التفسير المنير - ج ٢٩

الدكتور وهبة الزحيلي

٦ ـ طعام أهل النار الخاطئين (المذنبين) : الغسلين : وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وفروجهم ، قال قتادة : هو شر الطعام وأبشعه ، وفي آية أخرى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [الغاشية ٨٨ / ٦] والضريع : شيء في النار كالشوك مرّ منتن.

تعظيم القرآن وإثبات نزوله بالوحي

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

الإعراب :

(قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) صفة للمفعول المطلق ل (تُؤْمِنُونَ) أي تصدقون تصديقا قليلا ، و (ما) مزيدة للتأكيد.

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ تَنْزِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو تنزيل. (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ مِنْ أَحَدٍ) في موضع رفع ، لأنه اسم (فَما) لأن (مِنْ) زائدة لتأكيد النفي ، و (مِنْكُمْ) حال (مِنْ أَحَدٍ) ، و (حاجِزِينَ) خبر. (فَما). و (عَنْهُ) في موضع نصب لأنه يتعلق ب (حاجِزِينَ) التقدير : فما منكم أحد حاجزين عنه. وجمع (حاجِزِينَ) وإن كان وصفا ل (أَحَدٍ) لأنه في معنى الجمع ، فجمع حملا على المعنى ، فإنه عام والخطاب للناس ، ولأن أحدا في سياق النفي بمعنى الجمع ، مثل (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة ٢ / ٢٨٥]. ولم يبطل (مِنْكُمْ) عمل (فَما) لأن الفصل بالجار والمجرور والظرف لا يؤثر.

١٠١

البلاغة :

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ، وَما لا تُبْصِرُونَ) بينهما طباق السلب.

المفردات اللغوية :

(فَلا أُقْسِمُ) لا حاجة للقسم لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم ، أو أن المراد بهذه الصيغة القسم ، أي فأقسم ، وهو مستأنف ، ولا : زائدة. (بِما تُبْصِرُونَ) من المشاهدات والمخلوقات. (وَما لا تُبْصِرُونَ) أي بما غاب عنكم ، فهذا قسم بالمشاهدات والمغيبات ، وذلك يتناول الخالق والمخلوقات بأسرها.

(إِنَّهُ) أي القرآن. (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي لقول جبرائيل أو محمد عليهما‌السلام ، رسول كريم على الله ، يبلغه عن الله تعالى ، فإن الرسول لا يقول عن نفسه ، والمراد به هنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الأكثرين. وأما المراد به في سورة التكوير فهو جبريل عليه‌السلام في قول الأكثرين. (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) كما يزعمون ؛ لأن الرسول ليس بشاعر. (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) كما يزعمون تارة أخرى ، والكاهن : من يدعي معرفة الغيب. (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) أي تصدقون تصديقا قليلا ، والقلة بمعناها الظاهر ، وحمل الزمخشري القلة على العدم والنفي ، أي لا تؤمنون البتة ، وقال أبو حيان : لا يراد ب (قَلِيلاً) هنا النفي المحض كما زعم الزمخشري ، فإن هذا لا يكون في حال النصب ، وإنما في حال الرفع (ما تَذَكَّرُونَ) تتذكرون ، وقرئ : يذكرون بالياء ، و (ما) مزيدة للتأكيد. والخلاصة : أنهم آمنوا بأشياء يسيرة ، وتذكّروها ، مما أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخير والصلة والعفاف ، فلم تغن عنهم شيئا.

(تَنْزِيلٌ) بل هو تنزيل. (تَقَوَّلَ) أي النبي ، سمى الافتراء تقولا ؛ لأنه قول متكلّف ، والأقوال المفتراة أقاويل ، تحقيرا بها. (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لنلنا منه عقابا بالقوة والقدرة. (الْوَتِينَ) نياط القلب ، وهو عرق متصل بالقلب ، إذا انقطع مات صاحبه. (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ) أي لا أحد عن القتل أو عن النبي. (حاجِزِينَ) مانعين أو دافعين ، والمراد : لا مانع لنا عنه من حيث العقاب.

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي وإن القرآن لموعظة لأهل التقوى ؛ لأنهم المنتفعون به. (أَنَّ مِنْكُمْ) أيها الناس. (مُكَذِّبِينَ) بالقرآن ، ومنكم مصدّقين. (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) ، وإن القرآن لحسرة عليهم إذا رأوا ثواب المؤمنين المصدقين به ، وعقاب المكذبين به. (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) وإن القرآن اليقين الحق الذي لا ريب فيه. (فَسَبِّحْ) نزّه الله بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه ، وشكرا على ما أوحى إليك. وباء (بِاسْمِ) زائدة.

١٠٢

سبب النزول :

نزول الآيات (٣٨ ـ ٤٠):

(فَلا أُقْسِمُ) : قال مقاتل : سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمدا ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال عقبة : كاهن ، فقال الله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ ..) أي أقسم.

المناسبة :

بعد الإخبار عن إمكان القيامة ووقوعها ، وبيان أحوال السعداء والأشقياء فيها ، ختم الكلام بتعظيم القرآن وإثبات كونه كلام الله تعالى المنزّل على قلب رسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

التفسير والبيان :

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي أقسم لخلقي بما تشاهدون من المخلوقات الدالة على كمالي في أسمائي وصفاتي ، وبما غاب عنكم من المغيبات ، أو أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله على عبده ورسوله الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، وإنه لتلاوة رسول كريم ، وقول يبلّغه رسول كريم ، مؤدى عن الله بطريق الرسالة.

وإنما أضافه إلى الرسول على معنى التبليغ ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلّغ عن المرسل. وفي ذكر «الرسول» إشارة إلى أن هذا القرآن ليس قوله من تلقاء نفسه ، وإنما هو قوله المؤدى عن الله بطريق الرسالة. وفي وصفه بالكرم إشارة إلى أمانته ، وأنه ليس ممن يغير الرسالة طمعا في أغراض الدنيا الخسيسة.

والأكثرون على أن الرسول الكريم هنا هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه ذكر بعده أنه

١٠٣

ليس بقول شاعر ولا كاهن ، والقوم ما كانوا يصفون جبرائيل بالشعر والكهانة ، وإنما يصفون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما في سورة التكوير فالأكثرون على أنه جبرائيل عليه‌السلام ، لأن الأوصاف التي بعده تناسبه ، كما سيأتي.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ ، قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) أي ليس القرآن بقول شاعر ، كما تزعمون ؛ لأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بشاعر ، ولأن آيات القرآن ليست من أصناف الشعر ، وأنتم تؤمنون إيمانا قليلا ، وتصدقون تصديقا يسيرا. والقلة على ظاهرها وهي إقرارهم إذا سئلوا : من خلقكم؟ قالوا : الله. ويحتمل أن يكون المتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي ؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا ؛ إذ كانوا يصدّقون أن الخير والصلة والعفاف ونحوه الذي كان يأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو حق صواب.

وإنما قال عند نفي الشعر عنه : (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) وعند نفي الكهانة : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبيّن المحسوس.

أما من حيث اللفظ فظاهر ؛ لأن الشعر كلام موزون مقفّى ؛ وألفاظ القرآن ليست كذلك إلا النادر غير المتعمد. وأما من جهة التخيل فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدّق ولا يعاند.

وانتفاء الكهانة عنه يحتاج إلى تأمل ، فإن كلام الكهان أسجاع لا معاني لها ، وأوضاع تنبو عنها الطباع ، وأيضا في القرآن سب الشياطين وذم سيرتهم ، والكهان إخوان الشياطين ، فكيف رضوا بإظهار قبائحهم (١).

__________________

(١) غرائب القرآن للحسن القمي النيسابوري : ٢٩ / ٤٢.

١٠٤

(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي وليس القرآن بقول كاهن (وهو من يدعي الغيب في المستقبل) كما تزعمون ، فإن الكهانة أمر آخر لا جامع بينها وبين القرآن ، ولان القرآن ورد بسبب الشياطين ، فلا يعقل أن يكون بإلهامهم ، ولكنكم تتذكرون تذكرا قليلا ، ولذلك يلتبس الأمر عليكم ، فلا تتذكرون كيفية نظم القرآن ، واشتماله على شتم الشياطين ، فقلتم : إنه كهانة. ثم صرح تعالى بالمقصود ، فقال :

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي بل هو تنزيل من الله رب الإنس والجن ، نزل به جبريل الأمين على قلب رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول هذا الرسول بمعنى أنه مبلّغ له عن المرسل ، وهو الذي أظهره للخلق ، ودعا الناس إلى الإيمان به ، وجعله حجة لنبوته.

روى الإمام أحمد عن شريح بن عبيد قال : قال عمر بن الخطاب : «خرجت أتعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد ، فقمت خلفه ، فاستفتح سورة الحاقة ، فجعلت أعجب من تأليف القرآن ، قال : فقلت : كاهن ، قال : فقرأ : (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) إلى آخر السورة ، قال : فوقع الإسلام في قلبي كل موقع ، قال ابن كثير : فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

ثم أكد الله تعالى أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يستطيع أن يفتعل القرآن ، فقال :

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي ولو افترى محمد أو جبريل شيئا من الأقوال الباطلة ، وجاء به من عند نفسه ونسبه إلى الله على سبيل الفرض ، لأخذناه بالقوة ، وعاجلناه بالعقوبة ، وانتقمنا منه ، أو لأخذنا بيمينه ، كما يؤخذ الشخص عند إرادة قتله. فاليمين : القوة ، كما قال الشمّاخ :

١٠٥

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) أي ثم بترنا الوتين من قلبه ، وهو عرق متصل من القلب بالرأس ، إذا انقطع مات صاحبه. وهذا تصوير لإهلاكه بأفظع وأشنع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه.

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) أي ليس منكم أحد يحجزنا عنه ويمنعنا منه أو ينقذه منا ، فكيف يجرأ على تكلف الكذب على الله لأجلكم؟! وجمع : (حاجِزِينَ) على المعنى ؛ لأن قوله : (مِنْ أَحَدٍ) في معنى الجماعة ، يقع في النفي العام على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، مثل قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة ٢ / ٢٨٥] وقوله سبحانه : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب ٣٣ / ٣٢]. والمراد لا أحد يمنعنا عن الرسول أو عن القتل.

ثم ذكر الله تعالى أوصافا ومنافع للقرآن ، فقال :

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي وإن القرآن لعظة وتذكرة لأهل التقوى الذين يخشون عذاب الله بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه ، كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة ٢ / ٢]. وخص المتقين بالذكر ؛ لأنهم المنتفعون به. وناسب ذلك أنه تعالى أوعد المكذبين بقوله :

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) أي وإنا لنوقن أن بعضكم يكذب بالقرآن ، كفرا وعنادا ، ونحن نجازيهم على ذلك ، وبعضكم يصدّق به لاهتدائه إلى الحق. وفي هذا وعيد شديد للمكذبين.

(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وإن هذا القرآن لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب المؤمنين وفضل الله عليهم.

(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي وإن القرآن هو الخبر الصدق واليقين الحق الذي

١٠٦

لا شك فيه ولا ريب ؛ لكونه من عند الله ، وليس من تقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزه الله الذي أنزل هذا القرآن العظيم عما لا يليق به ، بالتسبيح وهو قول : سبحان الله ، وعن الرضا بالتقول عليه ، وشكرا لله على ما أوحى به إليك.

واسم الرب : كل لفظ يدل على الذات الأقدس ، أو على صفة من صفاته كالله والرحمن الرحيم ، وتنزيه الاسم الخاص تنزيه للذات ، فتكون الباء في (بِاسْمِ) زائدة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بالأشياء المخلوقة كلها ، ما يراه الناس وما لا يرونه على أن القرآن العظيم من قول الله عزوجل ، وليس قول الرسول في الحقيقة ، لكن نسب القول في الظاهر إلى الرسول ؛ لأنه تاليه ومبلّغه والعامل به ، كقولنا : هذا قول مالك.

٢ ـ ليس القرآن أيضا بقول شاعر ؛ لأنه مباين لصنوف الشعر كلها ، ولا بقول كاهن ؛ لأنه ورد بسب الشياطين وشتمهم ، فلا يمكن أن يكون ذلك بإلهام الشياطين ، إلا أن المشركين المعاندين لا يقصدون الإيمان ، فلذلك أعرضوا عن التدبر ، ولو قصدوا الإيمان لعلموا كذب قولهم : إنه شاعر ؛ لمغايرة تركيب القرآن أنواع الشعر ، وهم أيضا لا يتذكرون كيفية نظم القرآن ، واشتماله على شتم الشياطين ، فقالوا : إنه نوع من أنواع الكهانة.

٣ ـ إنما القرآن الكريم تنزيل من رب العالمين.

٤ ـ لو فرض جدلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكلّف وأتى بقول من عند نفسه ، لأخذه

١٠٧

الله بالقوة والقدرة ، وعاقبه بالإهلاك ، وتقطيع نياط القلب ، وحينئذ لا أحد من القوم على الإطلاق يحجز عنه العذاب ويمنعه عنه.

٥ ـ مهام القرآن : أنه تذكرة للمتقين الخائفين الذين يخشون الله ، وقد أوعد الله على التكذيب به ، وتكذيب القرآن سبب حسرة الكافرين في القيامة إذا رأوا ثواب المصدّقين به ، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين ؛ لأن القرآن العظيم حق يقين لا ريب فيه ، وحق لا بطلان فيه.

٦ ـ أمر الله نبيه بتسبيحه وتنزيهه عما لا يليق به شكرا له على الإيحاء إليه ، أو على أن عصمه من الافتراء عليه.

١٠٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المعارج

مكيّة ، وهي أربع وأربعون آية.

تسميتها :

سميت سورة المعارج ؛ لافتتاحها بقوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) أي تصعد إليه الملائكة وجبريل الأمين الذي خصه الله بنقل الوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ، وخصه بالذكر لشرفه وفضل منزلته ، وهو المسمّى بالروح في قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٣].

مناسبتها لما قبلها :

نزلت هذه السورة بعد (الْحَاقَّةُ) وهي كالتتمة لها في بيان أوصاف يوم القيامة والنار ، وأحوال المؤمنين والمجرمين في الآخرة.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة كبقية السور المكية تتحدث عن أصول العقيدة الصحيحة ، وفي قمّتها إثبات البعث والنشور ، والجزاء والحساب ، وأوصاف العذاب والنار.

شرعت السورة ببيان موقف أهل مكة من دعوة الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستهزائهم به ، وسؤال الكفار عن عذاب الله واستعجالهم به استهزاء وسخرية وعنادا متمثلا ذلك بالنضر بن الحارث بن كلدة حين طلب إيقاع العذاب ،

١٠٩

والعذاب واقع بهم : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ..) [الآيات : ١ ـ ٧].

ثم وصف يوم القيامة وأهواله ، والنار وعذابها ، وأحوال المجرمين في ذلك اليوم الرهي : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ..) [الآيات : ٨ ـ ١٨].

وناسب ذلك الحديث الاستطرادي عن طبيعة الإنسان وصفاته التي أوجبت له النار ، ومدارها الجزع عند الشدة ، والبطر عند النعمة ، والبخل والشح عند الحاجة والأزمة وعلاج الفقر : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ..) [الآيات : ١٩ ـ ٢١].

واستثنت من ذلك المؤمنين المصلين الذين يتحلّون بمكارم الأخلاق ، فيؤدون حقوق الله وحقوق العباد معا فيستحقون الخلود في الجنان : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ..) [الآيات : ٢٢ ـ ٣٥].

ثم نددت السورة بالكفار ، وهددتهم بالفناء والتبديل ، وأوعدتهم بما يلاقونه يوم القيامة ، ووصفت أحوالهم السيئة في الآخرة وقت البعث والنشور : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ..) [الآيات : ٣٦ ـ ٧٠].

تهديد المشركين بعذاب القيامة وتأكيد وقوعه

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥)

١١٠

نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

الإعراب :

(سَأَلَ سائِلٌ) قرئ بالهمز على الأصل ، وقرئ بترك الهمزة بإبدال الهمزة ألفا على غير قياس.

(كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ خَمْسِينَ) : خبر كان ، و (أَلْفَ) : منصوب على التمييز ، وجملة كان مع اسمها وخبرها في موضع جر صفة (يَوْمَ).

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ، يُبَصَّرُونَهُمْ .. يَسْئَلُ) و (حَمِيمٌ) : فعل وفاعل ، و (حَمِيماً) : مفعول به ، وقرئ (يَسْئَلُ) بالضم : فعل مبني للمجهول ، تقديره : ولا يسأل حميم عن حميمه. و (يُبَصَّرُونَهُمْ) : أي يبصر الحميم حميمه ، وأراد بالحميم الجمع ، والضمير المرفوع في (يُبَصَّرُونَهُمْ) يعود على المؤمنين ، والهاء والميم تعود على الكافرين. والمعنى : يبصّر المؤمنون الكافرين يوم القيامة ، أي ينظرون إليهم في النار.

(إِنَّها لَظى ، نَزَّاعَةً لِلشَّوى لَظى) بالرفع : خبر «إن» ، و (نَزَّاعَةً) : خبر ثان ، أو (لَظى) : خبر «إن» ، و (نَزَّاعَةً) : بدل من (لَظى) ، أو أن هاء (إِنَّها) ضمير القصة ، و (لَظى) : مبتدأ ، و (نَزَّاعَةً) : خبره ، والجملة : خبر «إن». ويصح كون (لَظى) بالنصب بدلا من هاء (إِنَّها) ، و (نَزَّاعَةً) بالرفع خبر «إن». ونصب (نَزَّاعَةً) على الحال المؤكدة ، والعامل فيها معنى الجملة ، مثل (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة ٢ / ٩١] ، و (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ) : خبر ثالث ، أو مستأنف.

البلاغة :

(بَعِيداً) و (قَرِيباً) بينهما طباق.

(سَأَلَ سائِلٌ) جناس اشتقاق ، وكذا بين (الْمَعارِجِ) و (تَعْرُجُ).

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أي جبريل : عطف خاص على عام تنبيها على شرفه وفضله.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) تشبيه مرسل مجمل ، لحذف وجه الشبه.

١١١

(لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ..) عموم بعد خصوص لبيان هول الموقف.

(إِنَّها لَظى ، نَزَّاعَةً لِلشَّوى ، تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) إلخ سجع مرصع.

المفردات اللغوية :

(سَأَلَ سائِلٌ) دعا داع به ، بمعنى استدعاه ، ولذلك عدي بالباء ، أي يكون السؤال أحيانا بمعنى طلب الشيء واستدعائه ، ويعدّى حينئذ بالباء ، تقول : سألت بكذا ، أي طلبته. والأصل في السؤال أن يكون بمعنى الاستخبار عن الشيء ، ويعدّى حينئذ بعن أو بالباء ، تقول : سألت عنه وسألت به وبحاله. والسائل استهزاء وتعنتا : النضر بن الحارث ، فإنه قال : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣١] أو أبو جهل ، فإنه قال : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٧] أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استعجل بعذابهم.

(لِلْكافِرينَ) صفة أخرى لعذاب ، أو صلة متعلقة ب (واقِعٍ). (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) مانع وواق ، أي إنه واقع لا محالة. (مِنَ اللهِ) متصل بواقع. (ذِي الْمَعارِجِ) ذي المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلام الطيب والعمل الصالح ، أو مراتب الملائكة أو السموات ، والظاهر : ذي السموات ، وقيل : ذي النعم والفضائل التي تكون درجات متفاضلة. (تَعْرُجُ) تصعد. (وَالرُّوحُ) جبريل عليه‌السلام. (إِلَيْهِ) إلى مهبط أمره من السماء. (فِي يَوْمٍ) متعلق بقوله : (تَعْرُجُ). (كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) هذا لبيان ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها ، بطريق التمثيل والتخييل ، والمعنى : إنها بحيث لو قدر قطعها في زمان ، لكان في زمان يقدر بخمسين ألف سنة من سني الدنيا. وهذا في الآخرة بالنسبة للكافر ، لما يرى فيه من الشدائد ، وأما المؤمن فيكون عليه أخف من صلاة مكتوبة ، كما جاء في الحديث النبوي الآتي بيانه.

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) أي لا استعجال ولا جزع فيه ، ولا اضطراب قلب ، والكلام متعلق ب (سَأَلَ) لأن السؤال كان استهزاء أو تعنتا ، وذلك مما يضجره ، والمعنى : قرب وقوع العذاب ، فاصبر ، فقد اقترب موعد الانتقام. (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ) يرون العذاب أو يوم القيامة. (بَعِيداً) من الإمكان ، غير واقع. (وَنَراهُ قَرِيباً) قريبا من الوقوع. (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ) ظرف لكلمة (قَرِيباً) أو متعلق بمحذوف تقديره : يقع. (كَالْمُهْلِ) هو مائع الزيت ، أو دردي الزيت (ما يكون في قعر الإناء) أو هو مائع الفلزات (المعادن) المذابة ، كذائب الفضة. (كَالْعِهْنِ) كالصوف المنفوش أو المندوف ، أو كالصوف المصبوغ ألوانا. (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) قريب قريبه ، لاشتغال كل واحد بحاله ، فالحميم : القريب. (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي ينظر المؤمنون إلى الكافرين في النار. (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) يتمنى الكافر أو المذنب. (لَوْ يَفْتَدِي) اى يفتدي. (وَصاحِبَتِهِ)

١١٢

زوجته. (وَفَصِيلَتِهِ) عشيرته ، لفصله منها. (تُؤْوِيهِ) تضمه ويأوي إليها. وهو دليل على اشتغال كل مجرم بنفسه ، بحيث يتمنى أو يفتدي بأقرب الناس وأعلمهم بقلبه ، فضلا عن أن يهتم بحاله ويسأل عنها. (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الثقلين أو الخلائق. (ثُمَّ يُنْجِيهِ) عطف على (يَفْتَدِي) أي ثم لو ينجيه الافتداء ، وثم للاستبعاد.

(كَلَّا) ردع للمجرم ، ورد لما يودّه ، فهي كلمة تفيد الزجر عما يطلب. (إِنَّها لَظى) أي إن النار هي النار الملتهبة أو جهنم ؛ لأنها تتلظى ، أي تتلهب على الكفار. «الشوى» أعضاء الإنسان ، أو جلدة الرأس ، تنتزعها ، ثم تعود إلى ما كانت عليه. (تَدْعُوا) تجذب وتحضر. (مَنْ أَدْبَرَ) عن الإيمان والحق. (وَتَوَلَّى) عن الطاعة. (وَجَمَعَ) المال. (فَأَوْعى) جعله في وعاء ، وكنزه حرصا وتأميلا ، ولم يؤدّ حق الله فيه.

سبب النزول :

نزول الآيتين (١ ، ٢):

أخرج النسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ) قال : هو النضر بن الحارث ، قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ). وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدي في قوله : (سَأَلَ سائِلٌ) قال : نزلت بمكة في النضر بن الحارث ، وقد قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ..) الآية. وكان عذابه يوم بدر. وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : نزلت (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) فقال الناس : على من يقع العذاب؟ فأنزل الله : (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ).

التفسير والبيان :

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي دعا داع وطالب بعذاب واقع بلا شك ، يقع في الآخرة كائن للكافرين نازل بهم لا يمنع ذلك العذاب الواقع أحد إذا أراده الله. والسؤال للاستهزاء والتعنت. والسائل : هو

١١٣

النضر بن الحارث بن كلدة أو غيره حين قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢].

(مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) أي واقع من جهة الله سبحانه ذي المصاعد التي تصعد فيها الملائكة قال ابن عباس : (ذِي الْمَعارِجِ) : أي ذي السموات وسماها معارج ؛ لأن الملائكة يعرجون فيها. وقال قتادة : ذي الفواضل والنعم ؛ وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة.

والمراد : أن العذاب الذي طالب به الكفار واستعجلوه واقع بلا شك.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي تصعد إلى الله عزوجل في تلك المعارج الملائكة وجبريل عليهم‌السلام في مدة يوم يقدّر بخمسين ألف سنة من سنوات الدنيا لو أراد البشر الصعود إليها ولكن الملائكة الروحانيين تصعد إليها في زمن قليل. وليس المراد من الخمسين التحديد بعدد معين بل المقصود الكثرة المطلقة وأن صعود الملائكة في مكان بعيد المدى. وقوله : (إِلَيْهِ) إلى عرشه أو حكمه أو إلى حيث تهبط أوامره أو إلى مواضع العزّ والكرامة وقوله : (فِي يَوْمٍ) في رأي الأكثرين متعلق بقوله : (تَعْرُجُ) أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم بقصد وصف اليوم بالطول مطلقا.

والمراد باليوم في رأي آخر وهو قول ابن عباس والحسن البصري : هو يوم القيامة تهويلا وتخويفا للكفار والمراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ثم يستقر أهل النار في دركات النيران. وسبب الربط بين سؤال العذاب وبين عروج الملائكة : المقارنة بين اليوم

١١٤

في نظرهم وبين اليوم عند الله فهم يرون الدنيا طويلة الأمد وأما عند الله فالدنيا قصيرة إذا قيست باليوم عند الله.

والجمع بين هذه الآية وبين آية السجدة : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) [٥] أن القيامة مواقف ومواطن فيها خمسون موطنا كل موطن ألف سنة.

وهذا إنما يكون في حق الكافر أما في حق المؤمن فلا ؛ لقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٢٤] واتفقوا على أن ذلك المقيل والمستقر هو الجنة ولما أخرجه الإمام أحمد وابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال : قيل : يا رسول الله ما أطول هذا اليوم؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده إنه ليخفّف عن المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا».

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) أي لا تأبه يا محمد بسؤالهم العذاب استهزاء وتعنّتا وتكذيبا بالوحي ولا تضجر واحلم على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به واستعجالهم العذاب استبعادا لوقوعه واصبر صبرا جميلا : لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله وهذا معنى الصبر الجميل.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) أي إنهم يرون وقوع العذاب بعيدا وقيام الساعة في اعتقاد الكفرة مستحيل الوقوع ويرون أيضا يوم القيامة الذي مقداره خمسون ألف سنة مستبعدا محالا ونحن نعلمه كائنا قريبا ممكنا غير متعذر ؛ لأن كل ما هو آت قريب.

ثم ذكر الله تعالى بعض أوصاف ومظاهر ذلك اليوم فقال :

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي إن يوم القيامة ذلك اليوم الذي تصير السماء فيه كعكر (درديّ)

١١٥

الزيت أو المذاب من النحاس والرصاص والفضة أي تكون السماء واهية غير متماسكة الأجزاء مبددة وتكون الجبال كالصوف المنفوش إذا طيّرته الريح ؛ ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه أو حاله في ذلك اليوم وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره لما يرى من شدة الأهوال.

(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يبصر كل حميم حميمه ويراه ويعرّف عليه لا يخفى منهم أحد عن أحد دون أن يكلم بعضهم بعضا ويتمنى الكافر وكل مذنب ذنبا يستحق به النار أن يفتدي نفسه من عذاب يوم القيامة الذي نزل به بأعز ما يجده من المال أو بأعز الناس وأكرمهم لديه من أولاده وإخوته وزوجته وقبيلته وعشيرته الأقربين الذين ينتمي إليهم في النسب أو يضمونه عند الشدائد ويأوي إليهم وينصرونه بل يود المجرم لو افتدى بمن في الأرض جميعا من الثقلين وغيرهما من الخلائق ولا يقبل منه الفداء ولا ينجيه الافتداء من عذاب جهنم ولو جاء بأهل الأرض.

ونظير الآية قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [لقمان ٣١ / ٣٣] وقوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر ٣٥ / ١٨] وقوله سبحانه : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١٠١] وقوله عزوجل : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس ٨٠ / ٣٤ ـ ٣٧]. والخلاصة : أنه تعالى ذكر أربع صفات ليوم القيامة : تكون السماء فيه كالمهل وتكون الجبال فيه كالعهن ولا يسأل حميم حميما ويود المجرم الكافر الافتداء من عذاب ذلك اليوم بأعز الناس لديه وجميع من في الأرض.

١١٦

ثم أكّد تعالى رفض قبول الفداء منه واستبعاده قائلا :

(كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى) أي لا يقبل الفداء من المجرم ولو افتدى بأهل الأرض وبمال الدنيا جميعا إنها جهنم الشديدة الحر مأواه كما قال تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) [الليل ٩٢ / ١٤] والتي تنزع اللحم عن العظم حتى لا تترك فيه شيئا وتنزع جلدة الرأس وجلد أطراف اليدين والرجلين ولحم الساقين ثم يعود كما كان وتنادي جهنم كل من أدبر عن الحق والإيمان في الدنيا وتولى عنه وجمع المال فجعله في وعاء فلم ينفق منه شيئا في سبيل الخير ومنع حق الله فيه من الواجب عليه من النفقات وإخراج الزكاة. قال الحسن البصري : يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا.

وكلمة (كَلَّا) ردع للمجرم عن تلك الأمنية وبيان امتناع قبول الفداء منه وضمير (إِنَّها) للنار ولم يجر لها ذكر ؛ لأن العذاب دلّ عليها ويجوز أن يكون ضميرا مبهما ترجم عنه الخبر أو ضمير القصة أي إن القصة. والدعاء على حقيقته كما روي عن ابن عباس أو هو مجاز حيث شبه تهيؤ جهنم وظهورها للمكذبين بالدعاء والطلب لهم فهو مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ طلب كفار مكة تعجيل العذاب الموعود به استهزاء وتعنّتا والعذاب من الله صاحب معارج السماء أو معارج الملائكة واقع حتما بالكفار في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد.

٢ ـ تصعد الملائكة وجبريل في المعارج التي جعلها الله لهم إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء ؛ لأنها محل برّه وكرامته فليس المراد من قوله (إِلَيْهِ) المكان بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده وهو موضع العزّ والكرامة. وعروج

١١٧

الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة. وهذا هو الرأي الأصح في تقديري وهو قول الأكثرين كما تقدم وقيل : المراد باليوم هو يوم القيامة الموصوف بأنه بمقدار خمسين ألف سنة تهويلا وتخويفا للكفار. قال ابن عباس : هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يدخلون النار للاستقرار.

قال القرطبي عن قول ابن عباس : وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله بدليل حديث أبي سعيد الخدري المتقدم وحديث أبي هريرة فيما رواه البخاري ومسلم والموطأ و (١) أبو داود والنسائي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من رجل لم يؤدّ زكاة ماله إلا جعل شجاعا (١) من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس» فهذا يدل على أنه يوم القيامة (٢).

وهذا كما تقدم بالنسبة للكافر وأما بالنسبة للمؤمن فيكون يوم الحساب في القيامة بمقدار ما بين الصلاتين كما ثبت في الحديث الصحيح.

٣ ـ أمر الله نبيّه بالصبر الجميل على أذى قومه الذين يرون العذاب بالنار بعيدا أي غير كائن وهو في تقدير الله قريب الحصول ؛ لأن ما هو آت فهو قريب. والصبر الجميل : هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله.

٤ ـ ذكرت الآيات أوصافا أربعة : هي صيرورة السماء كدرديّ الزيت وعكره أو كالمذاب من المعادن من الرصاص والنّحاس والفضة وجعل الجبال كالصوف المنفوش أو المصبوغ ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه مع أن الرجل يرى أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم ويتمنى الكافر أن يفتدي من عذاب جهنم بأعزّ من كان عليه

__________________

(١) الشجاع : الحية الذكر.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٨٢ وما بعدها.

١١٨

في الدنيا من أقاربه فلا يقدر ويودّ لو فدي بهم لافتدى ثم يخلّصه (ينجيه) ذلك الفداء.

٥ ـ كلا كما قال تعالى للزجر والردع ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء إن له جهنم تتلظى نيرانها وتنزع جلدة الرأس واللحم عن العظم في الأطراف والجسد وتطلب إليها كل من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان وجمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى فكان جموعا منوعا ؛ لأنه لم يؤدّ الزكاة والحقوق الواجبة فيه وتشاغل به عن دينه وزهى باقتنائه وتكبر.

الخصال العشر التي تعالج طبع الإنسان

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

الإعراب :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) العامل في (إِذا) الأولى : «هلوع» وفي (إِذا) الثانية : «منوع». و (هَلُوعاً) حال من ضمير

١١٩

(خُلِقَ) وهذه الحال تسمى الحال المقدّرة ؛ لأن الهلع إنما يحدث بعد خلقه لا في حال خلقه. و (جَزُوعاً) و (مَنُوعاً) : خبر كان مقدرة وتقديره : يكون جزوعا ويكون منوعا.

البلاغة :

(إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) بينهما مقابلة.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الْإِنْسانَ) أريد بالإنسان الناس فلذلك استثني منه (إِلَّا الْمُصَلِّينَ).

(هَلُوعاً) سريع الحزن والجزع شديد الحرص قليل الصبر قال الزمخشري : الهلع : سرعة الجزع عند مسّ المكروه وسرعة المنع عند مسّ الخير. (الشَّرُّ) أي الضّر. (جَزُوعاً) كثير الجزع والمراد أنه يئوس قنوط والجزع : حزن يصرف الإنسان عن مهامّه. (الْخَيْرُ) السعة أو المال والغنى. (مَنُوعاً) كثير المنع يبالغ في الإمساك. وهذه الأوصاف الثلاثة (الهلع والجزع والمنع) طبائع جبل الإنسان عليها.

(إِلَّا الْمُصَلِّينَ) أي المؤمنين استثناء من الموصوفين بالصفات المذكورة. (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) مواظبون لا يشغلهم عنها شاغل. (حَقٌّ مَعْلُومٌ) نصيب معين واجب كالزكاة والنذور. (لِلسَّائِلِ) الفقير الذي يستجدي. (وَالْمَحْرُومِ) الفقير المتعفف الذي لا يسأل فيظن أنه غني فيحرم. (يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) يصدقون بيوم الجزاء تصديقا قلبيا وعمليا فيجتهد في العبادة وينفق من ماله طمعا في المثوبة الأخروية. (مُشْفِقُونَ) خائفون على أنفسهم. (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) غير مأمون النزول وهي جملة اعتراضية تدلّ على أنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ في طاعته. (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) محافظون عليها من الحرام. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من الإماء الرقيقات حينما كان الرّق قائما موجودا.

(العادُونَ) المتجاوزون الحلال إلى الحرام أو الحدود المسموح بها شرعا. (لِأَماناتِهِمْ) ما ائتمنوا عليه من أمور الدين والدنيا وقرئ : «لأمانتهم». (وَعَهْدِهِمْ) ما عاهدوا عليه والتزموا الوفاء به. (راعُونَ) حافظون. (بِشَهاداتِهِمْ) جمعت لاختلاف أنواعها وقرئ : «بشهادتهم». (قائِمُونَ) يؤدون الشهادة ولا يكتمونها. (يُحافِظُونَ) يؤدونها في أوقاتها مراعين شرائطها وفرائضها وسننها. وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بهم أولا وآخرا للدلالة على فضلها. (مُكْرَمُونَ) بثواب الله.

١٢٠