التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

يرسل الله إليهم رسلا منهم ، بل الرسل جميعا من البشر ، وهم كالبشر منهم المؤمن المثاب ، ومنهم الكافر المعاقب.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ..) الآية [الأحقاف ٤٦ / ٢٩].

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ، فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي إن هذا القرآن يرشد إلى الحق والصواب ومعرفة الله تعالى ، فصدقنا به أنه من عند الله ، ولن نشرك مع الله إلها آخر من خلقه ، ولا نتخذ إلها آخر ، وهذا إعلان منهم للإيمان أمام قومهم حين رجعوا إليهم ، كما جاء في تتمة آية الأحقاف السابقة : (قالُوا : أَنْصِتُوا ، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ).

وفي الآية دلالة أن أعظم ما في دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : توحيد الله تعالى ، وخلع الشرك وأهله. وقد آمنت الجن أن القرآن كلام الله ، بسماعه مرة واحدة ، ولم ينتفع كفار قريش ، لا سيما رؤساؤهم ، بسماعه مرات ، مع كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم يتلوه عليهم بلسانهم.

٢ ـ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) وأنه ارتفع عظمة ربّنا وجلاله ، أو فعله وأمره وقدرته ، وأنه تعاظم عن اتّخاذ الصاحبة والولد ، كما يقول الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد. والمعنى أنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله ، نزهوا الرّب جلّ جلاله حين أسلموا وآمنوا بالقرآن عن اتّخاذ الصاحبة والولد. وبذلك أثبتوا وحدانية الله وامتناع وجود شريك له ثم أثبتوا له القوة والعظمة ، ونزهوه عن الحاجة والضعف باتخاذ الصاحبة والولد ، شأن العباد الذين يتعاونون على أمور الحياة بالزوجة للسّكن والألفة ، وبالولد للمؤازرة والتكاثر والأنس.

٣ ـ (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) أي وإن مشركي الجن

١٦١

وجهالهم كانوا قبل إسلامهم يقولون قولا متجاوزا الحدّ ، بعيدا عن الصواب ، غاليا في الكفر ، فهم يكذبون على الله بدعوى الصاحبة والولد وغير ذلك. والشطط : مجاوزة الحد في الظلم والكفر وغيره من الباطل والزور.

٤ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) أي وأنا حسبنا أن الإنس والجن كانوا لا يكذبون على الله ، حينما قالوا بأن له شريكا وصاحبة وولدا ، فصدقناهم في ذلك ، فلما سمعنا القرآن علمنا بطلان قولهم وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق ، وعرفنا أنهم كانوا كاذبين.

وهذا ـ كما ذكر الرازي ـ إقرار منهم بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد ، وأنهم إنما تخلصوا منها بالاستدلال والاحتجاج.

٥ ـ (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي كنا نرى أن لهم فضلا علينا ، فكان بعض الإنس يستعيذ في القفار ببعض الجن ، فزادوا رجال الجن طغيانا وسفها وغيّا وضلالا وإثما. وذلك أنه كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال : أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ، فيبيت في جواره حتى يصبح. وقد أدى هذا إلى اجتراء الجن على الإنس وظلمهم.

ونظير الآية : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ : رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ ، وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا ..) [الأنعام ٦ / ١٢٨].

٦ ـ (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) أي وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن أنه لا بعث ولا جزاء ، أو أنه لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولا يدعو إلى التوحيد والإيمان بالله ورسله واليوم الآخر.

١٦٢

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي :

١ ـ الإخبار عن قصص الجن له فوائد كثيرة أهمها بيان أنهم مكلفون بالتكاليف الشرعية كالإنس ، وأن المؤمن منهم يدعو الكافر إلى الإيمان ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى العالمين : الإنس والجن وإلى الملائكة تشريفا ، وأن يكون إيمانهم بالقرآن باعثا كفار قريش وغيرهم إلى الإيمان به ، وأنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.

لكن ظاهر القرآن يدل على أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآهم ؛ لقوله تعالى : (اسْتَمَعَ). وفي صحيح البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجنّ وما رآهم ، انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ .. إلخ ما ذكر في سبب النزول المتقدم. ففي هذا الحديث دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير الجن ، ولكنهم حضروه ، وسمعوا قراءته. وفيه دليل على أن الجنّ كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر ، بسبب الشياطين لما رموا بالشهب ، وكان المرميون بالشهب من الجنّ أيضا ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث : «وأرسلت عليهم الشّهب».

ومذهب ابن مسعود أنه أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ، ويدعوهم إلى الإسلام ، وأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى الجن قال القرطبي : وهو أثبت ؛ روى عامر الشعبي قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ؟ فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود ، فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشّعاب ، فقلت استطير (١) أو اغتيل ، قال : فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم ، فلما أصبح إذا هو يجيء

__________________

(١) استطير فلان : ذعر.

١٦٣

من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم ، فقال :

«أتاني داعي الجن ، فذهبت معه ، فقرأت عليهم القرآن» فانطلق بنا ، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد وكانوا من جنّ الجزيرة ؛ فقال : «لكم كلّ عظم ذكر اسم الله عليه ، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكلّ بعرة علف لدوابكم» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلا تستنجوا بهما ، فإنها طعام إخوانكم الجن».

قال ابن العربي : وابن مسعود أعرف من ابن عباس ؛ لأنه شاهده ، وابن عباس سمعه ، وليس الخبر كالمعاينة (١).

وأصل الجن كما قال الحسن البصري : أن الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا ، فهو ولي الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.

٢ ـ حكى الله عن الجن أشياء :

أولا ـ أنهم لما سمعوا القرآن العجيب في فصاحة كلامه وبليغ مواعظه الهادي إلى مراشد الأمور ، قالوا : اهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله ، ولن نشرك بربّنا أحدا ، أي ولن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك به.

ثانيا ـ أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك ، نزّهوا ربهم عن الصاحبة والولد ، لذا قالوا : عظم الله سبحانه عن أن يكون له صاحبة أو ولد.

ثالثا ـ استنكروا ما كان يقول إبليس والجن قبل إسلامهم من الكذب والغلو في الكفر ومجاوزة الحدّ في الظلم.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٨٥٢

١٦٤

رابعا ـ حسبوا أن لن يكذب الإنس والجن على الله ، فلذلك صدقناهم فيما سلف في أن لله صاحبة وولدا ، فلما سمعنا القرآن تبيّنا به الحقّ.

خامسا ـ كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال : أعوذ بسيد هذا الوادي ، أو بعزيز هذا المكان من شرّ سفهاء قومه ، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح ، فزاد الإنس الجنّ طغيانا وعتوا بهذا التعوذ ، حتى قالت الجن : سدنا الإنس والجن. وقيل : ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن ، وقيل : زاد الجنّ الإنس رهقا أي خطيئة وإثما.

ويقال بدلا من هذه الاستعاذة : ما جاء في حديث أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس ، وقال : غريب جدا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا أصاب أحد منكم وحشة أو نزل بأرض مجنّة (١) ، فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها برّ ولا فاجر من شرّ ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، ومن فتن النهار ، ومن طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير.

سادسا ـ ظن الإنس كما ظن الجن أن لن يبعث الله الخلق ، أو ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة ، وكل هذا توكيد للحجة على قريش ، فإذا آمن هؤلاء الجن بمحمد ، فأنتم أحق بذلك. وعلى هذا يكون الكلام كلام الجن ، وهو الظاهر.

ويحتمل أن يكون الكلام من قول الله تعالى للإنس ، والمعنى : وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش.

وعلى كلا التقديرين : دلت الآية على أن الجن كما كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني ، فيهم من ينكر البعث.

__________________

(١) أرض مجنة : أي ذات مجنة.

١٦٥

حكاية أشياء أخرى عن الجن

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

الإعراب :

(فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً فَوَجَدْناها) : فعل وفاعل ومفعول ، وإما أن تجعل «وجد» متعدية إلى مفعولين ، بمعنى علمناها ، وإلها : المفعول الأول ، وجملة (مُلِئَتْ) المفعول الثاني ، وإما أن تجعل متعدية إلى مفعول واحد ، بمعنى أصبناها ، وتجعل (مُلِئَتْ) في موضع الحال ، بتقدير «قد» ، و (حَرَساً) : تمييز منصوب.

(أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ أَنْ) : مخففة من الثقيلة : أنه.

(وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً هَرَباً) منصوب على المصدر في موضع الحال ، تقديره : ولن نعجزه هاربين.

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) بالعطف على هاء (آمَنَّا بِهِ) على تقدير حذف حرف الجر ، لكثرة حذفه مع «أنّ» علما بأن العطف على الضمير المجرور لا يجوز. وبكسر إنا بالعطف على قوله :

١٦٦

(فَقالُوا) وما بعده في تقدير الابتداء والاستئناف ، قال ابن بحر : كل ما في هذه السورة من «إن» المكسورة المثقلة ، فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن ، فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وكل ما فيها من «أن» المفتوحة ، فهي وحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أَنْ) : مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ، أي وأنهم.

(يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً عَذاباً) منصوب بتقدير حذف حرف الجر ، تقديره : يسلكه في عذاب ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الفعل به ، فنصبه. و (صَعَداً) : مصدر وصف به العذاب.

البلاغة :

(نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) بينهما جناس الاشتقاق.

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) تأدب مع الله بنسبة الخير إلى الله ، دون الشر ، وبين لفظ «الشر» و «الرشد» طباق في المعنى.

(كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) استعارة ، استعار الطرق للمذاهب المختلفة.

(الْمُسْلِمُونَ) و (الْقاسِطُونَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(لَمَسْنَا السَّماءَ) طلبنا بلوغها واستماع أخبارها. (حَرَساً) حرّاسا من الملائكة ، وهو اسم. جمع كالخدم ، مفرده حارس. (شَدِيداً) قويا. (وَشُهُباً) نجوما محرقة ، جمع شهاب : وهو الشعلة من نار ساطعة. (نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي نحاول الاستماع والترصد. (رَصَداً) أي أرصد وهيئ له ليرمي به. (أَشَرٌّ أُرِيدَ) بعد استراق السمع. (بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بحراسة السماء. (رَشَداً) خيرا وصلاحا.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) المؤمنون الأبرار بعد استماع القرآن. (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي ومنا قوم دون ذلك ، أي غير صالحين ، فحذف الموصوف. (كُنَّا طَرائِقَ) ذوي طرائق ، أي مذاهب. (قِدَداً) متفرقة مختلفة ، مسلمين وكافرين ، جمع قدة ، من قدّ : إذا قطع. (ظَنَنَّا) علمنا. (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ ، فِي الْأَرْضِ ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) لا نفوته ولا نفلت منه كائنين في الأرض ، أينما كنا فيها ، أو هاربين منها في السماء ، إن طلبنا. (الْهُدى) القرآن. (فَلا يَخافُ) أي فهو لا يخاف. (بَخْساً) نقصا من حسناته. (وَلا رَهَقاً) ظلما بالزيادة في سيئاته.

(الْقاسِطُونَ) الجائرون عن طريق الحق وهو الإيمان والطاعة. (تَحَرَّوْا رَشَداً) قصدوا وتوخوا طريق الحق والهداية ليبلغهم إلى دار الثواب. (حَطَباً) وقودا للنار. (عَلَى الطَّرِيقَةِ)

١٦٧

هي طريق الإسلام. (ماءً غَدَقاً) كثيرا. (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم فيه كيف يشكرونه. (ذِكْرِ رَبِّهِ) تذكيره وهو الوحي أو القرآن ، أو مواعظه. (يَسْلُكْهُ) ندخله. (عَذاباً صَعَداً) شاقا يعلو المعذّب ويغلبه.

سبب النزول :

نزول الآية (١٦):

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) : أخرج الخرائطي عن مقاتل في قوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) قال : نزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين.

التفسير والبيان :

يتابع الحق عزوجل حكاية أشياء أخرى وهي سبعة أنواع بالإضافة إلى الأنواع الستة المتقدمة ، فيصير المجموع ثلاثة عشر نوعا ، والأنواع السبعة هي :

٧ ـ (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ ، فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) أي لما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل عليه القرآن ، طلبنا خبر السماء كما جرت به عادتنا فوجدناها ـ ملئت حرّاسا أقوياء من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع ، ووجدنا أيضا نيرانا من الكواكب تحرق وتمنع من أراد استراق السمع كما كنا نفعل ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك ٦٧ / ٥]. فالشهب : انقضاض الكواكب المحرقة للجن عن استراق السمع.

أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال : كان للشياطين مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي ، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا ، وأما ما زاد فيكون باطلا ، فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك ، فقال لهم : ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض ، فبعث جنوده ، فوجدوا

١٦٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما يصلي بين جبلين بمكة ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا هو الحدث الذي حدث في الأرض.

والخلاصة : أن الشياطين منعت بعد بعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من استراق السمع لئلا يسترقوا شيئا من القرآن ، فيلقوه على ألسنة الكهنة ، فيلتبس الأمر ويختلط ، ولا يدرى من الصادق.

٨ ـ (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي أننا كنا نقعد في السماء مقاعد لاستراق السمع ، وسماع أخبار السماء من الملائكة لإلقائها إلى الكهنة ، فحرسها الله سبحانه عند بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشهب المحرقة ، فمن يروم أن يسترق السمع اليوم ، يجد له شهابا مرصدا له ، لا يتخطاه ولا يتعداه ، بل يمحقه ويهلكه.

٩ ـ (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) أي وأننا لا نعلم بسبب هذه الحراسة للسماء ، أشرّ أو عذاب أراده الله أن ينزله على أهل الأرض ، أم أراد بهم ربهم خيرا وصلاحا ، بإرسال نبي مصلح. وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل والخير أضافوه إلى الله عزوجل. وقد ورد في الصحيح : «والشر ليس إليك».

١٠ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي أخبر تعالى عن الجن أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم ، لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كنا قبل استماع القرآن : منّا المؤمنون الأبرار الموصوفون بالصلاح ، ومنّا قوم دون ذلك ، أي غير صالحين أو كافرين ، كنا جماعات متفرقة ، وأصنافا مختلفة ، وأهواء متباينة. والمراد أنهم كانوا أقساما ، فمنهم المؤمن ومنهم الفاسق ومنهم الكافر ، كما هي حال الإنس. قال سعيد بن المسيب : كانوا مسلمين ويهودا ونصارى ومجوسا.

١٦٩

١١ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي وأننا علمنا أن قدرة الله حاكمة علينا ، وأنا لا نفلت من قدرة الله ولا نفوته إن طلبنا وأراد بنا أمرا ، سواء كنا كائنين في الأرض أو هاربين منه إلى السماء ، فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا.

١٢ ـ (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ ، فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) أي وأننا لما سمعنا القرآن ، صدقنا أنه من عند الله ، ولم نكذب به ، كما كذبت به كفرة الإنس ، فمن يصدق بربه وبما أنزله على رسله ، فلا يخاف نقصانا من حسناته ، ولا عدوانا وظلما وطغيانا بالزيادة في سيئاته.

١٣ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي وأن بعضنا مؤمنون مطيعون لربّهم يعملون الصالحات ، وبعضنا جائرون ظالمون حادوا عن طريق الحق والخير ومنهج الإيمان الواجب ، فمن آمن بالله وأسلم وجهه لله بطاعة شريعته ، فأولئك قصدوا وتوخوا الطريق الموصل للسعادة ، وطلبوا لأنفسهم النجاة من العذاب ، وهذا ثواب المؤمنين.

ويلاحظ أن القاسط : الجائر عن الحق الناكب عنه ؛ لأنه عادل عن الحق ، بخلاف المقسط وهو العادل ؛ لأنه عادل إلى الحق ، والقاسطون : الكافرون الجائرون عن طريق الحق ، من قسط أي جار ، والمقسط : القائم بالعدل ، من أقسط ، أي عدل.

ثم ذم الجن الكافرين بقولهم :

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) أي وأما الجائرون الحائدون عن منهج الإسلام فكانوا وقودا للنار توقد أو تسعر بهم ، كما توقد بكفرة الإنس.

وبعد بيان النوع الأول من الموحى به إلى رسوله ، ذكر تعالى النوع الثاني الموحى به إليه ، فقال :

١٧٠

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي وأوحي إلي أنه لو استقام الجن والإنس على طريقة الإسلام لأسقيناهم ماء كثيرا ، ولآتيناهم خيرا كثيرا واسعا ، لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر ، فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم ، فإن أطاعوا ربّهم أثبناهم ، وإن عصوه عاقبناهم في الآخرة ، وسلبناهم النعمة ، أو أمهلناهم ثم أهلكناهم ، كما أبانت الآية التالية :

(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي ومن يعرض عن القرآن أو عن الموعظة ، فلا يأتمر بالأوامر ولا ينتهي عن النواهي ، يدخله عذابا شاقا صعبا لا راحة فيه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تغير الحال بعد البعثة النبوية عن الجن ، فإنهم كعادتهم طلبوا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها ، فوجدوها ملئت حفظة ، أي ملائكة ، ورموا بالشهب : وهي الكواكب المحرقة لهم ، منعا من استراق السمع.

قال الرازي : والأقرب إلى الصواب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث ، إلا أنها زيدت بعد المبعث ، وجعلت أكمل وأقوى ، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القرآن ؛ لأنه قال : (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ) وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة ، وكذلك قوله : (نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ) أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلها (١).

٢ ـ لم يفهم الجن القصد من تشديد الحراسة على أخبار السماء ، فهل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا ، أو يرسل إليهم رسولا؟ وهل المقصود من المنع من الاستراق هو إرادة الشر بأهل الأرض ، أم الصلاح والخير؟!

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ١٥٨

١٧١

٣ ـ أخبر الجن عن حقيقتهم قبل البعثة النبوية ، فقال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا كنا قبل استماع القرآن من الصالحون ومنا الكافرون ، فكنا فرقا شتى ، وأديانا مختلفة ، وأهواء متباينة. والمعنى : لم يكن كل الجن كفارا ، بل كانوا مختلفين : منهم كفار ، ومنهم مؤمنون صلحاء ، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. قال سعيد بن المسيب : كنا مسلمين ويهودا ونصارى ومجوسا.

٤ ـ علم الجن وأيقنوا أنهم لن يعجزوا الله ولن يفوتوه أو يفلتوا منه ، سواء أكانوا في الأرض أينما وجدوا فيها ، أم صاروا هاربين منها إلى السماء.

٥ ـ بادر الجن عند سماع القرآن إلى الإيمان بالله تعالى ، والتصديق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رسالته. وهذا دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الإنس والجن. قال الحسن البصري : بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإنس والجنّ ، ولم يبعث الله تعالى قطّ رسولا من الجنّ ، ولا من أهل البادية ، ولا من النساء ، وذلك قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف ١٢ / ١٠٩]. وفي الصحيح : «بعثت إلى الأحمر والأسود» (١) أي الإنس والجن.

وجزاء الإيمان : أنه لا يخاف أن ينقص من حسناته ، ولا أن يزاد في سيئاته.

٦ ـ كذلك كان الجن بعد استماع القرآن مختلفين ، فمنهم من أسلم ، ومنهم من كفر ، فمن أسلم ، فقد طلبوا لأنفسهم النجاة ، وقصدوا طريق الحق وتوخّوه ، ومن جار عن طريق الحق والإيمان ، فإنهم في علم الله تعالى وقود جهنم.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٦

١٧٢

أنواع أخرى من الموحى به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان أصول رسالته

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤))

الإعراب :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أَنَ) : إما في موضع رفع عطفا على قوله تعالى : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ) أو في موضع جرّ ، بتقدير حذف حرف الجر ، وإعماله بعد الحذف ، أي فلا تدعوا مع الله أحدا ؛ لأن المساجد لله ، أو في موضع نصب ، بتقدير حذف حرف الجر ، فلما حذف اتصل الفعل به ، فنصبه.

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ أَنَ) : إما بالفتح عطفا على «أن» المفتوحة ب (أُوحِيَ) أو بالكسر عطفا على «إن» المكسورة بعد «قالوا» والضمير للشأن.

(إِلَّا بَلاغاً) إما منصوب على المصدر ، ويكون الاستثناء متصلا ، وتقديره : إني لن يجيرني من الله أحد ، ولن أجد من دونه ملتحدا ، إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا. وإما منصوب ؛ لأنه استثناء منقطع. أي لن يجيرني أحد ، لكن إن بلغت ، رحمني بذلك. (خالِدِينَ) حال من ضمير (مِنَ) في قوله (اللهِ) رعاية للمعنى.

(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً مِنَ) : إما استفهامية في موضع رفع مبتدأ ، و (أَضْعَفُ) : خبره ، و (ناصِراً) : تمييز منصوب ، وإما بمعنى الذي ، في موضع نصب على أنها مفعول (فَسَيَعْلَمُونَ) و (أَضْعَفُ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : من هو أضعف.

١٧٣

البلاغة :

(ضَرًّا) و (رَشَداً) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) مواضع الصلاة مختصة بالله. (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) فلا تعبدوا فيها غيره ، بأن تشركوا كما يفعل اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم. (لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتفاق الجميع. (يَدْعُوهُ) يعبده ببطن نخلة. (كادُوا) كاد الجن المستمعون لقراءته. (لِبَداً) جماعات ، جمع لبدة : والمراد أنهم صاروا متزاحمين حرصا على سماع القرآن. يقال : تلبد القوم : إذا تجمعوا ، ومنه قولهم : لبدة الأسد للشعر المتراكم حول عنقه.

(قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أعبد ربي إلها واحدا من غير إشراك ، فلا داعي للإنكار أو التعجب. (ضَرًّا وَلا رَشَداً) غيا وضررا ، ولا نفعا وخيرا. (لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ) لن ينفعني ويدفع عني من عذابه شيء إن عصيته. (مِنْ دُونِهِ) من غيره. (مُلْتَحَداً) ملتجأ أو ملجأ ألتجئ إليه. (إِلَّا بَلاغاً) تبليغا لرسالاته ، وهو استثناء من مفعول (أَمْلِكُ) أي لا أملك لكم إلا البلاغ إليكم أي التبليغ والرسالات ، وما بين المستثنى منه والاستثناء اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة ، أو مستثنى من قوله (مُلْتَحَداً) أي إن لم أبلغ بلاغا لا أجد ملجأ (مِنَ اللهِ) أي عن الله. (وَرِسالاتِهِ) معطوف على (بَلاغاً).

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في توحيد الله ، فلم يؤمن ؛ لأن الكلام فيه. (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي يدخلونها مقدار خلودهم فيها ، وجمع كلمة (خالِدِينَ) رعاية لمعنى الجمع في (مَنْ يَعْصِ). وقوله (اللهِ) مراعاة للفظ (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) أي ما يوعدون به من العقاب في الدنيا كوقعة بدر أو في الآخرة بعذاب النار و (حَتَّى) ابتدائية فيها معنى الغاية لشيء مقدر قبلها ، أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا ، أو أنها متعلقة بقوله : (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره. (فَسَيَعْلَمُونَ) عند حلول العذاب بهم يوم بدر أو يوم القيامة (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) من أضعف أعوانا وأقل أعدادا ، هو أم هم.

سبب النزول :

نزول الآية (١٨):

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قالت

١٧٤

الجن : يا رسول الله ، ائذن لنا ، فنشهد معك الصلوات في مسجدك ، فأنزل الله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ، فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً). وروي ذلك أيضا عن الأعمش.

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : قالت الجن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف لنا أن نأتي المسجد ، ونحن ناؤون عنك أي بعيدون عنك أو كيف نشهد الصلاة ، ونحن ناؤون عنك ، فنزلت : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) الآية.

نزول الآية (٢٠):

(قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) : سبب نزولها كما ذكر الشوكاني : أن كفار قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن هذا فنحن نجيرك.

نزول الآية (٢٢):

(قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي ..) : أخرج ابن جرير عن حضرمي أنه ذكر أن جنيا من الجن من أشرافهم ذا تبع قال : إنما يريد محمد أن يجيره الله ، وأنا أجيره ، فأنزل الله : (قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) الآية.

التفسير والبيان :

أخبر الله تعالى عن النوع الثالث في هذه السورة من جملة الموحى به ، فقال :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ، فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) أي وأوحي إلي أن المساجد مختصة بالله ، فلا تعبدوا فيها غير الله أحدا ، ولا تشركوا به فيها شيئا.

قال قتادة : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم. أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوحدوه وحده. وقوله (لِلَّهِ) إضافة تشريف

١٧٥

وتكريم فإن نسبت المساجد لغير الله ، فتنسب إليه تعريفا ، فيقال : مسجد فلان.

وهذا دليل على أن الله تعالى أمر عباده أن يوحدوه في أماكن عبادته ، ولا يدعى معه أحد ، ولا يشرك به.

وقال الحسن البصري : أراد بالمساجد البقاع كلها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان والنسائي عن جابر : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا كأنه تعالى قال : الأرض كلها مخلوقة لله تعالى ، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها. وقال أيضا : من السنة إذا دخل الرجل المسجد أن يقول : لا إله إلا الله ؛ لأن قوله : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) في ضمنه أمر بذكر الله وبدعائه.

ثم ذكر الله تعالى النوع الرابع من جملة الموحى فقال :

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي وأنه لما قام النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو الله ويعبده ، كاد الجن يكونون عليه جماعات متراكمين من الازدحام عليه ، لسماع القرآن منه ، وتعجبا مما رأوا من عبادته ؛ لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله ، فالضمير في (كادُوا) للجن ، وقيل : الضمير للمشركين.

وقال جماعة (١) : لما قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لا إله إلا الله ، ويدعو الناس إلى ربهم ، كادت الإنس من العرب الكفار والجن يتزاحمون عليه متراكمين جماعات ليطفئوا نور الله ، ويبطلوا هذا الأمر ، فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره ويظهره على من ناوأه ، فالضمير في (كادُوا) للإنس والجن. وهذا اختيار ابن جرير وقول قتادة. والأظهر كما ذكر ابن كثير ، لقوله تعالى بعده :

__________________

(١) هم ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد والحسن البصري وقتادة.

١٧٦

(قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي قل يا محمد لهؤلاء الذين تجمعوا عليك لإبطال دينك : إنما أدعو ربي ، وأعبده وحده لا شريك له ، وأستجير به ، وأتوكل عليه ، ولا أشرك في العبادة معه أحدا.

ثم فوض أمر هدايتهم إلى الله ، فقال تعالى :

(قُلْ : إِنِّي ، لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضررا ، ولا أجلب لكم نفعا في الدنيا أو الدين ، إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ، ليس لي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم ، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عزوجل. وفي هذا بيان وجوب التوكل على الله تعالى ، والمضي في التبليغ دون مبالاة لتظاهرهم عليه ، وتهديده لهم إن لم يؤمنوا به.

وأكد الله تعالى ذلك المعنى وهو عجز نبيه عن هدايتهم بإعلان عجزه عن شؤونه وقضاياه ، فقال :

(قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) أي قل يا محمد لهؤلاء القوم : لا يدفع عني أحد عذاب الله إن أنزله بي ، ولا نصير ولا ملجأ لي من غير الله أحد ، ولا يجيرني من الله ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها علي ، فأبلّغ عن الله ، وأعمل برسالاته ، أمرا ونهيا ، فإن فعلت ذلك نجوت ، وإلا هلكت ، وهذا كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [٥ / ٦٧].

ويصح كون الاستثناء : (إِلَّا بَلاغاً ..) من قوله تعالى : (قُلْ : إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي لا أملك لكم إلا البلاغ إليكم.

ثم ذكر جزاء العاصين الذين لا يمتثلون موجب التبليغ عن الله ،

١٧٧

فقال تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ، فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي أنا أبلّغكم رسالة الله ، فمن يعص بعد ذلك ، فله جزاء خطير ، وهو نار جهنم ، ماكثين فيها أبدا على الدوام ، لا محيد لهم عنها ، ولا خروج لهم منها. وقوله : (أَبَداً) دليل على أن العصيان هنا هو الشرك.

ثم هدد الله تعالى المشركين الذين كانوا أقصر نظرا من الجن في عدم الإيمان ، بالهزيمة والمذلة ، فقال : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) أي ما يزالون على كفرهم ، حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة ، فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرا ، أي جندا ينتصر به ، وأقل عددا ، أهم ، أم المؤمنون الموحدون لله تعالى؟ أي بل المشركون لا ناصر لهم إطلاقا ، وهم أقل عددا من جنود الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن المساجد أو مواضع الصلاة وذكر الله ، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين يجب أن تتميز بإخلاص العبادة فيها لله ، وبالتوحيد ، لذا وبخ الله المشركين بقوله : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام ، والتوبيخ يشمل كل من أشرك مع الله غيره.

قال مجاهد : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله ، فأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين أن يخلصوا لله سبحانه الدعوة ، إذا دخلوا المساجد كلها.

وروى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى ، وقال : («وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) اللهم أنا عبدك وزائرك ،

١٧٨

وعلى كل مزور حق ، وأنت خير مزور ، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار». فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى ؛ وقال : «اللهم صبّ علي الخير صبّا ، ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ، ولا تجعل معيشتي كدّا ، واجعل لي في الأرض جدّا» أي غنى.

٢ ـ لما قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم داعيا إلى الله تعالى ، وعابدا ناسكا ، كاد الجن يركب بعضهم بعضا ازدحاما ، حرصا على سماع القرآن. وكاد المشركون من العرب يركبون بعضهم بعضا تظاهرا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى عداوته ، واجتمعوا وتظاهروا على إطفاء النور الذي جاء به.

٣ ـ قصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصول دعوته على ثلاثة أمور :

الأول ـ عبادة الله وحده دون إشراك أحد معه.

الثاني ـ تفويض أمر الهداية إلى الله تعالى ، وإعلان كونه عاجزا عن دفع ضرر عن قومه ، أو جلب خير لهم ، فلا يملك الكفر والإيمان ، ومرد ذلك كله إلى الله تعالى.

الثالث ـ كونه لا مجير له من عذاب الله إن استحقه ، ولا ملجأ يلجأ إليه ولا نصير له إن عصى ربه.

٤ ـ إن طريق الأمان والنجاة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو تبليغ وحي الله ، وما أرسل به إلى الناس.

٥ ـ إن جزاء العاصين لله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوحيد والعبادة هو نار جهنم خالدين فيها أبدا على الدوام. والعصيان : هو الشرك ، لقوله تعالى : (أَبَداً).

١٧٩

٦ ـ إذا شاهد المشركون ما أوعدهم الله من عذاب الدنيا ، وهو في الماضي القتل ببدر ، أو عذاب الآخرة وهو نار جهنم ، فسيعلمون حينئذ من أهل الجند الأضعف نصرة وأقل عددا ، أهم أم المؤمنون؟

علم تعيين الساعة مختص بالله عالم الغيب

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

الإعراب :

(أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ قَرِيبٌ) مبتدأ ، و (ما) فاعل (قَرِيبٌ) بمعنى الذي ، وقد سدت مسد خبر المبتدأ ، كقولهم : أقائم أخوك ، وأ ذاهب الزيدان ، وعائد (ما) محذوف ، تقديره : أقريب ما توعدونه ، ولكن حذف الهاء. ويجوز أن تكون (ما) مصدرية ، فلا عائد لها.

(إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ مَنِ) : إما في موضع رفع بالابتداء ، وخبره (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ) وإما في موضع نصب على الاستثناء المنقطع.

(أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أَنْ) : مخففة من الثقيلة ، أي أنه.

(وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً عَدَداً) : منصوب على التمييز ، وليس بمصدر ؛ لأنه لو كان مصدرا ، لكان مدغما : (عدّا). وأجاز القرطبي نصبه على المصدر ، أي أحصى وعدّ كل شيء عددا ، أو نصبه على الحال ، أي أحصى كل شيء في حال العدد.

المفردات اللغوية :

(إِنْ أَدْرِي) أي ما أدري. (ما تُوعَدُونَ) من العذاب. (أَمَداً) غاية وأجلا لا يعلمه

١٨٠