التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

كل عصر. قال أبو الدرداء : إنا لنكشر في وجوه أقوام ، ونضحك إليهم ، وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم.

تهديد الكفار وتوعدهم

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨))

الإعراب :

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ .. يَوْمَ) : منصوب على الظرف ، والعامل فيه ما في (لَدَيْنا) من معنى الاستقرار ، كما تقول : إن خلفك زيدا غدا ، والعامل في (غدا) الاستقرار الذي دل عليه (خلفك).

(كَثِيباً مَهِيلاً مَهِيلاً) : أصله (مهيولا) على وزن مفعول ، من (هلت) فاستثقلت الضمة على الياء ، فنقلت إلى الهاء قبلها ، فبقيت الياء ساكنة والواو ساكنة ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، وكسرت الهاء لتصحيح الياء.

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يَوْماً) : مفعول (تَتَّقُونَ) وليس منصوبا على الظرف ، و (يَجْعَلُ) : جملة فعلية في موضع نصب ؛ لأنه صفة (يَوْماً).

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) إنما قال (مُنْفَطِرٌ) من غير تاء لثلاثة أوجه : إما بمعنى النسب ، أي ذات انفطار ، أو بجعل السماء في معنى السقف ، كما في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء ٢١ / ٣٢] ، أو لأن السماء يجوز فيها التذكير والتأنيث ، فيقال : (مُنْفَطِرٌ) على التذكير ، وهو قول الفراء.

٢٠١

البلاغة :

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً ، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ، وَعَذاباً أَلِيماً ..) إلخ : سجع مرصع.

(أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) جناس اشتقاق.

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) التفات من الغيبة إلى الخطاب للتقريع والتوبيخ على عدم الإيمان ، والأصل أن يقال : إنا أرسلنا إليهم.

(فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) تأكيد الفعل بالمصدر.

المفردات اللغوية :

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) اتركني وإياهم ، فإني قدير على مجازاتهم. (النَّعْمَةِ) بفتح النون : التنعم والترفه ، وبكسر النون : الإنعام أو اسم الشيء المنعم به. (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) اتركهم زمانا قليلا برفق وتأنّ ، أو أمهلهم إمهالا. (أَنْكالاً) قيودا ثقيلة ، جمع نكل بكسر النون وفتحها : وهو القيد الثقيل. (وَجَحِيماً) نار محرقة شديدة الإيقاد. (ذا غُصَّةٍ) يغص به فلا يستساغ في الحلق ، كالضريع والزقّوم والغسلين والشوك من نار ، فلا يخرج ولا ينزل. (وَعَذاباً أَلِيماً) مؤلما لا يعرف كنهه إلا الله ، زيادة على ما ذكر.

(تَرْجُفُ) تضطرب وتتزلزل. (كَثِيباً) رملا متجمعا بتأثير الريح. (مَهِيلاً) رخوا ليّنا تغوص الأقدام فيه. (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ) أرسلنا إليكم يا أهل مكة. (رَسُولاً) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (شاهِداً عَلَيْكُمْ) يشهد عليكم يوم القيامة بالعصيان أو الإجابة للدعوة. (وَبِيلاً) ثقيلا شديدا ، ومنه طعام وبيل : لا يستمرأ لثقله ، ووابل : وهو المطر العظيم. (تَتَّقُونَ) تقون أنفسكم. (إِنْ كَفَرْتُمْ) بقيتم على الكفر في الدنيا. (يَوْماً) عذاب يوم أي بأي حصن تتحصنون من عذاب يوم القيامة. (شِيباً) جمع أشيب ، وجعلهم شيبا لشدة هوله ، يقال لليوم الشديد : يوم يشيب الأطفال ، وهو مجاز ، أصله أن الهموم تضعف القوى وتسرع بالشّيب. (مُنْفَطِرٌ) منشق متصدع. (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي إن وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم كائن لا محالة.

سبب النزول :

نزول الآية (١١):

(وَذَرْنِي) : روي أنها نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.

٢٠٢

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى إرشاداته لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، هدد المشركين وأوعدهم على الإعراض عن قبول تلك الدعوة ، وخوفهم عذاب يوم القيامة وكيفيته وأهواله ، وعذاب الدنيا ومخاطره ، ثم عاد إلى وصف عذاب الآخرة وتخويفهم به لشدته التي بلغت حدا تشيب الولدان ، وتتشقق السموات منه.

التفسير والبيان :

هدد الله تعالى كفار مكة وأمثالهم وتوعدهم ، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء ، فقال :

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أي دعني وأولئك المكذبين المترفين أصحاب الأموال ، فإني أكفيك أمرهم ، وأنتقم لك منهم ، فلا تهتم بكونهم أرباب الغنى والسعة والترفّه في الدنيا ، وتمهل عليهم رويدا وزمنا قليلا ، أو تمهلا قليلا إلى انقضاء آجالهم ، كما قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان ٣١ / ٢٤]. وقد أهلك زعماؤهم في موقعة بدر ، قالت عائشة : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر.

ثم ذكر الله تعالى أنواعا أربعة من عذابهم ، فقال :

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً ، وَجَحِيماً ، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ، وَعَذاباً أَلِيماً) أي إن عندنا القيود والأغلال لهؤلاء المكذبين بآياتنا وبرسولنا ، ونارا مؤججة مضطرمة ، وطعاما لا يستساغ ، ينشب في الحلق ، فلا يدخل ولا يخرج كالزقوم والضريع ، ونوعا آخر من العذاب المؤلم الشديد ، لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. وتنكير قوله (عَذاباً) يدل على أن هذا العذاب أشد مما تقدم وأكمل.

وبعد وصف العذاب ، أخبر تعالى عن زمانه متى يكون فقال :

٢٠٣

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ، وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) أي إن ذلك العذاب الذي يعذب به الكفار هو في يوم تضطرب في الأرض والجبال وتتزلزل بمن عليها ، والرجفة : الزلزلة الشديدة ، وتصير الجبال كالكثيب المهيل ، أي الرمل المجتمع السائل الذي يسيح فيه الإنسان والحيوان ، بعد ما كانت حجارة صماء ، ثم تنسف نسفا ، فلا يبقى منها شيء إلا ذهب. والرجفة : الزلزلة والزعزعة الشديدة ، والمهيل : هو الذي إذا وطئته القدم زلّ ما تحتها ، وإذا وصلت أسفله انهال.

وبعد تخويف أهل مكة وأمثالهم بأهوال القيامة ، هددهم وخوفهم تعالى بأهوال الدنيا التي تعرضت لها الأمم المكذبة المتقدمة ، فقال :

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ ، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ، فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) أي يخاطب الله تعالى كفار قريش ، والمراد سائر الناس ، فيقول لهم : إنا أرسلنا إليكم رسولا هو محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم وبما يصدر عنكم من إجابة وامتناع ، وطاعة وعصيان ، كما أرسلنا موسى عليه‌السلام إلى الطاغية فرعون يدعوه إلى الحق والإيمان ، فعصى فرعون الرسول المرسل إليه ، وكذّبه ولم يؤمن بما جاء به ، فأخذناه أخذا شديدا ثقيلا غليظا ، أي عاقبناه عقوبة شديدة وأهلكناه ومن معه بالغرق في البحر ، فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول ، فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم الذي هو أشرف وأعظم من موسى بن عمران عليه‌السلام. وإنما عرّف كلمة الرسول ثانيا ؛ لأنه ينصرف إلى المعهود السابق في الذكر.

ثم عاد الله تعالى إلى تخويفهم بعذاب الآخرة ذاكرا هو له من وجهين ، فقال :

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ،

٢٠٤

كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي كيف تقون أنفسكم وتنعمون بالأمان والاطمئنان إن بقيتم على الكفر ، من عذاب يوم يجعل الأطفال شيبا بيض الشعور ، لشدة هوله ، وهذا كناية عن شدة الخوف ، وتصير السماء متشققة به متصدعة ؛ لشدته وعظيم هوله ، وكان وعد الله بمجيء ذلك اليوم كائنا واقعا لا محالة ولا محيد عنه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ هدد الله صناديد قريش وأمثالهم من المستهزئين والمترفين الطغاة والمكذبين بآيات الله والكفر برسالة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوعدهم بأشد العذاب في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فعوقب رؤساء مكة في موقعة بدر ، وأما في الآخرة فنار جهنم تنتظرهم.

٢ ـ إن أنواع العذاب الشديد في الآخرة هي الأنكال أي القيود ، والنار المؤججة ، والطعام الذي لا يستساغ ، فلا هو نازل ولا هو خارج ، وهو الغسلين والزّقوم والضريع وهو شوك كالعوسج.

٣ ـ زمان هذا العذاب هو يوم القيامة ، الذي تضطرب وتحرك فيه الأرض والجبال بمن عليها ، وتصبح الجبال فيه رملا مجتمعا سائلا متناثرا غير متماسك.

٤ ـ التشابه في الجريمة والعقاب : اشترك أهل مكة في تكذيب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستخفاف به ، مع فرعون وقومه الذين كذبوا موسى عليه‌السلام ، قال مقاتل : ذكر ـ أي الله ـ موسى وفرعون ؛ لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستخفوا به ؛ لأنه ولد فيهم ، كما أن فرعون ازدرى موسى ؛ لأنه ربّاه ونشأ فيما بينهم ، كما قال تعالى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) [الشعراء ٢٦ / ١٨] فكان التشابه في الأحوال سببا لذكر قصة موسى وفرعون على التعيين دون سائر الرسل والأمم.

٢٠٥

لذا عوقب فرعون وأتباعه بالعقاب الثقيل الشديد وهو الغرق في البحر ، وعوقب كفار مكة بالهلاك يوم بدر. ويكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهدا على قومه يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم.

٥ ـ وبخ الله تعالى الكفار وقرعهم على كفرهم بطريق التساؤل بقوله : كيف تتقون عذاب يوم يجعل الولدان شيبا إن كفرتم ، وتتفطر فيه السماء؟ وهذا وصف لهول يوم القيامة بأمرين : الأول ـ يجعل الولدان شيبا ، وهذا مثل في الشدة. والثاني ـ تتصدع فيه السماء. وكلاهما وصف لليوم بالشدة الشديدة ، فهو يوم يشيّب نواصي الأطفال ، والسماء على عظمتها وقوتها تتفطر فيه ، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟

٦ ـ إن وعد الله تعالى بالقيامة والحساب والجزاء كائن لا شك فيه ولا خلف.

٧ ـ دلت آية : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً ..) على أن القياس حجة ؛ لأنه استقر عند العقلاء وعند المشركين في مكة وغيرهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنا ، يجب اشتراكهما في الحكم ، وإلا لما أورد هذا الكلام على هذه الصورة.

تذكير وإرشاد بأنواع الهداية

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ

٢٠٦

عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

الإعراب :

(وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) طائفة مرفوع عطفا على الضمير المرفوع في (تَقُومُ). وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المستكن في (تَقُومُ) لوجود الفصل ، والفصل يقوم مقام التوكيد في تجويز العطف.

(وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالجر عطفا على (ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) وبالنصب عطفا على (أَدْنى).

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إِنَ) مخففة من الثقيلة ، والسين عوض عن التشديد ، وقد يقع التعويض بسوف وقد وحرف النفي ، كما يعوض بالسين جبرا لما دخل الحرف من النقص.

(تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً .. خَيْراً) مفعول ثان ل (تَجِدُوهُ) والهاء : هي المفعول الأول ، وهو ضمير فصل على قول البصريين ، ولا موضع له من الإعراب : ويسميه الكوفيون عمادا ، وله موضع من الإعراب.

البلاغة :

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) استعارة ، حيث شبه الترخيص بقبول التوبة في رفع التبعة.

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) مجاز مرسل ، أراد به الصلاة ، من إطلاق الجزء وهو القراءة على الكل وهو الصلاة.

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) عام بعد خاص ، عمم بعد ذكر الصلاة والزكاة والإنفاق ، ليشمل جميع أعمال الخير والصلاح.

(وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) استعارة تبعية ، شبه التصدق على المحتاجين بإقراض الله تعالى ؛ لأنه هو الذي يعطي الثواب المقابل.

(هُوَ خَيْراً) قال ذلك للتأكيد والمبالغة.

٢٠٧

المفردات اللغوية :

(إِنَّ هذِهِ) الآيات الموعدة أو المخوفة. (تَذْكِرَةٌ) عظة. (فَمَنْ شاءَ) أن يتعظ. (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) طريقا يتقرب به إلى الجنة ، بالتزام الإيمان والطاعة أو التقوى والاحتراز عن المعصية. (أَدْنى) أقل منه. (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يعلم مقادير ساعاتهما. (أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي لن تستطيعوا تقدير الأوقات وضبط الساعات لتقوموا قيام الليل ، فيحصل قيام الكل وهو أمر شاق عليكم. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بالتيسير والتخفيف والترخيص في ترك القيام. (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي فصلّوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، عبر عن الصلاة بالقراءة. (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) يسافرون للتجارة.

(يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) يطلبون من فضله ورزقه بالتجارة وغيرها. (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) يجاهدون ، وكل من الفئات الثلاث يشق عليهم قيام الليل ، فخفف عنهم بقيام ما تيسر منه ، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) المفروضة. (وَآتُوا الزَّكاةَ) الواجبة. (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أنفقوا في سبيل الخيرات فيما عدا المفروض من المال ، عن طيب نفس. (هُوَ خَيْراً) أفضل مما أنفقتم. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) في جميع أحوالكم ومجالسكم ، فإن الإنسان لا يخلو من تفريط.

المناسبة :

بعد بيان أحوال المؤمنين السعداء وترغيبهم ، وأحوال الأشقياء وتهديدهم بأنواع العذاب في الآخرة ، ختمت السورة بتذكيرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد ، فمن أراد الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية ، فليفعل ، ثم خفف عن المؤمنين مقدار قيام الليل لما يطرأ لهم من أعذار المرض ، أو السفر للتجارة ونحوها ، أو الجهاد في سبيل الله تعالى.

التفسير والبيان :

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي إن ما تقدم في هذه السورة من الآيات المخوفة موعظة لأولي الألباب ، فمن أراد اتعظ بها واتخذ الطاعة طريقا توصله إلى رضوان الله في الجنة. وبعد نزول أوائل السورة استعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقيام الليل ، وترك الرقاد ، ثم خفف الله عنهم قائلا :

٢٠٨

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ، وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ، وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي إن الله يعلم أنك أيها الرسول تقوم ممتثلا أمر ربك أقلّ من ثلثي الليل أحيانا ، أو تقوم نصفه أو ثلثه ، وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك ، والله سيجازيكم على ذلك أحسن الجزاء.

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي يعلم الله مقادير الليل والنهار حقيقة ، ويعلم القدر الذي تقومونه من الليل ، ولكن الله علم أنكم لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به ، ولن تتمكنوا ضبط مقادير الليل والنهار ولا إحصاء الساعات ، أو علم الله أنكم لن تطيقوا قيام الليل أو الفرض الذي أوجبه عليكم ، فعاد عليكم بالعفو والترخيص في ترك القيام إذ عجزتم ، ورجع بكم من العسر إلى اليسر. وأصل التوبة : الرجوع.

قال مقاتل : لما نزلت (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) شقّ ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ ، فانتفخت أقدامهم ، وامتقعت ألوانهم ، فرحمهم‌الله وخفف عنهم ، فقال تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) (١). والمراد بقوله : (لَنْ تُحْصُوهُ) أي لن تطيقوه : لصعوبة الأمر ، لا أنهم لا يقدرون عليه.

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي صلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، فالمراد بالقراءة الصلاة ، من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، كما تقدم بيانه.

وهذه الآية نسخت قيام الليل ، ويؤكده الحديث الصحيح عند مسلم والنسائي والترمذي واللفظ له عن أنس بن مالك الذي فيه قال السائل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل عليّ غيرها؟ يعني الصلوات الخمس ، فقال : «لا ، إلا أن تطوّع» فهو يدل على عدم وجوب غير تلك الصلوات المفروضة ، فارتفع بهذا وجوب قيام الليل وصلاته عن الأمة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٥٣

٢٠٩

ثم ذكر الله تعالى أسباب التخفيف وأعذاره أو حكمته قائلا :

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي علم الله عزوجل بطروء أعذار ثلاثة هي المرض والسفر والجهاد ، فقد يكون منكم مرضى لا يطيقون قيام الليل ، وآخرون يسافرون في الأرض للتجارة والربح ، يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم ، فلا يطيقون قيام الليل ، وقوم آخرون هم المجاهدون في سبيل الله لا يطيقون قيام الليل ، فوجود هذه الأعذار المقتضية للترخيص سبب لرفع فرضية التهجد عن جميع الأمة.

ثم ذكر الحكم الدائم بعد الترخيص ، فقال تعالى :

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي فصلوا ما تيسر واقرؤوا ما تيسر من القرآن ، وقد أعيد الأمر هنا لتأكيد الرخصة وتقريرها ، وأدوا الصلاة المفروضة قائمة بفروضها وأركانها وشرائطها واحتضار الخشوع فيها دون غفلة عنها ، وآتوا الزكاة الواجبة في الأموال ، وأنفقوا في سبيل الخير من أموالكم إنفاقا حسنا على الأهل وفي الجهاد وعلى المحتاجين ، كما قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة ٢ / ٢٤٥].

ثم أكّد الطلب على الصدقة ورغّب فيها ، فقال :

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) أي وجميع ما تقدموه من الخير المذكور وغير المذكور ، فثوابه حاصل لكم ، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا ، ومما تؤخرونه إلى عند الموت ، أو توصون به ليخرج من التركة بعد موتكم.

٢١٠

أخرج البخاري والنسائي وأبو يعلى الموصلي عن الحارث بن سويد قال : قال عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا : يا رسول الله : ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه ، قال : اعلموا ما تقولون ، قالوا : ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله ، قال : إنما مال أحدكم ما قدّم ، ومال وارثه ما أخّر».

ثم ختم السورة بالأمر بالاستغفار فقال :

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أكثروا من الاستغفار لذنوبكم وفي أموركم كلها ، فإنكم لا تخلون من ذنوب اقترفتموها ، وإن الله كثير المغفرة لمن استغفره ، كثير الرحمة لمن استرحمه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ كل ما جاء في سورة المزمل وفي آياتها عظة للمتعظ ، فمن أراد أن يؤمن ويتخذ إيمانه وطاعته طريقا إلى رضا ربه ورحمته ، فليرغب وليفعل ، فذلك ممكن له ؛ لأنه تعالى أظهر له الحجج والدلائل.

٢ ـ قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته بما أمروا به من قيام الليل في أول السورة : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) ثم نسخت فرضية القيام بهذا المقدار الثقيل بآخر السورة في قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ..). وكان النسخ بإيجاب الصلوات الخمس.

٣ ـ خفف الله عن الأمة وعاد عليهم بالعفو. وهذا يدل ـ كما قال القرطبي ـ على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به. والأولى أن يقال : تاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. قال أبو نصر القشيري : والمشهور أن نسخ قيام الليل كان

٢١١

في حق الأمة ، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : نسخ التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب ، كقوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة ٢ / ١٩٦] فالهدي لا بد منه ، كذلك لم يكن بدّ من صلاة الليل ، ولكن فوّض قدره إلى اختيار المصلي. وهذا مذهب الحسن. ومذهب الشافعي : النسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلا.

٤ ـ أمر الله بقراءة ما تيسر من القرآن ، والمراد من هذه القراءة : الصلاة ؛ لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة ، فأطلق اسم الجزء على الكل ، أي فصلوا ما تيسر لكم ، والصلاة تسمى قرآنا ، كقوله تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [الإسراء ١٧ / ٧٨] قال ابن العربي : وهو الأصح ؛ لأنه عن الصلاة أخبر ، وإليها يرجع القول.

وقيل : المراد القراءة نفسها ، أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خفف عنكم. قال السدّي : مائة آية ، وقال الحسن : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن. وقال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد بن المسيب : خمسون آية. قال القرطبي : قول كعب أصح ؛ لما أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمئة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» أي أعطي من الأجر قنطارا.

وصحح القرطبي القول الثاني حملا للخطاب على ظاهر اللفظ ، والقول الآخر مجاز ، فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.

٥ ـ أبان الله تعالى حكمة هذا النسخ ، وذكر علة تخفيف قيام الليل ؛ فإن الخلق منهم المريض ، ويشق عليه قيام الليل ، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل ، وكذلك المجاهد ، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء.

٦ ـ سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال

٢١٢

الحلال للنفقة على نفسه وعياله ، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. روى إبراهيم عن علقمة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد ، فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

٧ ـ إذا كان المراد من آية (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) هو القراءة في الصلاة عملا بظاهر اللفظ ، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ في الصلاة.

فقال مالك والشافعي وأحمد : فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها ، ولا الاقتصار على بعضها ؛ لما رواه السبعة عن عبادة بن الصامت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وظاهر النفي انعدام الصلاة الشرعية لعدم قراءة الفاتحة فيها. ورويت أحاديث كثيرة في معنى ذلك.

وقال أبو حنيفة : الفرض مطلق قراءة ، وهو آية واحدة طويلة من القرآن ، أو ثلاث آيات قصار ؛ لأنها أقل سورة. ودليله ما ثبت في الصحيحين من حديث المسيء صلاته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «اقرأ ما تيسر معك من القرآن» فلو كانت الفاتحة بخصوصها ركنا لعيّنها وعلمه إياها إن كان يجهلها ، وما روى أبو داود عن أبي هريرة من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة إلا بقرآن ، ولو بفاتحة الكتاب» فإنه ظاهر في عدم تعين الفاتحة.

٨ ـ أوجب الله تعالى إقامة الصلاة المفروضة وهي الخمس لوقتها ، وإيتاء الزكاة الواجبة في الأموال. والمراد من الصلاة : ما كان مفروضا في النهار أول الأمر «ركعتين بالغداة ، وركعتين بالعشي» والمراد بالزكاة : زكاة المال المفروضة التي فرضت في السنة الخامسة من البعثة على الراجح.

٢١٣

٩ ـ حث الله تعالى على القرض الحسن : وهو ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وذلك إشارة أيضا إلى صدقة التطوع.

١٠ ـ أي عمل يقدمه العبد في الدنيا يبتغي به منفعته في الآخرة ، سواء أكان متعلقا بالمال أم بغيره ، فإنه يلقى به عند ربه جزاء أحسن منه وأكثر نفعا ؛ لإعطائه بالحسنة عشرا. وهذا حث على الإنفاق مطلقا.

١١ ـ طلب الله تعالى من عباده مداومة الاستغفار مما عسى أن يقع في الأعمال من الخلل أو التقصير ، ووعد سبحانه بالرحمة والمغفرة لمن يلجأ إلى جنابه الكريم ، إذ أخبر بأنه عظيم المغفرة واسع الرحمة. وهذا تحريض على الاستغفار في جميع الأحوال ، وإن كانت طاعات ، لما عسى أن يقع فيها من تفريط.

٢١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المدثر

مكيّة ، وهي ست وخمسون آية.

تسميتها :

سميت سورة المدّثر لافتتاحها بهذا الوصف الذي وصف به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصل المدثر المتدثر : وهو الذي يتدثر بثيابه لينام أو ليستدفئ. والدثار : اسم لما يتدثر به.

مناسبتها لما قبلها :

صلة السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة هي :

١ ـ تتفق السورتان في الافتتاح بنداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ صدر كلتيهما نازل في قصة واحدة. وقد نزلت المدثر عقب المزمّل.

٣ ـ بدئت السورة السابقة بالأمر بقيام الليل (التهجد) وهو إعداد لنفسه ليكون داعية ، وبدئت هذه السورة بالأمر بإنذار غيره ، وهو إفادة لسواه في دعوته.

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت السورة إرشادات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدء دعوته ، وتهديدات لزعيم من زعماء الشرك ، وأوصاف جهنم.

٢١٥

بدأت السورة بتكليف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقيام بالدعوة إلى ربه ، وإنذار الكفار ، والصبر على أذى الفجار : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ..) [الآيات : ١ ـ ٧].

ثم وصفت يوم القيامة الرهيب الشديد ، لما فيه من الأهوال : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ..) [الآيات : ٨ ـ ١٠].

ثم انطلقت تهدد إنسانا في أقوى وأشد صور التهديد ، وهو الوليد بن المغيرة الذي أقر بأن القرآن كلام الله تعالى ، ثم من أجل الزعامة والرياسة ، زعم أنه سحر ، فاستحق النار : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ..) [الآيات : ١١ ـ ٢٦].

وناسب ذلك تعداد أوصاف النار ، وعدد خزنتها وحكمة ذلك ، وبروزها للناس : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ..) [الآيات : ٢٧ ـ ٣١].

وزاد الأمر تهويلا قسم الله بالقمر والليل والصبح على أن جهنم إحدى الدواهي العظام : (كَلَّا وَالْقَمَرِ ..) [الآيات : ٣٢ ـ ٣٧].

وأوضحت السورة مسئولية كل نفس بما كسبت وتعلقها بأوزارها ، وبشارة المؤمنين بالنجاة ، والكفار بالعذاب ، وتصوير ما يجري من حوار بين الفريقين : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ..) [الآيات : ٣٨ ـ ٤٨].

وختمت السورة ببيان سبب إعراض المشركين عن العظة والتذكر والإيمان : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ..) [الآيات : ٤٩ ـ ٥٦].

فضلها :

ثبت في صحيح البخاري عن جابر أنه كان يقول : أول شيء نزل من القرآن : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وخالفه الجمهور ، فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [القلم ٩٦ / ١].

٢١٦

سبب نزولها :

أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري ، هبطت ، فنوديت ، فنظرت عن يميني ، فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي ، فرأيت شيئا ، فأتيت خديجة ، فقلت : دثّروني ، وصبّوا عليّ ماء باردا ، قال : فدثّروني وصبوا علي ماء باردا ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)». ورواه مسلم بلفظ آخر يدل على أن أول ما نزل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [القلم ٩٦ / ١ ـ ٥].

ووجه الجمع بين الرأيين : أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة ، كما قال الإمام أحمد والشيخان عن جابر أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ثم فتر الوحي عن فترة ، فبينا أنا أمشي ، سمعت صوتا من السماء ، فرفعت بصري قبل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت ـ فزعت ـ منه فرقا ـ أي خوفا ـ ، حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي ، فقلت لهم : زمّلوني زمّلوني ، فزمّلوني ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ثم حمي الوحي وتتابع».

وأخرج الطبراني (١) عن ابن عباس قال : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا منه قال : ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : ليس بساحر ، وقال بعضهم : كاهن ، وقال بعضهم : ليس

__________________

(١) بسند ضعيف.

٢١٧

بكاهن ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : ليس بشاعر ، وقال بعضهم : بل سحر يؤثر ، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحزن وقنّع رأسه وتدثر ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ).

إرشادات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدء الدعوة

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

الإعراب :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أصله المتدثر ، فأدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما. ولم تدغم الدال في التاء ؛ لأن التاء مهموسة ، والدال مجهورة ، والمجهور أقوى من المهموس ، فكان إدغام الأضعف في الأقوى أولى من العكس.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ تَسْتَكْثِرُ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال ، أي ولا تمنن مستكثرا.

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فِي النَّاقُورِ) إما في موضع الرفع ؛ لأنه قام مقام النائب للفاعل ، وإما في موضع النصب ؛ لأن المصدر قام مقام الفاعل ، فاتصل الفعل به بعد تمام الجملة ، فوقع فضلة ، فكان في موضع نصب.

(فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ فَذلِكَ) مبتدأ ، و (يَوْمَئِذٍ) بدل منه ، و (يَوْمٌ عَسِيرٌ) خبر المبتدأ ، ولا يجوز أن يتعلق. (يَوْمَئِذٍ) بقوله (عَسِيرٌ) لأن ما تعمل فيه الصفة لا يجوز تقدمه على الموصوف. والعامل في (فَإِذا) في قوله : (فَإِذا نُقِرَ ..) ما دلت عليه الجملة ، أي اشتد الأمر.

٢١٨

البلاغة :

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) تقديم المفعول به لإفادة الاختصاص.

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) جناس اشتقاق.

(عَسِيرٌ) و (يَسِيرٍ) بينهما طباق ، وجناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(الْمُدَّثِّرُ) المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه ، وأصله : المتدثر ، وأجمعوا على أن المدثر هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو لابس الدثار : وهو الثوب الظاهر الذي يلبس فوق لباس داخلي يلاصق الجسد (قُمْ) من مضجعك ، أو قيام عزم وجدّ (فَأَنْذِرْ) خوّف أهل مكة وغيرهم النار إن لم تؤمنوا. (فَكَبِّرْ) عظّم. (فَطَهِّرْ) أي طهر ثيابك من النجاسات ، فإن التطهير واجب في الصلاة ، محبوب في غيرها ، وذلك بغسلها ، أو بحفظها عن النجاسة ، أو طهر نفسك من الأفعال والأخلاق الذميمة.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اترك الأسباب والمآثم المؤدية إلى العذاب ، وداوم على هجرها ، والرجز : بضم الراء وكسرها : العذاب ، قال تعالى : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) [الأعراف ٧ / ١٣٤]. (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي لا تعط شيئا فتطلب أكثر منه ، أو لا تمنن على الله بعبادتك مستكثرا إياها ، أو على الناس بالتبليغ مستكثرا به الأجر منهم أو مستكثرا إياه. (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) نفخ في الصور وهو القرن النفخة الثانية. (فَذلِكَ) أي وقت النقر. (يَوْمٌ عَسِيرٌ) شديد على الكفار. (غَيْرُ يَسِيرٍ) غير سهل عليهم.

سبب النزول :

تقدم ، وملخصه : أخرج الشيخان عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري ، نزلت ، فاستنبطت الوادي ، فنوديت ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء ، فرجعت ، فقلت : دثروني. فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ)».

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ) أي يا أيها النبي الذي قد تدثر بثيابه ، أي

٢١٩

تغطى بها رعبا من رؤية الملك عند نزول الوحي أول مرة ، انهض ، فخوّف أهل مكة ، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي عظم الله وصفه بالكبرياء ، في عبادتك وكلامك وجميع أحوالك ، فإنه أكبر من أن يكون له شريك ، وطهّر ثيابك واحفظها عن النجاسات. وقال قتادة : أي طهرها من المعاصي والذنوب ، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله : إنه لدنس الثياب ، وإذا وفّى وأصلح : إنه لمطهر الثياب. وكلا المعنيين صحيح ، فإن الطهارة الحسية أو النظافة تلازم عادة الطهارة المعنوية ، أي التجرد والتباعد من المعاصي ، والعكس صحيح ، فإن وجود الأوساخ ملازم لكثرة الذنوب.

والآية دليل على تعظيم الله مما يقول عبدة الأوثان ، وعلى النظافة وتحسين الأخلاق واجتناب المعاصي.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اترك الأصنام والأوثان ، فلا تعبدها ، فإنها سبب العذاب ، واهجر جميع الأسباب والمعاصي المؤدية إلى العذاب في الدنيا والآخرة ، فالآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي.

والنهي عن جميع ذلك لا يعني تلبسه بشيء منها وإنما يبدأ به لكونه قدوة ، وللمداومة على الهجران ، فهو كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب ٣٣ / ١] وقوله سبحانه : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ : اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف ٧ / ١٤٢] فمثل هذا الخطاب للنبي يراد به الأمر بالدوام والمتابعة ، واستمرار تجنب الفساد.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي لا تمنن على أصحابك وغيرهم بتبليغ الوحي ، مستكثرا ذلك عليهم ، أو إذا أعطيت أحدا عطية ، فأعطها لوجه الله ، ولا تمنّ

٢٢٠