعريف ووزن الفعل ؛ لأنه على وزن أفعل.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَنْ يُتْرَكَ) سد مسد مفعولي. (يَحْسَبُ) و (سُدىً) حال من ضمير (يُتْرَكَ). (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرَ وَالْأُنْثى الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) منصوبان على البدل من (الزَّوْجَيْنِ).

٢٦٩

(عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) لا يجوز إدغام إحدى الياءين في الأخرى ؛ لأن الحركة في الثانية حركة إعراب.

البلاغة :

(بَلَغَتِ التَّراقِيَ) كناية عن الإشفاء على الموت.

(صَدَّقَ) و (كَذَّبَ) بينهما طباق.

(السَّاقُ) و (الْمَساقُ) بينهما جناس ناقص. وقوله : (الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) كناية عن الشدة.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) استفهام إنكاري بقصد التوبيخ والتقريع.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) التفات من الغيبة إلى المخاطب ، تقبيحا له وتهجينا.

المفردات اللغوية :

(التَّراقِيَ) جمع ترقوة ، وهي العظام الممتدة من الحلق إلى العاتق من اليمين والشمال ، والمراد بلوغ الروح أعالي الصدر. (وَقِيلَ) قال من حوله. (مَنْ راقٍ) من يرقيه وينجيه ليشفى ، كما يرقى المريض ، والمراد : هل من طبيب يشفي حينئذ. (الْفِراقُ) فراق الدنيا ، أي وظن المحتضر أن الذي نزل به فراق الدنيا وأحبائها

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي التوت إحدى ساقيه بالأخرى عند الموت ، فلا يقدر تحريكها. (الْمَساقُ) السوق إلى الله تعالى وحكمه ، والمعنى : إذا بلغت الروح الحلقوم ، تساق إلى حكم ربها. (فَلا صَدَّقَ) الإنسان. (وَلا صَلَّى) أي لم يصدق بما يجب تصديقه ، أو لم يصدّق ماله ، بأن لم يؤد زكاته ، ولم يؤد صلاته المفروضة. (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) كذب بالقرآن وتولى عن الطاعة. (يَتَمَطَّى) يتبختر في مشيته إعجابا وافتخارا.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي ويل لك ، من الولي ، فهو دعاء وأصله : أولاك الله ما تكرهه أو أولى لك الهلاك ، واللام مزيدة كما في (رَدِفَ لَكُمْ) أو للتبيين. وقوله : (فَأَوْلى) أي فهو أولى بك من غيرك. (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) تأكيد ، أي أنت أولى بتكرر ذلك عليك مرة بعد أخرى ، وتكون الجملة الأولى دعاء عليه بقرب المكروه ، والثانية دعاء عليه بأن يكون أقرب إلى المكروه من غيره.

(أَيَحْسَبُ) يظن. (سُدىً) مهملا لا يكلف بالشرائع ولا يجازى ولا يحاسب ، وهو

٢٧٠

يتضمن تكرار إنكاره للحشر ؛ لأن جزاء التكليف قد لا يكون إلا في الآخرة ، وهذا دليل على إثبات البعث ؛ لأنه لا بد من الجزاء على الأعمال ، حتى لا يتساوى الطائع مع العاصي.

(نُطْفَةً) ماء قليلا ، وتجمع على نطف ونطاف. (يُمْنى) يصب في الرحم ، وقرئ : «تمنى». (ثُمَّ كانَ) المني. (عَلَقَةً) قطعة دم جامد. (فَخَلَقَ) أي أوجد الله تعالى منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة. (فَسَوَّى) أي فسوّاه شخصا مستقلا ، بأن قدّره وعدّله وعدل أعضاءه. (فَجَعَلَ مِنْهُ) من المني الذي صار علقة (قطعة دم) ثم مضغة (قطعة لحم). (الزَّوْجَيْنِ) الصنفين أو النوعين من البشر. (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) بأن يرزق النوعان تارة ، أو ينفرد أحدهما عن الآخر تارة ، وهو استدلال آخر بالإبداء على الإعادة والبعث. (أَلَيْسَ ذلِكَ) الفعال لهذه الأشياء. (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلى.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٤ ، ٣٥):

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ..) : أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت: (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر ٧٤ / ٣٠] قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، يخبركم ابن أبي كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر ، وأنتم الدّهم (العدد) والشجعان ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ، فأوحى الله تعالى إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي أبا جهل ، فيقول له : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى).

وأخرج النسائي عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أشيء قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل نفسه ، أم أمره الله به؟ قال : بل قاله من قبل نفسه ، ثم أنزله الله.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى تعظيم أحوال الآخرة وهي القيامة العظمى ، ووصف ما فيها من أهوال ، وما عليه حال السعداء وحال الأشقياء ، بيّن أن الدنيا لا بد

٢٧١

لها من نهاية ووصول إلى تجرع مرارة الموت وهو القيامة الصغرى ؛ لأن الموت أول منزلة من منازل الآخرة ، فإذا لم يؤمن الكافر بأمر القيامة ، لا يمكنه أن يتخلص من الموت ، وتجرع آلامه ، وتحمل آفاته.

ثم استدل الله تعالى لإثبات البعث بأمرين :

الأول ـ أن العدل يقضي بأنه لا بد من الجزاء على الأعمال ، حتى لا يتساوى الطائع والعاصي ، وذلك لا يكون إلا في الآخرة.

الثاني ـ أنه تعالى كما قدر على بدء الخلق ، فهو قادر على الإعادة والبعث ، بل إن الإعادة أهون في تقدير البشر.

التفسير والبيان :

(كَلَّا ، إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ، وَقِيلَ : مَنْ راقٍ ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ كَلَّا) إذا كانت رادعة ، فالمعنى : لست يا ابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به ، بل صار ذلك عندك عيانا ، وإذا كانت بمعنى حقا ، فالمراد : حقا إذا انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك ، والتراقي : جمع ترقوة ، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق. والضمير في (بَلَغَتِ) للنفس لدلالة قرينة الحال أو المقال ، كما في قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) [الواقعة ٥٦ / ٨٣].

والظاهر المعنى الأول ، قال الزجاج : (كَلَّا) ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة ، كأنه قيل : لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة ، وعرفتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة ، وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي به تنتهي العاجلة ، وتنتقلون إلى الآجلة دار الخلود.

وعلى هذا يكون المعنى العام : ارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة ،

٢٧٢

وتنبهوا إذا بلغت الروح أو النفس أعالي الصدر ، كناية عن الاحتضار وأهواله والموت ؛ وقال من حضر المحتضر : هل من يرقيه ويشفيه ، وهل من طبيب شاف؟ ولكن لن يغنوا عنه من قضاء الله شيئا ؛ وأيقن الذي بلغت روحه التراقي أنها ساعة الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد.

وعبر عن اليقين بالظن ؛ لأن الروح ما دامت في البدن ، يطمع صاحبها في الحياة ، فلا يحصل له يقين الموت ، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة ، كما ذكر الرازي.

والآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه ، باق بعد موت البدن ؛ لأنه تعالى سمى الموت فراقا ، وهو يدل على أن الروح باقية ؛ فإن الفرق والوصال صفة ، والصفة تستدعي وجود الموصوف (١).

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي التوت ساقه على ساقه عند نزول الموت به ، فلا يقدر على تحريكها ، فماتت رجلاه ، ويبست ساقاه ولم تحملاه ، وقد كان جوّالا عليهما ، واجتمع عليه أمران : الناس يجهّزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه.

ويصح أن يكون ذلك كناية عن الشدة ، كما في قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم ٦٨ / ٤٢] والمراد : اتصلت شدة فراق الدنيا ، وترك الأهل والولد والجاه وشماتة الأعداء وحزن الأولياء وغير ذلك ، بشدة الإقبال على أحوال الآخرة وأهوالها.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي تساق الأرواح بعد قبضها من الأجساد إلى خالقها ، ويكون المرجع والمآب إلى حكم ربك ، فتصير إما إلى جنة وإما إلى نار.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢٣١

٢٧٣

فقوله : (إِلى رَبِّكَ) أي إلى حكمه خاصة. و (الْمَساقُ) السوق ، فحكمه هو المسوق إليه. وقيل : السوق إلى الله لا إلى غيره ، فهو السائق يسوقه إلى الجنة أو إلى النار.

ثم أوضح الله تعالى كيفية عمل هذا المحتضر فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه وبالدنيا ، فقال :

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي لم يصدق بالرسالة النبوية ولا بالقرآن ، ولا صلى لربه الصلاة المطلوبة منه فرضا ، بل كذب بالرسول وبما جاء به ، وتولى عن الطاعة والإيمان ، وزاد على ذلك أنه ذهب إلى أهله جذلان أشرا بطرا ، يتبختر ويختال في مشيته افتخارا بذلك ، كسلانا لا همة له ولا عمل ، كما قال تعالى : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ ، انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) [المطففين ٨٣ / ٣١].

لقد جمع بين ترك العقيدة أو أصول الدين في أنه ما صدق بالدين ، ولكن كذب به ، وبين إهمال فروع الدين في أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض ، وبين الإساءة لطبيعة الدنيا وسلوكها في أنه ذهب إلى أهله يتمطى ، ويتبختر ، ويختال في مشيته.

والآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة ، كما يستحقهما بترك الإيمان.

ثم هدد الله تعالى هذا الكافر وتوعده ودعا عليه بقوله :

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي وليك الويل ، ويتكرر عليك هذا الدعاء ، والمعنى : ويل لك وأهلكك الله ، وليتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى ، فأنت الجدير بهذا.

وهذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به ، المتبختر في مشيه ، يقصد

٢٧٤

به أنه يحق لك أن تمشي هكذا ، وقد كفرت بخالقك وبارئك ، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد ، وهو كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ٤٤ / ٤٩] وقوله سبحانه : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً ، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [المرسلات ٧٧ / ٤٦] وقوله عزوجل : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) [الزمر ٣٩ / ١٥] وقوله عز من قائل : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت ٤١ / ٤٠].

قال قتادة والكلبي ومقاتل : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد أبي جهل ، ثم قال : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) توعده ، فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي ، ثم انسلّ ذاهبا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام. ولما كان يوم بدر أشرف على القوم فقال : لا يعبد الله بعد هذا اليوم ، فقتل إذ ذاك شرّ قتلة.

ثم أقام الله تعالى دليلين على صحة البعث لتأكيد ما جاء في أول السورة : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) :

الأول ـ (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي أيظن أن يترك الإنسان في الدنيا مهملا ، لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يكلف ، ولا يحاسب ولا يعاقب بعمله في الآخرة؟ وهذا خلاف مقتضى العدل والحكمة ، فلا بد من الجزاء حتى لا يتساوى المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي ، واقتضت الحكمة الإلهية تأجيل الجزاء إلى عالم الآخرة ، وترك تعجيله ، ليتسنى وجود الفرصة المواتية الكافية في أثناء العمر والحياة للإيمان والصلاح ، كما قال تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [طه ٢٠ / ١٥]. وقال سبحانه : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨].

٢٧٥

ونظير الآية : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١١٥].

الثاني ـ (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أي أما كان ذلك الإنسان قطرة أو نطفة ضعيفة من مني يراق في الرحم ، ثم صار بعد ذلك علقة ، أي قطعة دم ، ثم مضغة أي قطعة لحم ، ثم شكّل ونفخ فيه الروح ، فصار خلقا آخر سويا سليم الأعضاء ، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره؟ أليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه بقادر على أن يعيد خلق الأجسام من جديد بالبعث ، كما كانت عليه في الدنيا؟ بلى ، فإن الإعادة أهون من الابتداء.

وقوله : (فَخَلَقَ) أي فقدّر بأن جعلها مضغة مخلّقة ، وقوله (فَسَوَّى) أي فعدّل أركانه وكمل نشأته ونفخ فيه الروح ، وجعل من المني بعد تخليقه صنفي الإنسان : الرجل والمرأة.

وهذا استدلال بالخلق الأول على الإعادة ، فإن الخالق الأول هو الخالق الآخر ، والأمران سواء عليه.

روى ابن أبي حاتم وغيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : «سبحانك اللهم وبلى».

وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه ، والحاكم وصححه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ منكم : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) [التين ٩٥ / ١] وانتهى إلى آخرها : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) [التين ٩٥ / ٨] فليقل : بلى ، وأنا على ذلكم من الشاهدين ، ومن قرأ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة ٧٥ / ١] فانتهى إلى قوله : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة ٧٥ / ٤٠] فليقل : بلى ، ومن قرأ المرسلات ، فبلغ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟) [المرسلات ٧٧ / ٥٠] فليقل : آمنا بالله».

٢٧٦

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ ذكّر الله تعالى الناس قاطبة بشدة الحال وصعوبة الأمر عند نزول الموت ، فعند الاحتضار يجتمع على الإنسان أمران : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه ، ويجتمع عليه أيضا شيئان محزنان : فراق الدنيا والأهل والولد حين معاينة الملائكة ، واتصال شدة الدنيا بشدة أول الآخرة ، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه‌الله ، أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع على الآخرة.

٢ ـ يكون الشّوق في يوم القيامة إلى الخالق ، ويكون المرجع والمآب إلى حكم الله ، إما إلى الجنة وإما إلى النار.

٣ ـ يكون الكافر أولى وأجدر بالعذاب والهلاك لفساد العقيدة والعمل والخلق ، فلم يصدّق بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بالقرآن ولم يصلّ الصلاة المفروضة التي أمره الله بها ، وتجرد عن إنسانيته بالتكبر والتبختر ، افتخارا بالمال والولد ، واعتزازا بالقوة الجسدية أو الجاه ، لذا جاء التهديد بعد التهديد ، والوعيد بعد الوعيد في قوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) فهو وعيد أربعة لأربعة ، أي وعيد بأربعة أنواع من العذاب لأربعة أنواع من الأمور : ترك الإيمان والصلاة وتكذيب الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، والتبختر.

٤ ـ أعاد الله تعالى في آخر السورة ما ذكر في أولها بقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) وقد ذكر هذا لإثبات الحشر والبعث والقيامة بدليلين :

الأول ـ لا بد في الحياة من التكليف لتنظيم الحياة وتهذيب الأنفس ودرء

٢٧٧

المفاسد ، والتكليف لا يحسن ، ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة.

الثاني ـ الاستدلال بالخلقة الأولى على الإعادة ، فمن قدر على بدء الخلق وإيجاد الإنسان ، فهو أقدر على إعادته إلى الحياة مرة أخرى.

٢٧٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الإنسان ، أو : الدّهر

مدنيّة وهي إحدى وثلاثون آية.

تسميتها :

سميت سورة الإنسان لافتتاحها بالتنويه بخلق الإنسان وإيجاده ، بعد أن لم يكن شيئا موجودا ، ثم صار خليفة في الأرض ، وخلق له جميع ما في الأرض من خيرات ومعادن وكنوز.

مناسبتها لما قبلها :

تتعلق السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة :

١ ـ ذكر الله تعالى في آخر السورة السابقة مبدأ خلق الإنسان من نطفة ، ثم جعل منه الصنفين : الرجل والمرأة ، ثم ذكر في مطلع هذه السورة خلق آدم أبي البشر ، وجعله سميعا بصيرا ، ثم هدايته السبيل ، وما ترتب عليه من انقسام البشر إلى نوعين : شاكر وكفور.

٢ ـ أجمل في السورة المتقدمة وصف حال الجنة والنار ، ثم فصل أوصافهما في هذه السورة ، وأطنب في وصف الجنة.

٣ ـ ذكر سبحانه في السورة السابقة الأهوال التي يلقاها الفجار في يوم القيامة ، وذكر في هذه السورة ما يلقاه الأبرار من النعيم.

٢٧٩

ما اشتملت عليه السورة :

بالرغم من كون هذه السورة مدنية في قول الجمهور ، فإنها عنيت بالحديث عن أحوال الآخرة ، ولا سيما تنعم الأبرار في دار الخلد والنعيم ، أما من قال بأنها مكية فرأيه متفق مع موضوعها.

وقد افتتحت بالكلام عن مبدأ خلق الإنسان ، وتزويده بطاقات السمع والبصر ، وهدايته السبيل ، ثم انقسامه إلى فئتين : شاكر وكفور ، والإخبار عن جزاء الشاكرين والجاحدين ووصف الجنة والنار : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ...) [الآيات : ١ ـ ٦].

ثم أشادت بأعمال الشاكرين من الوفاء بالنذر ، وإطعام الطعام لوجه الله ، والخوف من عذاب الله : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ..) [الآيات : ٧ ـ ١١].

وأردفت ذلك بوصف ما لهم عند ربهم من الجنان والثواب والفضل والإكرام : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) [الآيات : ١٢ ـ ٢٢].

ثم أبانت مصدر تنزيل القرآن ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر الجميل ، وذكر الله ، وقيام الليل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ..) [الآيات : ٢٣ ـ ٢٦].

ونوّهت بشيء تضمنته السورة السابقة وهو حب الدنيا العاجلة وترك الآخرة ، وتهديدهم بتبديل أمثالهم إن داموا على الكفر والعناد وإمعان الأذى : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ..) [الآيات : ٢٧ ـ ٢٨].

وختمت السورة الكريمة بإعلان أن القرآن تذكرة وعظة لجميع البشر وندبهم إلى الإيمان والعمل بما جاء فيه : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ..) [الآيات : ٢٩ ـ ٣١].

٢٨٠