التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

وقدرته ، من خلق الإنسان على أطوار ، وخلق السموات السبع الطباق ، وتزيينها بالشمس والقمر ، وجعل الأرض ممهدة كالبساط.

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى أنواع الشكوى من نوح عليه‌السلام على قومه ، فقال :

ـ (قالَ : رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي قال نوح مشتكيا إلى ربه عزوجل ما لقي من قومه وما صبر عليهم في مدة طويلة هي ألف سنة إلا خمسين عاما : إني دعوت قومي إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان ، دعاء دائما متصلا في الليل والنهار ، من غير تقصير ، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك ، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا عما دعوتهم إليه ، وبعدا عنه ، أي كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق ، فرّوا منه ، وحادوا عنه. ثم ذكر أنهم عاملوه بأشياء :

ـ (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ، وَأَصَرُّوا ، وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي وكلما دعوتهم إلى سبب المغفرة ، وهو الإيمان بك ، والطاعة لك ، سدّوا آذانهم برؤوس أصابعهم ، لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه ، وغطوا بثيابهم وجوههم لئلا يروني ، ولئلا يسمعوا كلامي ، واستمروا على الكفر والشرك العظيم ، واستكبروا عن قبول الحق استكبارا شديدا ، أي استنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له.

ـ (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي إنني نوّعت أساليب الدعوة ، فدعوتهم إلى الإيمان والطاعة جهرة بين الناس ، أي مجاهرا لهم بها ، ثم جمعت في الدعوة بين الإعلان بها والإسرار. والمراد بالآيات أنه كان لدعوته ثلاث مراتب :

بدأ بالمناصحة في السر ليلا ونهارا ، ففروا منه.

١٤١

ثم ثنّى بالمجاهرة ؛ لأن النصح بين الملأ تقريع وتغليظ ، فلم يؤثر.

ثم جمع بين الأمرين : الإسرار والإعلان ، كما يفعل المجتهد المتحير في التدبير فلم ينفع. ومعنى (ثُمَ) الدلالة على تباعد الأحوال ، وتفاوت درجة الأسلوب ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.

وهذا مشابه لمراحل الدعوة التي قام بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة وجزيرة العرب ، فكان موقف كفار قريش مماثلا لموقف قوم نوح : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت ٤١ / ٢٦].

ثم فسر الدعوة وأبان مضمونها بقوله :

(فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) أي فقلت لهؤلاء القوم : سلوا ربكم غفران ذنوبكم السابقة بإخلاص النية ، وتوبوا إلى الله من الكفر والمعاصي ، إن ربكم الذي خلقكم وربّاكم كثير المغفرة للمذنبين.

وفيه دلالة على أن الاستغفار يوجب زيادة البركة والنماء ، لأن الفقر والقحط والآلام والمخاوف بشؤم المعاصي ، فإذا تابوا واستغفروا ، زال الشؤم والبلاء ، وعاد الخير والنماء.

ثم وعدهم على التوبة من الكفر والمعاصي بخمسة أشياء ، فقال :

١ ـ (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) أي إن استغفرتم ربكم يرسل المطر عليكم متتابعا ، كثير الدرور والغزارة ، فيكثر الخير والخصب والغلال والثمار ، ويعم الرخاء والاطمئنان والسعادة والاستقرار ، ويمددكم بالأموال الكثيرة ويعطكم الخيرات الوفيرة ، ويكثر لكم الذرية والأولاد بسبب الأمن والرفاه والشعور بالاستقرار

١٤٢

والسعادة ، ويجعل لكم البساتين النضرة الخضراء العامرة بالأشجار والثمار والفواكه ، ويجعل لكم أنهارا جارية بالماء العذب ، التي يكثر بها الزرع والثمر والغلة.

وهذا دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر وحصول أنواع الأرزاق ، لذا كان مأمورا به في صلاة الاستسقاء ، كما أن الآية تدل على أن الإيمان بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة ، الخصب والغنى في الدنيا.

وبعد الدعوة بالترغيب ، وبخهم ولجأ إلى الدعوة بالترهيب قائلا :

٢ ـ (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي مالكم لا تخافون عظمة الله ، فتوحدوه وتطيعوه ، في حين أنه هو الذي خلقكم على أطوار مختلفة ، بدءا من النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة ، ثم العظام فاللحم ، ثم تمام الخلق وإنشاؤكم خلقا آخر ، تمرون في دور الطفولة ، ثم الشباب ، ثم الكهولة ، ثم الشيخوخة ، فكيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة؟

لكن لم يجز الرازي تفسير الرجاء بالخوف ؛ لأن الرجاء في اللغة ضد الخوف ، ورجح تفسير الزمخشري وهو مالكم لا تأملون لله توقيرا أي تعظيما ، والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم. و (لِلَّهِ) بيان للموقر.

وهذا دليل على وجود الله سبحانه ووحدانيته ، معتمد على النظر في النفس الإنسانية ، ثم أتبعه بدليل آخر من العالم العلوي ، فقال :

٣ ـ (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي ألم تنظروا فوقكم كيف خلق السموات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض ، وجعل القمر في السموات ، وهو في السماء الدنيا منهن ، منوّرا لوجه الأرض ، لا حرارة فيه ، وجعل الشمس كالمصباح المضيء الذي يزيل ظلمة الليل ، وينشر الحرارة والضياء.

١٤٣

وقدر للقمر منازل وبروجا تدل على مضي الشهور وتدل الشمس على مرور السنين كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس ١٠ / ٥].

ثم ذكر الله تعالى دليلا من العالم الأرض السفلي ، فقال :

٤ ـ (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) أي والله أوجد أباكم آدم من التراب ، وجعله ينمو ويكبر كالنبات ، وجعل نموكم معتمدا على الغذاء من نتاج الأرض ، وتحولها إلى نبات أو حيوان ، ثم يعيدكم في الأرض ، تموتون ، وتتحلل أجزاؤكم ، حتى تعود ترابا مندمجا في الأرض ، ثم يخرجكم أحياء منها بالبعث يوم القيامة ، إخراجا دفعة واحدة ، لا إنباتا بالتدريج كالمرة الأولى. قال الزمخشري : أستعير الإنبات للإنشاء ليكون أدل على الحدوث.

٥ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي ومن نعمه تعالى على الإنسان أنه جعل لكم الأرض ممهدة كالبساط ، وثبّتها بالجبال ، وجعلكم تتقلبون في أنحائها بحثا عن الرزق ، وأوجد لكم طرقا واسعة بين الجبال وفي الوديان والسهول.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ استمر نوح عليه‌السلام في دعوة قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له طوال ألف سنة إلا خمسين عاما ، لم يفتر ولم يكلّ ولم يملّ ليلا ونهارا ، سرا وجهرا ، امتثالا لأمر الله وابتغاء لطاعته. ولكنهم بالرغم من هذه المدة الطويلة لم تزدهم دعوته للاقتراب من الحق إلا تباعدا عن الإيمان.

١٤٤

٢ ـ ذكر الرازي أن آية : (دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ..) من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره.

٣ ـ صور الله تعالى نفور قوم نوح من دعوته إلى العبادة والتقوى والطاعة ، لأجل أن يغفر الله لهم بصورة مادية محسوسة ، وهي أنه كلما دعاهم إلى سبب المغفرة وهو الإيمان بالله والطاعة له ، سدّوا منافذ أسماعهم ، لئلا يسمعوا دعاءه وطلبه ، وغطّوا بثيابهم وجوههم لئلا يروه ، واستكبروا عن قبول الحق استكبارا عظيما. وهذا دليل على وجود الحجاب الكثيف والغطرسة النفسية عن سماع دعوة الحق ، وتلك مبالغة تتفق مع أوضاعهم ، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم مع ذلك ، صار المانع من السماع أقوى.

٤ ـ سلك نوح عليه‌السلام في دعوة قومه إلى التوحيد وطاعة الله تعالى مراتب ثلاثة : فبدأ بالمناصحة سرا ، ثم ثنى بالمجاهرة ، ثم جمع بين الإعلان والإسرار ، وتلك سياسة ناجحة ، وأسلوب ناجع استنفد فيه كل جهوده ، إذا توافر التجاوب مع الدعوة ، والتفاعل مع كلام الداعية.

٥ ـ إن الاشتغال بطاعة الله سبب يوجب زيادة البركة والنماء ، وانفتاح أبواب الخيرات ، وإدرار الأمطار ، وزيادة الغلال ، ووفرة الثمار ، وقد وعدهم الله على الطاعة بخمسة أشياء : إنزال المطر ، والإمداد بالأموال ، والبنين ، وجعل الجنات (البساتين) ، وجعل الأنهار.

عن الحسن البصري رحمه‌الله : أن رجلا شكا إليه الجدب ، فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار ، فقال له بعض القوم : أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة ، فأمرتهم كلهم بالاستغفار ، فتلا له الآية : (فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ..) ،

١٤٥

ويلاحظ أن الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة ، لذا أطمعهم نوح بالخيرات في هذه الآية ، وقال تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها : نَصْرٌ مِنَ اللهِ ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف ٦١ / ١٣].

٦ ـ آية الاستغفار هذه دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي : خرج عمر يستسقي ، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع ، فأمطروا ، فقالوا : ما رأيناك استسقيت؟ فقال : لقد طلبت بمجاديح (١) السماء التي يستنزل بها المطر ؛ ثم قرأ : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً).

٧ ـ رغّبهم نوح بالعباد والطاعة ، فقال : ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة؟ أي فلا عذر لكم في ترك الخوف من الله ، وقد جعل لكم في أنفسكم آية دالة على توحيده. ثم هددهم ووبخهم بالعذاب إن أعروضا عن دعوته ، ثم استدل على وجود الله ووجوب طاعته بما يأتي.

٨ ـ أقام نوح عليه السالم الدليل على وجود الله وتوحيده وقدرته وعظمته بالنظر في النفس البشرية ، والعالم العلوي من السموات والشموس والأقمار ، والعالم السفلي من التذكير بكنوز الأرض وخيراتها من معادن ونباتات وحيوانات.

فالله سبحانه هو الذي خلق الإنسان في الأصل من التراب ، ثم جعل سبب بقاء نوع الإنسان بالتزاوج والتوالد ، والعناية بالإنسان في أطوار حياته.

__________________

(١) المجاديح : جمع مجدح : وهو نجم من النجوم ، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر ، فجعل الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفونه ، لا قولا بالأنواء. وجاء بلفظ الجمع ليشمل جميع الأنواء التي يزعمون أن من شأنها المطر.

١٤٦

والله هو الذي خلق السموات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض ، كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب ، وجعل القمر نورا منيرا في سماء الدنيا ، والشمس مصباحا مضيئا لأهل الأرض ، للتمكن من العمل والتصرف من أجل المعايش.

وكما خلق آدم من أديم الأرض كلها ، وتناسلت ذريته من بعده ، يعيد الله الناس إلى الأرض موتى بالدفن في القبور ، ثم يخرجهم منها بالنشور للبعث يوم القيامة. والعودة إلى دلائل الأنفس هنا كالتفسير لقوله : (خَلَقَكُمْ أَطْواراً).

والله سبحانه جعل لعباده الأرض مبسوطة لسلوك الطرق الواسعة الميسرة فيها.

وقد بدأ هنا بدلائل الأنفس ؛ لأن نفس الإنسان أقرب الأشياء إليه وقد يبدأ بدلائل الآفاق ؛ لأنها أبهر وأعظم.

والخلاصة : أورد الله تعالى على لسان نوح عليه‌السلام أربعة أدلة على التوحيد : الأول ـ (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) والثاني ـ خلق السموات والشمس والقمر والثالث ـ الإنبات من الأرض والرابع ـ جعل الأرض منبسطة ذات طرق واسعة.

أنواع من قبائح قوم نوح وأقوالهم وأفعالهم

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا

١٤٧

إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

الإعراب :

(مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ .. وَلَدُهُ) مفرد وقرئ : (وَلَدُهُ) بضم الواو وسكون اللام إما جمع «ولد» أو لغة في «ولد» كنحل ونحل وحزن وسقم وسقم.

(وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ) ممنوعان من الصرف للتعريف ووزن الفعل.

(لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) ديار : فيعال من (دار يدور) وأصله : (ديوار) فاجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن فقلبت الواو ياء وجعلتا ياء مشددة ولا يجوز أن يكون (فعّالا) لأنه لو كان (فعّالا) لوجب أن يقال (دوّار) فلما قيل (ديّار) دل على أنه (فيعال) لا (فعّال).

البلاغة :

(وَقالُوا : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً ..) إلخ فيها ذكر الخاص بعد العام. وعكسه ذكر العام بعد الخاص في قوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وكلاهما من باب الإطناب.

المفردات اللغوية :

(عَصَوْنِي) فيما أمرتهم به. (وَاتَّبَعُوا) أي مجموع القوم الأدنياء. (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ) وهم الرؤساء أو القادة المنعم عليهم بذلك. (خَساراً) خسرانا في الآخرة. (وَمَكَرُوا) أي الرؤساء ، عطف على (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ) والضمير لمن وجمعه للمعنى (كُبَّاراً) كبيرا في الغاية ، عظيما جدا ؛ لأنهم كذبوا نوحا وآذوه ومن اتبعه.

(وَقالُوا) للأدنياء السفلة. (لا تَذَرُنَ) لا تتركن. (وَدًّا) صنم لكلب. (وَلا سُواعاً) صنم لهذيل. (وَلا يَغُوثَ) صنم لغطيف بالجرف عند سبأ ، أو لمذحج. (وَيَعُوقَ) لهمدان. (وَنَسْراً) صنم لحمير آل ذي الكلاع. (وَقَدْ أَضَلُّوا) الضمير للرؤساء بأن أمروهم بعبادتهم ، أو للأصنام. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) عطف على (قَدْ أَضَلُّوا) أو على (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي).

١٤٨

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أي من أجل ذنوبهم وآثامهم. (أُغْرِقُوا) أي بالطوفان. (فَأُدْخِلُوا ناراً). وهو عذاب الآخرة أو عذاب القبر. (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) أي لم يجدوا غير الله أنصارا يمنعون عنهم العذاب ، وهو تعريض لهم باتخاذهم آلهة من دون الله لا تقدر على نصرهم. (دَيَّاراً) نازل دار ، أي أحدا ، وهو مما يستعمل في النفي العام. (إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) من يفجر ويكفر ، كان هذا الدعاء بعد الإيحاء إليه. (وَلِوالِدَيَ) وكانا مؤمنين. (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) منزلي أو مسجدي أو سفينتي إذا كان مؤمنا. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلى يوم القيامة. (تَباراً) هلاكا.

المناسبة :

بعد بيان أنواع الدلائل التي استدل بها نوح عليه‌السلام على توحيد الإله ، أعلن نوح عصيان قومه ، وحكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم ، ومحورها العكوف على عبادة الأصنام والأوثان. ثم ذكر ما يستحقونه من دخول النار في الآخرة ، والهلاك في الدنيا بعد دعاء نوح عليهم بذلك ، ودعائه بالمغفرة السابغة له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات.

التفسير والبيان :

(قالَ نُوحٌ : رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي دعا نوح عليه‌السلام ربه قائلا : يا رب ، إن قومي استمروا على عصياني ، ولم يجيبوا دعوتي ، واتبع الجمهور الرؤساء والكبراء وأهل الثراء ، الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا ، وعقوبة في الآخرة ، فخسروا الدنيا والآخرة.

(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) أي مكروا مكرا عظيما كبيرا ، وهو صد الناس عن دعوة نوح إلى الدين الحق وتوحيد الإله ، وإغراؤهم السفلة على إيذاء نوح وقتله.

(وَقالُوا : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ

١٤٩

وَنَسْراً) أي وقال الرؤساء للأتباع للإغراء بمخالفة نوح وعصيان أوامره وأقواله : لا تتركوا عبادة آلهتكم ، وتعبدوا رب نوح ، ولا تتركوا بالذات عبادة هذه الأصنام التي انتقلت عبادتها إلى العرب وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر.

فكان ودّ لكلب ، وسواع لهذيل ، ويغوث لغطفان ، ويعوق لهمدان ، ونسر لحمير آل ذي الكلاع. وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه‌السلام ، فلما هلكوا أوحى (١) الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا ، وسمّوها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلما ماتوا وجاء آخرون ، وسوس إليهم إبليس قائلا : إنما كانوا يعبدونهم ، وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم.

وكان عند العرب أصنام أخرى : أهمها اللات لثقيف بالطائف ، والعزّى لسليم وغطفان وجشم ، ومناة لخزاعة بقديد ، وأساف ونائلة وهبل لأهل مكة ، وهبل أكبر الأصنام عندهم ، فوضع فوق الكعبة.

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) أي وقد أضل كبراؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الناس ، وقيل : أضلت الأصنام كثيرا من الناس ، فإنه استمرت عبادتها في القرون بين العرب والعجم إلى عهد النبوة ، كما قال إبراهيم الخليل في دعائه : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم ١٤ / ٣٥ ـ ٣٦].

وناسب ذلك أن يدعو عليهم نوح عليه‌السلام لإضلالهم وضلالهم وكفرهم وعنادهم ، فقال : ولا تزد الكافرين إلا حيرة وبعدا عن الصواب ، فلا يهتدوا إلى الحق والرشد ، وذلك كما دعا موسى عليه‌السلام على فرعون وقومه في قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس ١٠ / ٨٨].

__________________

(١) الوحي : الاعلام في خفاء لأي شيء ، من الأرض والإنسان والحيوان.

١٥٠

ثم أبان الله تعالى جزاءهم وسبب الجزاء وهو إضلال الناس فقال :

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) أي من أجل كثرة سيئاتهم وآثامهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم ، أغرقوا بالطوفان ، ثم أدخلوا نار الآخرة ، فلم يكن أحد يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم.

(وَقالَ نُوحٌ : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي لما أيس نوح من إيمانهم ، دعا عليهم بعد أن أوحي إليه ذلك ، فقال : رب لا تترك على وجه الأرض منهم أحدا يسكن الديار.

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) أي إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك الذين تخلقهم بعدهم عن طريق الحق ، ولا يلدوا إلا كل فاجر في الأعمال بترك طاعتك ، كثير الكفران في القلب لنعمتك ، لخبرته بهم ، ومكثه معهم ألف سنة إلا خمسين عاما.

ثم دعا نوح عليه‌السلام لأهل الإيمان ، وأعاد الدعاء مرة أخرى على الكفار ، قائلا :

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي رب استر علي ذنوبي واستر على والدي المؤمنين برسالتي ، واغفر لكل من دخل منزلي وهو مؤمن ، ولكل المصدقين بوجودك ووحدانيتك ولكل المصدقات بذلك من الأمم والأجيال القادمة ، ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بالكفر إلا هلاكا وخسرانا ودمارا.

وقد شمل دعاؤه هذا كل مؤمن وكل ظالم إلى يوم القيامة.

روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تصحب إلا مؤمنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقى».

١٥١

ويستحب مثل دعاء نوح اقتداء به لجميع المؤمنين والمؤمنات من الأحياء والأموات.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لا تجوز الشكوى إلا إلى الله عزوجل ، ولذا شكى نوح قومه إلى ربه ، وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الإيمان ، بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، داعيا لهم ، وهم على كفرهم وعصيانهم. قال ابن عباس : رجا نوح عليه‌السلام الأبناء بعد الآباء ؛ فيأتي بهم الولد بعد الولد ، حتى بلغوا سبعة قرون ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم ، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا.

٢ ـ يقلد الناس في العادة قادتهم وكبراءهم ، وقد اتبع قوم نوح رؤساءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة ؛ ومكروا مكرا عظيما بصرف الناس الأتباع عن الدين والإيمان ، وبإغراء السفلة على قتل نوح عليه‌السلام.

٣ ـ أصرّ قوم نوح على الكفر والعناد والتمرد وعبادة الأصنام ، وتواصوا بعبادة الأوثان وترك عبادة الله ، ولا سيما عبادة ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وهي أصنام وصور ، كان قوم نوح يعبدونها ، ثم عبدتها العرب.

٤ ـ أكد نوح عليه‌السلام في شكواه أنه أضل كبراء قومه كثيرا من أتباعهم ، لذا دعا عليهم بقوله : ولا تزد الظالمين الكافرين إلا عذابا (١) وخسرانا وضلالا عن

__________________

(١) كما جاء في قوله تعالى : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر ٥٤ / ٤٧] والضلال هنا : العذاب.

١٥٢

طريق أهل الجنة ، أو ضلال مكرهم. وإنما دعا نوح عليهم بالضلال غضبا عليهم حين عرف بالقرائن المفيدة للجزم أنهم لا يكادون يؤمنون.

٥ ـ إن خطايا وذنوب قوم نوح هي السبب في الإغراق بالطوفان ودخول نار جهنم بعد إغراقهم ، فلم يجدوا حينئذ أحدا يمنعهم من عذاب الله.

٦ ـ استدل بعض أهل السنة وهو القشيري بآية (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) على إثبات عذاب القبر ؛ لأن إدخال النار حصل عقيب الإغراق ، فلا يحمل على عذاب الآخرة ، وإلا بطلت دلالة الفاء على التعقيب ، ولأنه قال : (فَأُدْخِلُوا) على سبيل الإخبار عن الماضي ، وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك.

ورد الرازي بأن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل ؛ لأن المعنى صاروا مستحقين دخول النار ، وأما التعبير بقوله : (فَأُدْخِلُوا) فهو عن المستقبل بلفظ الماضي ، لتأكد وقوعه وصحة وجوده (١).

٧ ـ قوله تعالى : (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) حجة على كل من عول على شيء غير الله تعالى ؛ لأن الآية تعريض بالمشركين الذين واظبوا على عبادة الأصنام ، لتكون دافعة للآفات عنهم ، جالبة للمنافع إليهم ، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام ، وما دفعت عنهم شيئا من عذاب الله.

٨ ـ دعا نوح على الكفار بالدمار والهلاك بعد أن يئس من اتباعهم إياه ، وبعد أن أوحى الله إليه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود ١١ / ٣٦] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته. وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وزلزلهم».

قال ابن العربي : دعا نوح على الكافرين أجمعين ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ١٤٥

١٥٣

تحزب على المؤمنين وألّب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة ، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه ؛ لأن مآله عندنا مجهول ، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما ؛ لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم ، والله أعلم (١).

٩ ـ دعا نوح أيضا لنفسه ولوالديه ، وكانا مؤمنين ، ولكل من دخل منزله مؤمنا ، أو دخل مسجده ومصلاه مصليا مصدقا بالله تعالى ، ولجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات عامّة إلى يوم القيامة.

ثم دعا أيضا على الكافرين في مقابلة أهل الإيمان بقوله : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي لا تزد الكافرين إلا هلاكا ، وهذا عام في كل كافر ومشرك.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٨٤٨ وما بعدها.

١٥٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الجن

مكيّة ، وهي ثمان وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة الجن ؛ لتعلقها بأحوالهم فإنهم لما سمعوا القرآن ، آمنوا به ، ثم أبانوا علاقتهم بالإنس ، ومحاولتهم استراق السمع ، ورميهم بالشهب المحرقة ، وغير ذلك من حديث الجن العجيب الذين منهم المؤمن ومنهم الكافر ، والجن عالم لا نراه ولا طريق لمعرفة شيء عنه إلا بالوحي الإلهي. ويلاحظ أن تسميات السور تبعث على النظر والتفكير.

مناسبتها لما قبلها :

ترتبط بالسورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ قال الله سبحانه في سورة نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) [١٠ ـ ١١] وقال تعالى في هذه السورة لكفار مكة : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [١٦].

٢ ـ ذكر في السورتين شيء يتعلق بالسماء ، كما ذكر فيهما عذاب العصاة ، فقال تعالى في سورة نوح : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [١٥] وقال عزوجل هنا : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها ...) [٨] وقال في السورة المتقدمة : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ..) [٢٥] وقال هنا : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [٢٣].

١٥٥

ما اشتملت عليه السورة :

هناك موضوعان بارزان في السورة هما : الإخبار عن حقائق تتعلق بالجن ، وتوجيهات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبليغه الدعوة إلى الناس.

افتتحت السورة بالإخبار عن إيمان فريق من الجن بالقرآن العظيم حين سمعوا تلاوته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاته في منى بعد عودته من الطائف قبيل الإسراء والمعراج : (قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ..) [الآيات : ١ ـ ٢] فهو كما قالوا كتاب يهدي إلى الرشد.

ثم أبانت تمجيدهم الله عزوجل وإفرادهم له بالعبادة وتنزيههم له عن اتخاذ الصاحبة والولد ، وتسفيههم من جعل لله ولدا وعلاقة الجن بالإنس : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ..) [الآيات : ٣ ـ ٧].

وأعقبت ذلك بالإخبار عن محاولات الجن استراق السمع من السماء ، للتعرف على خبر العالم العلوي ، ومنعهم منه لإحاطة السماء بالحرس الملائكي ، وإحراقهم بالشهب النارية بعد بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعجبهم من هذا الحديث السماوي ، وتساؤلهم : هل يراد به تعذيب أهل الأرض : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ ..) [الآيات : ٨ ـ ١٠].

وصرح الجن بعدئذ بانقسامهم إلى فريقين : مؤمنين وكفار ، مع تبشير المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وعزمها ، وإنذار الكافرين المعرضين عن هدي الله وكتابه بالعذاب الشديد : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ ..) [الآيات : ١١ ـ ١٨].

ووصفوا تجمعهم حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمعوه يتلو القرآن : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ ..) [الآية : ١٩].

١٥٦

واشتمل القسم الثاني من السورة على توجيهات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمره بتبليغ دعوته إلى الناس وإخلاص العمل لله وكونه لا يشرك بربه أحدا ، وإعلامه بأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وأنه لا ينجيه أحد من الله إن عصاه ، وأنه لا يدري بوقت العذاب : (قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ..) [الآيات : ٢٠ ـ ٢٥].

وختمت السورة ببيان استئثار الله واختصاصه بمعرفة علم الغيب ، وإحاطته بجميع ما لدى الخلائق وإحصاء أعدادهم : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ..) [٢٦ ـ ٢٨].

إيمان الجن بالقرآن وبالله تعالى

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))

الإعراب :

(أَنَّهُ اسْتَمَعَ) في موضع رفع ، نائب فاعل ل (أُوحِيَ) وعطف عليها جميع ما ذكر بعدها وهو اثنا عشر موضعا من لفظ «أنّ» فهو عطف على الموحى به ، ويصح الكسر في الجميع عطفا على المقول.

(كَذِباً) منصوب على المصدر ؛ لأنه نوع من القول ، أو صفة لمحذوف أي قولا مكذوبا فيه.

١٥٧

(أَنْ لَنْ تَقُولَ أَنْ) مخففة من الثقيلة ، أي أنه. وكذا (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ) مخففة من الثقيلة. (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) سدّ مسدّ مفعولي (ظَنُّوا).

البلاغة :

(قُرْآناً عَجَباً) وصف بالمصدر للمبالغة ، أي عجيبا في إيجازه وإعجازه.

(فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) بينهما طباق السلب ؛ لأن الإيمان ضدّ الشرك ونفي له.

(الْإِنْسُ) و (الْجِنُ) بينهما طباق.

(أَحَداً) ، (وَلَداً) ، (رَصَداً) ، (رَشَداً) ، (قِدَداً) ، (صَعَداً) ، (عَدَداً) إلخ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات ، وهو ما يسمى في علم البديع بالسجع المرصع.

المفردات اللغوية :

(قُلْ) أيها النبي للناس. (أُوحِيَ إِلَيَ) أخبرني الله تعالى بالوحي. (أَنَّهُ) الهاء ضمير الشأن. (اسْتَمَعَ) لقراءتي القرآن. (نَفَرٌ) النفر : ما بين الثلاثة إلى العشرة. (الْجِنِ) أجسام عاقلة خفية مخلوقة من النار ، والمقصود بهم هنا جن نصيبين ، وذلك في صلاة الصبح ببطن نخل : موضع بين مكة والطائف ، وهم المذكورون في قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) الآية [الأحقاف ٤٦ / ٢٩]. (فَقالُوا) لقومهم لما رجعوا إليهم. (قُرْآناً) كتابا. (عَجَباً) بديعا في حسن نظمه ودقة معناه ، يتعجب منه من فصاحته وغزارة معانيه ، مباين لكلام الناس. و (عَجَباً) : مصدر وصف به القرآن للمبالغة.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) الإيمان والحق والصواب. (فَآمَنَّا بِهِ) بالقرآن. (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) لما نطق به من الأدلة القاطعة الدالة على التوحيد. (وَأَنَّهُ) الهاء ضمير الشأن. (تَعالى جَدُّ رَبِّنا) تنزه جلاله وعظمته عما نسب إليه من الصاحبة والولد ، والمعنى : وصف بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته. والجدّ : العظمة. وقرئ : جدّا بالتمييز ، وجدّ بالكسر ، أي صدق ربوبيته ، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد. (صاحِبَةً) زوجة. ويحتمل أن يكون المراد من الجدّ : الملك والسلطان أو الغنى ، جاء في الحديث : «لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» قال أبو عبيدة : لا ينفع ذا الغنى منك غناه. (سَفِيهُنا) السفيه : الجاهل ومن عنده خفة وطيش تنشأ عن حمق وجهل. (شَطَطاً) غلوّا في الكذب وتجاوزا حدّ العدل والحق بنسبة الصاحبة والولد إليه. (كَذِباً) بوصفه بذلك ، حتى تبينا كذبهم فيما قالوا. (يَعُوذُونَ) يستعيذون أو يطلبون النجاة والعون. (بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) كان الرجل

١٥٨

إذا أمسى بأرض قفر قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه. (فَزادُوهُمْ) زادوا الجنّ باستعاذتهم بهم. (رَهَقاً) طغيانا وكبرا وعتوا ، وأصل الرهق : الإثم وارتكاب المعاصي. (وَأَنَّهُمْ) أي الإنس. (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أيها الجن. (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) بعد موته.

سبب النزول :

نزول الآية (١):

(قُلْ : أُوحِيَ ...) : أخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجن ولا رآهم ، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعوا إلى قومهم ، فقالوا : ما هذا إلا لشيء قد حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا هذا الذي حدث ، فانطلقوا فانصرف النفر الذين توجهوا نحو تهامة ، إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بنخلة ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء.

فهنالك رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا ، إنا سمعنا قرآنا عجبا ، فأنزل الله على نبيّه : (قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَ) وإنما أوحي إليه قول الجن.

نزول الآية (٦):

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ ..) : أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان في العظمة عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة ، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل ، جاء ذئب ، فأخذ حملا من الغنم ، فوثب الراعي ، فقال : عامر الوادي ، جارك ، فنادى مناد ، لا نراه يا سرحان ، فأتى الحمل

١٥٩

يشتد حتى دخل في الغنم ، وأنزل الله على رسوله بمكة : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) الآية.

وأخرج ابن سعد عن أبي رجاء العطاردي من بني تميم قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رعيت على أهلي ، وكفيت مهنتهم ، فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجنا هرابا ، فأتينا على فلاة من الأرض ، وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا : إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة ، فقلنا ذاك ، فقيل لنا : إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، من أقرّ بها ، أمن على دمه وماله ، فرجعنا فدخلنا في الإسلام ، قال أبو رجاء : إني لأرى هذه الآية نزلت فيّ وفي أصحابي : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ ، فَزادُوهُمْ رَهَقاً).

التفسير والبيان :

حكى الله عن الجن ستة أشياء وهي :

١ ـ (قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ، فَقالُوا : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) أي قل يا محمد مخبرا أمتك وقومك بأن الجن استمعوا القرآن ، فآمنوا به وصدّقوه وانقادوا له ، فقد أوحى الله إلي على لسان جبريل عليه‌السلام أنه استمع عدد من الجن إلى قراءتي للقرآن ، وهي سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فقالوا لقومهم لما رجعوا إليهم : سمعنا كلاما مقروءا مثيرا للعجب في فصاحته وبلاغته ، ومواعظه وبركاته. والإيحاء : إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء ، كالإلهام وإنزال الملك ، ويكون ذلك في سرعة.

والجنّ عالم مستتر عنا ، لا نعرف عنه إلا ما أخبر به الوحي ، فهم مخلوقون من النار : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) [الحجر ١٥ / ٢٧] ، ولم

١٦٠