التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

البلاغة :

(يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) إيجاز بحذف بعض الجمل ، أي قائلين لهم : ما سلككم في سقر؟ لفهم المخاطبين.

(وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) خاص بعد عام وهو الخوض بالباطل مع الخائفين ، لتعظيم هذا الذنب.

(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) إلخ ، سجع مرصّع.

(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) تشبيه تمثيلي ؛ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.

المفردات اللغوية :

(رَهِينَةٌ) مرتهنة عند الله بعملها ، إما خلّصها وإما أوبقها ، وليست رهينة تأنيث رهين ، لتأنيث النفس ؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل (رهين) لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هو اسم بمعنى الرهن ، كالشتيمة بمعنى الشتم ، كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهين ، والمعنى : كل نفس رهن بكسبها عند الله ، غير مفكوك ، ولا يرتهن الله تعالى أحدا من أهل الجنة.

(أَصْحابَ الْيَمِينِ) هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم ، فلا يرتهنون بذنوبهم ، وقد فكوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم. (جَنَّاتٍ) بساتين لا تدرك حقيقتها. (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا : أو يسألون غيرهم عن حالهم. (ما سَلَكَكُمْ) أدخلكم. (سَقَرَ) جهنم. (نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) نخالط أهل الباطل في باطلهم. (بِيَوْمِ الدِّينِ) يوم البعث والجزاء. (الْيَقِينُ) الموت. (الشَّافِعِينَ) من الملائكة والأنبياء والصالحين. (مُعْرِضِينَ) عن التذكير ، والمعنى : أي شيء حصل لهم في إعراضهم عن الاتعاظ.

(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) مثل الحمير الوحشية التي هربت من الأسد أشد الهرب ، شبههم في إعراضهم ونفورهم عن استماع الذكر بحمر. (صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي قراطيس منشورة مبسوطة ، تنشر وتقرأ ، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لن نتبعك حتى تأتي كلامنا بكتاب من السماء فيه من الله إلى فلان : أن اتبع محمدا.

(كَلَّا) ردع لهم عن اقتراحهم الآيات. (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) فلذلك أعرضوا عن التذكرة ، لا لامتناع إيتاء الصحف. (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) ردع لهم عن إعراضهم ، فإن القرآن تذكرة كافية. (فَمَنْ شاءَ) أن يذكره. (ذَكَرَهُ) قرأه ، فاتعظ به. (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) حقيق بأن يتقى عقابه. (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) حقيق بأن يغفر لمن اتقاه.

٢٤١

سبب النزول :

نزول الآية (٥٢):

(بَلْ يُرِيدُ ..) : أخرج ابن المنذر عن السّدّي قال : قالوا : لئن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادقا ، فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار ، فنزلت : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً).

وفي رواية : أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد ، لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء ، عنوانه ، من رب العالمين إلى فلان بن فلان ، ونؤمر فيه باتباعك (١).

المناسبة :

بعد أن توعد الله الكفار والعصاة ، وهددهم بأن النار إحدى الدواهي والبلايا العظام ، وأنذرهم بأن النجاة مربوطة بالعمل الصالح ، أكد المعنى المتقدم بأنه ليس لكل امرئ إلا جزاء عمله ، وأخبر أن أصحاب اليمين ناجون ، وأن المجرمين معذبون ، ووصف الحوار الدائر بين الفريقين لمعرفة سبب دخول الفريق الثاني نار جهنم.

التفسير والبيان :

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي كل نفس مأخوذة بعملها ، مرتهنة به ، معتقلة بما قدمته من عمل يوم القيامة ، فإن كان خيرا خلّصها وأعتقها ، وإن كان شرّا أوبقها.

(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) أي باستثناء المؤمنين الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم ، فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم ، بل يطلق سراحهم بما أحسنوا من أعمالهم.

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي : ٣٠ / ٢١٢ ، البحر المحيط : ٨ / ٣٨١

٢٤٢

(فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أي وهم في جنات يتنعمون ، ويسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين ، في النيران ، قائلين لهم : ما الذي أدخلكم في جهنم؟ والمقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل.

فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة :

(قالُوا : لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي لم نكن في الدنيا نؤدي الصلاة المفروضة ، فلم نعبد ربنا مع المؤمنين الذين يصلون ، ولم نحسن إلى خلقه من جنسنا ، فلم نطعم الفقير المحتاج ما يجب إعطاؤه ، وكنا نخالط أهل الباطل في باطلهم ، كلما غوى غاو غوينا معه ، أو نتكلم فيما لا نعلم ، أو نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قولهم : كاذب ، مجنون ، ساحر ، شاعر ، وكنا بعد ذلك كله مكذبين بالقيامة ، حتى أتانا الموت ومقدماته ، فاليقين : الموت ، كما في قوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر ١٥ / ٩٩].

فهذه أسباب أربعة لازمتنا طوال حياتنا الدنيوية : ترك الصلاة ، والزكاة ، والخوض في باطل الكلام ، وإنكار يوم البعث والحساب والجزاء. وفي ترك الأمرين الأوليين دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.

(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي فمن كان متصفا بمثل هذه الصفات ، فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه ، والمعنى : لا شفاعة لهم من أحد من الملائكة والأنبياء والصالحين ؛ لأن مصيرهم إلى النار حتما.

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي ما الذي حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن المشتمل على التذكرة الكبرى ، والموعظة العظمى؟ أو فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك في مكة معرضون عما تدعوهم إليه ، وتذكّرهم به؟ كأنهم في نفورهم عن الحق وإعراضهم عنه من

٢٤٣

حمر الوحش إذا فرت من رماة يرمونها ، أو من أسد يريد افتراسها.

فالقسورة : إما جماعة الرماة الذين يتصيدونها ، أو الأسد ، وهو رأي جمهور اللغويين ، سمي بذلك لأنه يقهر السباع ، قال ابن عباس : الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت ، كذلك هؤلاء المشركون ، إذا رأوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هربوا منه ، كما يهرب الحمار من الأسد. وهذا التشبيه في غاية التقبيح والتهجين لحالهم ، وإعلامهم بأنهم قوم بله.

والآية دليل على أن إعراضهم عن الحق والإيمان بغير سبب ظاهر مقنع ، ولا استعداد للتفاهم والاقتناع ، ففي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة ، ونداء عليهم بالبلادة والغباوة ، وعدم التأثر من مواعظ القرآن ، بل صار ما هو سبب لاطمئنان القلوب موجبا لنفرتهم (١).

ثم أتى بصورة من عنادهم ، فقال تعالى :

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب ، كما أنزل الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم قد بلغوا من العناد حدا تجاوزوا به أقدارهم ، كما جاء في آية أخرى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤]. وقال تعالى أيضا واصفا مطلبهم : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء ١٧ / ٩٣].

قال المفسرون : إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله : أنك رسول الله. وكل هذا ونحوه مما حكة وتعنت ومكابرة ، فهم لن يؤمنوا ، كما قال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي

__________________

(١) غرائب القرآن للنيسابوري : ٢٨ / ١٠٠

٢٤٤

قِرْطاسٍ ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام ٦/٧].

ثم أبان الله تعالى سبب تعنتهم ، فقال :

(كَلَّا ، بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي زجر لهم وردع على اقتراحهم إنزال تلك الصحف المفتوحة المبسوطة ، فلا يؤتونها ، وهم في الحقيقة منكرون البعث والحساب ؛ لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات.

وكفاهم القرآن ، كما قال تعالى :

(كَلَّا ، إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي حقا إن القرآن تذكرة ، ويكفيهم القرآن ، فإنه خير تذكرة وموعظة ، فمن أراد أن يذكره ويتعظ به ولا يهمله ، اتعظ ، فهو موعظة بليغة ، وتذكر شاف.

ثم بيّن السبب الأصلي في عدم التذكرة ، وذكر ما ينبئ عن كمال الهيبة ، وهو صفة القهر الذي بسببه يجب أن يتقى ، وصفة اللطف الذي به يجب أن يرجى :

(وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي لا يقع شيء في هذا الكون قهرا عن الله ، فما يذكرون القرآن ويتعظون به إلا بمشيئة الله ، الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته ، والحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب ، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة ، فيغفر ذنوبهم.

روى أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر هذه الآية ، فقال : «يقول لكم ربكم جلّت قدرته وعظمته : أنا أهل أن أتّقى ، فلا يجعل معي إله غيري ، ومن اتّقى أن يجعل معي إلها غيري ، فأنا أغفر له» أو «كان أهلا أن أغفر له».

٢٤٥

وفسر الزمخشري قوله تعالى : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) بقوله : يعني إلا أن يقسرهم على الذكر ، ويلجئهم إليه ؛ لأنه مطبوع على قلوبهم ، معلوم أنهم لا يؤمنون اختيارا (١). وهذه طريقته على مبدأ المعتزلة في مثل هذه الآيات ، وهو أن الله ترك الإيمان والكفر لاختيار العبد الذي هو مناط الثواب والعقاب ، ولكن مشيئة الله قادرة على جعل العبد مؤمنا بالقهر والإلجاء أو الإكراه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كل نفس مرتهنة يوم القيامة بكسبها ، مأخوذة بعملها ، إما خلّصها وإما أوبقها ، إلا أهل اليمين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ، فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. قال الحسن البصري وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ، ليسوا بمرتهنين ؛ لأنهم أدّوا ما كان عليهم.

٢ ـ يكون أهل اليمين يوم القيامة في جنات (بساتين) يسألون عن المشركين : ما الذي أدخلكم في سقر؟ والمقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل (٢).

فيذكر أهل النار أربعة أسباب هي : ترك الصلاة ، وترك الصدقة ، ومخالطة أهل الباطل في باطلهم ، كإيذاء أهل الحق ، وكل ما لا يعني المسلم ، والتكذيب بيوم القيامة ، يوم الجزاء والحكم ، إلى أن أتانا الموت. قال العلماء : يجب أن يحمل هذان الأمران الأوليان على الصلاة والصدقة الواجبتين ، وإلا لم يجز العذاب على تركهما. وقد يستدل بالآية على أن الكفار معذبون بفروع

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٢٩١

(٢) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢١١

٢٤٦

الشريعة ، كما يعذبون بأصولها ، كالتكذيب بيوم الدين ، وإنما أخر ؛ لأنه أعظم الذنوب ، أي إنهم بعد ذلك كله يكذبون بهذا الأصل ، كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد ٩٠ / ١٧] (١).

٣ ـ وبخ الله تعالى أهل مكة وأمثالهم بسبب إعراضهم وتوليهم عما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التذكرة والعظة بالقرآن الكريم. قال مقاتل : الإعراض عن القرآن من وجهين :

أحدهما ـ الجحود والإنكار.

والثاني ـ ترك العمل بما فيه.

٤ ـ شبه الله سبحانه المعرضين بتشبيه مهين مستقبح ، وهو تشبيههم بالحمر الوحشية إذا نفرت وهربت من الأسد. قال ابن عباس : المراد الحمر الوحشية ، شبههم تعالى بالحمر مذمّة وتهجينا لهم (٢). وقال أيضا كما تقدم : الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد وهربت ، كذلك هؤلاء المشركون إذا رأوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هربوا منه ، كما يهرب الحمار من الأسد. والقسورة : هي الأسد بلسان الحبشة (٣).

٥ ـ طلب المشركون (أبو جهل وجماعة من قريش) أن يعطوا كتبا مفتوحة لكل واحد منهم ، مكتوب فيها : إني قد أرسلت إليكم محمدا. وقال ابن عباس : كانوا يقولون : إن كان محمد صادقا ، فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار (٤).

__________________

(١) غرائب القرآن للنيسابوري : ٢٨ / ٩٩

(٢) البحر المحيط : ٨ / ٣٨٠

(٣) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢١٢

(٤) تفسير القرطبي : ١٩ / ٩٠

٢٤٧

٦ ـ لم يجب الله تعالى مطلبهم لتعنتهم ومما حكتهم وإنما زجرهم عن اقتراح الآيات ، وأبان صفة القرآن والسبب الأصلي في عدم التذكرة ، بقوله : (كَلَّا) أي ليس يكون ذلك ، ولا أعطيهم ما يتمنون ؛ لأنهم لا يخافون الآخرة ؛ اغترارا بالدنيا ، وحقا إن القرآن تذكرة ، فمن شاء اتعظ به ؛ ولكن ما يتعظون ولا يقدرون على الاتعاظ والتذكرة إلا بمشيئة الله ذلك لهم ، والله الجدير بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه ، فيؤمنوا ويطيعوا ، والحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.

٢٤٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القيامة

مكيّة ، وهي أربعون آية :

تسميتها :

سميت سورة القيامة ؛ لافتتاحها بالقسم الإلهي بها ، لتعظيمها ، وإثبات حدوثها والرد على منكريها.

مناسبتها لما قبلها :

تتعلق هذه السورة بما قبلها بسبب اشتمالها على حديث الآخرة ، ففي السورة المتقدمة قال تعالى مبينا السبب الأصلي في عدم التذكرة وهو إنكار البعث : (كَلَّا ، بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) [٥٣] ثم ذكر في هذه السورة دليل إثبات البعث ، ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ، ثم ذكر ما قبل ذلك من مقدمة وهي خروج الروح من البدن ، ثم ما قبل ذلك من مبدأ الخلق ، فذكرت الأحوال الثلاثة في هذه السورة على عكس ما هي في الواقع(١).

ما اشتملت عليه السورة :

عنيت هذه السورة كغيرها من السور المكية بأحد أصول الدين والإيمان وهو إثبات البعث والجزاء ، وما سبقه من مقدمات الموت وبدء الخلق.

__________________

(١) تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي : ص ٩٠

٢٤٩

افتتحت السورة بالقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوّامة جميعا معا ، لإثبات البعث والمعاد ، والرد على من أنكر بعث الأجساد : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ..) [الآيات ١ ـ ٦].

ثم ذكر تعالى بعض علامات ذلك اليوم ، وأخبر عن حتميته ووقوعه ، فهو حق لا ريب فيه : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ..) [الآيات ٧ ـ ١٥].

ثم نهى الله تعالى نبيه عن محاولة حفظ آيات القرآن أثناء الوحي ، وطمأنه بأنه سبحانه متكفل بتثبيته في قلبه وحفظه ووعيه وبيانه بنحو شامل تام : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ..) [الآيات ١٦ ـ ١٩].

وأردف ذلك بالتنديد بمحبة الدنيا وإيثارها على الآخرة ، وبالإخبار عن انقسام الناس في الآخرة قسمين : أهل السعادة وأهل الشقاوة ، فالأولون تتلألأ وجوههم بأنوار الإيمان ، ويتمتعون بالنظر إلى ربهم دون حصر وتحديد وبلا كيفية ، والآخرون تكون وجوههم سوداء مظلمة عابسة ، تنتظر نزول داهية عظمي بها : (كَلَّا ، بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ..) [الآيات ٢٠ ـ ٢٥].

ثم ذكرت شدائد الاحتضار والموت وأهواله وكروبه ومضايقاته : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ..) [الآيات ٢٦ ـ ٣٥].

وختمت السورة بإيراد الدليل الحسي الواقعي على إثبات الحشر والمعاد وهو بدء الخلق ، والإعادة أهون من البداءة : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ..) [الآيات ٣٦ ـ ٤٠].

٢٥٠

إثبات البعث والمعاد وعلائمه

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥))

الإعراب :

(لا أُقْسِمُ .. لا) : إما زائدة ، أو ليست زائدة ، بل هي ردّ لكلام مقدم في سورة أخرى ، وقرئ : لأقسم وقد جاء حذف النون مع وجود اللام ، والأكثر في كلامهم ثبوت النون مع اللام.

(بَلى قادِرِينَ) حال ، وعامله محذوف لدلالة الكلام عليه ، وتقديره : بلى نجمعها قادرين.

(لِيَفْجُرَ) اللام زائدة ، والفعل منصوب بأن مضمرة مقدرة.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ .. أَيَّانَ) : مبني على الفتح ، لتضمنه معنى حرف الاستفهام ؛ لأنه بمعنى (متى) الذي بني لتضمنه حرف الاستفهام ، وبني بالفتحة ؛ لأنها أخف الحركات.

(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) إنما قال (جُمِعَ) بالتذكير إما لأن تأنيث الشمس غير حقيقي ، فيجوز حينئذ تذكير الفعل الذي أسند إليها ، وإما لأنه جمع بين المذكر والمؤنث ، فغلّب جانب المذكر على جانب المؤنث ، كقولهم : قام أخواك هند وزيد.

(كَلَّا ، لا وَزَرَ ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ كَلَّا) : حذف خبرها ، أي لا وزر هناك ، أي لا ملجأ ، و (الْمُسْتَقَرُّ) : مبتدأ ، و (إِلى رَبِّكَ) : خبره.

٢٥١

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) أنث (بَصِيرَةٌ) إما لأن الهاء فيه للمبالغة ، كعلّامة ونسّابة وراوية ، أو لحمل الإنسان على النفس ، فلذلك أنث (بَصِيرَةٌ) أو لحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، أي عين بصيرة.

البلاغة :

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) استفهام إنكاري للتوبيخ والتقريع.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) الاستفهام بغرض استبعاد الأمر وإنكاره.

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) توافق الفواصل المسمى بالسجع المرصّع.

(قَدَّمَ وَأَخَّرَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(لا أُقْسِمُ) أي أقسم ، ولا : زائدة في الموضعين ، وتزيد العرب كلمة (لا) للتأكيد ، وذلك أن المقسم عليه إذا كان منتفيا ، جاز الإتيان ب (لا) قبل القسم ، لتأكيد النفي ، والمقسم عليه هنا : هو إثبات المعاد ، والرد على الجهلة المعاندين القائلين بعدم بعث الأجساد. ويرى قوم أن (لا) ردّ لكلام سابق متقدم وجواب له ، فالعرب لما أنكروا البعث ، قيل لهم : ليس الأمر كما زعمتم ، وأقسم أن البعث حق لا ريب فيه. وقرئ لأقسم بغير ألف بعد اللام ، وجواب القسم محذوف ، أي لتبعثن ، دل عليه ما بعده : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ). (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) هي التي تلوم نفسها ، وإن اجتهدت في الطاعة والإحسان ، والمراد بهذا القسم تعظيم يوم القيامة ، والتنويه بالنفس الطامحة إلى الدرجة الأرقى. (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) المراد به الجنس ، وإسناد الفعل إليهم ؛ لأن بعضهم يحسب ، أو المراد من كان سبب النزول ، وهو عدي بن أبي ربيعة ، سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمر القيامة ، فأخبره به ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك ، أو يجمع الله هذه العظام؟ (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) للبعث والإحياء بعد تفرقها.

(بَلى) نجمعها. (قادِرِينَ) مع جمعها. (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أصابعه ، أي نعيد عظامها كما كانت ، ونضم بعضها إلى بعض كما هي ، مع صغرها ولطافتها ، فكيف بكبار العظام؟ (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ليدوم على فجوره في مستقبل الزمان. (أَيَّانَ) متى ، وهو سؤال استهزاء وتكذيب. (بَرِقَ الْبَصَرُ) دهش وتحير لما رأى ما كان يكذبه ، وقرئ برق بفتح الراء. (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أظلم وذهب ضوءه. (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) ذهب ضوءهما في يوم القيامة ، ولا يتنافى ذلك مع الخسوف ، فإنه مستعار للمحاق.

٢٥٢

(الْمَفَرُّ) الفرار. (كَلَّا) ردع عن طلب الفرار. (لا وَزَرَ) لا ملجأ يتحصن به. (الْمُسْتَقَرُّ) أي استقرار أمر الخلائق ، فيحاسبون ويجازون. (يُنَبَّؤُا) يخبر. (بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) بما قدم من عمله وبما أخر منه ، فلم يعلمه ، أي أول عمله وآخره. (بَصِيرَةٌ) حجة شاهدة ناطقة بعمله فلا بد من جزائه. (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ولو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به وهو جمع معذرة على غير قياس ، كالمناكير جمع منكر ، فقياسه معاذر ، وذلك أولى.

سبب النزول :

نزول الآية (٣ ـ ٤):

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ ..) : روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ، ولم أومن به ، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها؟! فنزلت.

وقيل : نزلت في أبي جهل كان يقول : أيزعم محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها ، فيعيدها خلقا جديدا (١)؟!

التفسير والبيان :

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أي أقسم بيوم القيامة ، وأقسم بالنفس اللوّامة وهي التي تلوم صاحبها على تقصيره ، لتبعثن ، وقد حذف جواب القسم ، لدلالة ما بعده عليه ، وهو قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ). وهي نفس المؤمن ، تلوم على ما فات وتندم ، فتلوم على الشر لم تعمله ، وعلى الخير لماذا لم تستكثر منه.

والقسم بشيء لتعظيمه وتفخيمه ، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ، وفي الإقسام بيوم القيامة على وقوع يوم القيامة مزيد تقرير وتأكيد لوقوعه ، فإن

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥ ، تفسير القرطبي : ١٩ / ٦٣

٢٥٣

الإقسام بالمعدوم لا يعقل معناه ، وفي ضم النفس اللوّامة إليه تنبيه على أن الغرض من القيامة : هو إظهار أحوال النفس ومراتبها في السعادة وضدّها (١). والصحيح أنه أقسم بهما جميعا معا ، كما قال قتادة رحمه‌الله (٢) ، أي أنه سبحانه سيجمع العظام ، ثم يحيي كل إنسان ، ليحاسبه ويجزيه.

قال الحسن البصري : إن المؤمن ، والله ما نراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ، ما أردت بأكلتي ، ما أردت بحديث نفسي ، وإن الفاجر يمضي قدما وقدما ما يعاتب نفسه. وقال أيضا : ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه ، يوم القيامة.

وقال سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قال : يقسم ربك بما شاء ممن خلقه.

وقال الفرّاء : ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها ؛ فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا ، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته.

والخلاصة : أن الأشبه بظاهر التنزيل كما قال ابن كثير : أن النفس اللوّامة هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر ، وتندم على ما فات.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أي أيظن أي إنسان أننا لن نقدر على جمع عظامه ، بعد أن صارت رفاتا ، فنعيدها خلقا جديدا ، وذلك حسبان باطل ، فإنا نجمعها ، وبلى سنجمعها قادرين عند البعث على إعادة تسوية أكثر العظام تفرقا ، وأدقها أجزاء ، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها. وقوله : (قادِرِينَ) تأكيد القدرة ؛ لأنه

__________________

(١) غرائب القرآن : ٢٨ / ١٠٥

(٢) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٤٧

٢٥٤

يستحيل جمع العظام بدون القدرة الكاملة التي نبّه عليها بقوله : (أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) لأن من قدر على ضم سلاميات الأصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت ، كان على ضم العظام الكبار أقدر. وإنما خص البنان وهو الأنملة بالذكر ؛ لأنه آخر ما يتم به خلقه ، فذكره يدل على تمام الأصبع ، وتمام الأصبع يدل على تمام سائر الأعضاء التي هي أطرافها.

وقيل : معنى التسوية : جعلها شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار ، بحيث لا يقدر على البطش. والمراد أنه قادر على ردّ العظام والمفاصل إلى هيئتها الأولى ، وعلى ضد ذلك.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) هذا إضراب عما سبق لتقرير أمر آخر ، وهو أن الإنسان يريد في الحقيقة أن يدوم على فجوره في مستقبل أيامه ، فيقدّم الذنب ، ويؤخر التوبة. قال سعيد بن جبير : يقدّم الذنب ، ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله.

والخلاصة : أن إنكار البعث يتولد من شبهتين : الأولى ـ بأن يستبعد الإنسان اجتماع الأجزاء بعد تفرقها وتلاشيها ، والثانية ـ من التهوّر ، بأن ينكر المعاد بالهوى واسترسال الطبع والميل إلى الفجور.

فأجاب تعالى عن الشبهة الأولى بقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ ..) وأنكر على صاحب الشبهة الثانية بقوله : بل يريد أن يكذب بما أمامه من البعث والحساب ، لئلا تنتقص عنه اللذات العاجلة ، كما قال تعالى :

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أي يسأل سؤال استبعاد لوقوعه واستهزاء وتعنتا : متى يوم القيامة؟ ومن لم يؤمن بالبعث ارتكب أعظم الآثام ، وبادر إلى انتهاب اللذات غير عابئ بما يفعل.

٢٥٥

ونظير الآية قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الملك ٦٧ / ٢٥] وقوله سبحانه : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٨ ـ ٢٩].

ثم ذكر الله تعالى ثلاث علامات للقيامة ، فقال :

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ : أَيْنَ الْمَفَرُّ؟) أي فإذا دهش البصر وتحير من شدة هول البعث ويوم القيامة ، وذهب ضوء القمر كله دون أن يعود كما يعود بعد الخسوف في الدنيا ، وذهب وتبدد ضوء الشمس والقمر جميعا ، فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار ، أي أن معالم الكون كلها تتغير ، وحينئذ يقول ابن آدم إذا عاين هذه الأهوال يوم القيامة : هل من ملجأ أو موئل ، وأين المفر من الله سبحانه ومن حسابه وعذابه؟!

والمراد بالإنسان : الجنس ، وهو ابن آدم ، فيشمل المؤمن والكافر لهول ما يشاهد منها. وقيل : المراد الكافر خاصة دون المؤمن ، لثقة المؤمن ببشرى ربه.

فيجيب الله تعالى سلفا في الدنيا بقوله :

(كَلَّا لا وَزَرَ ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه ، فلا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله يعصمكم يومئذ ، وإنما إلى الله ربك المرجع والمصير ، في الجنة أو في النار ، كما في قوله تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم ٥٣ / ٤٢] فهناك استقرار العباد على الدوام. ولا بد من تقدير مضاف في قوله : (إِلى رَبِّكَ) أي إلى حكم ربك ، أو إلى جنته أو ناره.

ثم ربط الله تعالى نوع المصير بالعمل في الدنيا ، فقال :

٢٥٦

(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي يخبر الإنسان في يوم القيامة أثناء العرض والحساب بجميع أعماله التي قدمها من خير أو شر ، قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها ، كما قال تعالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف ١٨ / ٤٩].

ثم بيّن أن الإنسان عالم بأعماله ، فقال :

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي بل إن الإنسان شهيد على نفسه ، عالم بما فعله ، فهو حجة بيّنة على أعماله ، ولو اعتذر وأنكر ، كما قال تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ ، كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء ١٧ / ١٤] والآية إضراب عن الإخبار بأعمال الإنسان إلى مرتبة أوضح وأعرف.

وقال ابن عباس وغيره : إن المراد سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه.

والمعاذير في رأي الواحدي والزمخشري : اسم جمع للمعذرة ، كالمناكير للمنكر ، ولو كان جمعا لقيل : معاذر ، بغير ياء. والمراد بقوله : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) : ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه ، وقيل : ولو جادل عنها ، فهو بصير عليها ، وقيل : معاذيره : حجته ، وهذا قول مجاهد ، قال ابن كثير : والصحيح قول مجاهد وأصحابه ، كقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٣] وكقوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة ٥٨ / ١٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ أقسم الله سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه ، كما أنه أقسم أيضا بنفس

٢٥٧

المؤمن الطامحة دائما إلى زيادة الخير والطاعة ، والإقلال من الشر والمعصية تنويها بشأنها وإخلاصها. والمناسبة بين القيامة وبين النفس اللوامة : أن المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النفس اللوامة ، من السعادة والشقاوة. والقسم بهذه الأشياء عند المحققين قسم بربها وخالقها في الحقيقة ، فكأنه قيل : أقسم برب القيامة على وقوع يوم القيامة.

٢ ـ المقسم عليه هو وقوع البعث حتما لا شك فيه ، قال الزجاج : أقسم الله بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ، ليجمعن العظام للبعث. وأكد الله تعالى قسمه بأنه القادر على أن يعيد السّلاميات على صغرها ، ويؤلف بينها حتى تستوي (١).

٣ ـ إن شأن الكافر المكذب بما أمامه من البعث والحساب أن يرتكب أعظم الآثام ، ويقتحم المعاصي دون حسبان للنتائج والمخاطر ، ودون تقدير ، لعواقب الأمور والتبعة (المسؤولية) الناجمة عنها.

٤ ـ تتبدل معالم الكون يوم القيامة ، وتظهر علامات دالة عليه ، منها حيرة البصر ودهشته من الأهوال ، وذهاب ضوء القمر دون عودة ، وذهاب ضوء الشمس والقمر معا ، أي جمع الله ، بينهما في ذهاب ضوئهما ، فلا ضوء للشمس ، كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه.

٥ ـ إذا ظهرت علائم القيامة حار الإنسان ، وقال : أين المهرب؟ أين المفر؟ ويحتمل ذلك وجهين : أحدهما ـ أين المفر من الله استحياء منه؟ والثاني ـ أين المفر من جهنم حذرا منها؟

٦ ـ لا مفر من الله ، ولا ملجأ من النار ، ولا حصن من العذاب ، وإنما

__________________

(١) قال تعالى في آخر السورة : فَخَلَقَ فَسَوَّى أي أوجد منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة ، فسواه شخصا مستقلا.

٢٥٨

المرجع والمصير والمنتهى إلى حكم الله ، وصيرورة كل إنسان إما إلى الجنة وإما إلى النار.

٧ ـ يخبر ابن آدم يوم القيامة عند وزن الأعمال ، برّا كان أو فاجرا ، بما أسلف من عمل سيئ أو صالح أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده ، أو بأول عمله وآخره ، أو بما قدم من المعصية ، وأخّر من الطاعة. إن هذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال ، لا عند الموت ؛ لما أخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علما علّمه ونشره ، وولدا صالحا تركه ، أو مصحفا ورّثه ، أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته».

وأخرجه أبو نعيم الحافظ عن أنس بن مالك بلفظ : «سبع يجري أجرهنّ للعبد بعد موته وهو في قبره : من علّم علما ، أو أجرى نهرا ، أو حفر بئرا ، أو غرس نخلا ، أو بنى مسجدا ، أو ورّث مصحفا ، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته».

وفي الصحيح عند مسلم : «من سنّ في الإسلام سنة حسنة ، كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».

٨ ـ الإنسان خير شاهد على نفسه ، فهو حجة بيّنة على أعماله ، حتى ولو أنكر واعتذر ، فقال : لم أفعل شيئا ، فإن عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه ، فلو اعتذر وجادل عن نفسه ، فعليه شاهد يكذّب عذره.

٢٥٩

٩ ـ استنبط القاضي ابن العربي من قوله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ..) ست مسائل وهي بإيجاز (١) :

الأولى ـ فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه ؛ لأنها بشهادة منه عليه ، قال الله سبحانه : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور ٢٤ / ٢٤].

الثانية ـ لا يصح الإقرار إلا من مكلف (بالغ عاقل) لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه ؛ لأن الحجر يسقط قوله إذا كان لحق نفسه ، فإن كان لحق غيره كالمريض ، كان منه ساقط ، ومنه جائز ، كما هو مقرر في الفقه.

الثالثة ـ قوله تعالى : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) معناه : ولو اعتذر لم يقبل منه ، وقد اختلف العلماء في جواز الرجوع عن الإقرار في الحدود الخالصة لله تعالى : فقال أئمة المذاهب الأربعة على المشهور عند المالكية : يقبل رجوعه بعد الإقرار ، ويسقط الحد ، وهو الصحيح عملا بما رواه الأئمة ، منهم البخاري ومسلم : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ المقرّ بالزنى مرارا أربعا ، كل مرة يعرض عنه ، ولما شهد على نفسه أربع مرات ، دعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أبك جنون؟ قال : لا ، قال : أحصنت؟ قال : نعم. وقال لأصحابه ـ فيما رواه أبو داود وغيره ـ حينما هرب ـ أي ماعز ـ فاتبعوه : «هلا تركتموه ، لعله أن يتوب ، فيتوب الله عليه».

وروي عن مالك أنه قال : لا يعذر المقر إلا إذا رجع لشبهة ، عملا بحديث : «لا عذر لمن أقرّ» (٢).

الرابعة ـ قال ثعلب : معنى قوله تعالى : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أنه إذا اعتذر يوم القيامة وأنكر الشرك ، لا ينفع الظالمين معذرتهم ، ويختم على فمه ،

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٨٧٨ ـ ١٨٨٢

(٢) بداية المجتهد : ٢ / ٤٣٠ ، الدردير والدسوقي : ٤ / ٣١٨

٢٦٠