التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان إذا جاء لا يقومون له ، لما يعلمون من كراهته لذلك (١).

(وَإِذا قِيلَ : انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي إذا طلب من بعض الجالسين في المجلس أن ينهضوا من أماكنهم ، ليجلس فيها أهل الفضل في الدين ، وأهل العلم بشرع الله ، فليقوموا.

وهذا يشمل أيضا ما إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه : قوموا ، ينبغي أن يجاب.

وبعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن بعض الأشياء ، ثم أمرهم ثانيا ببعض الأشياء ، وعدهم على الطاعات ، فقال :

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي يرفع الله منازل المؤمنين في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيها ، ويرفع أيضا بصفة خاصة منازل العلماء درجات عالية في الكرامة في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، فمن جمع الإيمان والعلم ، رفعه الله بإيمانه درجات ، ثم رفعه بعلمه درجات ، ومن جملة ذلك رفعه في المجالس ، والله خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه ، مطّلع على أحوال ونوايا جميع عباده ، ومجازيهم على أعمالهم جميعا ، خيرا أو شرا.

روى الإمام أحمد ومسلم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة : أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان ، وكان عمر استعمله على مكة ، فقال له عمر : من استخلفت على أهل الوادي؟ قال : استخلفت عليهم ابن أبزى ، رجل من موالينا ، فقال عمر : استخلفت عليهم مولى؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه قارئ لكتاب الله ، عالم بالفرائض ، قاض ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : أما إن نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال : «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما ، ويضع به آخرين».

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٢٥

٤١

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى ما يأتي :

١ ـ التوسع في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر مطلوب شرعا ، وأدب حسن ، سواء كان مجلس النبي في عصره ، أو عالم بعده أو مجلس حرب أو ذكر أو شورى أو مجلس يوم الجمعة أو العيد أو العلم ونحوه ، وليس ذلك واجبا وإنما هو مندوب شرعا ، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سبق إلى ما لم يسبق إليه ، فهو أحق به» (١) ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذّ بذلك ، فيخرجه الضيق عن موضعه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر كما تقدم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ، ثم يجلس فيه» وعن ابن عمر أيضا فيما رواه البخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ، ويجلس فيه آخر ، ولكن تفسحوا وتوسعوا» وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ، ثم يجلس مكانه.

٢ ـ إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد ، لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه ، لما روى مسلم عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ، ثم يخالف إلى مقعده ، فيقعد فيه ، ولكن يقول : افسحوا». وإذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع ، فيأخذ له مكانا يقعد فيه ، لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع. ومثل ذلك إرسال بساط أو سجادة لتبسط له في موضع من المسجد.

والجالس يختص بموضعه إلى أن يغادره نهائيا ، لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قام أحدكم ـ أو من قام من مجلسه ـ ثم رجع إليه ، فهو أحق به».

__________________

(١) حديث صحيح رواه أبو داود والضياء عن أم جنوب بلفظ : «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم ، فهو له».

٤٢

٣ ـ إن للتوسع في المجالس ثوابا ، لقوله تعالى : (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي يوسع عليكم في الدنيا والآخرة.

٤ ـ إذا قيل : انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير ، يجاب القائل ، وإذا دعي الشخص إلى القيام عن مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجب القيام ، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا الانفراد في وظائف تخصه لا تتأتى ولا تكمل بدون الانفراد.

وإذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه : (قوموا) ينبغي أن يجاب ، ويفعل ذلك لحاجة ، إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها ، مما لا نزاع في جوازه.

٥ ـ يرفع الله درجات المؤمنين والعلماء في الثواب في الآخرة ، وفي الكرامة في الدنيا ، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن ، والعالم على من ليس بعالم. قال ابن مسعود : مدح الله العلماء في هذه الآية.

وتدل هذه الآية : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...) أيضا على أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان ، لا بالسبق إلى صدور المجالس ، فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا.

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل العلماء ، منها الحديث السابق عند أبي نعيم عن معاذ ـ وفيه ضعف ـ : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» ومنها حديث حسن رواه ابن ماجه عن عثمان رضي‌الله‌عنه : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء» فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن ابن عباس : خيّر سليمان عليه‌السلام بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم ، فأعطي المال والملك معه.

٤٣

الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

البلاغة :

(فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) استعارة ، استعار اليدين لما يكون قبل الشيء ، أي قبل نجواكم ، وهي استعارة بالكناية ، حيث شبه النجوى بالإنسان ، وحذفه ورمز إليه بشيء من لوازمه ، وهو اليدان. ويصح أن يكون في التركيب استعارة تمثيلية.

(أَأَشْفَقْتُمْ) استفهام معناه التقرير.

المفردات اللغوية :

(ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) أردتم مناجاته والتحدث معه. (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي قدموا قبل المناجاة صدقة للفقراء ، قال البيضاوي : وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانتفاع الفقراء ، والنهي عن الإفراط في السؤال ، والميز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ، واختلف في أنه للندب أو للوجوب ، لكنه منسوخ بقوله : (أَأَشْفَقْتُمْ) وهو إن اتصل به تلاوة ، لم يتصل به نزولا.

(وَأَطْهَرُ) أي أزكى للنفوس وأبعد عن الريبة وحب المال ، وهو يشعر بالندب ، لكن قوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أدل على الوجوب ، أي إن لم تجدوا ما تتصدقون به ، يرخص لكم في المناجاة بلا صدقة. والله غفور لمناجاتكم ، رحيم بكم ، فلا حرج عليكم في المناجاة.

(أَأَشْفَقْتُمْ) خفتم ، والمعنى : أخفتم الفقر في تقديم الصدقة؟ وجمع صدقات لجمع المخاطبين أو لكثرة التناجي. (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) الصدقة. (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بأن رخص لكم ألا تفعلوه ، أو رجع بكم عنها ، وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه. (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي

٤٤

دوموا عليهما ولا تفرطوا في أدائهما. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر الأوامر ، فإن القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ظاهرا وباطنا.

سبب نزول الآيتين (١٢ ، ١٣):

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شقّوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فأنزل : (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) فلما نزلت ، صبر كثير من الناس ، وكفّوا عن المسألة ، فأنزل الله بعد ذلك : (أَأَشْفَقْتُمْ) الآية.

وأخرج الترمذي وحسّنه ، وغيره عن علي قال : لما نزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما ترى ، دينار؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : فنصف دينار؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : فكم؟ قلت : شعيرة ، قال : إنك لزهيد ، فنزلت : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الآية ، فبي خفف الله عن هذه الأمة.

وقال مقاتل بن حيان : نزلت الآية في الأغنياء ، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكثرون مناجاته ، ويغلبون الفقراء على المجالس ، حتى كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك من طول جلوسهم ومناجاتهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية ، وأمر بالصدقة عند المناجاة ، فأما أهل العسرة ، فلم يجدوا شيئا ، وأما أهل الميسرة فبخلوا ، واشتد ذلك على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت الرخصة.

وقال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) كان لي دينار فبعته ، وكنت إذا ناجيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصدقت بدرهم حتى نفد ، فنسخت بالآية الأخرى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ)؟.

٤٥

المناسبة :

بعد بيان أدب الإسلام في المناجاة والمجالسة ، أمر الله تعالى المؤمنين بتقديم صدقة قبل مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسماع أحاديثه ، وكانوا يكثرون من هذه المناجاة ، فكان ذلك يشق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد يستثقله الحاضرون ، فأراد الله أن يحد من هذه المناجاة ، ويخفف عن نبيه ، فأمر بتقديم الصدقة قبل المناجاة ، تعظيما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعظام مناجاته ، ولنفع الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة ، ولتمييز المنافقين الذين يحبون المال عن المؤمنين المخلصين. قال ابن عباس : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شقوا عليه ، وأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما نزلت هذه الآية ، شحّ كثير من الناس ، فكفّوا عن المسألة.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي يا أيها الذين أقروا بوجود الله ووحدانيته وصدقوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا أردتم مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مساررته في أمر من أموركم ، فقدموا قبل المناجاة صدقة ، تصدقوا بها ، لتعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتخفيف عنه ، ونفع الفقراء ، وتمييز المؤمن الحق والمنافق.

ثم أبان الله تعالى حكمة الصدقة ، فقال :

(ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن تقديم الصدقة قبل النجوى خير لكم ، لما فيه من طاعة الله وامتثال أمره ، والثواب الأخروي ، وأزكى لنفوسكم بتطهيرها من الشح والبخل وحب المال ، ونفع الفقراء ، وتضامن الأمة ، وإعزاز شأنها ورفعة قدرها ، فإن لم يجد أحدكم تلك

٤٦

الصدقة ، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة ، وقد رخص الله لكم في المناجاة بلا تقديم صدقة ، لأن المأمور بها هو القادر عليها الغني.

وظاهر الآية يدل على أن تقديم الصدقة كان واجبا ، لأن الأمر للوجوب ، ويتأكد ذلك بقوله في آخر الآية : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإن ذلك لا يقال إلا لترك الوجوب.

وقال بعضهم : إن الأمر هنا للندب والاستحباب ، بقرينة (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض ، ولأنه لو كان ذلك واجبا لما أزيل وجوبه بكلام متصل به ، وهو : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا). والجواب : أن الواجب يوصف أيضا بأنه خير وأطهر كالمندوب ، وأنه لا يلزم من كون الآيتين متصلتين في التلاوة ، كونهما متصلتين في النزول ، فتكون آية (أَأَشْفَقْتُمْ) ناسخة للوجوب الذي ثبت بالأمر.

وأنكر أبو مسلم الأصفهاني وقوع النسخ ، وقرر أن الأمر بتقديم الصدقة على النجوى لتمييز المؤمن المخلص من المنافق ، فلما تحقق الغرض ، انتهى الحكم ، أي أن ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاؤه بانتهاء تلك الغاية ، فلا يكون هذا نسخا. قال الرازي : وهذا الكلام حسن ما به بأس ، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله : (أَأَشْفَقْتُمْ).

ثم رفع الله تعالى الحكم السابق ، فقال :

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟) أي أخفتم تقديم الصدقات ، لما فيه من إنفاق؟ قال مقاتل : إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي : ما كان ذلك إلا ليلة واحدة.

(فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ

٤٧

وَرَسُولَهُ ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي حين لم تفعلوا ما أمرتكم به من الصدقة قبل النجوى لثقلها عليكم ، ورخص الله لكم في الترك ، والمناجاة من غير صدقة ، فثابروا واثبتوا على إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله خبير محيط بأعمالكم كلها ظاهرها وباطنها ، فمجازيكم عليها. والإشفاق : الخوف من المكروه.

قال قتادة ومقاتل بن حيان : سأل الناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، ففطمهم الله بهذه الآية ، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدّم بين يديه صدقة ، فاشتد ذلك عليهم ، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك.

وليس في الآية إشارة إلى وقوع تقصير من الصحابة في تقديم الصدقة ، فقد يكون عدم الفعل ، لأنهم لم يناجوا. ولا يدل أيضا قوله : (تابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) على أنهم قصروا ، لأن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا ، ومثل هذا يجوز أن يعبر عنه بالتوبة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيتان على ما يأتي :

١ ـ أوجب الله تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تعظيما لنبيه وتخفيفا عنه من كثرة الأسئلة ، ثم خفف الله عن الأمة ، ورفع التكليف.

والظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة ، فقد تصدق علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، كما تقدم ، ولم يوجد مقتض للمناجاة لدى بقية الصحابة الذين تريثوا وفهموا علة التكليف.

وكان التكليف مقصورا على الأغنياء ، لأنه تعالى جعل الصدقة بالمال خيرا

٤٨

من إمساكها ، وأطهر لقلوبهم من المعاصي والذنوب ، فإن لم يجد الواحد ما يتصدق به ، فإن الله غفور له ، رحيم به.

٢ ـ علم الله تعالى ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل ، مع كثرة المسائل ، لو دام الوجوب ، فخفف الله عنهم ، وأمر بمتابعة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله تعالى في فرائضه ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سننه ، والله محيط بأعمال عباده ونياتهم.

حال المنافقين الذين يوالون غير المؤمنين

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩))

الإعراب :

(ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) جملة حالية من فاعل (تَوَلَّوْا) أو استئنافية ، والمعنى واحد ، ويصح جعلها صفة لقوم.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً جَمِيعاً) منصوب على الحال من الهاء والميم في (يَبْعَثُهُمُ) وهو عامل الحال.

٤٩

البلاغة :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) استفهام يراد منه التعجيب. (يَعْلَمُونَ) و (يَعْمَلُونَ) جناس ناقص لتغير الرسم.

(أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) و (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بينهما ما يسمى بالمقابلة.

(أَلا الشَّيْطانُ عَلَيْهِمُ) في الجملتين السابقتين ، تأكيدات متنوعة تفيد التقبيح في الأولى ، والتحلية في الثانية.

(يَعْمَلُونَ) ، (خالِدُونَ) ، (الْكاذِبُونَ) ، (الْخاسِرُونَ) ، توافق الفواصل في الحرف الأخير.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) تنظر أو أخبرني ، وهو أسلوب يراد به التعجيب للمخاطب من حال هؤلاء المنافقين. (الَّذِينَ تَوَلَّوْا) والوا وودّوا وأحبوا ، وهم المنافقون. (قَوْماً) هم اليهود. (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) سخط. (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك. (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) وهو ادعاء الإسلام وأنهم من المؤمنين. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون فيه أي في المحلوف عليه.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) نوعا من العذاب متفاقما. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من المعاصي التي تمرنوا عليها وأصروا على فعلها. (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي التي حلفوا بها. (جُنَّةً) وقاية وسترا على أنفسهم من المؤاخذة. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صدوا بأيمانهم الناس عن دين الله بالتحريش والتثبيط. (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وعيد ثان بوصف أخر لعذابهم ، وهو أنه ذو إهانة.

(مِنَ اللهِ) من عذابه. (شَيْئاً) من الإغناء. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ) أي اذكر لهم ذلك اليوم. (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أنهم مؤمنون. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) من نفع حلفهم في الآخرة كالدنيا. (اسْتَحْوَذَ) استولى عليهم وأحاط بهم وغلب على عقولهم. (حِزْبُ الشَّيْطانِ) أعوانه وأتباعه وأنصاره.

٥٠

سبب النزول :

نزول الآية (١٤):

(أَلَمْ تَرَ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن السدي ومقاتل في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً) الآية ، قال : بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق ، كان يجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجرة من حجره ، إذ قال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار ، وينظر بعيني شيطان ، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فعلت ، فانطلق ، فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبّوه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

نزول الآية (١٨):

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ ..) : أخرج أحمد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظل حجرة ، وقد كاد الظل يتقلص ، فقال : إنه سيأتيكم إنسان ، فينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاءكم ، لا تكلموه ، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق أعور ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له حين رآه : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال : ذرني آتك بهم ، فانطلق ، فدعاهم ، فحلفوا له ما قالوا وما فعلوا ، فأنزل الله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) الآية.

المناسبة :

بعد أمر المؤمنين بالصدقة قبل مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تخفيفا عنه في طول مجالسته وكثرة التردد عليه ، ذكر الله تعالى حال جماعة من المنافقين كانوا يتولون اليهود

٥١

ويودونهم ، ويطلعونهم على أسرار المؤمنين ، وهم في الواقع لا مع الكفار ولا مع المؤمنين ، كما قال تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [النساء ٤ / ١٤٣].

وقد أنذرهم الله بالعذاب ، وأبان بواعث أفعالهم واستيلاء الشيطان على عقولهم ، فهم أتباع الشيطان وأنصاره.

التفسير والبيان :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) أي أخبرني عن حال هؤلاء المنافقين الذين تولوا اليهود ومالئوهم في الباطن ، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين ، فموقفهم يستدعي التعجب ، لذا سخط الله عليهم ، وهم في الواقع ، لا مع المؤمنين ولا مع اليهود ، أي ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون ، ولا من الذين يوالونهم ، وهم اليهود.

(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي واتخذوا الأيمان الكاذبة ستارا لهم ، فهم يحلفون أنهم مسلمون ، أو ما نقلوا الأخبار إلى اليهود ، وهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه ، وأنه كذب لا حقيقة له.

ثم أنذرهم تعالى بالعذاب الشديد ، فقال :

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هيأ الله لهم ، وأرصد لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة ، وهي موالاة الكافرين ونصحهم ، ومعاداة المؤمنين وغشّهم ، وساء ما فعلوا من الأعمال القبيحة في الزمان الماضي ، مصرّين على سوء العمل.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً ، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي أظهروا الإيمان ، وأبطنوا الكفر ، واتقوا بالأيمان الكاذبة ، واتخذوها وقاية وسترا

٥٢

لدمائهم ، فخدع بهم بعض الناس الذين لا يعرفون حقيقة أمرهم ، وظنوا صدقهم ، فحصل بهذا صدّ عن سبيل الله ، بأن منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط ، وتهوين أمر المسلمين ، وتضعيف شوكتهم ، فلهم عذاب يلازمه الذل والهوان في نار جهنم بسبب أيمانهم الكاذبة بالله تعالى ، وفي مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة.

ثم ذكر الله تعالى مدى إفلاسهم يوم القيامة ، فقال :

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لن تفيدهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله ، شيئا من الإفادة ، وأولئك

الموصوفون بهذه الصفات هم أهل النار ، لا يفارقونها ، وماكثون فيها ، لا يخرجون منها ولا يموتون فيها.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) أي اذكر لهم أيها النبي حين يبعثهم الله جميعا من قبورهم أحياء ، ويحشرهم يوم القيامة عن آخرهم ، فلا يغادر منهم أحدا ، فيحلفون بالله عزوجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة ، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا ، لأن من عاش على شيء مات عليه ، وبعث عليه ، ويظنون أن ذلك ينفعهم عند الله ، كما كان ينفعهم عند الناس.

وهذا من شدة شقاوتهم ، فإن الحقائق يوم القيامة قد انكشفت.

(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي ويظنون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعا أو يدفع ضررا ، كما كانوا يظنون ذلك في الدنيا ، ألا إنهم بهذا التصور هم الكاذبون أشد الكذب فيما يحلفون عليه.

وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ

٥٣

فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام ٦ / ٢٣ ـ ٢٤].

ثم ذكر الله تعالى سبب ضلالهم ، فقال :

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ ، فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ ، أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي استولى عليهم وأحاط بهم وغلب على عقولهم ، فتركوا أوامره والعمل بطاعاته ، أولئك جنود الشيطان وأتباعه ورهطه ، إلا إن أعوان الشيطان هم الخاسرون الهالكون ، لأنهم باعوا الجنة بالنار ، والهدى بالضلالة ، وكذبوا على الله وعلى نبيه ، وحلفوا الأيمان الفاجرة ، فسوف يخسرون في الدنيا والآخرة ، وليس العاقل من يقبل هذا ويرتضيه لنفسه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ تحرم موادّة الكافرين أعداء المؤمنين ، واطلاعهم على أسرار المسلمين ، ومؤازرتهم ونصحهم.

٢ ـ ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين ، بل هم مذبذبون بين ذلك ، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم.

٣ ـ لهؤلاء المنافقون عذاب شديد في جهنم ، وهو الدّرك الأسفل من النار ، وبئست الأعمال أعمالهم.

٤ ـ اتخذ هؤلاء المنافقون أيمانهم جنّة أو ساترا ووقاية لهم من القتل ، فلهم عذاب ذو إهانة في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.

٥٤

٥ ـ لن تفيدهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا.

٦ ـ لهم عذاب مهين يوم بعثهم من قبورهم وحشرهم يوم القيامة.

٧ ـ إنهم يغالطون باليمين مغالطة ظاهرة ، ظانين أن الأيمان الكاذبة تنفعهم في الآخرة كما تنفعهم في الدنيا ، وهم يحسبون أنهم على شيء من النفع بإنكارهم وحلفهم ، وهم في الواقع كاذبون ، والمراد : أنهم كما عاشوا على النفاق والحلف الكاذب يموتون ويبعثون على ذلك الوصف.

٨ ـ لقد غلب الشيطان عليهم بوسوسته في الدنيا ، مما أدى بهم إلى ترك أوامر الله والعمل بطاعته ، وهم رهط الشيطان وطائفته ، وحزب الشيطان هم الخاسرون في بيعتهم ، لأنهم باعوا الجنة بجهنم ، وباعوا الهدى بالضلالة.

جزاء المعادين لله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوعد بنصر المؤمنين

وتحريم موالاة الأعداء

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

٥٥

الإعراب :

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ .. كَتَبَ) : أجري مجرى القسم ، لذا أجيب بجواب القسم في قوله : (لَأَغْلِبَنَ). (وَرُسُلِي) : في موضع رفع بالعطف على الضمير في (لَأَغْلِبَنَ). وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المستتر لتأكيده بقوله : (أَنَا). وإذا أكد الضمير المنفصل أو المستتر ، جاز العطف عليه.

(فِي الْأَذَلِّينَ) هي أفعل التفضيل.

البلاغة :

(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) مجاز مرسل ، لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية.

المفردات اللغوية :

(يُحَادُّونَ) يعادون ويخالفون ويشاقون ، فهم في حد ، والشرع والهدى في حد. (فِي الْأَذَلِّينَ) في جملة المغلوبين أذل خلق الله. (كَتَبَ اللهُ) قضى وحكم. (لَأَغْلِبَنَ) بالحجة والقوة. (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُوادُّونَ) يصادقون ، أي لا ينبغي أن تجدهم وادّين أعداء الله ، والمراد : أنه لا ينبغي لهم أن يوادّوهم. (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) ولو كان المحادّون أقرب الناس إليهم. (أُولئِكَ) أي الذين لم يوادّوهم. (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أثبت الإيمان في قلوبهم ، وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان ، لأن أعمال الأعضاء لا تثبت في القلب.

(وَأَيَّدَهُمْ) قواهم. (بِرُوحٍ مِنْهُ) أي بنور من عند الله يقذفه في القلوب ، لتطمئن وتسكن. (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بطاعته. (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه الذي وعدهم به. (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) جنده وأنصار دينه ، يتبعون أمره ويجتنبون نهيه. (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بخير الدارين.

سبب النزول :

نزول الآية (٢١):

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ ..) قال مقاتل : لما فتح الله مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها ، قالوا : نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم ، فقال عبد الله بن أبي : أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ، والله إنهم

٥٦

لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك؟ فنزلت : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).

نزول الآية (٢٢):

(لا تَجِدُ قَوْماً) : أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال : نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ) الآية.

وأخرجه الطبراني والحاكم في المستدرك بلفظ : جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر ، قصده أبو عبيدة ، فقتله ، فنزلت.

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : حدّثت أن أبا قحافة سبّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : فصكّه أبو بكر صكّة ، فسقط ، فذكر ذلك للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أفعلت يا أبا بكر؟ فقال : والله لو كان السيف قريبا مني لضربته به : (لا تَجِدُ قَوْماً ..) الآية.

وقال الرازي : إن الأكثرين اتفقوا على أن قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً ...) نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، لما أراد فتح مكة.

المناسبة :

بعد بيان سوء حال المنافقين في الآخرة وخسارتهم الكبرى ، أبان الله تعالى سبب خسارتهم وهو مشاقّة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومخالفة أوامرهما ، ثم أخبر عن قضائه المبرم في نصر الرسل وهزيمة أعدائهم ، ثم ذكر أن الإيمان لا يجتمع مع وداد أعداء الله وموالاتهم ، لأن من أحبّ أحدا ، امتنع أن يحب مع ذلك عدوه.

٥٧

التفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي إن الكفار المعاندين المخالفين أوامر الله ونواهيه ، والذين يجانبون الحق ويعادون الإسلام ، فيجعلون أنفسهم في حد ، وشرع الله ورسوله في حد آخر ، هم في جملة المغلوبين وفي جملة من هم أذلّ خلق الله تعالى ، لا ترى أحدا أذلّ منهم ، سواء في الدنيا بالقتل والأسر والطرد من الديار ، كما حصل للمشركين واليهود ، وفي الآخرة بالخزي والنكال والعذاب ، كما قال تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [آل عمران ٣ / ١٩٢]. وهذا إنذار بهزيمة أعداء الله ، والآية جملة استئنافية لتعليل خسرانهم.

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي حكم الله وقضى في سابق علمه الأزلي أن الله ورسله هم الغالبون بالحجة والسيف ونحوهما ، إن الله قوي على نصر رسله ، غالب لأعدائه ، وهذا ـ كما قال ابن كثير ـ قدر محكم ، وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة. وهذا بشارة بنصر المؤمنين على الكافرين ، وقد تحقق ذلك مرارا ، فنصر رسله الكرام على أقوامهم ، كقوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم ممن مضى ، ونصر رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن آمن معه على المشركين في الجزيرة العربية ، وعلى دولتي الروم والفرس.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [٣٧ / ١٧١ ـ ١٧٣].

ثم بيّن الله تعالى شأن المؤمنين في أنهم لا يوادون أعداء الله ، فقال :

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي لا ينبغي للمؤمنين بالله واليوم الآخر أن يحبوا ويصادقوا ويوالوا من عادى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٥٨

وشاقهما ، ولو كان المحادّون المعادون لله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرب الناس إليهم ، كالآباء الذين يجب برّهم وطاعتهم ، والأبناء فلذات الأكباد ، والإخوان الناصرين لهم ، والعشيرة أو القبيلة التي ينتمون إليها ويتآزرون بها.

أخرج الترمذي والحاكم والطبراني مرفوعا : «يقول الله تبارك وتعالى : وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ، ويعاد أعدائي». وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا : «أوثق الإيمان : الحب في الله ، والبغض في الله».

وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لا تجعل لفاجر ـ وفي رواية : ولا لفاسق ـ علي يدا ولا نعمة ، فيودّه قلبي ، فإني وجدت فيما أوحيت إلي : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)».

ثم بيّن الله تعالى سبب الامتناع من موادّة الأعداء وجزاء الممتنعين ، فقال :

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي أولئك الذين لا يوادّون من حادّ الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثبت الله الإيمان الصحيح في قلوبهم ، وقواهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا ، وسمي نصره لهم روحا ، لأن به يحيا أمرهم ، ويدخلهم الجنان التي تجري الأنهار من تحت قصورها وأشجارها ، ماكثين فيها على الأبد ، وقد قبل أعمالهم ، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة ، وفرحوا بما أعطاهم عاجلا وآجلا.

(أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي أولئك أنصار الله وجنده الذين يمتثلون أوامره ، ويقاتلون أعداءه ، وينصرون أولياءه ، ألا إن هؤلاء الأنصار هم الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة.

٥٩

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي من الموضوعات الأربعة :

١ ـ إن الكفار المعاندين الذين يشاقون الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعادون شرع ربهم ، وسنة رسولهم ، من جملة الأذلّاء ، فلا أذلّ منهم.

٢ ـ قضى الله وحكم في اللوح المحفوظ أنه سيغلب أعداءه بالحجة والسيف ونحوهما ، فمن تهيأ للحرب غلب بالحرب ، ومن استعد للحجة والبيان غلب بالحجة.

٣ ـ لا يجتمع الإيمان الحق مع وداد أعداء الله ، لأن من أحب أحدا ، امتنع أن يحب مع ذلك عدوه ، حتى ولو كان الأعداء من الأقربين ، ومن أنعم الله عليه بنعمة الإيمان العظمى ، كيف يمكن أن يحصل في قلبه مودة أعداء الله؟!

٤ ـ وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين المجتنبين مصادقة الأعداء بأن الله غرس الإيمان في قلوبهم ، وأيدهم بنصر من عنده ، ثم بيّن جزاءهم الأخروي وهو دخول الجنان مع الخلود فيها ، والحظوة برضوان الله وثوابه ، والفرح بما أمدهم الله به من النعم في الدنيا والآخرة من نصر ورزق وخير ، ونور وإيمان وبرهان وهدى ، وجنان ، ثم وصفهم الله بأنهم حزب الله الغالب ، وحزب الله هم المفلحون الفائزون ، وهذا المعنى الأخير بيان لاختصاص هؤلاء بسعادة الدنيا والآخرة.

والخلاصة : ذكر الله أربع نعم على من ترك موادة الأعداء وهي :

أولا ـ إثبات الإيمان في قلوبهم.

ثانيا ـ تأييدهم بروح من عند الله ، أي بنصرهم على عدوهم ، وبروح من الإيمان.

٦٠