التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

إلا هو ، والأمد : الزمن البعيد. (عالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن العباد. (فَلا يُظْهِرُ) لا يطلع. (عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) على الغيب المخصوص به علمه. (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي إن الرسول يطلعه الله على بعض الغيب معجزة له. (يَسْلُكُ) يجعل ويقيم. (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) من بين يدي المرتضى الرسول. (رَصَداً) حراسا وحفظة من الملائكة يحفظونه حتى يبلغه مع بقية الوحي. وأما كرامات الأولياء في المغيبات فتكون تلقيا من الملائكة.

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) أي ليظهر معلوم الله كما هو الواقع من غير زيادة ولا نقص ، أو ليعلم محمد النبي الموحى إليه أن قد أبلغ جبريل والملائكة معه الوحي بلا تحريف وتغيير ، و (أَبْلَغُوا) على المعنى الأول : هم الرسول ، وعلى الثاني هم الملائكة وروعي بجمع الضمير معنى من (١). (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أبلغوا رسالات الله كما هي من غير تغيير. (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) أحاط علما بما عند الرسل ، وهو عطف على مقدر ، أي فعلم ذلك. (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي أحصى عدد كل شيء.

سبب النزول :

قال مقاتل : إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) قال النضر بن الحارث : متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى : (قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) إلى آخر الآيات.

التفسير والبيان :

(قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) أي قل أيها الرسول : لست أعلم قرب العذاب الذي يعدكم الله به ، فما أدري أقريب وقت الساعة أم بعيد ، وهل جعل الله له غاية ومدة؟ فلا يعرف متى يوم القيامة إلا الله وحده. ومضمون الآية أمر من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للناس : إنه لا علم له بوقت الساعة ، أي تفويض علم تعيين الساعة إلى الله ؛ لأنه عالم الغيب.

__________________

(١) أي إن قوله تعالى : مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مع قوله : أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا كقوله : فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ من الحمل على اللفظ تارة ، وعلى المعنى أخرى.

١٨١

ويؤكده ما جاء في حديث مسلم عن عمر حينما سأل جبريل عليه‌السلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : فأخبرني عن الساعة؟ قال : «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل».

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) أي إن الله وحده هو العالم بالمغيبات ، فلا يطلع على الغيب (وهو ما غاب عن العباد) أحدا منهم ، إلا من ارتضى من الرسل ، فإنه يطلعهم على بعض المغيبات ، ليكون معجزة لهم ، ودلالة صادقة على نبوتهم. وهذا يشمل الرسول الملكي والبشري ، كقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة ٢ / ٢٥٥]. ومن أمثلة إخبار الرسل عن المغيبات قول عيسى عليه‌السلام : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران ٣ / ٤٩].

ثم إن الله تعالى يجعل بين يدي الرسول ومن خلفه حرسا وحفظة من الملائكة ، يحرسونه من تعرّض الشياطين لما أظهره الله عليه من الغيب ، لضبط الوحي ، ويمنعون الشياطين من استراق الغيب ، لإلقائه إلى الكهنة. وفي الكلام إضمار وتقدير : إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي ، ثم يجعل بين يديه ومن خلفه حرسا من الملائكة أي الرصد. والرصد : الحفظة يحفظون كل رسول من تعرض الجنّ والشياطين.

والآية دليل على إبطال الكهانة والتنجيم والسحر ؛ لأن أصحابها يدّعون علم الغيب من غير دليل ، وهي دليل أيضا على أن الإنسان المرتضى للنبوة قد يطلعه الله تعالى على بعض غيوبه ، أما علم الكهنة والمنجمين فهو ظن وتخمين ، فلا يدخل في علم الغيب. وأما علم الأولياء وظهور الكرامات على أيديهم فهو إلهامي متلقى من الملائكة ، لا يرقى إلى درجة علوم الأنبياء.

وتأول الرازي الآية بأنه لا أدري وقت وقوع القيامة ، والله عالم الغيب ،

١٨٢

فلا يطلع أحدا على وقت وقوع القيامة ، فهو من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد ، ثم قال الرازي : لا بد من القطع بأنه ليس مراد الله من هذه الآية ألا يطلع أحدا على شيء من المغيبات إلا الرسل ، للأدلة الآتية :

أحدها ـ أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل زمان ظهوره ، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم ، حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب.

والثاني ـ أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير ، وأن المعبّر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل ، ويكون صادقا فيه.

والثالث ـ أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان ، وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل ، فذكرت أشياء ، ثم وقعت على وفق كلامها.

والرابع ـ أنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة ، وليس هذا مختصا بالأولياء ، بل قد يوجد في السحرة أيضا من يكون صادقا في أخباره ، وإن كان يكذب في أكثر الأخبار ، وقد تطابق الأحكام النجومية الواقع وتوافق الأمور. وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا ، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه ، مما يجر إلى الطعن في القرآن الكريم ، وذلك باطل ، فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرنا (١).

وفي رأيي أن علم الغيب الشامل مقصور على الله عزوجل ، حتى إن الملائكة كما في سورة البقرة في بدء الخلق ، والجن كما في سورة سبأ ، والإنس كما في أواخر

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ١٦٩

١٨٣

سورة لقمان جردوا من علم الغيب واعترفوا بعدم علمهم بالغيب ، وأما هذه الوقائع التي أوردها الرازي فقد تقع بالإلهام سواء للصالح أو غير الصالح.

ثم ذكر الله تعالى علة حفظه الرسل ، فقال :

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أي إنه تعالى يحفظ رسله بالملائكة ، ليعلم الله علم ظهور وانكشاف في الواقع القائم أن هؤلاء الرسل قد بلغوا الرسالات الإلهية كما هي دون زيادة ولا نقصان. ويصح أن يكون المعنى : ليعلم نبي الله أن جبريل ومن معه من الملائكة قد بلّغت عن الله الوحي تماما من غير تغيير ولا تبديل ، وأن الملائكة حفظوا الوحي حتى أوصلوه تاما إلى الرسل من البشر.

ويكون المراد بالمعنى الأول أن الله يحفظ رسله بملائكته ، ليتمكنوا من أداء رسالاته ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، ويكون ذلك كقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة ٢ / ١٤٣] وكقوله تعالى : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ١١] إلى أمثال ذلك من العلم ، بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة ، فيكون القصد بما جاء في القرآن من تعليل لعلم الله ، إنما هو علم ظهور لا علم بداء ، فإنه تعالى عالم بالأشياء أزلا ، وإنما يظهر علمه لعباده (١). لذا أكد تعالى هذا المعنى بقوله :

(وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي إنه تعالى أحاط علما بما عند الرصد من الملائكة ، أو بما عند الرسل المبلغين لرسالاته ، وبما لديهم من الأحوال ، فهو عالم بكل شيء كان أو سيكون ، وعالم بكل الأحكام والشرائع ، ثم عمم العلم بقوله : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي ضبط كل شيء معدودا محصورا ، دون مشاركة أحد من الملائكة وسائط العلم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٣٣

١٨٤

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ لا يعلم الغيب أحد سوى الله تعالى ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأطلعهم الله على ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ، ودلالة صادقة على نبوتهم ممن ارتضاه من رسول. أما المنجم ونحوه ممن يضرب بالحصى ، وينظر في الكتب ، ويزجر بالطير ، فهو كافر بالله ، مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه.

لكن قد يصادف الواقع إخبار هؤلاء المنجمين ونحوهم عن بعض الوقائع في المستقبل ، اعتمادا على بعض الدلالات والقرائن والحسابات ، ولكن هذا لا يصلح قاعدة عامة ، ولا مبدأ مطردا لا يخطئ ؛ فإن العلم بالغيب المختص بالله هو العلم الشامل الصادق في كل الأحيان. كما أن الله تعالى يظهر أحيانا بعض الكرامات بالإلهام على يد بعض أوليائه المخلصين ، فيخبرون عن وقوع بعض الوقائع في المستقبل. وهذا ثابت بالأمثلة الكثيرة قديما وحديثا ، وأيده العلم الحديث ، ولكن لا يصح اعتبار ذلك صنعة أو حرفة أو حكما في الأمور ؛ لأن مرجع ذلك كله إلى الله تعالى ومشيئته ومراده ، لا إلى خبرة ثابتة أو إلى تصرف الإنسان حسبما يريد.

٢ ـ يحفظ الله رسله ووحيه من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة ، قال الضحاك : ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك ، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا : هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا : هذا رسول ربّك.

٣ ـ لقد أخبر الله تعالى نبيه محمدا بحفظه الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا

١٨٥

على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق ، أو ليعلم أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه.

وقال الزجاج : أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته ؛ كقوله تعالى : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [التوبة ٩ / ١٦] أي ليعلم الله ذلك علم مشاهدة ، كما علمه غيبا.

٤ ـ أحاط علم الله سبحانه بما عند الرسل وما عند الملائكة ، وأحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه ، فلم يخف عليه منه شيء ، فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء.

١٨٦

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المزمل

مكيّة ، وهي عشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة المزمّل أي المتلفف بثيابه ؛ لأنها تتحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدء الوحي ، ولأنها بدئت بأمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترك التزمل : وهو التغطي في الليل ، وينهض إلى تبليغ رسالة ربه عزوجل.

مناسبتها لما قبلها :

يظهر تعلق السورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ ختمت سورة الجن ببيان تبليغ الرسل رسالات ربهم ، وافتتحت هذه السورة بأمر خاتمهم بالتبليغ والإنذار ، وهجر الراحة في الليالي.

٢ ـ أخبر الله تعالى في السورة المتقدمة عن ردود فعل دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين قومه والجن في قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) وقوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) ثم أمره الله تعالى في مطلع هذه السورة بالدعوة في قوله : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً).

ما اشتملت عليه السورة :

تتناول السورة الإرشادات الإلهية الموجهة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسيرته أثناء تبليغ دعوته ، وتهديد المشركين المعرضين عن قبول تلك الدعوة.

١٨٧

وقد ابتدأت بأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيام الليل إلا قليلا منه ، وبترتيل القرآن لتقوية روحه : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [١ ـ ٤] فكان ذلك بيانا لمقدار ما يقوم به في تهجده الذي أمره الله به بقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء ١٧ / ٧٩].

ثم أخبرت عن ثقل الوحي وتبعة رسالته العظمى التي كلّف بها ، وأمره بذكر ربه ليلا ونهارا ، وإعلان توحيده ، واتخاذه وكيلا في كل أموره : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [الآيات ٥ ـ ٩].

وأردفت ذلك بالأمر بالصبر على أذى المشركين ، من القول فيه بأنه ساحر أو شاعر ، أو في ربه بأن له صاحبة وولدا ، وبالهجر الجميل إلى أن ينتصر عليهم وبتهديدهم بسوء العاقبة : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ..) [الآيات ١٠ ـ ١٩].

وختمت السورة بإعلان تخفيف القيام لصلاة الليل عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مقدار الثلث وجعله الحد الأدنى رحمة به وبأمته ليتمكن هو وأصحابه من الراحة والتفرغ في النهار لشؤون الدعوة والتبليغ ، والاكتفاء بتلاوة ما تيسر من القرآن ، وأداء الصلاة المفروضة ، وإيتاء الزكاة ، ومداومة الاستغفار : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ..) [الآية ٢٠].

إرشاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدء الدعوة

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧)

١٨٨

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠))

الإعراب :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أصله (المتزمل) إلا أنه أبدلت التاء زايا ، وأدغمت الزاي في الزاي ، وذلك أولى من إبدالها تاء ؛ لأن الزاي فيها زيادة صوت ، وهي من حروف الصفير ، وهي أبدا يدغمون الأنقص في الأزيد.

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ ..) الليل في رأي الكوفيين مفعول به ، وفي رأي البصريين : ظرف لفعل القيام ، ولو استغرقه الحدث ، أي إرادة جميع أجزاء الليل حتى يصح الاستثناء بقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) فإن الاستثناء معيار العموم ، و (نِصْفَهُ) : بدل من الليل ، أو ظرف آخر ، و (قَلِيلاً) : استثناء منه ، وقد قدّم المستثنى على المستثنى منه ، وهو قليل ، وتقديره : قم الليل نصفه إلا قليلا.

(أَشَدُّ وَطْئاً) تمييز منصوب.

(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً تَبْتِيلاً) : منصوب على المصدر من غير فعله ؛ لأن (تَبْتِيلاً) تفعيل إنما تجيء في مصدر فعّل ، مثل رتّل ترتيلا ، وقتّل تقتيلا ، وهنا جاء ل (تفعّل) وقياسه أن يجيء على وزن التفعل وهو التبتل ، إلا أنهم قد يجرون المصدر على غير فعله ، لمناسبة بينهما.

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ رَبُ) : يقرأ بالجر على البدل من (رَبِّكَ) وبالرفع على تقدير مبتدأ محذوف تقديره : هو رب المشرق.

البلاغة :

(انْقُصْ .. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) بينهما طباق ، وكذا بين (النَّهارِ) و (اللَّيْلَ) وبين (الْمَشْرِقِ) و (الْمَغْرِبِ).

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) فيهما تأكيد الفعل بالمصدر.

١٨٩

المفردات اللغوية :

(الْمُزَّمِّلُ) المتزمل : المتلفف بثيابه. (قُمِ اللَّيْلَ) أي قم إلى الصلاة ، أو داوم عليها. (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) أي انقص من النصف قليلا إلى الثلث ، والمراد به التخيير بين قيام النصف والناقص منه والزائد عليه. (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) إلى الثلثين ، و (أَوْ) للتخيير. (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) اقرأه على تؤده وتثبت في تلاوته ، مع تبيين الحروف بحيث يتمكن السامع من عدّها.

(قَوْلاً ثَقِيلاً) قرآنا شاقا شديدا أو مهيبا ، لما فيه من التكاليف الشاقة ، لكن مشقة معتادة مألوفة ، لا مشقة زائدة غير معتادة. (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) ما ينشأ فيه ويحدث ويتجدد ، وهو القيام إلى الصلاة بعد النوم. (أَشَدُّ وَطْئاً) أي مواطأة وموافقة ، يوافق السمع فيها القلب على تفهم القرآن. (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أبين وأسد مقالا ، أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدوء الأصوات. (سَبْحاً طَوِيلاً) تقلبا في مهامك واشتغالا بها ، فعليك بالتهجد ؛ لأن مناجاة الحق تستدعي فراغا ، ولا تفرغ في أثناء النهار لتلاوة القرآن والعبادة. (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي دم على ذكره ليلا ونهارا ، وذكر الله يتناول كل ما يذكر به من تسبيح وتهليل وتمجيد وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم. (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي انقطع إلى الله بالعبادة ، وجرّد نفسك عما سواه. (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) فوض كل أمورك إليه. (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) اصبر على أذى كفار مكة. (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) بأن بجانبهم وتداريهم ولا تعاتبهم وفوض أمرهم إلى الله ، فالهجر الجميل : هو ما لا عتاب معه.

سبب النزول :

نزول الآية (١ ـ ٢):

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) : أخرج الحاكم عن عائشة قالت : لما أنزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) قاموا سنة حتى ورمت أقدامهم ، فأنزلت : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ). وأخرج ابن جرير مثله عن ابن عباس غيره.

وقال ابن عباس : كان هذا في ابتداء الوحي إليه ، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه ، أخذته الرّعدة ، فأتى أهله ، فقال : «زمّلوني زمّلوني».

١٩٠

وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ، فنظرت عن يميني ، فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي ، فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي ، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت (فزعت) منه رعبا ، فرجعت فقلت : دثّروني دثّروني». وفي رواية : «فجئت أهلي ، فقلت : زمّلوني زمّلوني» ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وقال جمهور العلماء : وعلى إثرها نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ).

وعلى هذا يكون سبب النزول هو ما عراه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرعب والفزع عند رؤية الملك ، وتكون حادثة التزمل هي حادثة التدثر بعينها.

وقيل : إن تزمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لأسفه وحزنه ، لمّا بلغه ما كان من المشركين وما دبروه من القول السيء يدفعون به دعوته ، فقد أخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي‌الله‌عنه قال : اجتمعت قريش في دار الندوة ، فقالوا : سمّوا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه ، فقالوا : كاهن ، قالوا : ليس بكاهن ، قالوا : مجنون ، قالوا : ليس بمجنون ، قالوا : ساحر ، قالوا : ليس بساحر ، قالوا : يفرق بين الحبيب وحبيبه ، فتفرق المشركون على ذلك ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها ، فأتاه جبريل عليه‌السلام ، فقال : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ، (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

التفسير والبيان :

خاطب الله تعالى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآيات التالية حينما كان يتزمل بثيابه أول ما جاءه جبريل بالوحي خوفا منه ، فإنه لما سمع صوت الملك ، ونظر إليه أخذته الرعدة ، فأتى أهله ، وقال : «زمنوني ، دثّروني» ثم بعد ذلك خوطب بالنبوة والرسالة وأنس بجبريل.

١٩١

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي يا أيها النبي المتزمل المتلفف بثيابه انقض لصلاة الليل وهي صلاة التهجد بمقدار نصف الليل ، بزيادة قليلة أو نقصان قليل ، لا حرج عليك في ذلك. وهذا تخيير بين الثلث والنصف والثلثين. والليل : من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وفيه دليل على أن أكثر المقادير الواجبة كان الثلثين.

أخرج أحمد ومسلم عن سعد بن هشام قال : «قلت لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : ألست تقرأ هذه السورة : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)؟ قلت : بلى. قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه حولا ، حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خلقتها في السماء اثني عشر شهرا ، ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضه».

وبعد الأمر بقيام الليل أمره تعالى بترتيل القرآن قائلا :

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أي اقرأ القرآن على تمهل ، مع تبيين الحروف ، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره. وقوله : (تَرْتِيلاً) تأكيد في الإيجاب ، وأنه لا بد للقارىء منه ، ليستحضر المعاني. والترتيل : هو أن يبين جميع الحروف ، ويوفي حقها من الإشباع. وكذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يقرأ ، قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : كان يقرأ السورة ، فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : كانت مدا ، ثم قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يمد بسم الله ، ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم.

ووردت أحاديث كثيرة صحيحة تدل على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة ، منها ما رواه الحاكم وغيره عن البراء : «زيّنوا القرآن بأصواتكم»

١٩٢

وحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» وحديث البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى «لقد أعطيت هذا مزمارا من مزامير آل داود» يعني أبا موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه ، فقال أبو موسى : لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي لحبّرته لك تحبيرا.

وروى البغوي عن ابن مسعود قال : لا تنثروه نثر الرمل ، ولا تهذّوه (لا تسرعوا به) هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة. وروى العسكري في كتابه المواعظ عن علي كرم الله وجهه مثل هذه العبارة. وسئلت عائشة عن قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : لا كسردكم هذا ، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها (١).

ثم نبّه الله تعالى إلى عظمة القرآن وما جاء فيه من تكاليف لتأكيد الأمر بالترتيل ، فقال :

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) أي إننا سنوحي إليك القرآن وسننزله عليك ، وفيه التكاليف الشاقة على البشر ، والأوامر والنواهي الصعبة على النفس ، من الفرائض والحدود ، والحلال والحرام ، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقال الحسين بن الفضل : ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ، ونفس مزيّنة بالتوحيد. وقد يراد أنه ثقيل في الوحي ، ففي الموطأ والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عائشة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : كيف يأتيك الوحي؟ فقال : «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» ، قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصّد عرقا.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٣٤

١٩٣

ثم أبان الله تعالى علة الأمر بقيام الليل (التهجد) فقال :

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي إن قيام الليل ، وهو الذي يقال له : ناشئة إذا كان بعد نوم ، أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص وتوافق القلب واللسان ، فذلك يتجلى في هدوء الليل أكثر من أي وقت آخر ، وهو أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها ، وأسدّ مقالا وأثبت قراءة ، لحضور القلب فيها وأكثر اعتدالا واستقامة على نهج الحق والصواب ؛ لأن الأصوات فيها هادئة ، والدنيا ساكنة ، أما النهار فهو وقت الانشغال بالأعمال ، كما قال تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) أي إن لك في وقت النهار تقلبا وتصرفا في حوائجك ومصالح الحياة ، فلا تتفرغ فيه للعبادة ، فصل بالليل.

ولكن لا ينبغي الانشغال عن ذكر الله بأي حال نهارا أو ليلا ، فقال تعالى :

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي أكثر من ذكر الله ، وداوم عليه إن استطعت ليلا ونهارا ، وأخلص العبادة لربك ، وانقطع إلى الله انقطاعا بالاشتغال بعبادته ، والتماس ما عنده إذا فرغت من أشغالك وحوائجك الدنيوية ، كما قال تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الانشراح ٩٤ / ٧ ـ ٨] أي إذا فرغت من أشغالك فأتعب نفسك في طاعة ربك وعبادته ، لتكون فارغ البال ، واجعل رغبتك إلى الله وحده.

ثم أبان الله تعالى سبب الأمر بالعبادة ، والباعث على التبتل ، فقال :

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي إن ربك الذي تذكره ، وتتفرغ لعبادته هو الجدير بالعبادة ، فهو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إله إلا هو ، وكما أفردته بالعبادة ، فأفرده بالتوكل ، واجعله وكيلا لك في جميع الأمور ، كما قال تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)

١٩٤

هود ١١ / ١٢٣ وقال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة ١ / ٥]. وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إشارة إلى كماله تعالى في ذاته ، والكمال محبوب لذاته. وفيه دليل على أن من لم يفوض كل الأمور إلى ربه لم يكن راضيا بألوهيته ، ولا معترفا بربوبيته. وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيكفيه شر الكفار وأعداء الدين.

ثم أمره ربه بالصبر على الأذى فقال :

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) أي اصبر أيها الرسول على أذى قومك وما ينالك من السب والاستهزاء ، ولا تجزع من ذلك ، ولا تتعرض لهم ولا تعاتبهم ودارهم ، كما جاء في آيات أخرى منها : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) [النجم ٥٣ / ٢٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ فرضية التهجد :

يدل ظاهر توجيه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، وأمره بقيام الليل ، ووصفه بالتزمل أن التهجد كان فريضة عليه ، وأن فرضيته كانت خاصة به. وهذا رأي أكثر العلماء ؛ لأن الندب والحضّ لا يقع على بعض الليل دون بعض ؛ لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وهو الذي يدل عليه قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء ١٧ / ٧٩] فإن قوله : (نافِلَةً لَكَ) بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس معنى النافلة في هذه الآية : التطوع ، فإنه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام ، بل معناه أنه شيء زائد على ما هو مفروض على غيره من الأمة.

١٩٥

وقيل : كان التهجد فرضا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أمته ، ثم نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.

وقيل : إن التهجد كان نافلة ، لا مفروضا ، لقوله تعالى : (نافِلَةً لَكَ) ولأن حمل الأمر : (قُمِ اللَّيْلَ) على الندب أولى ؛ لأنه متيقن ، فإن أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب ، وتارة تفيد الندب ، فلا بد من دليل آخر على الوجوب كالتوعد على الترك ونحوه ، وليس هذا متوفرا هنا. ويرد عليه بأن المختار في علم الأصول في الأوامر حملها على الوجوب أو الإلزام إلا بقرينة تصرفه عن ذلك إلى الندب أو الإباحة. ولأنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخيره بين النصف أو أقل منه أو أكثر ، ومثل هذا لا يكون في الواجبات. ويرد عليه بأنه قد يكون الواجب مخيرا بين أمور ثلاثة كالكفارة.

والراجح هو أن التهجد نسخ عن الأمة وحدها ، وبقي وجوبه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدليل آية الإسراء : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ). وربما كان العمل بحديث سعد بن هشام بن عامر السابق صحيحا : وهو نسخ الوجوب مطلقا وصيرورة التهجد (أو قيام الليل) تطوعا ، تخفيفا وتيسيرا ، والناسخ هو الصلوات الخمس ، وأما آخر سورة المزمل الذي نزل بعد أولها بنحو عام كما في بعض الآثار ، فقد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها ، دون نسخ أصل وجوب التهجد. والمقدار المذكور في أول السورة : هو نصف الليل أو أنقص منه قليلا إلى الثلث ، أو الزيادة عليه إلى الثلثين.

٢ ـ وجوب ترتيل القرآن :

لا خلاف في أنه يقرأ القرآن بترتيل على مهل ، وتبيين حروف ، وتحسين مخارج ، وإظهار مقاطع ، مع تدبر المعاني. والترتيل : التنضيد والتنسيق وحسن النظام.

١٩٦

والخلاف في التغني به وتلحينه فقال بكراهته جماعة منهم الإمامان مالك وأحمد ، وأجازه جماعة آخرون منهم الإمامان أبو حنيفة والشافعي ، ولكل فريق أدلة (١).

استدل المجيزون بما يأتي.

أولا ـ ما أخرجه أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «زيّنوا القرآن بأصواتكم».

ثانيا ـ ما أخرجه مسلم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن».

ثالثا ـ ما رواه البخاري عن عبد الله بن مغفّل قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته ، فرجّع في قراءته.

رابعا ـ ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استمع لقراءة أبي موسى الأشعري ، فلما أخبره بذلك قال : لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبّرته لك تحبيرا. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سمعه : «إن هذا أعطي مزمارا من مزامير داود».

خامسا ـ ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما أذن الله لشيء كإذنه ـ استماعه (٢) ـ لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن».

سادسا ـ إن الترنم بالقرآن من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء ، وهو أوقع في النفس وأبلغ في التأثير.

واحتج المانعون بما يأتي :

أولا ـ ما رواه الترمذي في نوادر الأصول عن حذيفة بن اليمان عن

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي السايس : ٤ / ١٩٣ وما بعدها.

(٢) أذن له : استمع ، وباب طرب.

١٩٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق ، فإنه يجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم ، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» فهذا نعي على الترجيع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح.

ثانيا ـ ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر أشراط الساعة ، وذكر أشياء ، منها : أن يتخذ القرآن مزامير ، وقال : «يقدّمون أحدهم ، ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ليغنيهم غناء».

ثالثا ـ أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذن يطرب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الأذان سهل سمح ، فإن كان أذانك سهلا سمحا ، وإلا فلا تؤذن» فقد كره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطرب المؤذن في أذانه ، مما يدل على كراهة التطريب في القراءة بالأولى.

رابعا ـ أنكر أنس بن مالك على زياد النميري حينما قرأ ورفع صوته وطرب ، وقال : يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون.

خامسا ـ إن التغني والتطريب يؤدي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه ؛ لأنه يقتضي مد ما ليس بممدود ، وهمز ما ليس بمهموز ، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة ، وهو لا يجوز. كما أن التلحين يلهي النفس بنغمات الصوت ، ويصرفها عن تدبر معاني القرآن.

والحق التوسط في الأمر ، فإذا كان التلحين والتطريب يغير من ألفاظ القرآن ، ويخل بطرق الأداء ، أو كان تكلّفا وتصنعا يشبه توقيعات الموسيقى ، فهو ممنوع وحرام. أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا يؤدي إلى اتعاظ القارئ ، وكمال تأثره بمعاني القرآن ، فلا دليل على المنع ، بل الأدلة تجيزه.

١٩٨

٣ ـ ثقل القرآن والوحي :

القرآن ثقيل شديد بما اشتمل عليه من تكاليف شاقة على النفس ، وفرائض وحدود صعبة على الإنسان. والوحي أيضا ذو تأثير كبير على القلب والنفس ، كما جاء في خبر عائشة رضي‌الله‌عنها المتقدم ، وأخرج أحمد وابن جرير وغيرهما عن عائشة أيضا : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوحي إليه ، وهو على ناقته ، وضعت جرانها ـ يعني صدرها ـ على الأرض ، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه» أي الوحي.

٤ ـ ناشئة الليل :

إن أوقات الليل وساعاته أو العبادة الناشئة في الليل ، أو النفس الناشئة في الليل الناقضة من مضاجعها للعبادة أشد وطأ ، أي أشد موافقة بين السر والعلانية أو القلب واللسان ، وأكثر مصادفة للخشوع والإخلاص وأسدّ مقالا وأثبت قراءة ، بسبب سكون الليل ، وراحة النفس من الضوضاء والعناء ، والبعد عن الرياء والمباهاة ، أو حبّ اطلاع الآخرين على الطاعة والعبادة ، وشدة الاستقامة والاستمرار على الصواب ؛ لأن الأصوات هادئة ، والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلّي ما يقرؤه.

٥ ـ مشاغل النهار :

الإنسان مشغول عادة بحاجاته ومصالحه المعيشية في النهار ، فلا يتفرغ عادة للعبادة ، وإنما الفراغ موجود في الليل.

٦ ـ ذكر الله والتبتل :

المؤمن مأمور بالاستكثار من ذكر الله وأسمائه الحسنى ، وبالمداومة على التسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن ، دون أن يشغله شاغل في الليل والنهار ، وهو مطالب أيضا بأن يجعل همه كله في إرضاء ربه ، وتجريد نفسه عن التعلق بغيره ، والاستغراق في مراقبته في جميع أعماله. ويكون أشرف الأعمال عند قيام الليل : ذكر اسم الرب ، والتبتل إليه ، وهو الانقطاع إلى الله بالكلية.

١٩٩

وليس المراد الانقطاع عن أعمال النهار ، والعكوف على الذكر والعبادة ، فهذا يتنافى مع قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) بل المراد التنبيه إلى أنه ينبغي ألا يشغله السّبح في أعمال النهار عن ذكر الله تعالى.

والتبتل : الانقطاع إلى عبادة الله عزوجل ، أي انقطاع الإنسان بعبادته إلى ربه ، دون أن يشرك به غيره ، وليس المعنى الانقطاع عن مشاغل الحياة لكسب المعيشة من طرق عزيزة كريمة ، لا يكون فيها الإنسان عالة على غيره. فقد ورد في الحديث النهي عن التبتل بمعنى الانقطاع عن الناس والجماعات. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة ٥ / ٨٧] وهذا يدل على كراهة من تبتّل ، وانقطع عن الناس ، وسلك سبيل الرهبانية.

والخلاصة : التبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة ؛ كما قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البيّنة ٩٨ / ٥]. والتبتل المنهي عنه : هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع.

٧ ـ إفراد الله بالتوكل عليه : كما أن المؤمن مطالب بإفراد الله بالعبادة ، مطالب أيضا بإفراده بالتوكل عليه ، فمن علم أن الله رب المشارق والمغارب ، انقطع بعمله وأمله إليه ، وفوّض جميع أموره إليه ، فهو القائم بأمور العباد ، الكفيل بما وعد.

٨ ـ الصبر على الأذى في سبيل الدعوة : أمر الله نبيه بأن يصبر من أجل دعوته على الأذى والسب والاستهزاء من سفهاء قومه الذين كذبوه ، وبألا يتعرض لهم ، ولا يعاتبهم ويداريهم. قال قتادة وغيره : وكان هذا قبل الأمر بالقتال ، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم ، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك. وأرى أن هذا من منهج الدعوة الدائم وسياستها الثابتة التي يحتاج إليها الدعاة في

٢٠٠