التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة المجادلة

مدنيّة ، وهي اثنتان وعشرون آية.

مدنيتها :

هذه السورة مدنية على الصحيح ، وروي عن الكلبي أنه قال : نزلت كلها بالمدينة إلا قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ..) فإنها نزلت بمكة. وعن عطاء : العشر الأول منها مدني ، وباقيها مكي.

تسميتها :

سميت سورة المجادلة ، لافتتاحها بقوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ..) وهذه المرأة هي خولة امرأة أوس بن الصامت.

مناسبة السورة لما قبلها :

تتضح صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة هي :

١ ـ ذكر في مطلع سورة الحديد صفات الله الجليلة ، ومنها الظاهر والباطن ، والعالم بما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو مع خلقه أينما كانوا ، وذكر في مطلع هذه السورة ما يدل على ذلك وهو سماع قول المجادلة التي تشتكي إلى الله ، ولهذا قالت عائشة رضي‌الله‌عنها حين نزلت : «سبحان الذي وسع سمعه الأصوات ، إني في ناحية البيت لا أعرف ما تقول» (١) أي المجادلة.

__________________

(١) أخرجه سعيد بن منصور والبخاري تعليقا ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، بلفظ «الحمد لله ..».

٥

٢ ـ ختمت السورة السابقة ببيان فضل الله ، وافتتحت هذه السورة بما يشير إلى بعض الفضل.

٣ ـ ذكر في المجادلة : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ..) الآية (٧) وهي تفصيل لإجمال قوله تعالى في السورة السابقة : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤).

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية بيان الأحكام التشريعية ، وقد تضمنت حكم الظهار وكفارته ، وحكم التناجي ، وأدب المجالس ، وتقديم الصدقة في بدء الأمر قبل مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحكم المنافقين وجزائهم وتكذيبهم ووصفهم بأنهم حزب الشيطان ، وموادة أعداء الله وموالاتهم. وتميزت الآيات كلها في هذه السورة باشتمال كل آية على لفظ الجلالة : (الله) لتربية المهابة منه في النفوس ، وعدم التجرؤ على مخالفة أحكامها.

بدئت السورة ببيان سماع الله صوت امرأة هي خولة بنت ثعلبة ، تجادل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن مصيرها من زوجها أوس بن الصامت الذي ظاهر منها قائلا لها : «أنت علي كظهر أمي» وحكم الظهار في الجاهلية تحريم الزوجة تحريما مؤبدا ، فبدّل الله ذلك الحكم ، وجعل حكم الظهار التحريم المؤقت الذي يزول بإخراج كفارة الظهار المنصوص عليها في الآيات الأولى من هذه السورة : عتق رقبة ، فصيام شهرين متتابعين ، فإطعام ستين مسكينا (الآيات : ١ ـ ٤) وأعقبت ذلك بالحكم بإذلال وخزي الذين يعادون الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإحصاء أعمالهم وشهادته عليهم (الآيتان : ٥ ـ ٦).

ثم ذكرت أدب التناجي في المجالس : وهو الكلام سرا بين اثنين فأكثر أمام الآخرين ، وحرّمته إذا كان تناجيا بالإثم والعدوان ، كما كان يفعل اليهود

٦

والمنافقون ، وأخبرت بأن الله يعلم سر الحديث الدائر بين اثنين فأكثر ، وفضحت خبث اليهود ومكرهم وخداعهم حينما كانوا يحيون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحية ظاهرها السلام ، وباطنها الأذى والسب ، قائلين : السام عليك يا محمد ، أي الموت (الآيات : ٧ ـ ١٠).

وأردفت ذلك ببيان أدب التفسح في المجالس ، وطلب مغادرتها ، وأشادت بالمؤمنين الذين يمتثلون أوامر الله وأوامر رسوله ، وامتدحت العلماء منهم خاصة ، وأوجبت تقديم الصدقة عند مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رفعت الحكم تخفيفا على المؤمنين وتيسير لقاء نبيهم ، وجعلت محله الاشتغال بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله (الآيات : ١١ ـ ١٣).

ثم أبانت مخازي المنافقين الذين يوالون اليهود ويحبونهم ، ويفشون أسرار المؤمنين لهم ، ويحلفون الأيمان الكاذبة ، ويعادون الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويخالفون أمرهما ، فهم مخذولون مهزومون ، والمؤمنون أعزة منصورون (الآيات : ١٤ ـ ٢١).

وختمت السورة الكريمة بأمر المؤمنين بتجنب الخونة الذين يوالون أعداء الأمة ولو كانوا أقرب الناس إليهم ، وينافقون ويتذبذبون بين هؤلاء وهؤلاء ، لإضعاف كيان أمتهم وتفريق جمعهم ، أما الأمة المتماسكة المتحابّة ، فهي أمة الإيمان الحق ، وأهل الجنة خالدين فيها أبدا.

والتفريق بين الموقفين : موقف الإيمان وموقف الكفر والنفاق يبين أن الحب ينبغي أن يكون لله ، والبغض لله ، وأن اكتمال الإيمان يتطلب معاداة أعداء الله (الآية : ٢٢).

٧

الظهار وكفارته

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))

الإعراب :

(قَدْ سَمِعَ) قال النحاة : إن قد الداخلة على الماضي لا بد فيها من معنى التوقع ، فلا يقال : قد فعل إلا لمن ينتظر الفعل أو يسأل عنه.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ الَّذِينَ) : مبتدأ ، وخبره : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) أو دليل خبره المحذوف أي الذين يظاهرون من نسائهم مخطئون ، لسن أمهاتهم ، و (ما) : نافية حجازية تعمل عمل ليس ، و (هُنَ) : اسمها ، و (أُمَّهاتِهِمْ) : خبرها المنصوب على لغة أهل الحجاز ، وتقرأ بالرفع على لغة بني تميم. وتعدى فعل الظهار بمن لتضمنه معنى التبعيد.

(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً مُنْكَراً وَزُوراً) : منصوب على الوصف لمصدر محذوف ، وتقديره : وإنهم ليقولون قولا منكرا وقولا زورا.

٨

(ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) الجار والمجرور في موضع نصب ، متعلق ب (يَعُودُونَ) وما : مصدرية ، أي يعودون لقولهم ، والمصدر في موضع المفعول ، كقولك : هذا الثوب نسج اليمن ، أي منسوجة ، ومعناه : يعودون للإمساك المقول فيه الظهار ولا يطلّق الزوج.

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ .. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الَّذِينَ) : مبتدأ ، وتحرير : مبتدأ ثان خبره محذوف أي فعليهم تحرير رقبة ، والجملة خبر المبتدأ الأول.

البلاغة :

(قَدْ سَمِعَ) السماع هنا مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية.

(سَمِيعٌ بَصِيرٌ غَفُورٌ خَبِيرٌ أَلِيمٌ) صيغ مبالغة.

(ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ) إطناب بذكر الأمهات ، لزيادة التقرير والبيان.

المفردات اللغوية :

(سَمِعَ اللهُ) أجاب وقبل ، كما في التسميع : «سمع الله لمن حمده» أي أجابه. (الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) تراجعك الكلام أيها النبي في أمرها وأمر زوجها الذي ظاهر منها ، وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية ، زوجة أوس بن الصامت أخي عبادة ، وكان قد ظاهر منها قائلا : أنت علي كظهر أمي ، فاستفتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال تأثرا بالعرف : حرمت عليه ، لأن الظهار كان عند العرب موجبا حرمة مؤبدة ، فقالت : ما طلقني ، فقال : حرمت عليه ، فاغتمت لصغر أولادها ، وشكت إلى الله تعالى ، فنزلت هذه الآيات الأربع. (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) تبث شكواها وغمها وهمها إلى الله ، متوقعة أن الله يسمع مجادلتها وشكواها ، ويفرج عنها كربها. (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) تراجعكما الكلام ، بطريق تغليب الخطاب. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) للأقوال والأحوال ، وهذا يدل على إثبات صفتي السمع والبصر لله تعالى.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ) الذين يقولون لنسائهم مثلا : أنت علي كظهر أمي ، أي في الحرمة ، وكالأم سائر المحارم ، وقد كان هذا أشد طلاق في الجاهلية. والظهار : تشبيه المرأة أو عضو منها بأحد محارمه نسبا أو رضاعا أو مصاهرة بقصد التحريم ، وقوله : (مِنْكُمْ) تهجين لعادتهم فيه ، فإنه كان من أيمان الجاهلية. (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي ما أمهاتهم إلا اللاتي ولدن الأولاد ، فلا تشبه بالمحارم في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن ، كالمرضعات وأزواج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَإِنَّهُمْ) أي بالظهار. (لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) أي قولا منكرا أنكره الشرع ، والمنكر : كل ما استقبحه الشرع والعقل والطبع. (وَزُوراً) كذبا وبهتانا ، فإن الزوجة لا تشبه بالأم.

٩

(وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يعفو عن المظاهر ويغفر له إذا تاب وأدى الكفارة ، كما أنه سبحانه غفور لكل من أذنب وعصى مطلقا إذا تاب وأناب.

(ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أي عدلوا عن قصد التحريم ، وذلك عند الشافعي بإمساك المظاهر منها في الزواج زمانا يمكنه مفارقتها فيه ، وعند أبي حنيفة : باستباحة استمتاعها ولو بنظرة شهوة ، وعند مالك : بالعزم على الجماع ، وعند الحسن البصري وأحمد : بالجماع. (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فعليهم ، أو فالواجب إعتاق رقبة : عبد أو أمة ، والفاء للسببية الدالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار. ويجب أن تكون الرقبة مؤمنة عند الجمهور غير الحنفية قياسا على كفارة القتل الخطأ. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي من قبل استمتاع أحدهما بالآخر ، لعموم اللفظ ، وفيه دليل على حرمة المتعة أو الزواج قبل التكفير.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الرقبة أو ثمنها. (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فالواجب صوم شهرين متواليين ، فإن أفطر بغير عذر لزمه الاستئناف ، وإن أفطر بعذر ففيه خلاف ، وإن جامع المظاهر منها ليلا لم ينقطع التتابع عند الشافعية ، خلافا لأبي حنيفة ومالك.

(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي الصوم لهرم أو مرض مزمن أو شبق مفرط إلى النساء. (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) لكل مسكين عند الشافعية : مدّ من غالب قوت البلد ، وهو رطل وثلث ، كالفطرة ، وعند الحنفية : نصف صاع من برّ أو صاع من تمر أو شعير ، وذلك من قبل التّماس أو الاستمتاع ، وإنما لم يذكر التّماس مع الإطعام اكتفاء بذكره مع الخصلتين الأخريين : العتق والصيام. (ذلِكَ) البيان أو التعليم للأحكام ، والتخفيف في الكفارة. (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي فرض ذلك لتصدقوا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قبول شرائعه ، ورفض أعراف الجاهلية. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أحكام شريعته ، لا يجوز تعدّيها. (وَلِلْكافِرِينَ) أي الذين لا يقبلون تلك الأحكام. (عَذابٌ أَلِيمٌ) عذاب مؤلم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران ٣ / ٩٧].

سبب النزول :

نزول الآية (١) وما بعدها :

(قَدْ سَمِعَ ..) : أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقول : يا رسول الله ، أكل شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرت سنّي وانقطع ولدي ، ظاهر مني ، اللهم إني

١٠

أشكو إليك ، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) وهو أوس بن الصامت.

وأخرج الإمام أحمد والبخاري في كتاب التوحيد تعليقا عن عائشة قالت : «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ، ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عزوجل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ..) الآية».

وجاء في السنن كابن ماجه والبيهقي والمسانيد أن أوس بن الصامت قال لزوجته : خولة بنت ثعلبة بن مالك في شيء راجعته فيه : «أنت علي كظهر أمي» وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لزوجته ذلك ، حرمت عليه ، فندم من ساعته ، فدعاها فأبت وقالت : والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي ، وقد قلت ما قلت ، حتى يحكم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن أوسا تزوجني ، وأنا شابة مرغوب في ، فلما خلا سني ، ونثرت بطني (كثر ولدي) ، جعلني عليه كأمه ، وتركني إلى غير أحد ، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه ، فحدثني بها.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية : «ما أراك إلا قد حرمت عليه». قالت : ما ذكر طلاقا ، وجادلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا. ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك فاقتي وشدة حالي ، وروي أنها قالت : إن لي صبية صغارا ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء ، وتقول : اللهم إني أشكو إليك ، اللهم فأنزل على لسان نبيك. وما برحت حتى نزل القرآن فيها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا خولة أبشري ، قالت : خيرا ، فقرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ..) الآيات.

١١

وروى البخاري في تاريخه أنها ـ أي المجادلة ـ استوقفت عمر يوما فوقف ، فأغلظت له القول ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم ، فقال رضي‌الله‌عنه : وما يمنعني أن أستمع إليها ، وهي التي استمع الله لها ، فأنزل فيها ما أنزل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ ..) الآيات.

التفسير والبيان :

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ، وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ ، وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي قد قبل الله شكوى المرأة التي تراجعك الكلام أيها النبي في شأن زوجها الذي ظاهر منها ، قائلا لها : «أنت علي كظهر أمي» أي في الحرمة ، وتشتكي إلى الله ما أغمها وأحزنها ، والله يسمع ما تتراجعان به من الكلام ، إن الله يسمع كل مسموع ، ويبصر كل مبصر على أتم وجه وأكمله ، ومن ذلك : محاورة هذه المرأة معك.

والمجادلة هنا : بمعنى التحاور ، وهي المراجعة في الكلام لتبين المخرج من الأزمة. والشكوى : أن تخبر عن مكروه أصابك. والسمع : صفة يدرك بها الأصوات ، غير صفة العلم. والمرأة : خولة بنت ثعلبة ، والزوج : أوس بن الصامت أحد الأنصار.

أخرج البخاري والنسائي وغيرهما كما تقدم عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة ، تشكو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا في كسر البيت ، يخفى علي بعض كلامها ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي ..) الآيات.

وقوله : (قَدْ) معناه التوقع ، كما تقدم ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرج عنها. وقوله : (سَمِعَ اللهُ) مجاز عن القبول والإجابة ، لعلاقة السببية.

١٢

ثم شنّع الله تعالى على المظاهرين ووبخهم ، فقال :

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ، ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي الذين يشبّهون أزواجهم بأمهاتهم ، فيقول أحدهم لامرأته : أنت علي كظهر أمي ونحوه ، أي إنك علي حرام كحرمة أمي ، ما نساؤهم بأمهاتهم ، فذلك كذب منهم ، وفي هذا توبيخ لهم وتبكيت ، فليست أمهاتهم في الحقيقة إلا النساء اللائي ولدنهم.

(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ، وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي وإن هؤلاء المظاهرين ليقولون بهذا قولا منكرا ، أي فظيعا ينكره الشرع ويقبّحه ولا يجيزه ، كما لا يقره عقل ، (وَزُوراً) ، أي كذبا ، وإن الله كثير العفو والمغفرة ، إذ جعل الكفارة عليهم مخلّصة لهم عن هذا المنكر ، كما أن الله غفور لمن أذنب وتاب ، وغفور من غير توبة لمن يشاء ، كما قال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨].

يتبين منه أن الله وصف الظهار بأنه منكر وزور ، لتشبيه الزوجة بالأم ، فهو خبر زور كذب ، وإنشاء منكر ينكره الشرع ولا يعرفه ، وهو يدل على أن الظهار محرّم ، وهو أيضا عند الشافعية معصية كبيرة ، لأن فيه الإقدام على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه سبحانه ، ولأن المقدم على ذلك كاذب معاند للشرع.

والظهار كان طلاقا في الجاهلية ، يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه.

وضابط المظاهر عند الشافعية والحنابلة : كل من صح طلاقه صح ظهاره ، وهو البالغ العاقل ، سواء أكان مسلما أم كافرا ، فعلى هذا ظهار الذمي عندهم صحيح ، لعموم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) ولأن الذمي يصح طلاقه فيصح ظهاره ، وهو أهل للزجر بالكفارة كالمسلم. وضابطه عند

١٣

الحنفية والمالكية : كل زوج مسلم عاقل بالغ ، فلا يصح ظهار الذمي ولا يلزم ولا يترتب عليه حكم ، لظاهر قوله تعالى : (مِنْكُمْ) وهو خطاب للمؤمنين ، فيدل على أن الظهار خاص بالمؤمنين ، ولأن من لوازم الظهار الصحيح وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق ، وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع (١).

وقال الجمهور غير أحمد : لا يصح ظهار المرأة من زوجها ، وهو أن تقول المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أمي. وقال الأوزاعي : هو يمين تكفر ، قال الرازي : وهذا خطأ ، لأن الرجل لا يلزمه بذلك كفارة يمين ، وهو الأصل ، فكيف يلزم المرأة ذلك؟ ولأن الظهار يوجب تحريما بالقول ، والمرأة لا تملك ذلك ، بدليل أنها لا تملك الطلاق.

وقال الإمام أحمد في رواية راجحة عنه : يجب عليها كفارة الظهار ، لأنها أتت بالمنكر من القول والزور ، وفي رواية كالأوزاعي : تجب كفارة اليمين ، وهذا أقيس على مذهبه.

وأما المظاهر منها فهي عند الحنفية : كل امرأة يحرم على الرجل نكاحها على التأبيد ، بالنسب أو بالرضاع أو بالمصاهرة كزوجة الأب ، أو أي عضو منها لا يحل له النظر إليه ، كالظهر والبطن. وهذا مذهب الشافعية إلا أنهم استثنوا مرضعة المظاهر وزوجة الابن ، لأنهما كانتا حلالا له في وقت ، فيحتمل إرادته.

ورأي المالكية : أن المشبه به : هو من حرم وطؤه أصالة من آدمي ـ ذكر أو أنثى ، أو غيره كالبهيمة ، ويصح الظهار بتشبيه الزوجة أو جزئها ، ولو حكما كالشعر والريق بالأم.

وكذا قال الحنابلة : يصح التشبيه سواء كان بكل المشبه به ، أو بعضو منه كاليد والوجه والأذن ، فيشمل كل محرّم من النساء على التأبيد بنسب أو رضاع أو

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص الرازي : ٣ / ٤١٧ وما بعدها ، أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٧٣٨

١٤

مصاهرة ، كالأمهات والجدات والعمات والخالات والأخوات. كما يشمل كل محرم من النساء تحريما مؤقتا كأخت المرأة أو عمتها ، وكل محرّم من الرجال أو البهائم أو الأموات ونحوهم.

ثم أبان الله تعالى كفارة الظهار ، فقال :

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ، ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والذي يحدث منهم الظهار ، ثم يريدون نقضه والعودة لما كانوا عليه من إرادة الجماع ، فعليهم تحرير رقبة ، أي أمة أو عبد مملوك ، من أجل ما قالوا ، من قبل التماس ، وهو الجماع ، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفّر ، ذلكم الحكم المذكور أو تشريع الكفارة تؤمرون به أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار ، والله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها ، فهو مجازيكم عليها.

واختلف العلماء في تفسير العود : فقال الظاهرية وأبو العالية : العود تكرار لفظ الظهار وإعادته ، فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد لفظ الظهار ، وهو قول باطل. ورأى الحنفية والمالكية على المشهور أن العود : هو العزم على الوطء أو الجماع. وذهب الشافعي إلى أن العود : أن يمسك المظاهر منها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق.

وقال أحمد بن حنبل : هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه ، فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة.

فالآراء ثلاثة أو أربعة : تكرار لفظ الظهار ، والعزم على الوطء أو إرادة الوطء ، والوطء في الفرج ، والإمساك زمنا يمكن طلاقها فيه. وأجاب الجمهور عن رأي الظاهرية بأنه يقتضي أن الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة ، وقصة خولة تدفعه ، لأنه لم ينقل التكرار ، ولا سأل عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٥

وقوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فإعتاق رقبة كاملة ، أو فعليهم رقبة ، والرقبة هنا مطلقة غير مقيدة بالإيمان ، فاقتضى ذلك إجزاء عتق رقبة مؤمنة أو كافرة ، وبهذا الظاهر قال الحنفية والظاهرية ، لأنه لو كان الإيمان شرطا لبيّنه سبحانه كما بيّنه في كفارة القتل ، فوجب أن يطلق ما أطلقه الله ، ويقيد ما قيده ، فيعمل بكل منهما في موضعه ، ورأى الحنفية بناء على قواعدهم أن اشتراط الإيمان هنا زيادة على النص ، وهو نسخ ، والقرآن لا ينسخ إلا بالقرآن أو الخبر المتواتر أو المشهور ، ولا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة.

واشتراط الجمهور الإيمان في كفارة غير القتل ، كما هو شرط في كفارة القتل الخطأ بنص القرآن ، ويحمل المطلق على المقيد ، أي يحمل ما أطلق هنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب : وهو عتق الرقبة ، واعتضد في ذلك بما رواه مالك بسنده عن معاوية بن الحكم السّلمي في قصة الجارية السوداء ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعتقها فإنها مؤمنة» (١).

وضمير (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) للمظاهر والمظاهر منها المعلومين من الكلام السابق ، والتّماس : كناية عن الجماع ، فيحرم الجماع قبل التكفير ، ومقدمات الجماع كالتقبيل ونحوها حرام أيضا عند الحنفية ، لأن طريق الحرام حرام ، وليست بحرام في الأظهر عند الشافعية ، لأن تحريم الجماع لا صلة له بعقد الزواج ، فإن الحائض يحرم جماعها دون دواعيه ، والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فمن لم يجد الرقبة في ملكه ، ولا تمكّن من ثمنها أو قيمتها زائدا عن قدر كفايته ، أو لم يجد

__________________

(١) ورواه أيضا أحمد في مسنده ومسلم في صحيحة.

١٦

رقبة يشتريها لعدم وجود الرقيق في عصرنا ، فعليه قبل التماس (أي الجماع) صيام شهرين متتابعين متواليين لا يفطر فيهما عملا بظاهر النص القرآني ، وإجماع العلماء على وجوب التتابع ، فإن أفطر يوما أو أكثر لغير عذر ، أو جامعها ليلا أو نهارا عمدا ، استأنف في رأي الجمهور. وقال الشافعي وأبو يوسف : لا يستأنف إذا وطئ ليلا ، لأنه ليس محلا للصوم.

ولا ينقطع التتابع لدى المالكية بالمرض ، وبالفطر سهوا ، وبالإكراه على الفطر ، وبظن غروب شمس أو ببقاء ليل ، فأكل أو شرب ، وبحيض ونفاس.

وينقطع التتابع عند الحنفية ، والشافعية في المذهب الجديد بالإفطار بعذر كمرض مسوغ للفطر ، ولا ينقطع التتابع في الصوم بحيض أو نفاس أو جنون. ورأى الحنابلة أن المظاهر إن أفطر في الشهرين بعذر ، بنى على ما مضى ، وإن أفطر بغير عذر ابتدأ من جديد.

واختلف العلماء في بيان قدر الكفاية ، وفي وقت اعتبار اليسار والإعسار ، فذهب مالك ، والشافعي في الأظهر إلى اعتبار ذلك بوقت التكفير والأداء ، لأن الكفارة عبادة لها بدل من غير جنسها كالوضوء والتيمم ، والقيام في الصلاة والقعود فيها ، فاعتبر وقت أدائها. وذهب أحمد إلى اعتبار ذلك بوقت الوجوب ، تغليبا لشائبة العقوبة في الكفارة.

ومن المعلوم أن الأشهر تعتبر بالأهلّة ، فلا فرق بين التام والناقص ، فمن بدأ بالصوم في أول الشهر ، كمّل الشهرين بالهلال ، ولو كانا ناقصين ، ومن بدأ بالصوم في أثناء الشهر ، فقال الشافعية : يحسب الشهر بعده بالهلال لتمامه ، ويتم الأول من شهر آخر ثلاثين يوما لتعذر الهلال فيه. وقال الحنفية : لا بد من ستين يوما.

١٧

(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ، فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين لكبر سن أو مرض مزمن أو لمشقة شديدة لا تحتمل عادة ، فعليه أن يطعم ستين مسكينا ، لكل مسكين عند الحنفية مدان ، أي نصف صاع من القمح ، وصاع (١) من تمر أو شعير ، كالفطرة قدرا ومصرفا ، من قبل التّماسّ أيضا ، سواء بالإباحة أو بالتمليك ، عملا بظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام ، وحقيقة الإطعام هو التمكين ، وذلك يتأدى بالإباحة والتمليك.

ويجب عند المالكية التمليك لكل مسكين مد (٢) وثلثان من القمح إن اقتاتوه ، فلا يجزئ غيره من شعير أو ذرة أو غيرهما ، فإن اقتاتوا غير القمح فما يعدله شبعا لا كيلا ، ولا يجزئ الغداء والعشاء إلا أن يتحقق بلوغهما مدا وثلثين.

وأوجب الشافعية والحنابلة التمليك أيضا ، وقدر ما يعطى كل مسكين : مدّ من قمح ، أو نصف صاع من تمر أو شعير ، ودليلهم على التمليك القياس على الزكاة وصدقة الفطر.

وظاهر قوله تعالى : (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أنه لا بد من استيفاء عدد الستين ، فلو أطعم واحدا ستين يوما لم ينجزه عند الجمهور غير الحنفية إلا عن واحد ، لظاهر الآية ، وهو أنه أوجب إطعام ستين مسكينا ، فوجب رعاية ظاهر الآية. ويجزئه ذلك عند الحنفية ، لأن المقصود سد خلة المحتاج ، والحاجة تتجدد كل يوم ، فالدفع إليه مع مرور الأيام إطفاء للحاجة المتكررة بتكرر الأيام. وهذا معارض لظاهر النص على ستين مسكينا ، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين مسكينا ، فالتعليل بسد خلة المحتاج مبطل لمقتضى النص ، فلا يجوز.

__________________

(١) الصاع : ٢٧٥١ غم.

(٢) المد : ٦٧٥ غم.

١٨

واتفق العلماء على أن خصال كفارة الظهار مرتبة ، فالإعتاق أولا ، ثم الصيام ، ثم الإطعام ، للأحاديث الآمرة بهذا على الترتيب ، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان.

واتفق الفقهاء أيضا على أن من وطئ قبل أن يكفّر عصى ربه وأثم ، لمخالفة أمره تعالى ، وتستقر الكفارة في ذمته ، ويظل تحريم زوجته عليه باقيا حتى يكفر ، وذلك شامل جميع خصال الكفارة : العتق والصوم والإطعام. فإن وطئ أثناء التكفير فاختلف الفقهاء :

فذهب المالكية إلى أن الوطء في أثناء التكفير يحرم ويبطل ما تم ، ويبتدئ الكفارة أيا كانت خصلتها من جديد.

ورأى الشافعية : أن المظاهر إن جامع أثناء الصوم ليلا قبل أن يكفّر ، أثم ، لأنه جامع قبل التكفير ، ولا يبطل تتابع الصيام ، لأن جماعه لم يؤثر في الصوم المفروض ، فلم يقطع التتابع ، كالأكل بالليل. وكذا إن جامع أثناء الإطعام ، لا يبطل ما مضى.

وفصل الحنفية والحنابلة فقالوا : إن وطئ المظاهر امرأته المظاهر منها في أثناء الصوم ، أفسد ما مضى من صيامه ، واستأنف الصوم من جديد. أما إن وطئ أثناء الإطعام ، فلا تلزمه إعادة ما مضى ، عملا بعدم تقييد الإطعام في النص القرآني بكونه قبل التّماس ، وتقييده في تحرير الرقبة والصيام بكونهما قبل التّماسّ.

(ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ذلك الحكم الذي بيناه من وجوب الكفارة بسبب الظهار ، لتصدقوا بشرع الله تعالى وأمره ، وتصدقوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقفوا عند حدود الشرع ، ولا تتعدّوها ، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور ، وتلك الأحكام المذكورة

١٩

حدود الله أي محارمه ، فالزموها ولا تتجاوزوا حدوده التي حدّها لكم ، فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية ، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة ، وللكافرين الذين يتعدونها ولا يقفون عند حدود الله عذاب مؤلم على كفرهم وهو عذاب جهنم في الآخرة ، كما لهم عذاب في الدنيا.

وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا وزجرا ، كما قال تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران ٣ / ٩٧].

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ الشكوى إلى الله من الهم والحزن والضيق أنجع طريق ، فقد أجاب الله شكوى خولة بنت ثعلبة وقبل استغاثتها ، وحقق ما توقعته من ربها ، لثقتها بفضل الله وإحسانها. والإجابة والقبول هو المقصود من قوله سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ).

والسماع في الأصل إدراك المسموعات ، والسمع والبصر صفتان لله كالعلم والقدرة والحياة والإرادة ، فهما من صفات الذات ، لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. والسميع : المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن ، لأن الأصوات لا تخفى عليه.

٢ ـ الظهار معصية وحرام ومنكر شرعا من القول وزور (كذب) وليست النساء بأمهات ، فما أمهاتهم إلا الوالدات. وأصل الظهار : أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فمن قال ذلك فهو مظاهر بالإجماع ، كما أن من قال لها : أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم ، فهو مظاهر.

٢٠