التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

٢ ـ إن عذاب المخالفين من الكفار والعصاة عذاب شديد في نار جهنم التي تتقد بالناس والحجارة ، ويقوم بأمرها ملائكة تسعة عشر هم الملائكة الزبانية غلاظ القلوب ، لا يرحمون إذا استرحموا ، خلقوا من الغضب ، وحبّب إليهم عذاب الخلق ، كما حبّب لبني آدم أكل الطعام والشراب ، شداد الأبدان والأفعال ، غلاظ الأقوال ، لا يخالفون أمر الله بزيادة أو نقصان ، ويفعلون ما يؤمرون به في وقته ، فلا يؤخرونه ولا يقدّمونه.

٣ ـ لا تقبل التوبة من أحد من الكفار يوم القيامة ، ولا يقبل منهم العذر ، وسيجزون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ، وكون عذرهم لا ينفع ، والنهي عن الاعتذار لتحقيق اليأس ، كما قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [الروم ٣٠ / ٥٧].

٤ ـ أمر الله بالتوبة ، وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان. والتوبة المطلوبة هي التوبة البالغة في النصح والصدق ، وهي كما ذكر النووي التي تستجمع ثلاثة أمور : الإقلاع عن المعصية ، والندم على فعلها ، والعزم على ألا يعود إلى مثلها أبدا.

وقال العلماء : الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو ، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين ، فإن كان حقا لله كترك صلاة ، فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها ، وهكذا إن ترك صوما أو فرط في الزكاة. وإن كان ذلك ما يوجب القصاص أو الحد الذي فيه حق لآدمي كالقذف ، وطلب منه ، مكّن نفسه من العقوبة ، إلا إذا عفي عنه ، فيكفيه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. أما إن كان الحد من الحدود الخالصة لله كالزنى والشرب ، فيسقط عنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح ، وقد نص الله تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم ، ولا يسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم.

٣٢١

فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه ـ عينا كان أو غيره ـ إن كان قادرا عليه ، فإن لم يكن قادرا ، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه.

وإن كان أضرّ بواحد من المسلمين ، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه ، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له ، فإذا عفا عنه ، فقد سقط الذنب عنه.

وإن أساء إلى رجل بأن فزّعه بغير حق ، أو غمه ، أو لطمه ، أو صفعه بغير حق ، أو ضربه بسوط فآلمه ، ثم استعفى منه ، حتى طابت نفسه ، فعفا عنه ، سقط عنه ذلك (١).

٥ ـ يقبل الله التوبة النصوح من التائب ، ويكفر عنه سيئاته ، ويدخله الجنان ، لقوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ ..) وعسى من الله واجبة ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن ابن عباس ، وهو ضعيف : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».

٦ ـ إن للإيمان نورا يمشي بصاحبه على الصراط ، ويسعى به إلى النجاة ، ويدعو المؤمنون في الآخرة حين يطفئ الله نور المنافقين بقولهم في الآخرة : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا ، وَاغْفِرْ لَنا ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وطلب المغفرة لا يعني أن الذنب لازم لكل إنسان ، وإنما التقصير لازم لكل مؤمن.

٧ ـ أمر الله نبيه أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله ، ويجاهد المنافقين بالغلظة وإقامة الحجة ، وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة ، وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين ، علما بأن مأوى الصنفين جهنم ، وبئس المرجع.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٩٩ ـ ٢٠٠

٣٢٢

أمثلة من النساء المؤمنات والكافرات

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

الإعراب :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ مَثَلاً) و (امْرَأَتَ نُوحٍ) مفعولا (ضَرَبَ) ، وقيل : (امْرَأَتَ نُوحٍ) بدل من (مثل) على تقدير حذف مضاف ، تقديره : مثل امرأة نوح ، ثم حذف (مَثَلاً) الثاني لدلالة الأول عليه.

وكذلك القول في قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ). (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) منصوب بالعطف على (امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ).

البلاغة :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) و (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا) مقابلة بين المثلين ، لتكون النساء في الإخلاص كالمؤمنتين ، لا كالكافرتين الخائنتين.

(وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) فيه تغليب الذكور على الإناث.

(الدَّاخِلِينَ الظَّالِمِينَ الْقانِتِينَ) سجع مرصّع.

٣٢٣

المفردات اللغوية :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي أورد حالة غريبة لمعرفة حال أخرى مشابهة لها في الغرابة. (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ) أي في عصمتهما. (فَخانَتاهُما) بالنفاق في أمر الدين ، إذ كفرتا ، وكانت امرأة نوح واسمها واغلة أو واعلة تقول لقومه : إنه مجنون ، وامرأة لوط واسمها أو واهلة تدل قومه على أضيافه ، بإيقاد النار ليلا ، وبالتدخين نهارا. (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما) لم يفيداهما أي نوح ولوط. (مِنَ اللهِ) من عذابه. (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) أي قيل لهما : ادخلا النار مع كفار قوم نوح وقوم لوط. وهذا تمثيل حالهم في إيقاع العقاب بهم بكفرهم دون مجاملة أو محاباة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بنسب أو غيره.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا) شبه حالهم في عدم التأثر ببيئة الكفر وعمالقة الكافرين وأن صلة الكفر لم تضرهم بحال آسية امرأة فرعون ، واسمها آسية بنت مزاحم ، وهي عمة موسى آمنت به ، فعذبها فرعون عذابا شديدا لصدها عن الإيمان. (إِذْ قالَتْ) في حال التعذيب : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) قريبا من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين. (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) خلصني من طغيان فرعون وتعذيبه وعمله الشنيع. (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هم أقباط مصر الوثنيون التابعون لفرعون في الظلم.

(أَحْصَنَتْ فَرْجَها) حفظته وصانته من الرجال ، والمراد به كونها عفيفة. (فَنَفَخْنا فِيهِ) في الفرج. (مِنْ رُوحِنا) أي من روح خلقناه بلا توسط أب ، قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير : أن الفرج جيب الدّرع (القميص). ومعنى (أحصنته) منعته جبريل ، وأنه جمع في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها ، تسلية للأرامل وتطييبا لأنفسهن. (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) آمنت بشرائعه وكتبه التي أنزلها على رسله. (مِنَ الْقانِتِينَ) من عداد الطائعين المواظبين على الطاعة.

المناسبة :

بعد الحض على التوبة النصوح والإيمان والإخلاص وجهاد الأعداء ، ضرب الله مثلين رائعين فذّين لأهل الكفر وأهل الإيمان ، لبيان حال الكافرين بطريق التمثيل أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة أمثالهم من غير مراعاة نسب أو زوجية أو قرابة أو محاباة ، فتعاقب امرأة نوح وامرأة لوط اللتان كانتا في بيت النبوة ، ولكنهما كفرتا بالله وبالنبي ، فلم تفدهما الرابطة الزوجية من عذاب الله شيئا.

٣٢٤

وجاء المثل الثاني الأروع للمؤمنين والمؤمنات للإشارة إلى أن من واجبهم أن يكونوا في الإخلاص وصدق العزيمة وقوة اليقين كهاتين المؤمنتين : آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران ، لا الكافرتين اللتين حين خانتا زوجيهما ، لم يغنيا عنهما من عذاب الله شيئا.

التفسير والبيان :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ ، فَخانَتاهُما ، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً ، وَقِيلَ : ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) أي جعل الله مثلا لحال الكفار في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أنه لا يغني أحد عن أحد ، وأن ذلك لا يجدي عنهم شيئا ، ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم ، فمجرد الخلطة أو النسب أو الزوجية لا فائدة فيها ما دام الشخص كافرا.

وذلك المثل أن امرأة نوح وامرأة لوط عليهما‌السلام ، كانتا في عصمة نكاح نبيين رسولين ، وفي صحبتهما ليلا ونهارا ، يؤاكلانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط ، لكنهما خانتاهما في الإيمان والدين ، فلم تؤمنا بهما ، ولا صدّقاهما في الرسالة ، فلم ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئا من النفع ، ولا دفعا عنهما من عذاب الله ، ولا دفعا عنهما محذورا ، مع كرامتهما على الله ، وحاق بهما سوء العذاب والعقاب.

قيل : كانت امرأة نوح تقول للناس : إنه مجنون ، وكانت امرأة لوط تخبر قومه بأضيافه ليفجروا بهم.

وقيل للمرأتين في الآخرة عند دخول النار : ادخلا النار مع الداخلين فيها من أهل الكفر والمعاصي ، جزاء كفرهما وسيئاتهما.

٣٢٥

وهذا تعريض بأمي المؤمنين ، وهما حفصة وعائشة ، لما فرط منهما ، وتحذير وتخويف لهما ولغيرهما بأنه لا يفيدهن شيئا زواجهن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن عصين الله تعالى. قال يحي بن سلام : هذا يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تظاهرتا عليه ، ببيان أنهما ، وإن كانت تحت عصمة خير خلق الله تعالى ، وخاتم رسله ، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئا. وقد عصمها الله عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة.

ثم ضرب الله مثلا آخر للمؤمنين بامرأتين أخريين يرشد إلى عكس المثل السابق أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم ، فقال عن المرأة الأولى :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ : رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وجعل الله مثلا آخر للمؤمنين حال امرأة فرعون آسية بنت مزاحم وعمة موسى عليه‌السلام ، آمنت بموسى حين سمعت قصة إلقائه عصاه ، فعذبها فرعون عذابا شديدا بسبب الإيمان ، فلم تتراجع عن إيمانها ، مما يدل على أن صولة الكفر لا تضر المؤمنين ، كما لم تضر امرأة فرعون ، وقد كانت تحت أكفر الكافرين ، وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم.

وذلك حين قالت : يا رب ابن لي بيتا قريبا من رحمتك في أعلى درجات المقرّبين منك ، ونجني من ذات فرعون ومما يصدر عنه من أعمال الشر ، وخلصني من القوم الظالمين هم كفار القبط.

قال قتادة : كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم ، فو الله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها ، ليعلموا أن الله تعالى حكم عدل ، لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه.

٣٢٦

وقال ابن جرير : كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس ، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها ، وكانت ترى بيتها في الجنة.

والآية دليل على صدق إيمان امرأة فرعون بالله وبالبعث ، وبالجنة والنار ، وبأن العمل الصالح طريق الجنة ، والعمل السيء سبب النار. وهي دليل آخر على أن الاستعاذة بالله من الأشرار دأب الصالحين.

وقال عن المرأة الثانية :

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها ، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا ، وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران أم عيسى عليهما‌السلام ، جمع الله لها بين كرامة الدنيا والآخرة ، واصطفاها على نساء العالمين في عصرها ، مع كونها بين قوم عصاة ، صانت فرجها عن الرجال والفواحش ، فهي مثال العفة والطهر ، فأمر الله جبريل أن ينفخ في فرجها ، وقال بعض المفسرين وهو من بدعهم : في جيب الدرع (القميص) فحملت بعيسى ، وصدّقت بشرائع الله التي شرعها لعباده ، وبصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره ، وبكتبه الكتب الأربعة الكبرى المنزلة على الأنبياء ، وما خاطبها به الملك ، وهو قول جبريل لها : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) [مريم ١٩ / ١٩] ، وما أخبرها به من البشارة بعيسى وكونه من المقرّبين كما في سورتي آل عمران (الآيات ٤٢ ـ ٤٨) ومريم (الآيات ١٦ ـ ٣٦) وكانت من القوم المطيعين لربهم ، كان أهلها أهل بيت صلاح وطاعة ، ومن عداد الناسكين العابدين المخبتين لربهم.

روى أحمد عن ابن عباس قال : «خطّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأرض أربعة خطوط ، وقال : أتدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».

٣٢٧

وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ دل المثل الأول للكافرين على أنه لا يغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرّق بينهما الدّين. فقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط كافرتين ، فلم يفدهما شيئا من عذاب الله نوح ولا لوط مع كرامتهما على الله تعالى ، كانت امرأة نوح تقول للناس : إنه مجنون ، وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه. وكانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين. قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط.

وهذا المثل تعريض لحفصة وعائشة أنهما إن صدرت منهما معصية ، لن يفيدهما كونهما من زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لدفع العذاب. ويقال : إن كفار مكة استهزءوا وقالوا : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع لنا ، فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع كفّار مكة ، وإن كانوا أقرباء ، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته ، وشفاعة لوط لامرأته ، مع قربهما لهما لكفرهما.

ويقال في الآخرة لامرأتي نوح ولوط : (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) كما يقال لكفار مكة وغيرهم.

٢ ـ ودل المثل الثاني للمؤمنين على أن الاختلاط بالكفار لا يضر ، ما دام الاعتصام بالله والإيمان هو السمة المهيمنة على المؤمن. وهو مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة عن المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٢٨

وكان المثل بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ، ترغيبا في التمسك بالطاعة والثبات على الدّين ، وحثا للمؤمنين على الصبر في الشدة ، كصبر آسية على أذى فرعون ، وكانت آسية آمنت بموسى ، وصبر السيدة مريم البتول على أذى اليهود واتهامها بالفاحشة ، فصبر المؤمن والمؤمنة على الأذى ينجي من القوم الظالمين ، والتقرب إلى الله يكون بالطاعات ، لا بالوسيلة والشفاعات.

فعلى الرغم من تعذيب فرعون لزوجته آسية دعت قائلة : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

ومريم العذراء أم عيسى عليهما‌السلام ضرب الله بها مثلا لصبرها على أذى اليهود الذين اتهموها بالفاحشة ، مع أنها كانت عفيفة طاهرة صانت نفسها عن الفواحش ، ولكن الله أرسل لها جبريل ، فنفخ في فرجها روحا من أرواحه وهي روح عيسى ، فحملت به ثم ولدته من غير أب ، وصدقت بشرائع الله وكتبه ورسالاته وبما أخبرها به جبريل : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) الآية [مريم ١٩ / ١٩] وكانت من المطيعين.

روى قتادة عن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حسبك من نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم».

قال الرازي : أما ضرب المثل بامرأة نوح المسماة بواعلة ، وامرأة لوط المسماة بواهلة ، فمشتمل على فوائد متعددة لا يعرفها بتمامها إلا الله تعالى ، منها : التنبيه للرجال والنساء على الثواب العظيم والعذاب الأليم.

ومنها : العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد ، وفساد الغير لا يضر المصلح.

ومنها : أن الرجل ، وإن كان في غاية الصلاح ، فلا يأمن المرأة ، ولا يأمن نفسه ، كالصادر من امرأتي نوح ولوط.

٣٢٩

ومنها : العلم بأن إحصان المرأة وعفتها مفيدة غاية الإفادة ، كما أفاد مريم بنت عمران ، وكما أخبر الله تعالى ، فقال : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ) [آل عمران ٣ / ٤٢].

ومنها : التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب ، وإلى الثواب بغير حساب ، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب ، وإليه المرجع والمآب (١).

تم هذا الجزء والحمد لله

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٥١

٣٣٠

فهرس

الجزء الثامن والعشرين

 الموضوع

 الصفحة

سورة المجادلة..................................................................... ٥

مدنيتها وتسميتها ومناسبة السورة لما قبلها............................................ ٥

ما اشتملت عليه السورة........................................................... ٦

الظهار وكفارته................................................................... ٨

وعيد الذين يعادون الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم......................................... ٢٥

عقاب المتناجين بالسوء وآداب المناجاة في القرآن.................................... ٣٠

أدب المجالسة في الإسلام........................................................ ٣٧

الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.................................................. ٤٤

حال المنافقين الذين يوالون غير المؤمنين............................................ ٤٩

جزاء المعادين لله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوعد بنصر المؤمنين وتحريم...................... ٥٥

موالاة الأعداء............................................................... ٥٥

سورة الحشر.................................................................... ٦٢

تسميتها ومناسبتها لما قبلها....................................................... ٦٢

ما اشتملت عليه السورة......................................................... ٦٣

سبب نزول السورة.............................................................. ٦٤

فضل السورة................................................................... ٦٥

إجلاء يهود بني النضير.......................................................... ٦٦

٣٣١

حكم الفيء................................................................... ٧٥

تواطؤ المنافقين واليهود وجزاؤهم................................................... ٩٣

الأمر بالتقوى والعمل للآخرة................................................... ١٠١

مكانة القرآن وعظمة منزّله ذي الأسماء الحسنى.................................... ١٠٦

سورة الممتحنة................................................................ ١١٥

تسميتها ومناسبتها لما قبلها..................................................... ١١٥

ما اشتملت عليه السورة........................................................ ١١٦

النهي عن موالاة الكفار........................................................ ١١٧

التأسي بإبراهيم عليه‌السلام والذين آمنوا معه........................................... ١٢٥

علاقة المسلمين بغيرهم........................................................ ١٣٣

حكم المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام................................... ١٣٣

مبايعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجرات (بيعة النساء)......................................... ١٥٠

سورة الصف................................................................. ١٥٧

تسميتها ومناسبتها لما قبلها..................................................... ١٥٨

ما اشتملت عليه السورة........................................................ ١٥٨

الدعوة إلى القتال في سبيل الله صفا واحدا........................................ ١٥٩

التذكير بقصة موسى وعيسى عليهما‌السلام مع بني إسرائيل............................... ١٦٥

التجارة الرابحة................................................................ ١٧٣

سورة الجمعة.................................................................. ١٨١

تسميتها ومناسبتها لما قبلها..................................................... ١٨١

ما اشتملت عليه السورة........................................................ ١٨٢

فضلها....................................................................... ١٨٢

خصائص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسبة للعرب والناس كافة.................................. ١٨٣

٣٣٢

حال اليهود مع التوراة وتمني الموت............................................... ١٨٨

فرضية صلاة الجمعة وإباحة العمل بعدها......................................... ١٩٤

سورة المنافقون................................................................ ٢١٢

تسميتها ومناسبتها لما قبلها وما اشتملت عليه السورة............................... ٢١٢

أقبح أوصاف المنافقين في ميزان الشرع........................................... ٢١٣

أدلة إثبات كذب المنافقين ونفاقهم.............................................. ٢٢٠

تحذير المؤمنين من أخلاق المنافقين وأمرهم بالإنفاق في سبيل الخير................... ٢٢٨

سورة التغابن.................................................................. ٢٣٢

تسميتها ومناسبتها لما قبلها..................................................... ٢٣٢

ما اشتملت عليه السورة........................................................ ٢٣٣

مظاهر قدرة الله تعالى.......................................................... ٢٣٤

إنكار المشركين الألوهية والنبوة والبعث........................................... ٢٣٨

المطالبة الإيمان والتحذير من أهوال القيامة........................................ ٢٤٢

كل شيء بقضاء وقدر........................................................ ٢٤٢

التحذير من فتنة الأزواج والأولاد والأموال والأمر بالتقوى والإنفاق................... ٢٥١

سورة الطلاق................................................................. ٢٦١

تسميتها ومناسبتها لما قبلها وما اشتملت عليه السورة............................... ٢٦١

أحكام الطلاق والعدة وثمرة التقوى والتوكل........................................ ٢٦٣

عدة اليائسة والصغيرة.......................................................... ٢٧٨

السكنى والنفقة للمعتدة وأجر الرضاع............................................ ٢٨٣

وعيد المخالفين ووعد الطائعين والتذكير بقدرة الله.................................. ٢٩٣

سورة التحريم................................................................. ٣٠٠

تسميتها ومناسبتها لما قبلها..................................................... ٣٠٠

٣٣٣

ما اشتملت عليه السورة........................................................ ٣٠١

بعض أحوال نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم................................................... ٣٠٢

الوقاية من النار والتوبة النصوح وجهاد الكفار..................................... ٣١٤

أمثلة من النساء المؤمنات والكافرات............................................. ٣٢٣

٣٣٤