التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

بعطيتك على الناس ، أو لا تضعف أن تستكثر من الخير ، فإن (تَمْنُنْ) في كلام العرب تضعف.

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عزوجل ، فإنك حمّلت أمرا عظيما ، ستحاربك العرب عليه والعجم ، فاصبر عليه لله. واصبر أيضا على طاعة الله وعبادته. وبعد إرشاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، أبان الله تعالى وعيد الأشقياء ، فقال :

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) أي اصبر على أذاهم ، فأمامهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم ، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية للبعث من القبور ، فوقت النقر يومئذ يوم شديد جدا على الكفار ، غير سهل عليهم.

أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة والإمام أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف أنعم ، وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر ، فينفخ؟ فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ملاطفة في الخطاب ولين في الكلام من الله ؛ إذ ناداه ربه بحاله وعبّر عنه بصفته.

٢ ـ أمر الله نبيه بتخويف أهل مكة وغيرهم من الناس قاطبة ، وبتحذيرهم العذاب إن لم يسلموا.

٢٢١

٣ ـ ما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإنذار إلا لحكمة بالغة ، ومهمات عظيمة ، لا يجوز له الإخلال بها.

أولها ـ تعظيم الله ووصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد ، كما يقول عبدة الأوثان.

ثانيها ـ تطهير الثياب من النجاسة المادية أو الحكمية ، وتطهير النفس من المعاصي المؤدية إلى العذاب ، وتجميلها بمحاسن الأخلاق.

ثالثها ـ هجر الأوثان والمآثم التي هي سبب العذاب ، ويراد بذلك الأمر بالمداومة على ذلك الهجران.

رابعها ـ عدم الامتنان على الله بالأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعل ، وإنما الواجب الصبر على ذلك لوجه الله تعالى ، متقربا إليه ، غير ممتنّ به عليه ، وعدم الامتنان على الناس بتعليم أمور الدين والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام ، وبالنبوة لأخذ أجر يستكثر به ماله. وقال أكثر المفسرين : المعنى : ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه ، حتى تكون عطاياه لأجل الله عزوجل ، لا لأجل طلب الدنيا. وهذا سمة أهل الجود والكرم.

خامسها ـ الصبر على أداء الفرائض والعبادات وإيذاء الناس بسبب تبليغ الدين. والخلاصة : أن الله تعالى وضع أساسين لنجاح دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد استكمال العقل وتحرره من الشرك ، واستكمال النفس بالخلق الكامل ، وهما : الجود والصبر.

٤ ـ هدد الله الكفار الأشقياء بأهوال يوم القيامة ، فإنه إذا نفخ إسرافيل في الصور ـ وهو كهيئة البوق ـ النفخة الثانية ، كان ذلك اليوم يوما شديدا على كل من كفر بالله وبأنبيائه ، غير سهل ولا هيّن عليهم ، فإنهم دائما يواجهون صعابا أشد ، بخلاف المؤمنين الذين يتجهون دائما إلى ما هو الأخف ، حتى يدخلوا الجنة

٢٢٢

برحمة الله تعالى. وقد فهم ابن عباس من قوله تعالى : (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) كون ذلك اليوم يسيرا على المؤمن ، وهذا حجة لمن قال بدليل الخطاب أنه حجّة.

تهديد زعماء الشرك

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

الإعراب :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَحِيداً) حال من هاء. (خَلَقْتُ) المحذوفة ، وتقديره: خلقته وحيدا.

(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ لَوَّاحَةٌ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هي لواحة.

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ) مبتدأ ، مبني على الفتح ، لتضمنه معنى الحرف ، وهو واو العطف ، وأصله : تسعة وعشر ، ولما حذفت الواو ؛ تضمنا معنى الحرف ، فوجب أن يبنيا ، وبنيا على الفتح ؛ لأنه أخف الحركات. و (عَلَيْها) خبره.

البلاغة :

(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) إطناب بتكرار الجملة لزيادة التوبيخ. (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) الاستفهام للتهويل والتفخيم.

٢٢٣

المفردات اللغوية :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) دعني واتركني وحدي وإياه ، فإني أكفيكه. (مَمْدُوداً) مبسوطا كثيرا ، فقد كان للوليد الزرع والضرع والتجارة. (شُهُوداً) حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم ولقائهم ، لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش ، استغناء بنعمته ، ويشهدون المحافل وتسمع شهادتهم. قيل : كان له عشرة بنين أو أكثر ، كلهم رجال ، فأسلم منهم ثلاثة : خالد وعمار وهشام. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) بسطت له الرياسة والجاه العريض ، حتى لقب : ريحانة قريش ، والوحيد ، أي باستحقاق الرياسة والتقدّم.

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) يطمع في الزيادة على ما أوتيه. (كَلَّا) كلمة ردع وزجر ، أي لا أزيده على ذلك. (عَنِيداً) معاندا لها ومكابرا. (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) سأكلفه وأحمله عذابا شاقا صعبا لا يطاق ، وهو مثل لما يلقى من الشدائد. (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) تعليل للوعيد ، أي تأمل في القرآن ، وهيأ الأمر في نفسه. (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تعجب من تقديره استهزاء به ، أي لعنه الله كيف توصل إلى ما تريد قريش. (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تكرير للمبالغة ، و (ثُمَ) للدلالة على أن الثانية أبلغ من الأولى. (ثُمَّ نَظَرَ) في وجوه قومه أو فيما يقدح به فيه.

(ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ عَبَسَ) قطّب جبهته بين الحاجبين ، (وَبَسَرَ) كلح وجهه وتغير ، فهو أشد من العبوس. (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الإيمان. (وَاسْتَكْبَرَ) تكبر عن اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقالَ) الفاء للدلالة على سرعة الحكم من غير تفكر. (إِنْ هذا) أي ما هذا القرآن. (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي يروى ويتعلم. (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) كالتأكيد للجملة الأولى ، أي (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ).

(سَأُصْلِيهِ) أدخله. (سَقَرُ) جهنم. (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) تعظيم لشأنها. (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقى على شيء يلقى فيها ، ولا تدعه حتى تهلكه. (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) تلوح وتظهر لأنظار الناس من مسافات بعيدة لعظمها وهولها ، أو مسوّدة لأعالي الجلد ، والبشر على هذا جمع بشرة : وهي ظاهر الجلد.

سبب النزول :

نزول الآية (١١):

(ذَرْنِي ..) أخرج الحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه ، فقال : يا عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا

٢٢٤

لك مالا ليعطوكه ، فإنك أتيت محمدا ، لتتعرض لما قبله ، قال : لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له ، وأنك كاره له ، فقال : وماذا أقول؟ فوالله ، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، وو الله إن لقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته ، قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أفكر فيه ، فقال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يأثره عن غيره ، فنزلت : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً).

نزول الآية (٣٠):

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) : أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء : أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن خزنة جهنم ، فجاء ، فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل عليه ساعتئذ : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ).

المناسبة :

بعد أن أخبر الله تعالى عن كون يوم القيامة عسيرا غير يسير على الكافرين ، هدد الوليد بن المغيرة وأمثاله من زعماء الشرك ، وسلّى نبيه بقوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ، وهو كقوله في المزمّل ، (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ ..) [١١] ثم عدد تعالى نعمه على الوليد من المال والولد والجاه والرياسة ، وكفره بها ، ووعيده بنار جهنم لوصفه القرآن الكريم بأنه سحر يؤثر.

التفسير والبيان :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي دعني أنا والذي خلقته حال كونه وحيدا

٢٢٥

في بطن أمه ، لا مال له ولا ولد ، أو دعني وحدي معه ، فإني أكفيك في الانتقام منه.

وأجمع المفسرون على أن المراد به هنا الوليد بن المغيرة.

وهذا توعد وتهديد لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا ، فكفر بأنعم الله ، وبدلها كفرا ، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها ، وجعلها من قول البشر. ثم عدد الله تعالى تلك النعم ، فقال :

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً ، وَبَنِينَ شُهُوداً ، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي وجعلت له مالا واسعا كثيرا ، وقد كان الوليد مشهورا بكثرة المال ، من الزروع والمواشي والتجارات في مكة وما بينها وبين الطائف. وجعلت له أيضا بنين حضورا معه بمكة ، لا يفارقونها ولا يسافرون بالتجارات في البلاد لطلب الرزق ، لكثرة مال أبيهم. قيل : كان له عشرة بنين أو ثلاثة عشر ولدا كلهم من الرجال فكان يسمى ريحانة قريش ، والوحيد ، لأنه وحيد متميز في قومه بالرياسة والجاه.

وكذلك بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش ، ومكّنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك.

ومع كل هذا يطمع في زيادة المال والولد وغير ذلك ، مما يدعو إلى التعجب. وقوله : (ثُمَ) هنا معناه التعجب ، كقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام ٦ / ١] فمعنى (ثُمَ) هنا للإنكار والتعجب.

وهذا إنكار عليه لشدة حرصه على الدنيا ، فرد الله تعالى عليه بقوله : (كَلَّا ، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي لا أزيده ، فإنه كان لآيات القرآن معاندا لها ، كافرا بما أنزلناه منها على رسولنا ، بعد العلم بصدقها.

٢٢٦

وهذا دليل على أنه كان كافرا كفر عناد ، فهو في أعماق نفسه يقرّ بكون آي القرآن من عند الله ، ولكنه ينكر ذلك بلسانه إرضاء لقومه ، لذا استحق العقاب الآتي :

(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأكلفه وأحمّله مشقة من العذاب ، لا راحة فيه ، كمن يتكلف صعود أعالي الجبال الشاهقة الوعرة. والإرهاق : أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل الذي لا يطيقه.

وقيل : الصعود : جبل في النار ، روى ابن أبي حاتم والبزار وابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) قال : «هو جبل في النار ، من نار ، يكلف أن يصعده ، فإذا وضع يده ذابت ، وإذا رفعها عادت ، فإذا وضع رجله ذابت ، وإذا رفعها عادت». ورواه الترمذي بلفظ : «الصعود : جبل من نار يتصعّد فيه سبعين خريفا ، ثم يهوي كذلك فيه أبدا». وقال فيه : حديث غريب. ثم حكى تعالى أحواله وكيفية اتخاذ قراره وكيفية عناده ، فقال :

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي إنه فكر في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي القرآن العظيم ، وهيّأ الكلام في نفسه ما يقول ، وتروى ماذا يصف به القرآن حين سئل عنه ، ففكر ماذا يختلق من المقال ، فلعن وعذّب على أيّ حال قدّر ما قدر من الكلام ، وأكد ذلك قائلا : ثم لعن وعذب ، وأتى ب (ثُمَ) للدلالة على أن الدعاء عليه في المرة الثانية أبلغ وآكد من الأولى.

وهذا كله تعجب واستعظام من موقفه ، واستحقاقه مضاعفة العذاب. ثم وصفه بأحوال ظاهرة للناس فقال :

(ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي ثم أعاد النظر والتروي والتأمل في الطعن

٢٢٧

بالقرآن ، ثم قطّب وجهه لما لم يجد مطعنا يطعن به القرآن ، وكلح وجهه وتغير وأظهر الكراهة ، ثم أعرض عن الإيمان ، وانصرف عن الحق ، وتكبر عن الانقياد للقرآن ، فقال : ما هذا إلا سحر ينقل ويحكى ، نقله محمّد عن غيره ممن قبله ، وحكاه ورواه عنهم ، فليس بكلام الله ، بل هو كلام البشر أو الإنس.

وهذا دليل على أنه كان مناقضا فيما اختلقه لقناعته الذاتية ، فقد كان بقلبه مصدقا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه أنكره عنادا.

روى العوفي عن ابن عباس قال : دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة ، فسأله عن القرآن ، فلما أخبره ، خرج على قريش ، فقال : يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة ، فوالله ما هو بشعر ، ولا بسحر ، ولا بهذي من الجنون ، وإن قوله لمن كلام الله ، فلما سمع بذلك النفر من قريش ، ائتمروا ، وقالوا : والله لئن صبأ الوليد ، لتصبو قريش ، فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام ، قال : أنا والله أكفيكم شأنه ، فانطلق ، حتى دخل عليه بيته ، فقال للوليد : ألم تر إلى قومك ، قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال : ألست أكثرهم مالا وولدا؟ فقال له أبو جهل : يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه فقال الوليد : أقد تحدّث به عشيرتي!! فلا ، والله لا أقرب ابن أبي قحافة ، ولا عمر ، ولا ابن أبي كبشة ، وما قوله إلا سحر يؤثر ، فأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ـ إلى قوله ـ (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ).

ومما يدل على أن كفره كفر عناد : ما ذكر سابقا أن الوليد مرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يقرأ : حم السجدة ، فرجع وقال لبني مخزوم : والله لقد سمعت آنفا من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة. وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يعلى.

٢٢٨

وقال قتادة : زعموا أنه قال : والله لقد نظرت فيما قال الرجل ، فإذا هو ليس بشعر ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه يعلو وما يعلى عليه ، وما أشك أنه سحر ، فأنزل الله : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) الآية.

ولا ريب أن من عرف هذا القدر ، ثم زعم أن القرآن سحر ، فإنه يكون معاندا ، وكان منكرا للتوحيد والنبوة والبعث.

ثم ذكر الله تعالى ما يستحقه من عقاب على موقفه هذا ، فقال : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ، وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي سأدخله النار ، وسأغمره فيها من جميع جهاته ، وسقر : من أسماء النار ، ثم هوّل أمرها وفخّم شأنها بقوله : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) المعنى : أيّ شيء أعلمك ما سقر؟ لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا ، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا ، فلا تتركهم ، بل تعاود إحراقهم بأشد مما كانت ، وهكذا أبدا ، كما قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ، بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ، لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء ٤ / ٥٦].

وتلوح جهنم للناس حتى يرونها عيانا ، كما قال تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٩١]. أو تلفح الجلد لفحة ، فتدعه أسود من الليل ، وعلى النار زبانية وخزنة أشداء ، عظيمو الخلق ، غليظو الخلق ، عددهم من الملائكة تسعة عشر ، والمميز في رأي الأكثرين : شخصا ، وقيل : صنفا.

والبشر : إما الإنس من أهل النار ، وهو رأي الأكثرين ، أو جمع بشرة : وهي جلدة الإنسان الظاهرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

يحتاج نجاح الدعوة إلى الله إلى عناصر بشرية إيجابية ، وحماية إلهية ، أما

٢٢٩

العناصر الإيجابية فهي ما تحدثت عنه فاتحة السورة من تطهير النفس والعقل من الشرك والوثنية ، والاتصاف بأمثل الصفات الخلقية ، والاستعانة بالجود والصبر.

وجاء هنا دور الوقاية والحفظ الإلهي ، فالله سبحانه وقى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى المشركين ، وسلاه وهدد أعظم زعماء الشرك وهو الوليد بن المغيرة ليكون عبرة لغيره.

فقد كان الوليد موقنا بقلبه ، مقتنعا بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه كذب بلسانه إرضاء لهوى نفسه في حب الزعامة والرياسة والجاه ، وإيثارا للانضمام إلى صف أهل الشرك في مكة.

فبالرغم من أن الحق سبحانه أمده بالمال والبنين ، وجعله متقلبا في أعطاف الرفاه والنعيم ، ثم طمع في زيادة المال والولد ، فإنه قابل النعمة بالجحود ، والشكر بالكفران ، فكذب بالقرآن ، ولم يؤمن بأنه كلام الله تعالى ، ووصفه بأنه سحر مروي من كلام البشر المتناقل ، وعاند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به.

فحجب الله عنه زيادة النعمة ؛ لأنها لا تكون مع الكفر بالمنعم بها ، وتوعده وهدده بدخوله نار جهنم ، ذاكرا أسباب ذلك ، وهي كيفية عناده ، فإنه فكر في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، وهيأ الكلام في نفسه ، ونظر بأي شيء يرد الحق ويدفعه ، وقطّب بين عينيه في وجوه المؤمنين ، وكلح وجهه وتغير لونه ، وولّى معرضا عن الحق والإيمان ، وتعظم عن أن يؤمن ، فقال : ما هذا الذي أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا سحر يأثره ويحكيه عن غيره ، وما هذا إلا كلام المخلوقين ، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر.

فلعن كيف فكر ، وعذب على ما قدّر ، ثم لعن لعنا بعد لعن ، واستحق الإدخال في جهنم التي وصفها الله وبالغ في وصفها بقوله ، وما أعلمك أي شيء هي؟ فهي لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته ، ثم تعاود إحراقهم إلى

٢٣٠

الأبد ، تلوح للبشر عيانا ، وتلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل ، ولا يستطيع أحد الفرار منها ، فإن عليها خزنة تسعة عشر من الملائكة ، يلقون فيها أهلها وهم مالك وثمانية عشر ملكا آخرون بأعيانهم. قال الثعلبي : ولا ينكر هذا ، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق ، كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. والأكثرون على أن المراد تسعة عشر شخصا من الملائكة ، وقيل : صنفا.

قال القرطبي : والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء ، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها ؛ كما قال تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها» (١).

الحكمة في اختيار عدد خزنة جهنم التسعة عشر

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٨٠

٢٣١

الإعراب :

(إِلَّا فِتْنَةً) مفعول ثان لجعلنا.

(ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً مَثَلاً) : حال.

(نَذِيراً لِلْبَشَرِ) منصوب من خمسة أوجه :

١ ـ أن يكون منصوبا على المصدر ، أي إنذارا للبشر ، فيكون نذير بمعنى إنذار ، كنكير بمعنى إنكار.

٢ ـ أن يكون منصوبا على الحال من (لَإِحْدَى الْكُبَرِ) وذكّر ؛ لأنها بمعنى العذاب ، أو لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث.

٣ ـ أن يكون منصوبا على الحال من ضمير (قُمْ) في أول السورة ، وتقديره : قم نذيرا للبشر.

٤ ـ أن يكون منصوبا بتقدير فعل ، أي صيرها الله نذيرا ، أي ذات إنذار ، على النسب.

٥ ـ أن يكون منصوبا بتقدير : أعني ، أي أعني نذيرا للبشر.

(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ إِذْ) : ظرف زمان ماض ، (أَدْبَرَ) : انقضى ، يراد به التعبير عن إدبار الليل فيما مضى ، وقرئ «إذا» ظرف زمان مستقبل دبر : تولى. قال الفراء : دبر وأدبر بمعنى واحد ، كقبل وأقبل.

البلاغة :

(يُضِلُ وَيَهْدِي) بينهما طباق ، وكذا بين (يَتَقَدَّمَ) و (يَتَأَخَّرَ).

(كَلَّا وَالْقَمَرِ ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) سجع مرصع.

المفردات اللغوية :

(إِلَّا مَلائِكَةً) أي فلا يمكن مقاومتهم ولا يطاقون كما يتوهمون. (عِدَّتَهُمْ) عددهم المذكور. (فِتْنَةً) سبب ضلال واستبعاد. (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بأن يقولوا : لم كانوا تسعة عشر. (لِيَسْتَيْقِنَ) ليستبين. (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى ، أي ليتبينوا صدق القرآن وصدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما رأوا أن عددهم تسعة عشر موافق لما في كتابهم. (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) يزداد المؤمنون من أهل الكتاب وغيرهم تصديقا لموافقة ما أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما في كتابهم.

(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) من غيرهم في عدد الملائكة. (مَرَضٌ)

٢٣٢

شك أو نفاق ، وهم منافقو المدينة. (وَالْكافِرُونَ) بمكة. (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي ماذا أراد الله بهذا العدد حديثا. (كَذلِكَ يُضِلُّ ..) أي مثل ذلك المذكور من إضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه ، يضل الكافرين ، ويهدي المؤمنين. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي ما يعلم الملائكة في قوتهم وأعوانهم ، وكذلك جموع خلقه على ما هم عليه. (وَما هِيَ) أي سقر. (ذِكْرى) تذكرة وموعظة للناس.

(كَلَّا) ردع لمن أنكرها ، أي حقا. (أَدْبَرَ) مضى وولّى. (أَسْفَرَ) ظهر وأضاء. (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) أي إن سقر وصفتها لإحدى الدواهي أو البلايا العظام. (أَنْ يَتَقَدَّمَ) إلى الخير أو الجنة بالإيمان. (أَوْ يَتَأَخَّرَ) إلى الشر أو النار بالكفر.

سبب النزول :

نزول الآية (٣١):

(وَما جَعَلْنا ..) : قال ابن إسحاق وقتادة : قال أبو جهل يوما : يا معشر قريش ، يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار تسعة عشر ، وأنتم أكثر الناس عددا ، أفيعجز مائة رجل منكم عن رجل منهم ، فأنزل الله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) الآية.

وقال السّدّي : لما نزلت (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) قال رجل من قريش يدعى أبا الأشد بن كلدة الجمحي ـ وكان شديد البطش (١) ـ : يا معشر قريش لا يهولنّكم التسعة عشر ، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة ، وبمنكبي الأيسر التسعة ، فأنزل الله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً).

وفي رواية : أن الحارث بن كلدة قال : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم

__________________

(١) كان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة ، لينزعوه من تحت قدميه ، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه. قال السهيلي : وهو الذي دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مصارعته ، وقال : إن صرعتني آمنت بك ، فصرعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا ، فلم يؤمن. وصارع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب.

٢٣٣

اثنين ، فنزل قوله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي لم يجعلهم رجالا تستطيعون مغالبتهم.

التفسير والبيان :

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي لم نجعل خزنة النار وزبانيتها القائمين بالتعذيب إلا ملائكة غلاظا شدادا ، ولم نجعلهم رجالا تمكن مغالبتهم ، ومن يطيق الملائكة ومن يغلبهم؟ وهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأعظمهم بطشا ، وأقومهم بحق الله والغضب له تعالى.

وهذا رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة ، فقال أبو جهل كما تقدم : يا معشر قريش ، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي شديدي الخلق ، لا يقاومون ولا يغالبون.

ثم أبان الله تعالى حكمة اختيار عدد الخزنة ، فقال :

(وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر ، اختبارا منا للناس ، وسبب محنة وإضلال للكافرين ، حتى قالوا ما قالوا ، ليتضاعف عذابهم ، ويكثر غضب الله عليهم. فقوله : (فِتْنَةً) معناه سبب فتنة ، أي جعلنا تلك العدة وهي تسعة عشر سببا لفتنة الكفار ، وفتنتهم : هو كونهم أظهروا مقاومتهم والطمع في مغالبتهم ، وذلك على سبيل الاستهزاء ، فإنهم مكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها.

(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) أي إنه تعالى جعل عدة الزبانية تسعة عشر ليتيقن ويعلم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أن هذا الرسول حق ، فإنه جاء ناطقا بما يطابق كتبهم السماوية المنزلة على الأنبياء

٢٣٤

قبله ، فإن فيها أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر ، ولكي يزداد إيمان المؤمنين وتصديقهم حين يرون موافقة أهل الكتاب لهم ، ويشهدون صدق إخبار نبيهم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم أكد الله تعالى ذلك بنفي الشبهة والشك ، فقال :

(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي ولا يشك أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمؤمنون بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحة وحقيقة هذا العدد ، وفي دين الله. والمراد بذلك في الواقع التعريض بالمتشككين المنافقين.

(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ : ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي وليقول المنافقون الذي في قلوبهم شك وريب في صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكافرون من أهل مكة وغيرهم : أي شيء أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟ وما الحكمة في ذكر هذا هنا؟ ومرادهم إنكار أصل هذا الكلام ، وأنه ليس من عند الله (١).

ثم ذكر الله تعالى سنته في الإضلال والهداية لمن كان من أهلهما ، فقال :

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل من يريد بخذلانه عن إصابة الحق ، لسوء استعداده ، وتوجيه نفسه لمواقع الضلال والسوء ، ويهدي إلى الحق والإيمان من يريد ، بتوفيقه إلى الصواب ، فمثل إضلال أبي جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم ، يضل الله عن الهداية والإيمان أي يخزي ويعمي من أراد إضلاله ، ويهدي أي يرشد من أراد هدايته ، كإرشاد أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وليس معنى الإضلال والهداية أنه تعالى يجبر كل فريق على الضلالة والهدى ،

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٣٧٧

٢٣٥

فذلك مناف للعدل الإلهي ، ولحكمة التشريع الذي جاء بالتكليف ، وإنما لإرادة المكلف واختياره دور أساسي في الاستجابة للتكليف ، ولاستحقاق المؤاخذة والثواب ، ولا يقع شيء قهرا عن الله ، وإنما بمراده ، فإن خالف العبد عصى المأمور به ، والمحبوب لربه ، ولم يخرج عن مشيئة الله ، فالله قهر الأشياء كلها ، ولكنه أرخى الزمام في أشياء لاختيار الإنسان.

ثم أكد تعالى أن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها ، فقال :

(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي إن خزنة النار ، وإن كانوا تسعة عشر ، فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.

وهذا رد على المشركين الذين استقلوا ذلك العدد ، ملخصه : هبوا أن هؤلاء تسعة عشر ، إلا أن لكل واحد من الأعوان والجنود ما لا يحصيهم إلا الله ، فلا يعلم جنود الله إلا هو لفرط كثرتهم ، ولا يعسر عليه تتميم الخزنة إلى عشرين وأزيد ، ولكن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها.

(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي وما سقر وصفتها ، وما ذكر عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للناس ، ليعلموا كمال قدرة الله ، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار.

ثم وجّه الله تعالى تحذيرا لمن أنكر جهنم ، فقال :

(كَلَّا ، وَالْقَمَرِ ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ) أي أوجه تحذيرا رادعا لكم أيها الناس ، فلا سبيل لإنكار وجود النار في الآخرة ، وأقسم بالقمر المتلألئ ، وبالليل إذا مضى وولى ذاهبا ، وبالصبح إذا ظهر وتبين وأضاء ، إن سقر (جهنم) لإحدى الدواهي العظام والبلايا الكبار ؛ لإنذار البشر وتخويفهم من عقاب الله على العصيان.

٢٣٦

ثم عيّن الله تعالى المنذرين ، فقال :

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي إن جهنم إنذار لمن أراد أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو الجنة بالإيمان ، أو يتأخر عن ذلك إلى الشر والمعصية أو النار بالكفر. ونظير الآية قوله سبحانه : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) [الحجر ١٥ / ٢٤] أي المبادرين إلى الخير ، والمتأخرين عنه إلى الشر.

قال ابن عباس : هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جوزي بثواب لا ينقطع ، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عوقب عقابا لا ينقطع(١).

وقال الحسن البصري : هذا وعيد وتهديد ، وإن خرج مخرج الخبر ، كقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف ١٨ / ٢٩] (٢).

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن خزنة جهنم وزبانيتها التسعة عشر هم من الملائكة الذين لا يغالبون لا من الرجال الذين يمكن مقاومتهم بالتجمع عليهم.

٢ ـ إن إيراد عدد التسعة عشر من الملائكة صار سببا لفتنة الكفار ، أي اختبارهم ، قال الزمخشري : ما جعل افتتانهم بالعدة سببا ، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا ، وذلك أن المراد بقوله : (ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ، لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر ، فوضع فتنة للذين كفروا موضع

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٨٦

(٢) المرجع والمكان السابق.

٢٣٧

تسعة عشر ؛ لأن حال هذه العدّة الناقصة واحدا من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزئ ، ولا يذعن إذعان المؤمن ، وإن خفي عليه وجه الحكمة ، كأنه قيل : ولقد جعلنا عدتهم عدة ، من شأنها أن يفتتن بها ، لأجل استيقان المؤمنين ، وحيرة الكافرين (١).

٣ ـ إن ذكر هذا العدد أدى إلى زيادة يقين الذين أعطوا التوراة والإنجيل بصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم ، وأدى أيضا إلى زيادة إيمان المؤمنين بذلك ؛ لأنهم كلما صدّقوا بما في كتاب الله آمنوا ، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم ، وإلى نفي الشك من الذين أعطوا الكتاب والمصدّقين من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر ، وأدى أيضا إلى أن الذين في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة الذين سيظهرون بعد الهجرة ، والكافرين من اليهود والنصارى قالوا : ماذا أراد الله بعدد خزنة جهنم مثلا غريبا؟ والقصد من هذا التساؤل الصادر منهم استبعاد أن يكون هذا من عند الله وإنكار كونه من الله ، والمعنى : أيّ شيء أراد الله بهذا العدد العجيب؟

٤ ـ قوله عزوجل : (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) دليل على أن الإيمان يزيد وينقص ، أي يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، وهو رأي الأكثرين. وأما الذين يقولون بأن حقيقة الإيمان لا تقبل الزيادة والنقصان فيحملون الآية على ثمرات الإيمان وعلى آثاره ولوازمه. وأما نفي الارتياب عن أهل الكتاب والمؤمنين بعد إثبات الاستيقان وزيادة الإيمان لهم ، فمن باب التوكيد ، كأنه قيل : حصل لهم يقين جازم ، بحيث لا يحصل بعده شك وريب ، فإن الذي حصل له اليقين قد يغفل عن مقدّمة من مقدمات الدليل ، فيعود له الشك. وفيه أيضا تعريض

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٢٨٨

٢٣٨

بحال من عداهم ، كأنه قيل : وليخالف حالهم حال المرتابين من أهل الزيغ والكفران.

٥ ـ قوله تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) لا يراد به خلافا لظاهره أن الإضلال والهداية أمران مبتدآن من الله عزوجل ، ولا أنه تعالى يجبر فريقا على الضلالة ، وفريقا على الهدى ، وإنما المراد به تقرير سنة من سنن الله سبحانه في عباده وهي ربط الأسباب التي خلقها بالمسببات ، فمن ضل فإنما يضل بنفسه واختياره ، ومن اهتدى فإنما يهتدي بنفسه وإرادته واختياره ، ثم يزيد الله الضالين ضلالا ، فيبعدهم عن معالم الهداية ، لسوء اختيارهم واستعدادهم وعنادهم ، ويزيد المؤمنين إيمانا بتوفيقهم إلى سبل الهداية والرشاد ، لحسن اختيارهم. ولا يقع شيء في الكون قهرا عن الله تعالى ، وإنما بإرادته ومشيئته ، وإن كان مخالفا لمأموره ومحبوبه.

٦ ـ قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) إشارة إلى أن ما عليه عدد الخزنة لا يعلم حكمته ولا حكمة ما عليه كل جند من العدد إلى الأبد إلا الله سبحانه. وهو جواب لأبي جهل حين قال : أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر!

أخرج الترمذي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطّت (١) السماء ، وحقّ لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا».

٧ ـ ردع الله تعالى بقوله : (كَلَّا) كل من ينكر وجود جهنم وصفتها ، وأنها إحدى البلايا العظام والدواهي الكبار ، وأنها إنذار دائم للبشر.

٨ ـ أقسم الله تعالى بالقمر والليل والصبح تشريفا لها ، وتنبيها على ما يظهر بها وفيها من عجائب الله وقدرته وقوام الوجود بإيجادها ، والمقسم عليه : أن

__________________

(١) أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد ثقلها ، حتى أطت ؛ ظهر لها صوت وحنين ، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة ، وإن لم يكن ثمّ أطيط ، وأطيط الإبل : أصواتها وحنينها.

٢٣٩

سقر (جهنم) إحدى الدواهي ، وأنها نذير للبشر أو ذات إنذار ، على معنى النّسب ، قال الحسن البصري : والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها.

٩ ـ النار نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الخير والطاعة ، أو يتأخر إلى الشر والمعصية.

الحوار بين أصحاب اليمين وبين المجرمين

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

الإعراب :

(فِي جَنَّاتٍ) حال من أصحاب اليمين.

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) ما : في موضع رفع مبتدأ ، و (لَهُمْ) : خبره ، و (مُعْرِضِينَ) : حال من ضمير (لَهُمْ) والعامل : ما في (لَهُمْ) من معنى الفعل. و (عَنِ التَّذْكِرَةِ) ، و (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ) : في موضع الحال بعد حال ، أي مشابهين حمرا مستنفرة ، أي نافرة.

٢٤٠