التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

ثالثا ـ إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها.

رابعا ـ ينعمون بنعمة الرضوان ، ويفرحون بما أعطاهم الله تعالى.

وذكر الله تعالى أيضا أربعة أمور توجب ترك المودة وهي :

أولا ـ إن الإيمان ومودة الأعداء لا يجتمعان في القلب.

ثانيا ـ نفورهم من موادة الأعداء ، ولو كانوا من الأقربين : (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ ...)إلخ.

ثالثا ـ إنه تعالى عدّد نعمه على المؤمنين ، وهي توجب ترك مودة أعداء الله : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) إلخ.

رابعا ـ وصفهم بأنهم حزب الله الغالب : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

٦١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحشر

مدنيّة ، وهي أربع وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة الحشر ، لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ..) أي الحشر الأول وهو الجمع الأول الذي حشروا فيه وأخرجوا في عهد النبوة من المدينة إلى بلاد الشام ، والحشر الثاني : إجلاؤهم وإخراجهم في عهد عمر من خيبر إلى الشام.

وتسمى أيضا سورة بني النضير ، لاشتمالها على قصة إجلاء يهود بني النضير ، في غزوة بني النضير ، وهم اليهود الذين نقضوا العهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأجلاهم عن المدينة المنورة.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة :

١ ـ ذكر في السورة السابقة من حادّ الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن قتل من الصحابة أقرباءه يوم بدر ، وفي أول هذه السورة ذكر من شاقّ الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما جرى بعد غزوة بني النضير من إجلاء اليهود ، وقد حدثت الغزوة بعد بدر.

٢ ـ أخبر الله في آخر السابقة عن نصر الرسل : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) وأفاد في أول هذه إنجاز النصر على اليهود : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ

٦٢

يَحْتَسِبُوا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ).

٣ ـ كشف الله في السورة المتقدمة حال المنافقين واليهود وموادة بعضهم بعضا ، وذكر في هذه السورة ما حلّ بيهود بني النضير.

ما اشتملت عليه السورة :

سورة الحشر كسائر السور المدنية عنيت بالأحكام التشريعية ، مثل إجلاء يهود بني النضير من المدينة ، وأحكام الفيء والغنائم ، والأمر بالتقوى. كما أن فيها تحليلا لعلاقة المنافقين باليهود ، وبيان عظمة القرآن ، وإيراد بعض أسماء الله الحسنى.

افتتحت السورة بتنزيه الله نفسه عن كل نقص ، وتمجيده من جميع ما في الكون من إنسان وحيوان ونبات وجماد ، وشهادتهم بوحدانيته وقدرته ، والنطق بعظمته.

وأردفت ذلك بالإشادة بالنصر على أعداء الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإجلاء يهود بني النضير من المدينة المنورة ، وتهديم قلاعهم وحصونهم.

ثم أبانت حكم الفيء وهو الأراضي والدور والأموال الآيلة من العدو للمسلمين من غير قتال ، ببيان مصارفه وتوزيعه على مختلف فئات المسلمين ، وحكمة ذلك التوزيع.

وفي ثنايا آيات الفيء امتدح الله تعالى مواقف المهاجرين ، وأشاد بمآثر الأنصار ، وانتدب الذين جاؤوا من بعدهم للثناء على من سبقهم والدعاء لهم بالمغفرة.

وقارن ذلك بعلاقة المنافقين باليهود ، وتحالفهم على الباطل ، وكشف أخلاق الفريقين ، ومنها خذلان المنافقين من يحالفونهم وقت الأزمة ، وجبن

٦٣

اليهود وخوفهم من مواجهة المؤمنين ، وتشبيه المنافقين بالشيطان الذي يغري الإنسان بالسوء والضلال ، ثم يتخلى عنه في الوقت العصيب.

ثم أمر الله المؤمنين بالتقوى ، والاستعداد ليوم القيامة وما فيه من أهوال جسام ، والاعتبار بأحوال الماضين ، وتذكر الفرق العظيم بين أهل الجنة وأهل النار ، ومصير السعداء والأشقياء في دار الخلود.

وختمت السورة ببيان عظمة القرآن الكريم ، وعظمة من أنزله واتصافه بأوصاف الجلال ، وتسميته بالأسماء الحسنى.

سبب نزول السورة :

روى سعيد بن منصور والبخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر؟ قال : أنزلت في بني النضير ، وفي رواية : سورة بني النضير.

وقال ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما قدم المدينة ، هادنهم وأعطاهم عهدا وذمّة على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه ، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه ، فأحلّ الله بهم بأسه ، الذي لا مرد له ، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصدّ ، فأجلاهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون ، وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله ، فما أغنى عنهم من الله شيئا ، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم ، وسيّرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجلاهم من المدينة ، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أالي الشام ، وهي أرض المحشر والمنشر ، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر ، وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم ، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم ، ولهذا قال تعالى : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله تعالى ، وخالف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٦٤

وكذب كتابه ، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم (١).

فضل السورة :

أخرج الثعالبي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الحشر ، لم يبق شيء من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوامّ والريح والسحاب والطير والدوابّ والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلّوا عليه ، واستغفروا له ، فإن مات من يومه أو ليلته ، مات شهيدا».

وأخرج الثعالبي أيضا عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ آخر سورة الحشر : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ...) ـ إلى آخرها ـ فمات من ليلته ، مات شهيدا» (٢).

وأخرج أحمد والترمذي عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكلّ الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي ، وإن مات في يومه ، مات شهيدا ، ومن قرأها حين يمسي ، فكذلك» قال الترمذي : حديث حسن غريب.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٣٠

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ١

٦٥

إجلاء يهود بني النضير

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

الإعراب :

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) في الجملة فعل الظن مكرر ، وإنما أتى ب (أَنْ) الخفيفة والثقيلة بعد الظن ، لأن الظن يتردد بين الشك واليقين ، فتارة يحمل على الشك ، فيؤتى بالخفيفة ، وتارة يحمل على اليقين ، فيؤتى بالثقيلة. و (حُصُونُهُمْ) : مرفوعة باسم الفاعل : (مانِعَتُهُمْ) لأن اسم الفاعل جرى خبرا ل (أَنْ) فوجب أن يرفع ما بعده.

البلاغة :

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) بين (ما ظَنَنْتُمْ) و (ظَنُّوا) ما يسمى بطباق السلب.

٦٦

المفردات اللغوية :

(سَبَّحَ لِلَّهِ) نزهه وقدسه ، ولام (لِلَّهِ) مزيدة. (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أتى ب (ما) تغليبا للأكثر. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القوي الغالب في ملكه. (الْحَكِيمُ) في صنعه ، يضع الأشياء في موضعها المناسب لها.

(الَّذِينَ كَفَرُوا) يهود بني النّضير ، وهم إحدى قبائل اليهود الثلاثة الكبرى في المدينة بجوار بني قريظة وبني قينقاع. (مِنْ دِيارِهِمْ) مساكنهم في المدينة. (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي عند الحشر الأول أو أول حشرهم ، والحشر الأول : الجمع والإخراج والجلاء من المدينة ونفيهم إلى بلاد الشام ، والحشر الآخر : إجلاء عمر إياهم في خلافته من خيبر إلى الشام. (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) ما ظننتم أيها المؤمنون خروجهم ، لشدة بأسهم ومنعتهم. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي وتأكدوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وعذابه ، والحصون : القصور الشاهقة والقلاع المشيدة ، جمع حصن. (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي جاءهم عذابه وأمره. (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من حيث لم يخطر لهم ببال ، لقوة وثوقهم بأنفسهم.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قَذَفَ) : ألقى بقوة ، والمراد هنا : أثبت فيها الخوف الذي يرعبها ، أي يملؤها رعبا بقتل سيدهم كعب بن الأشرف. (يُخْرِبُونَ) وقرئ : يخرّبون ، أي يهدمون ، والغاية من الهدم : نقل ما استحسنوا منها من خشب وغيره. (فَاعْتَبِرُوا) فاتعظوا بحالهم ، أو فانظروا في حقائق الأشياء ما تدل عليه من دلالة وعبرة. واستدل به على أن القياس حجة من حيث إنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال ، وحملها عليها في حكم ، لما بينها من العلة المشتركة المقتضية التساوي في الحكم.

(كَتَبَ) قضى. (الْجَلاءَ) الخروج الجماعي من الوطن مع الأهل والولد ، أما الإخراج فيكون لواحد وجماعة ، ومع بقاء الأهل والولد. (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي ، كما فعل ببني قريظة. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) كلام مستأنف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا ، لم ينجوا من عذاب الآخرة.

(ذلِكَ) المذكور الذي حاق بهم. (شَاقُّوا) خالفوا وعادوا ، حتى كأنهم في شق ، ومن عادوه في شق آخر. (لِينَةٍ) نخلة مطلقا أو النخلة الكريمة ، وجمعها أليان. (فَبِإِذْنِ اللهِ) فبأمره. (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) علة لمحذوف ، أي وفعلتم ، أو : وأذن لكم في القطع ليخزيهم على فسقهم بما غاظهم من العدو. واستدل به على جواز هدم دبار الكفار وقطع أشجارهم زيادة لغيظهم.

٦٧

سبب النزول :

نزول الآية (١):

(سَبَّحَ لِلَّهِ) : أخرج البخاري عن ابن عباس قال : سورة الأنفال نزلت في بدر ، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.

وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت : كانت غزوة بني النضير ، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر ، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة ، فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلوا على الجلاء ، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة وهي السلاح ، فأنزل الله فيهم : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما قدم المدينة ، صالح بني النضير على ألا يكونوا له ولا عليه ، فلما ظهر على المشركين يوم بدر ، قالوا : إنه النبي المبعوث ـ في التورية بالنصرة ـ فلما هزم المسلمون يوم أحد ، ارتابوا ونكثوا ، وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة ، وحالفوا أبا سفيان ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمد بن مسلمة أخا كعب من الرضاعة ، فقتله غيلة ، ثم صبّحهم بالكتائب ، وحاصرهم ، حتى صالحوه على الجلاء ، فجلا أكثرهم إلى الشام ، ولحقت طائفة بخيبر والحيرة ، فأنزل الله : (سَبَّحَ لِلَّهِ) إلى قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ويوضح ذلك ما قاله المفسرون : نزلت هذه الآية في بني النضير ، وذلك أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة ، صالحه بنو النضير على ألا يقاتلوه ولا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، وقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك منهم ، فلما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرا ، وظهر على المشركين ، قالت بنو النضير : والله ، إنه النّبي الذي وجدنا نعته في التوراة ، لا تردّ له راية ، فلما غزا أحدا ، وهزم المسلمون ، نقضوا العهد ، وأظهروا العداوة

٦٨

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم صالحهم على الجلاء من المدينة (١). وكان خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم في ربيع الأول السنة الرابعة من الهجرة.

نزول الآية (٥):

(ما قَطَعْتُمْ ...) : أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّق بني النضير ، وقطع وديّ (٢) البويرة ، فأنزل الله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها) الآية.

وأخرج ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قال : لما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببني النضير ، تحصنوا منه في الحصون ، فأمر بقطع النخل والتحريق فيها ، فنادوه يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد ، وتعيبه ، فما بال قطع النخل وتحريقها ، فنزلت. وأخرج ابن جرير عن قتادة ومجاهد مثله.

التفسير والبيان :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إن جميع ما في السموات والأرض من الأشياء ينزّه الله عن كل نقص ، ويمجده ويقدسه ، ويصلي له ، ويوحده ، إما تصريحا باللسان ، وإما بالقلب ، وإما بلسان الحال والمقال ، إذعانا لعظمته ، وانقيادا وخضوعا لجلاله ، وهو المنيع الجناب القوي الغالب القاهر في ملكه ، الحكيم في صنعه وقدره وشرعه ، يضع الأشياء في موضعها الصحيح ، وإن لم يدرك الإنسان في الحال حكمة الله وتدبيره.

ونظير الآية قوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ ، وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٢٣٦

(٢) الوديّ بوزن فعيل : صغار الفسيل ، والواحدة : ودية.

٦٩

ومن مظاهر قدرة الله تعالى وحكمته ما قال سبحانه :

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي إنه سبحانه هو الذي قضى بإخراج يهود بني النضير من ديارهم في المدينة ، في الحشر الأول ، أي الجمع والإخراج والجلاء ، فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة ، وآخر حشر إجلاء عمر لهم من خيبر إلى الشام.

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي ما توقعتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم ، لعزتهم ومنعتهم ، وكانوا أهل حصون مانعة ، وعقار ونخيل واسعة ، وأهل عدد وعدة ، وفي هذا بيان عظمة النعمة ، وتوقعوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله ، وألا يتعرضوا لسوء.

(فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي جاءهم أمر الله وبأسه وعقابه من جهة لم تخطر لهم ببال ، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتالهم وإجلائهم ، وكانوا لا يظنون مثل هذا الحدث ، بل كانوا يرون أنفسهم أعزّ وأقوى ، وألقى الله الخوف الذي يملأ الصدر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الشيخان والنسائي عن جابر : «نصرت بالرعب مسيرة شهر».

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي لما أيقنوا بالجلاء ، دمّروا منازلهم من الداخل لكيلا يستفيد منها المسلمون ، ودمرها المؤمنون من الخارج ، قال الزهري وعروة بن الزبير : لما صالحهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لهم ما أقلّت الإبل ، كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود ، فيهدمون بيوتهم ، ويحملون ذلك على إبلهم ، ويخرب المؤمنون باقيها.

(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) فاتعظوا أيها العقلاء بما حدث ، واعلموا أن الله يفعل مثل ذلك بمن غدر وخالف أمر الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٧٠

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) أي ولولا أن قضى الله عليهم بالخروج والجلاء من أوطانهم على هذا النحو المهين ، لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا ، كما فعل ببني قريظة سنة خمس للهجرة ، بعد غزوة الخندق ، وكما فعل مع المشركين يوم بدر في السنة الثانية ، ومع يهود بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة عقب معركة بدر ، ولهم في القيامة عذاب شديد في جهنم.

أما سبب إجلائهم في التاريخ : فهو أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج مع عشرة من أصحابه ، منهم أبو بكر وعمر وعلي ، إلى بني النضير يسألهم المعونة في دية قتيلين قتلهما أحد المسلمين خطأ ، وهما من بني عامر حلفائهم ، فقد كان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف. فوعدوا خيرا في الظاهر ، وأضمروا الغدر والاغتيال ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعدا إلى جنب جدار من بيوتهم ، فتآمروا على قتله على يد عمرو بن جحاش بن كعب اليهودي ، بإلقاء صخرة عليه من فوق السطح ، مكان جلوسه بجوار الجدار.

فأطلعه الله تعالى بالوحي على مؤامرتهم ، فقام ورجع إلى المدينة ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وإجلائهم من المدينة ، وعاد إليهم في شهر ربيع الأول سنة أربع للهجرة ، فحاصرهم ست ليال ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجليهم ، ويكفّ عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ، فقبل. ثم خرج بعضهم إلى خيبر ، وبعضهم إلى الشام.

وفي أثناء الحصار أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع نخلهم وإحراقه ، حتى لا يبقى لهم تعلق بأموالهم ، ونادوا يا محمد : قد كنت تنهى عن الفساد ، وتعيب من يصنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها؟! فنزل قوله تعالى كما تقدم : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها ..) الآية.

٧١

وهنا أبان الله تعالى سبب جلائهم قائلا :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ ، فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إنما فعل الله بهم ذلك وهو الطرد والإجلاء ، وتسليط المؤمنين عليهم ، لأنهم خالفوا الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين ، من البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

ومن يعادي الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدم الطاعة ، والميل مع الكفار ، ونقض العهد ، فإن الله يعاقبه أشد العقاب ، ويعذبه في الدنيا والآخرة.

ثم عذر الله تعالى المؤمنين فيما أقدموا عليه مما تقضي به الضرورة الحربية ، فقال : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ ، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) أي إن ما قمتم به من قطع النخيل وإحراقه ، أو تركه قائما دون قطع ، فهو بأمر الله ومشيئته ، وقد أذن بذلك ليعز المؤمنين ، وليذل الخارجين عن الطاعة ، وهم اليهود ، ويغيظهم في القطع والترك ، فإنهم إذا رأوا المؤمنين يفعلون في أموالهم ما شاؤوا ، ازدادوا غيظا وحنقا. واللينة : أنواع التمر سوى العجوة.

والنخيل الذي قطع وأحرق هو البويرة ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حاصرهم ، أمر بقطع نخيلهم ، إهانة لهم ، وإرهابا وإرعابا لقلوبهم. وقد تمّ قطع النخل بأمر الله ومشيئته ، ولإذلال اليهود الذين كفروا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتبه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ إن تسبيح الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به هو شأن جميع المخلوقات في السموات والأرض ، نباتا وحيوانا وجمادا ، وملكا وكوكبا ، إما بلسان الحال

٧٢

أو بلسان المقال ، اعترافا بوجود الله ووحدانيته وقدرته وعظمته.

٢ ـ تعرض اليهود في العصر الإسلامي الأول بأمر الله لحشرين في الدنيا ، والحشر : الجمع والإخراج والجلاء ، والحشر الأول من المدينة إلى الشام ، والحشر الآخر : إجلاء عمر رضي‌الله‌عنه إياهم من خيبر إلى الشام ، بكفرهم ونقضهم العهد. ولهم حشر في الآخرة كبقية الناس للحساب والجزاء.

٣ ـ كان إجلاء اليهود من المدينة ومن خيبر أمرا غير متوقع من الناس ، لقوتهم ومنعتهم وتحصنهم في حصونهم واجتماع كلمتهم ، فأتاهم أمر الله وعذابه من حيث لم يظنوا ، وألقى الله الرعب والخوف في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ، والذي قتله محمد بن مسلمة ، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش ، أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة ، وعبّاد بن بشر بن وقش ، والحارث بن أوس بن معاذ ، وأبو عبس بن جبر.

وكانوا يخربون بيوتهم لئلا يسكنها المسلمون بعدهم ، وأتم المؤمنون تخريبها ، لمحو آثارهم وتصفية وجودهم من الجزيرة العربية.

وفي ذلك نصر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشريف له ، وإعزاز لمكانة المسلمين ، وإذلال لليهود الذين عاثوا الفساد في الأرض.

٤ ـ إن في إجلاء اليهود على هذا النحو عبرة وعظة ، يتعظ بها أولو الألباب وأصحاب العقول ، جاء في الأمثال الصحيحة : «السعيد : من وعظ بغيره».

٥ ـ تمسك علماء أصول الفقه بآية : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) على أن القياس حجة ، لأن الله تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره ، وذلك متحقق في القياس ، إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع.

٧٣

٦ ـ استدل العلماء بالآية : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ ..) إلخ على جواز هدم ديار الكفار الأعداء ، وقطع أشجارهم ، وإحراق زروعهم في أثناء الحرب ، للضرورة الحربية ، فلا بأس من الهدم والحرق والتغريق والرمي بالمجانيق ، وقطع الأشجار ، مثمرة كانت أو غير مثمرة. ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطع نخل بني النضير وحرّق. وهذا هو الرأي الصحيح ، ويرى الشافعية أنه إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا ، وإن ييأسوا فعلوا.

٧ ـ قال الكيا الطبري : ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن ، وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ ، والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم. وهذا محل نظر في تقديري.

٨ ـ كان قضاء الله تعالى بجلاء يهود بني النضير من المدينة وخيبر رحمة بهم ، ولولا ذلك لعذبهم الله في الدنيا بالقتل والسّبي ، كما فعل ببني قريظة. والجلاء : مفارقة الوطن ، والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما لغة واحدا من وجهين كما ذكر القرطبي :

أحدهما ـ أن الجلاء : ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.

الثاني ـ أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج يكون لواحد ولجماعة.

٩ ـ إن سبب ذلك التخريب والجلاء هو مشاقة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي معاداة الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومخالفة أمر الله ، ثم عمم الله الإنذار ، فقال بقصد الزجر : (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ ، فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

١٠ ـ كان خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يهود بني النضير في ربيع الأوّل أوّل السنة الرابعة من الهجرة ، وتحصنوا منه بالحصون ، وأمر بقطع النخل وإحراقها ، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودسّ عبد الله بن أبيّ بن سلول ومن معه من المنافقين

٧٤

إلى بني النضير : إنّا معكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، فاغترّوا بذلك.

ولما لزم الأمر واقتضت الحرب معاونتهم خذلوهم وأسلموهم ، وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكفّ عن دمائهم ويجليهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ، فاحتملوا ذلك إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام.

١١ ـ قال الماوردي في آية : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ..) : إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب ، لأن بعض الناس كان يقطع ، وبعضهم لا يقطع ، فصوّب الله الفريقين. والحق أن المصيب في الاجتهاد واحد ، وغيره مخطئ لا إثم عليه ، كما أن الآية ليست من محل النزاع ، لأن اجتهاد الصحابة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تأثير له ، قال ابن العربي معلقا على قول الماوردي : وهذا باطل ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معهم ، ولا اجتهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما يدل على اجتهاد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما لم ينزل عليه ، أخذا بعموم الأذيّة للكفار ، ودخولا في الإذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار ، وذلك قوله تعالى : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) (١).

حكم الفيء

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ

__________________

(١) احكام القران : ٤ / ١٧٥٧

٧٥

الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

الإعراب :

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) الجملة حال.

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ .. الَّذِينَ) : في موضع جر ، لأنه معطوف على قوله : (لِلْفُقَراءِ). و (الْإِيمانَ) : منصوب بتقدير فعل ، وتقديره : وقبلوا الإيمان. و (يُحِبُّونَ) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (الَّذِينَ). ويجوز أن يكون (يُحِبُّونَ) في موضع رفع ، على أن يجعل (الَّذِينَ) مبتدأ ، و (يُحِبُّونَ) خبره.

البلاغة :

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) و (ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) بينهما ما يسمى بالمقابلة.

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الضمير (دِيارِهِمْ) بين المبتدأ ، والخبر لإفادة الحصر.

(تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) استعارة ، شبّه الإيمان المستقر في نفوسهم بمنزل للإنسان نزل فيه وتمكن منه.

المفردات اللغوية :

(وَما أَفاءَ) رد وأعاد ، أي صيّره إليه ، والفيء شرعا : ما أخذ من أموال الكفار من غير حرب ولا قتال ، أو بلا إيجاف خيل ولا ركاب أو صلحا كأموال بني النضير ، أما الغنيمة : فهي

٧٦

ما أخذ بحرب وقتال ، ورأى بعضهم أن الفيء : العقارات ، والغنيمة : المنقولات. (مِنْهُمْ) من بني النضير أو من الكفرة أو أهل الكتاب المذكورين في أول السورة. (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) أسرعتم أيها المسلمون ، من الوجيف : وهو سرعة السير. (مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ مِنْ) زائدة ، والركاب : ما يركب من الإبل ، والمراد : أنكم لم تبذلوا في تحصيله مشقة ، ولم تقاسوا فيه شدة. (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بإلقاء الرعب في قلوبهم. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الله القادر على ما يريد ، تارة بواسطة ، وتارة بغير واسطة ، بحرب أو بغير حرب.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) بيان للأول ، أي من أهل البلدان المفتوحة بلا قتال ، كالصفراء ووادي القرى وينبع. (فَلِلَّهِ) الأمر فيه لله يأمر فيه بما يشاء ، قيل : تكون قسمة الغنائم أسداسا ، ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة وسائر المساجد ، وقيل : يخمّس ، وذكر الله للتعظيم ، ويصرف الآن سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإمام أو إلى الجيش ، أو في مصالح المسلمين.

(وَلِذِي الْقُرْبى) صاحب قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني هاشم وبني المطلب. (وَالْيَتامى) أطفال المسلمين الذين فقدوا آباءهم ، وهم فقراء. (وَالْمَساكِينِ) ذوي الحاجة من المسلمين. (وَابْنِ السَّبِيلِ) المنقطع في سفره من المسلمين. (كَيْ لا يَكُونَ) أي لئلا يكون الفيء ، أو المال ، وهو علة لقسمه على النحو المذكور. (دُولَةً) بالضم : متداولا ، فالدولة : ما يتداول من المال ، والدّولة بالفتح : ما ينتقل من الحال. (آتاكُمُ) أعطاكم. (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) ما منعكم عنه. (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالف.

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) بدل من قوله : (لِذِي الْقُرْبى) وما عطف عليه ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يسمى فقيرا ، والمهاجرون : هم الذين هاجروا في صدر الإسلام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) فإن كفار مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) الجملة حال مقيدة لصفة إخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم. (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ينصرون دينه بأنفسهم وأموالهم. (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الذين صدقوا في إيمانهم وجهادهم.

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) أي والذين سكنوا المدينة ولزموها ، ولزموا الإيمان وألفوه وتمكنوا فيه ، والمراد بالدار : دار الهجرة ، وهم الأنصار. (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل هجرة المهاجرين. (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ) في أنفسهم. (حاجَةً) أي شيئا نفسيا كالحزازة والحسد والغيظ. (مِمَّا أُوتُوا) مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره دون الأنصار. (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) ويقدمون المهاجرين على أنفسهم ، من الإيثار : وهو تقديم مصلحة الغير على النفس في أعراض الدنيا. (خَصاصَةٌ) حاجة إلى ما يؤثرون به ، من خصاص البناء : فرجته. (وَمَنْ يُوقَ شُحَ

٧٧

نَفْسِهِ) أي ومن يمنع ويحمى من بخل نفسه ، وهو حب المال وبغض الإنفاق ، والشح : بخل مع حرص. (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل.

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد المهاجرين والأنصار ، وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ، فلذلك قيل : إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين. (غِلًّا) حقدا وحسدا لهم. (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) بالغ الرأفة والرحمة ، فحقيق بأن تجيب دعاءنا.

سبب النزول :

نزول الآية (٩):

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا ..) : أخرج ابن المنذر عن زيد الأصم : أن الأنصار قالوا : يا رسول الله ، اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض نصفين قال : لا ، ولكن تكفونهم المؤنة وتقاسمونهم الثمرة ، والأرض أرضكم ، قالوا : رضينا ، فأنزل الله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) الآية.

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، أصابني الجهد (الجوع والفاقة) فأرسل إلى نسائه ، فلم يجد عندهن شيئا ، فقال : ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه‌الله ، فقام رجل من الأنصار ، فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب إلى أهله ، فقال لامرأته : ضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا تدخريه شيئا ، قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية ، قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ، وتعالي فأطفئي السراج ، ونطوي بطوننا الليلة ، ففعلت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لقد عجب الله ، أو ضحك من فلان وفلانة ، فأنزل الله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).

وأخرج مسدّد في مسنده وابن المنذر عن أبي المتوكل الناجي أن رجلا من المسلمين ، فذكر نحوه ، وفيه : أن الرجل الذي أضاف : ثابت بن قيس بن شماس ، فنزلت فيه هذه الآية.

٧٨

وأخرج الواحدي عن عبد الله بن عمر قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأس شاة ، فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا ، فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث واحد إلى آخر ، حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك ، فنزلت : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) الآية.

المناسبة :

بعد بيان ما حل ببني النضير في الدنيا من تخريب بيوتهم ، وتحريق نخيلهم وتقطيعها ، ثم إجلائهم إلى الشام ، ثم الإخبار عن عذابهم في الآخرة ، ذكر الله تعالى حكم الأموال التي أخذت منهم ، فهي فيء ، ثم ذكر تعالى حكم الفيء بصفة عامة ، لبيان الفرق بين الغنيمة التي تؤخذ بقتال ، والفيء الذي يؤخذ صلحا بغير قتال.

وإنما أخذت أموال بني النضير بغير قتال يذكر ، بالرغم من حصارهم ، لأنه لم يكن للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة ، وإنما كانوا على ميلين من المدينة ، فمشوا إليها مشيا ، ولم يركب إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان راكب جمل ، فلما كانت المقاتلة قليلة ، ولم يكن خيل ولا ركاب ، أجراه الله تعالى مجرى ما لم يحصل فيه قتال أصلا ، وخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الأموال ، فقسمها بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة ، وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصّمة.

التفسير والبيان :

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي ما ردّه الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصيّره إليه من أموال الكفار بني النضير ، فهو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه لم يحصل فيه قتال ولا حرب ولا تجشم مشقة ، ولم

٧٩

تركبوا لتحصيله خيلا ولا إبلا ، وإنما كانت من المدينة على ميلين ، وافتتحت ديارهم صلحا ، وأخذت أموالهم بعد جلائهم عنها ، ولذا لم تقسم بين الغانمين ، وإنما جعل الله أموال بني النضير لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة لهذا السبب ، يصرفه على مصالحه كيف يشاء.

أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال : «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالصة ، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته ـ أو قال : قوت سنته ـ وما بقي جعله في الكراع (١) والسلاح عدّة في سبيل الله عزوجل». وإنما قال : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) لأنه الطائع لربه فيما يأمره به ، وجدير بالمال أن يكون للمطيعين.

(وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ولكن الله بقدرته يسلط رسله على من يشاء من أعدائه ، كما سلط محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بني النضير ، فأخذ أموالهم دون قتال ، والله قادر على كل شيء ، يفعل ما يشاء بمن يشاء ، فإنه سبحانه هو الذي مكّن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني النضير.

ثم ذكر الله حكم الفيء ، فصارت أموال الأعداء ثلاثة أنواع : الغنائم المنقولة المأخوذة قهرا التي توزع أخماسا بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ..) [الأنفال ٨ / ٤١] والأموال المنقولة التي تؤخذ صلحا بلا إيجاف خيل ولا ركاب ، فهي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، يصرفها كيف شاء بقوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ ..) وأموال الفيء العقارية التي توزع على المصالح العامة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بقوله تعالى هنا :

__________________

(١) الكراع : الخيل أو الدواب التي تصلح للحرب.

٨٠