التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

المناسبة :

بعد بيان أوصاف يوم القيامة الرهيبة ، نبّه الله تعالى إلى طبائع البشر واتصافهم بالهلع والجزع والمنع التي تجمع أصول الأخلاق الذميمة ، ثم استثنى المؤمنين الذين يعملون صالح الأعمال ، ويتصفون بصفات عشر لعلاج أمراض النفس البشرية ، وليكونوا قدوة للإنسانية ومثلا أعلى يحتذي به.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) أي إن الإنسان جبل على الضجر أو الهلع : وهو شدة الحرص ، وقلة الصبر ، فلا يصبر على بلاء ، ولا يشكر على نعماء ، وفسّر ذلك بأنه إذا أصابه الفقر والحاجة أو المرض أو نحو ذلك من الضّر ، فهو كثير الجزع أو الحزن والشكوى ، وإذا أصابه الخير من الغنى والسعة أو المنصب والجاه أو القوة والصحة ونحو ذلك من النعم ، فهو كثير المنع والإمساك والبخل على غيره.

روى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرّ ما في رجل : شحّ هالع ، وجبن خالع».

ثم استثنى الله تعالى من اتصف بالصفات العشر التالية ، وهي :

١ ـ ٢ : أداء الصلاة والمواظبة عليها : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي إن الناس يتصفون بصفات الذّم إلا الموفقين المهديين إلى الخير ، وهم الذين يؤدون صلاتهم ، ويحافظون على أوقاتها وواجباتها ، فلا يتركونها في شيء من الأوقات ، ولا يشغلهم عنها شاغل ، ولا يخلون بشيء من فرائضها وسننها ، ويتمثلون حقيقتها من الصلة بالله والسكون والخشوع ، فهؤلاء ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع ، وإنما بإيمانهم وكون دين الحق في نفوسهم على صفات محمودة وخلال مرضية.

١٢١

وهذا دليل على وجوب المواظبة على العبادة ، كما جاء في الصحيح عن عائشة رضي‌الله‌عنها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» وفي لفظ «ما داوم عليه صاحبه» قالت : وكان رسول الله إذا عمل عملا داوم عليه ، أو أثبته. فيكون المراد بالآية الذين يداومون على الصلوات في أوقاتها ، وأما الاهتمام بشأنها فيحصل برعاية أمور سابقة على الصلاة كالوضوء ، وستر العورة ، وطلب القبلة وغيرها ، وتعلق القلب بها إذا دخل وقتها ، ورعاية أمور مقارنة للصلاة ، كالخشوع ، والاحتراز عن الرياء ، والإتيان بالنوافل والمكملات. ورعاية أمور لاحقة بالصلاة ، كالاحتراز عن اللغو وما يضادّ الطاعة ؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فارتكاب المعصية بعد الصلاة دليل على عدم قبول تلك الصلاة.

٣ ـ أداء الزكاة والواجبات المالية : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي والذين في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات والبائسين ، سواء سألوا الناس أو تعففوا ، وذلك يشمل الزكوات المفروضة وكل ما يلزم الإنسان نفسه به ، من نذر ، أو صدقة دائمة ، أو إغاثة مستمرة. وهذا دليل على وجوب العبادة المالية ذات الأهداف الاجتماعية ، بعد وجوب العبادات البدنية ذات المغزى الأخلاقي المربي للنفس ، والغاية الدينية السامية ، فيكون المراد بالحق : الزكاة المفروضة ، بدليل وصفه بأنه معلوم ، واقترانه بإدامة الصلاة. وقيل : هو ما سوى الزكاة ، وإنه على طريق الندب والاستحباب.

٤ ـ التصديق بيوم الجزاء : (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي والذين يوقنون بيوم القيامة أو بالمعاد والحساب والجزاء ، لا يشكون فيه ولا يجحدونه ، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب. وهذا دليل على أن العمل له غاية تدفع إلى تصحيح الاعتقاد والقول والفعل.

٥ ـ الخوف من عذاب الله : (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، إِنَ

١٢٢

عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي والذين هم خائفون وجلون من عذاب الله إذا تركوا الواجبات ، واقترفوا المحظورات ، فإن العذاب واقع حتما ، ولا ينبغي لأحد أن يأمنه ، وعلى كل واحد أن يخافه ، إلا بأمان من الله تعالى.

ونظير الآية : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال ٨ / ٢].

وقوله عزوجل : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٦٠].

وهذا دليل على أن الخوف من العقاب باعث على الطاعة وزاجر عن المعصية ، وأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله ، وإن بالغ في الطاعة.

٦ ـ العفة والبعد عن الفاحشة : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي والذين يكفون فروجهم عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه ، وهو الزوجة وملك اليمين الذي هو الإماء ، فلا لوم في الاستمتاع المشروع بهما ، أما من قصد غير ذلك فهم المتجاوزون الحدود ، المعتدون الذين يلحقون الضرر بأنفسهم وبأمتهم.

وهذا دليل على حرمة كل ما عدا الزواج ونحوه من الاستمتاع بالإماء ، حينما كان الرق قائما في العالم.

٧ ـ ٨ : أداء الأمانات والوفاء بالعهود : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي الذين يؤدون الأمانات التي يؤتمنون عليها إلى أهلها ، ويوفّون بالمعاهدات ، ولا ينقضون شيئا من العهود التي يعقدونها على أنفسهم ، فإذا اؤتمنوا لم يخونوا ، وإذا عاهدوا لم يغدروا. وهذه صفات المؤمنين ، وضدها صفات المنافقين ، كما ورد في الحديث الصحيح : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ،

١٢٣

وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» وفي رواية : «إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر».

٩ ـ أداء الشهادة بحق : (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي الذين يؤدون الشهادة عند القضاة بحق ، ويحافظون عليها دون زيادة ولا نقصان ، ودون مجاملة لقريب أو بعيد ، أو رفيع أو وضيع ، ولا يكتمونها ولا يغيرونها.

١٠ ـ الحفاظ على الصلاة الكاملة : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يحافظون على مواقيت الصلاة وأركانها وواجباتها ومستحباتها ، لا يخلّون بشيء منها ، ولا يشتغلون بشاغل عنها ، ولا يفعلون بعدها ما يتناقض أو يتعارض معها ، فيبطل ثوابها ويحبط أجرها ، فيدخلون في صلاتهم بحماس ورغبة ، ويفرغون قلوبهم من شواغل الدنيا ، ويفكرون فيما يقرءون أو يرددون من الأذكار ، وتحضر قلوبهم مع الله ، ويفهمون أي القرآن الكريم.

(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي أولئك الموصوفون بالصفات السابقة ، مستقرون في جنات الخلود ، مكرمون بأنواع الكرامات ، وألوان الملاذ والمسارّ ، كما جاء في الحديث الذي رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد : «في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ كل إنسان مخلوق بطبائع معينة أساسها الحرص والجزع ، ويجمعها صفة الهلع : وهو في اللغة : أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشة ، فلا يصبر على خير ولا شر ، حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي ، فإذا مسّه الخير لم يشكر ، وإذا مسّه الضر لم يصبر.

١٢٤

٢ ـ إن شأن المؤمنين المصلين البعد عن الصفات الذميمة المبنية على الهلع ، فصلاتهم الصحيحة الكاملة تربي فيهم الأخلاق الكريمة ، وتمنعهم عن الأوصاف السيئة.

فتراهم يؤدون الصلاة المكتوبة على وجهها الصحيح ، وفي مواقيتها المطلوبة شرعا ، ويداومون عليها دون انقطاع ولا تضييع ، ويؤدون الزكاة المفروضة للفقراء والمساكين ، ويؤمنون بيوم الجزاء وهو يوم القيامة ، ويخافون من عذاب ربّهم ، فهو العذاب الشديد الذي لا يأمنه أحد ، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه.

ويحافظون على فروجهم من الزنى أو الفاحشة ، ولا يستمتعون بالنساء إلا من طريقين فقط ، هما : الزواج والتسرّي بالإماء ، ومن قصد غير ذلك فهو من المعتدين المتجاوزين حدود الله تعالى.

ويرعون الأمانات ، ويوفون بالمواثيق والمعاهدات ، ويؤدون الشهادات عند الحكام بحق وصدق على من كانت عليه من قريب أو بعيد ، ولا يكتمونها ولا يغيرونها.

ويحافظون على كيفية الصلاة المقررة شرعا ، من وضوء وإتمام ركوع وسجود ، وسكون وخشوع ، دون اشتغال عنها بشيء من الشواغل ، لا قبل الدخول فيها ، ولا في أثنائها ، ولا بعد الفراغ منها بالاحتراز عن الإتيان بعدها بشيء من المعاصي.

وجزاء هؤلاء المتصفين بالصفات المذكورة ، والذي وعد به الله عزوجل هو الظفر بالجنات ، والإكرام فيها بأنواع المكرمات.

١٢٥

أحوال الكفار المكذبين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا والآخرة

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

الإعراب :

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) ما : في موضع رفع مبتدأ ، وخبره : (لِ الَّذِينَ) و (كَفَرُوا) : صلة «الذين» ، و (قِبَلَكَ) : ظرف مكان في موضع الحال من ضمير (كَفَرُوا) أو من المجرور : (لِ الَّذِينَ) أي كائنين قبلك. و (مُهْطِعِينَ) : حال بعد حال ، و (عِزِينَ) : حال من ضمير (مُهْطِعِينَ) أو (الذين). و (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) : من صلة (عِزِينَ). و (عِزِينَ) جمع عزة ، وأصلها عزوة أو عزهة مثل سنة ، ثم حذفت اللام ، وجمعت بالواو والنون عوضا عن المحذوف ، مثل سنون.

(إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ عَلى) : في موضع نصب ، متعلق ب (قادرون) و (نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) : تقديره نبدّلهم بخير منهم ، فحذف المفعول الأول ، وحرف الجر من الثاني.

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً يَوْمَ) : بدل من قوله : (يَوْمَهُمُ) في قوله تعالى : (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ) أي حتى يلاقوا يوم يخرجون. و (سِراعاً) : حال من واو (يَخْرُجُونَ).

وكذلك قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) حال من ضمير (يَخْرُجُونَ).

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) حال من واو (يُوفِضُونَ) وكذلك (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ).

١٢٦

(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) تقديره : ذلك اليوم الذي كانوا يوعدونه ، فحذف المفعول العائد إلى الاسم الموصول وهو (الَّذِي) تخفيفا ، مثل : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان ٢٥ / ٤١] أي بعثه. و (ذلِكَ) : مبتدأ وما بعده الخبر.

البلاغة :

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ ..) استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ.

(كَلَّا ، إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) كناية عن المني ، مع نزاهة التعبير ، وحسن التذكير.

(كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) تشبيه مرسل مجمل ، وفي التشبيه تهكم بهم ، وتعريض بسخف عقولهم ، وتجهيل لهم بعبادة غير الله.

المفردات اللغوية :

(قِبَلَكَ) حولك وناحيتك أو نحوك. (مُهْطِعِينَ) مسرعين مديمي النظر نحوك. (عِزِينَ) جماعات متفرقين حلقات ، جمع عزة ، وأصلها عزوة من العزو ، كأن كل فرقة تعتزي وتنتسب إلى غير من تعتزي إليه الأخرى وتستقل برأي خاص ، وعزين من المنقوص الذي جاز جمعه بالواو والنون عوضا من المحذوف ، مثل عضين. (أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) إنكار لقولهم : لو صح ما يقوله محمد لنكون فيها أفضل حظا منهم كما في الدنيا. (كَلَّا) ردع لهم عن الطمع في الجنة.

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي خلقناهم وغيرهم من نطف مهينة ، فمن لم يستكمل نفسه بالإيمان والطاعة ولم يتخلق بأخلاق الملائكة ، لم يتأهل لدخول الجنة. (فَلا أُقْسِمُ) أي أقسم ، ولا : زائدة. (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) أي للشمس والقمر وسائر الكواكب. (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم ، أو نأتي بدلهم. (بِمَسْبُوقِينَ) بعاجزين أو بمغلوبين. (فَذَرْهُمْ) اتركهم. (يَخُوضُوا) يتحدثوا في باطلهم. (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم. (حَتَّى يُلاقُوا) يلقوا. (الَّذِي يُوعَدُونَ) فيه العذاب.

(الْأَجْداثِ) القبور ، جمع جدث. (سِراعاً) مسرعين إلى المحشر ، جمع سريع.(نُصُبٍ) والنّصب جمع أنصاب ، والنصب : كل شيء منصوب كالعلم أو الراية ، والمراد هنا : ما ينصب للعبادة ، وقرئ : نصب بالسكون. (يُوفِضُونَ) يسرعون. (خاشِعَةً) ذليلة كسيرة. (تَرْهَقُهُمْ) تغشاهم. (ذلِكَ الْيَوْمُ) أي يوم القيامة.

١٢٧

سبب النزول :

نزول الآية (٣٨):

(أَيَطْمَعُ) : قال المفسرون : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمعون كلامه ، ولا ينتفعون به ، بل يكذبون به ويستهزئون ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة ، لندخلنها قبلهم ، وليكوننّ لنا فيها أكثر مما لهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (١).

المناسبة :

بعد أن وعد الله تعالى المتصفين بصفات عشر بالجنات والإكرام ، ذكر أحوال الكفار في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيسرعون إلى الكفر ، لذا توعدهم الله بالإبادة والهلاك ، وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم حتى يوم البعث ، وأما في الآخرة فيخرجون من قبورهم مسرعين إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان ، وتكون أبصارهم ذليلة ، وتغشاهم المذلة بسبب تكذيبهم بيوم القيامة.

التفسير والبيان :

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي ما بال هؤلاء الكفار حواليك أيها النبي مسرعين إلى الكفر والتكذيب والاستهزاء بك ، وتراهم عن يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن شماله جماعات متفرقة ، شاردين فرقا فرقا ، وشيعا شيعا ، فارين منه ، متفرقين عنه ، كما قال تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [المدّثر ٧٤ / ٤٩ ـ ٥١].

وقيل : مهطعين : مادّي أعناقهم ، مديمي النظر إليك.

ثم تهكم الله تعالى بتمنياتهم الجنة وأيأسهم من دخول الجنات ، فقال :

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٢٥٠

١٢٨

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ)؟ أي أيطمع هؤلاء المشركون ، وحالتهم هذه من الكفر والتكذيب والفرار من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفرتهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم؟! كلا ، بل مأواهم جهنم ، كما قال تعالى :

(كَلَّا ، إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي كلا ، لا أمل في دخولهم الجنة ، فإنا خلقناهم من المني الضعيف ، كما قال تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [المرسلات ٧٧ / ٢٠]. وهذا تقرير لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا حدوثه واستبعدوا وجوده ، بدليل الخلق الأول أو البداءة التي يعترفون بها ، فتكون الإعادة في تقدير البشر أهون منها ، أما بالنسبة لله عزوجل فالبدء والإعادة سواء. وبما أنهم خلقوا من الشيء الضعيف ، فهم ضعاف لا ينبغي منهم هذا التكبر.

أخرج أحمد وابن ماجه وابن سعد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ..) إلى قوله : (كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ثم بزق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كفّه ، ووضع عليها أصبعه ، وقال : «يقول الله : ابن آدم ، أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سوّيتك وعدّلتك ، مشيت بين بردين ، وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت التراقي أتى أوان الصدقة».

ثم أنذرهم الله تعالى بالهلاك إن داموا على الكفر ، وهددهم بإيجاد آخرين مكانهم لكي يؤمنوا ، فقال :

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي فأقسم بمشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها كل يوم من أيام السنة ، على أن نخلق أمثل منهم ، وأطوع لله ممن عصره ، ونهلك

١٢٩

هؤلاء ، ولن يعجزنا شيء ، وما نحن بمغلوبين إن أردنا ذلك ، بل نفعل ما أردنا ، لكن اقتضت مشيئتنا وحكمتنا تأخير عقابهم.

وهذا دليل على كمال قدرته تعالى على الإيجاد والإعدام مؤكدا بالقسم ، وأنه لا يعجزه شيء من الممكنات. وهو تهكم بهم وتنبيه على تناقض كلامهم ، حيث إنهم ينكرون البعث ، ثم يطمعون في دخول الجنة ، وهم يعترفون بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم مما يعلمون ، ثم لا يؤمنون بأنه قادر على خلقهم مرة ثانية.

ثم أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم حتى يوم البعث زيادة في التهديد ، فقال:

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ، حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي اتركهم يا محمد يتحدثون في باطلهم ، ويلعبوا في دنياهم ، ويعاندوا في تكذيبهم وكفرهم وإنكارهم يوم البعث ، حتى يلقوا يوم القيامة وما فيه من أهوال ، ويذوقوا وباله ، ويجازوا بما عملوا.

ومن أحوالهم في هذا اليوم :

ـ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) أي اذكر يوم يقومون من القبور بدعوة الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ، مسرعين ، متسابقين ، كأنهم في إسراعهم إلى الموقف ، كما كانوا في الدنيا يهرولون أو يسرعون إلى شيء منصوب ، علم أو راية ، والمراد بالنصب هنا : كل ما ينصب فيعبد من دون الله سبحانه. وقوله : (يُوفِضُونَ) : يسرعون ويتسابقون إليه.

ـ (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وتكون أبصارهم ذليلة كسيرة ، وتغشاهم المذلة الشديدة ، لهول العذاب الذي

١٣٠

يواجههم ، وفي مقابلة استكبارهم عن الطاعة في الدنيا ، ذلك اليوم المشتمل على الأهوال العظام هو اليوم الذي أوعدهم الله به ، وأنذرهم بملاقاته ، وكانوا يكذبون به ، وليتهم آمنوا به ، فنجوا من العذاب.

وعبر عن ذلك اليوم بلفظ الماضي ؛ لأن ما وعد الله به يكون آتيا لا محالة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أنكر الله تعالى على الكفار حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسارعتهم إلى الكفر والتكذيب برسالته والاستهزاء به ، فما بالهم يسرعون إليه ويجلسون حواليه ، ولا يعملون بأوامره ، وتراهم عن يمينه وشماله حلقا حلقا ، وجماعات متفرقين.

٢ ـ ثم أنكر عليهم تناقضهم وتعارض أقوالهم ومواقفهم ، فهم يكذّبون برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستهزئون بأصحابه ، وينكرون البعث ، ثم يقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم ، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه!! فرد الله عليهم بقوله : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) أي إنهم منكرون للبعث ، فكيف يطمعون في دخول الجنة؟

٣ ـ أيأسهم الله تعالى من دخول الجنة ، فأخبر بأنهم لا يدخلونها ، لاستكبارهم ، فهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ؛ كما خلق سائر جنسهم ، فلا يليق بهم هذا التكبر ، وليس لهم فضل يستوجبون به الجنة ، وإنما تستوجب الجنة بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى.

روي أن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف (١) خزّ ، وجبّة خزّ ، فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها

__________________

(١) المطرف : واحد المطارف : وهي أردية من خز مربعة لها أعلام.

١٣١

الله؟ فقال له : أتعرفني؟ قال : نعم ، أولك نطفة مذرة (١) ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة ، فمضى المهلب وترك مشيته.

٤ ـ أقسم الله لإثبات البعث والرد على المشركين المنكرين له بمشارق الشمس ومغاربها على أنه قادر على إهلاكهم والذهاب بهم ، والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال ، لا يفوته شيء ، ولا يعجزه أمر يريده. ولم يقع التبديل ، وإنما هدد تعالى القوم بذلك ليؤمنوا.

٥ ـ أوعد الله تعالى المشركين وهددهم بعذاب القيامة ، آمرا نبيه عليه‌السلام أن يتركهم يخوضوا في باطلهم ، ويلعبوا في دنياهم ، على جهة الوعيد ، وأن يشتغل بما أمر به ، ولا يهمه شركهم ، فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا.

٦ ـ وصف الله حال المشركين يوم البعث بأنهم حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي يخرجون مسرعين من القبور ، كأنهم كما كانوا في الدنيا يسرعون ويتسابقون إلى النّصب : أي ما نصب فعبد من دون الله.

ووصفهم أيضا بأن أبصارهم تكون ذليلة خاضعة ، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله ، وتغشاهم مذلة وهوان.

٧ ـ إن هذا اليوم وهو يوم القيامة الذي يكون فيه الكفار على تلك الأوصاف هو اليوم الذي كانوا يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب ، ووعد الله آت لا محالة.

__________________

(١) مذرة : الفساد.

١٣٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة نوح عليه‌السلام

مكيّة ، وهي ثمان وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة نوح باسم نبي الله عليه‌السلام وقصته مع قومه من بداية دعوته إلى الطوفان ، كما جاء في مطلع السورة : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ..).

مناسبتها لما قبلها :

هناك وجهان لاتصال هذه السورة بما قبلها :

١ ـ تشابه مطلع السورتين في ذكر العذاب الذي وعد به الكفار : قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سورة المعارج ، وقوم نوح عليه‌السلام في هذه السورة.

٢ ـ لما قال تعالى في أواخر المعارج : (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) [٤١] عقبه بقصة نوح المشتملة على إغراق قومه إلا من آمن ، وتبديلهم بمن هم خير منهم ، فوقعت موقع الاستدلال وإثبات خبر القدرة على التبديل ، كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الاستدلال على ما ختم به (تَبارَكَ).

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة كغيرها من السور المكية التي عنيت بغرس أصول العقيدة ،

١٣٣

وتبيان عناصر الإيمان ، من عبادة الله وطاعته ، وإبطال عبادة الأصنام والأوثان ، والاستدلال على وجود الله ووحدانيته وقدرته.

افتتحت السورة ببيان إرسال الله تعالى نوحا إلى قومه ، وقيامه بإنذارهم ومطالبتهم بالإقلاع عن ذنوبهم ، ليغفر الله لهم ، وليمدهم بالأموال والبنين ، وليجعل لهم جنات ، يفجر فيها الأنهار ، ولكنهم أبوا دعوته ، وأمعنوا في الضلال والعصيان : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ..) [الآيات ١ ـ ١٤].

ثم أمرهم تعالى للاستدلال على وجوده ووحدانيته وقدرته والإقبال على طاعته وتعرف نعمه بالنظر في خلق السموات والأرض ، والتأمل في خلق الإنسان ، وفيما أنعم به على الناس من تذليل الأرض وتسخيرها للنفع ، وإيداع لكنوز والمعادن فيها ، والتنقل في نواحيها ، وسلوك السبل الواسعة فيها : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ..) [الآيات ١٥ ـ ٢٠].

وختمت السورة ببيان كفر قومه وإصرارهم على عبادة الأصنام ، وعقابهم في الدنيا والآخرة ، ودعاء نوح عليه‌السلام على قومه بالهلاك والدمار بعد جهاد طويل في الدعوة دام تسع مائة وخمسين سنة ، دون أن يقلعوا عن الشرك ، ولم ينتفعوا بالإنذار والتذكير : (قالَ نُوحٌ : رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ..) [الآيات ٢١ ـ ٢٨].

١٣٤

إرسال نوح عليه‌السلام إلى قومه

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

الإعراب :

(أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أَنْ) : إما مفسرة بمعنى (أي) لتضمن الإرسال معنى القول ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وإما في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، أي بأن أنذر.

المفردات اللغوية :

(أَنْ أَنْذِرْ) أي بأن أنذر ، أو بإنذار. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ) إن لم يؤمنوا. (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم ، في الدنيا بالطوفان ، وفي الآخرة بنار جهنم. (نَذِيرٌ مُبِينٌ) بيّن الإنذار. (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) بأن اعبدوا الله. (مِنْ ذُنُوبِكُمْ مِنْ) زائدة ، فإن الإيمان يغفر به ما قبله ، أو تبعيضية لإخراج حقوق العباد. (وَيُؤَخِّرْكُمْ) بلا عذاب. (أَجَلٍ مُسَمًّى) أجل مقدر بوقت معلوم لا يتجاوزه ، وهو أقصى ما قدر لكم ، وهو أجل الموت. (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) إن الأجل الذي قدّره. (إِذا جاءَ) على الوجه المقدر به أجلا. (لا يُؤَخَّرُ) فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير. (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ، ولآمنتم. وفيه دلالة على أنهم لانهماكهم في حب الحياة العاجلة ، كأنهم شاكون في الموت.

التفسير والبيان :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إنا بعثنا نوحا أول رسول أرسله الله إلى قومه ، وقلنا له : أنذر قومك بأس الله قبل أن يأتيهم عذاب شديد الألم ، وهو عذاب النار ، أو الإغراق بالطوفان ، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم.

١٣٥

(قالَ : يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) قال نوح لقومه : إني منذر من عقاب الله ومخوّف لكم ، بيّن الإنذار ، واضح الاعلام ، أبيّن لكم ما فيه نجاتكم ، ومضمون الإنذار :

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاتَّقُوهُ ، وَأَطِيعُونِ) أي آمركم أن تعبدوا الله وحده لا شريك له ، وأن تؤدوا حقوقه ، وتمتثلوا أوامره ، وتجتنبوا ما يوقعكم في عذابه ؛ وتطيعوني فيما آمركم به ، فإني رسول إليكم من عند الله تبارك وتعالى.

والتقوى : امتثال الأوامر ، واجتناب المحارم والمآثم.

والتكليف بهذه الأمور الثلاثة له ثمرتان :

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يستر لكم بعض ذنوبكم ، ويسامحكم فيما فرط منكم من الزلّات ، ويمد في أعماركم ويؤخر موتكم إلى الأمد الأقصى الذي قدّره الله لكم ، إن آمنتم وأطعتم ، وهذا وعد على العبادة والطاعة بشيئين : أحدهما ـ دفع مضار الآخرة : وهو غفران الذنوب ، والثاني ـ تحقيق منافع الدنيا ، وهو تأخير الأجل إلى أقصى الإمكان.

وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن الطاعة والبر وصلة الرحم ، يزاد بها في العمر حقيقة ، كما ورد في الحديث الذي رواه أبو يعلى عن أنس : «صلة الرحم تزيد في العمر». قال الزمخشري : قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمّرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم ، أهلكهم على رأس تسع مائة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى ، أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه ، لا تتجاوزونه ، وهو الوقت الأطول تمام الألف (١).

__________________

(١). ٣ / ٢٧٠

١٣٦

(إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ما قدّره لكم إذا جاء ، وأنتم باقون على الكفر ، لا يؤخر بل يقع لا محالة فبادروا إلى الإيمان والطاعة ، لو كنتم تعلمون ، لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر عن وقته. والمعنى : أن الأجل حتمي لا يؤجل ، ولكن له تعلق وارتباط بشيء آخر ، ففي حال الإيمان والطاعة يكون الأجل الأطول ، ثم لا بد من الموت ، وفي حال الكفر والمعصية يكون الأجل الأقصر ، ثم يكون الموت.

والعاقل هو الذي يبادر إلى الطاعة قبل حلول النقمة ، فإنه إذا أمر تعالى بالعقاب لا يرد ولا يمانع. وأضاف تعالى الأجل إليه سبحانه ؛ لأنه الذي أثبته.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ أرسل الله تعالى رسوله نوحا عليه‌السلام إلى قومه ، لينذرهم ويخوفهم إن أصروا على الكفر العذاب المؤلم وهو عذاب النار في الآخرة ، وما نزل عليهم من الطوفان في الدنيا. روى قتادة عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول رسول أرسل نوح ، وأرسل إلى جميع أهل الأرض». فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا.

٢ ـ امتثل نوح عليه‌السلام أمر ربه ، فبلغ قومه رسالته قائلا : يا قوم إني لكم نذير واضح الإنذار ، فمن عصى الله دخل النار ، وآمركم أن توحدوا الله وتعبدوه حق العبادة الخالصة له ، وأن تخافوه ، وأن تطيعوه فيما آمركم به ، فإني رسول الله إليكم. والأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح. والأمر بالتقوى يتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات ، والطاعة تشمل إطاعة جميع المأمورات والمنهيات.

١٣٧

فإن التزمتم العبادة والخوف من الله والطاعة لأوامره ، غفر لكم بعض الذنوب ، وهو ما لا يليق بحقوق المخلوقين ، وينسئ في أعماركم. والمعنى : أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا ، بارك في أعمارهم ، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب.

٣ ـ إذا جاء الموت المحتم وقوعه لا يؤخر ، بعذاب كان أو بغير عذاب. ولو كنتم أيها الناس تعلمون ، لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخّر. وهذا زجر لهم عن حب الدنيا ، والإعراض عن أحكام الدين أوامره ونواهيه.

مناجاة نوح ربه وشكواه إليه

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

١٣٨

الإعراب :

(جِهاراً) منصوب على المصدر ب (دَعَوْتُهُمْ) لأن الجهار أحد نوعي الدعاء ، فنصب به ، مثل قعدت القرفصاء ، أو صفة لمصدر دعا أي دعاء جهارا ، أو حال ، أي مجاهرا.

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً يُرْسِلِ) : مجزوم لأنه جواب الأمر ، بتقدير إن ، أي إن تستغفروا ربكم يرسل السماء عليكم مدرارا. و (مِدْراراً) : حال من السماء ، ولم تؤنث مدرار لأن مفعال في المؤنث يكون بغير تاء ، مثل : امرأة معطار ومذكار ومئناث ؛ لأنها في معنى النسب ، كقولهم : امرأة طالق وحائض وطامث ، أي ذات طلاق وحيض وطمث. (أَطْواراً) في موضع الحال.

(طِباقاً) إما صفة ل (سَبْعَ) أو منصوب على المصدر. (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَ) أي في إحداهن.

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً نَباتاً) : منصوب على المصدر ، والعامل فيه إما مقدر ، تقديره : والله أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا ، أو يكون مصدر (أَنْبَتَكُمْ) على حذف الزائد.

البلاغة :

(لَيْلاً) و (نَهاراً) بينهما طباق ، وكذا بين (جِهاراً) و (إِسْراراً) وبين (أَعْلَنْتُ) و (أَسْرَرْتُ) وبين (يُعِيدُكُمْ) و (يُخْرِجُكُمْ).

(جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) مجاز مرسل ، إذ المراد رؤوس أصابعهم ، من إطلاق الكل وإرادة الجزء.

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) استعارة تبعية في (أَنْبَتَكُمْ) شبه إنشاءهم وخلقهم أطوارا بالنبات الذي ينمو تدريجيا.

(وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) ذكر المصدر للتأكيد ، وهو ما يسمى بالإطناب. وبين (يُعِيدُكُمْ) و (يُخْرِجُكُمْ) طباق.

(مِدْراراً) ، (أَنْهاراً) ، (وَقاراً) ، (أَطْواراً) إلخ سجع مرصع مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(دَعَوْتُ قَوْمِي) أي إلى الإيمان. (لَيْلاً وَنَهاراً) أي دائما متصلا. (إِلَّا فِراراً) هربا عن الإيمان والطاعة وتفلتا منهما. (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الإيمان والطاعة. (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ

١٣٩

فِي آذانِهِمْ) سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة. (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) تغطوا بها لئلا يروني كراهة النظر إلي. والتعبير بصيغة الدعوة أو الطلب للمبالغة. (وَأَصَرُّوا) وأكبوا على الكفر والمعاصي. (وَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان واتباعي. (اسْتِكْباراً) عظيما.

(جِهاراً) بأعلى صوتي. (أَعْلَنْتُ لَهُمْ) صوتي. (وَأَسْرَرْتُ) الكلام ، أي دعوتهم مرة بعد أخرى ، وكرة بعد أولى ، على أي وجه أمكنني. وكلمة (ثُمَ) لتفاوت الوجوه والتفنن في الأسلوب والدعوة. (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا المغفرة من الكفر أو الشرك ، بالتوبة من ذلك. (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) للتائبين. (يُرْسِلِ السَّماءَ) أي المطر ، وكان قد حبس الله عنهم المطر أربعين سنة ، وأعقم أرحام نسائهم ، فوعدهم بذلك على الاستغفار عما كانوا عليه ، ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء. (مِدْراراً) غزيرا متتابعا كثير الدور.

(جَنَّاتٍ) بساتين. (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ) لا تخافون أو لا تأملون. (وَقاراً) عظمة وإجلالا وتوقيرا ، والمعنى على قوله : «لا تأملون» : مالكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. وإنما عبر عن الاعتقاد بالرجاء المشتمل على أدنى الظن مبالغة. (أَطْواراً) جمع طور أي أحوالا وهيئات وعلى مراحل وأدوار في النمو والخلقة ، كأنه قال : ما لكم لا تؤمنون بالله ، والحال هذه ، وهي حال موجبة للإيمان به؟! خلقكم أولا من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم خلق العظام واللحم ، ثم أنشأكم خلقا آخر ، من طفولة ، فشباب ، فكهولة.

(أَلَمْ تَرَوْا) تنظروا. (طِباقاً) متطابقة ، بعضها فوق بعض. (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَ) أي في السموات ، وهو في السماء الدنيا. (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي كالسراج وهو المصباح المضيء الذي يزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض. (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أي خلقكم وأنشأكم من الأرض إنشاء ، إذ خلق أباكم آدم منها ، فاستعير الإنبات للإنشاء ؛ لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) مقبورين. (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) بالبعث والحشر ، وأكده بالمصدر ، كما أكّد به قوله : (أَنْبَتَكُمْ) للدلالة على أن الإعادة محققة كالبدء ، وأنها تكون لا محالة.

(بِساطاً) ممهدة منبسطة كالبساط ، تتقلبون عليها. (فِجاجاً) واسعة ، جمع فج.

المناسبة :

بعد أن أخبر الله تعالى عن إرسال نوح عليه‌السلام إلى قومه ، وامتثاله أمر ربه ، ذكر مناجاته لربه وشكواه إليه ، أنه دعاهم وأنذرهم ، فعصوه وتمردوا عليه ، بالرغم من تغيير أساليب الدعوة ، والوعد بإنزال الأمطار ، والإمداد بالأموال والبنين ، وتخصيص الجنات والأنهار ، وبالرغم من إقامة الأدلة على عظمة الله

١٤٠