التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة المدنية تتضمن بعض أحكام التشريع الخاصة بأمهات المؤمنين لتكون نموذجا يحتذي لجميع الأمة.

ابتدأت السورة بعتاب لطيف للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تحريمه على نفسه شيئا مباحا وهو العسل كما ثبت في الصحيح إرضاء لبعض أزواجه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ..) الآية.

ثم وجّهت العتاب لبعض أزواج النبي لإفشائهن السرّ حين أسرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى زوجته حفصة ، فأخبرت به عائشة ، مما أغضب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهمّ بتطليق أزواجه ، وهدّدهن الله بإبداله أزواجا خيرا منهن : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ ...) (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ ..).

وناسب هذا التذكير باتقاء أهل بيت الإيمان النار والترهيب من الجزاء ، وبالتوبة النصوح ، وبجهاد الكفار والمنافقين من غير انشغال بأحوال البيت والأسرة من أزواج وأولاد.

وختمت السورة بضرب مثلين عظيمين : أحدهما للكافرين ، والثاني للمؤمنين ، والأول مثل الزوجة الكافرة : امرأة نوح وامرأة لوط عليهما‌السلام ، عند الرجل المؤمن الصالح ، والثاني مثل الزوجة المؤمنة : امرأة فرعون ، عند الرجل الكافر الفاجر ، ومثل المرأة الحرة التقية البتول في غير عصمة أحد ، تنبيها للناس على وجوب اعتماد الإنسان على نفسه ، وأنه لا يغني في الآخرة أحد عن أحد ، ولا ينفع حسب ولا نسب إذا ساء العمل.

٣٠١

بعض أحوال نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

الإعراب :

(تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ تَبْتَغِي) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير (تُحَرِّمُ).

(فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) جمع القلوب ، ولم يقل «قلبا كما» بالتثنية ، لأن كل ما ليس في البدن منه إلا عضو واحد ، فإن تثنيته بلفظ جمعه ، والقلب ليس في البدن منه إلا عضو واحد. ولو قال : قلبا كما أو قلبكما ، لكان جائزا.

(هُوَ مَوْلاهُ هُوَ) : ضمير فصل.

(وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) إنما قال (ظَهِيرٌ) بالإفراد ، دون الجمع «ظهراء» لأن ما كان على وزن فعيل يستوي فيه الواحد والجمع ، مثل قوله تعالى : (خَلَصُوا نَجِيًّا) [يوسف ١٢ / ٨٠]. وقد يستغنى بذكر الواحد عن الجمع ، مثل قوله تعالى : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر ٤٠ / ٦٧].

٣٠٢

(أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) الجملة جواب الشرط ، و (أَنْ يُبْدِلَهُ) : خبر (عَسى).

البلاغة :

(تُحَرِّمُ ما أَحَلَ) بينهما طباق ، وكذا بين (عَرَّفَ وَأَعْرَضَ) وبين (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً).

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) التفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في العتاب.

(غَفُورٌ رَحِيمٌ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ظَهِيرٌ) صيغ مبالغة.

(وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ) عام بعد خاص ، ذكر الملائكة بعد جبريل أحدهم اعتناء بشأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومناصرته.

المفردات اللغوية :

(لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) لم تمنع نفسك من الحلال وهو العسل. (تَبْتَغِي) تطلب بالتحريم. (مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) رضاهن. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غفر لك هذا التحريم ، فإنه لا يجوز تحريم ما أحله الله ، رحيم بك حيث لم يؤاخذك به ، وعاتبك حفاظا على عصمتك.

(فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) شرع لكم تحليل الأيمان بالكفارة المذكورة في سورة المائدة [الآية ٨٩]. قال مقاتل : أعتق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقبة ، وقال الحسن : لم يكفّر ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغفور له. واحتج به من رأى التحريم يمينا ، مع احتمال أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بلفظ اليمين ، كما قيل (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما يصلحكم. (الْحَكِيمُ) المتقن في أفعاله وأحكامه.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُ) أي واذكر إذ أسرّ إلى حفصة على المشهور (حَدِيثاً) هو تحريم العسل الذي كان يتناوله عند زينب بنت جحش ، وأيلولة الخلافة من بعده لأبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما. (نَبَّأَتْ بِهِ) أخبرت حفصة عائشة بالحديث ، ظنا منها ألا حرج في ذلك. (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أطلعه على المنبّأ به وعلى إفشائه. (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) عرف حفصة بعض ما فعلت وترك بعضه. (الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) العالم بكل شيء ، (الْخَبِيرُ) بما في السماء والأرض ، لا تخفى عليه خافية.

(إِنْ تَتُوبا) أي حفصة وعائشة ، وجواب الشرط محذوف تقديره : تقبلا. (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) مالت القلوب عما يجب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهما من التوقير والتعظيم ، بحب ما يحبه ، وكراهية ما يكرهه. (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) تتظاهرا وتتعاونا على النّبي بما يسوؤه ويؤذيه أو يكرهه.

٣٠٣

(مَوْلاهُ) وليه وناصره. (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) مثل أبي بكر وعمر ، هم ناصروه أيضا ، والمراد بالصالح : الجنس. (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) ظهراء أعوان له وأنصار مساعدون ، بعد نصر الله والمذكورين.

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) هذا على التغليب أو تعميم الخطاب ، أي عسى إن طلق النبي أزواجه أن يبدله (بالتشديد والتخفيف) أزواجا خيرا منهن. (مُسْلِماتٍ) مقرّات بالإسلام منقادات. (مُؤْمِناتٍ) مصدقات مخلصات. (قانِتاتٍ) طائعات. (تائِباتٍ) عن الذنوب. (عابِداتٍ) متعبدات لله متذللات لأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (سائِحاتٍ) صائمات ، سمي الصائم سائحا ، لأنه يسيح في النهار بلا زاد ، أو مهاجرات. (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) مشتملات على الصنفين. ويلاحظ أنه بدأ في وصفهن بالإسلام وهو الانقياد ، ثم بالإيمان وهو التصديق ، ثم بالقنوت وهو الطواعية ، ثم بالتوبة وهي الإقلاع عن الذنب ، ثم بالعبادة وهي التلذذ بالمناجاة لله ، ثم بالسياحة وهي كناية عن الصوم. وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان في امرأة واحدة ، لذا عطف أحدهما على الآخر ، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى. وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تزوجها بكرا ، وفيهن الثّيّاب.

سبب النزول :

نزول الآية (١ ، ٢):

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) : ذكر العلماء روايات في سبب نزول الآيتين ، الصحيح منها كما ذكر ابن كثير وغيره أنهما نزلتا في تحريم العسل ، كما قال البخاري عند هذه الآية.

أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة أنها قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الحلواء والعسل ، وكان إذا انصرف عن العصر دخل على نسائه ، يمكث عند زينب بنت جحش ، فيشرب عندها عسلا ، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها ، فلتقل له : إني أجد منك ريح مغافير (١) ، أكلت مغافير ، فقال : لا ، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود إليه ، وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا».

__________________

(١) المغافير : نبت كريه الرائحة ، أي صمغ حلو له رائحة كريهة من شجر العرفط في الحجاز.

٣٠٤

وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرب عند سودة العسل ، فدخل على عائشة ، فقالت : إني أجد منك ريحا ، ثم دخل على حفصة ، فقالت مثل ذلك ، فقال : أراه من شراب شربته عند سودة ، والله لا أشربه ، فنزلت : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ).

وتذكر الروايات في للسيرة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم العسل أمام حفصة فأخبرت عائشة بذلك ، مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استكتمها الخبر ، كما استكمتها ما أسرّها به من الحديث الذي يسرّها ويسرّ عائشة ، أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي.

قال ابن العربي : إنما الصحيح أن التحريم كان في العسل ، وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، وجرى ما جرى ، فحلف ألا يشربه ، وأسرّ ذلك ، ونزلت الآية في الجميع. وقال : أما ما روي أن الآية نزلت في الموهوبة (الواهبة نفسها للنبي) فهو ضعيف السند والمعنى ، أما السند فرواته غير عدول ، وأما المعنى فما يصح أن يقال : إن ردّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للهبة كان تحريما ، بل هو رفض لها ، وللموهوب له شرعا ألا يقبل الهبة. وأما ما روي من أنه حرم على نفسه مارية القبطية ، كما ذكر الدار قطني عن عمر ، فهو وإن قرب من حيث المعنى ، لكنه لم يدون في صحيح ولا نقله عدل (١).

نزول الآية (٥):

(عَسى رَبُّهُ ...) : أخرج البخاري عن أنس قال : قال عمر : اجتمع نساء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغيرة عليه ، فقلت : عسى ربّه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكن ، فنزلت هذه الآية.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٨٣٣ ـ ١٨٣٤

٣٠٥

وأخرج أيضا عن أنس عن عمر قال : بلغني عن بعض أمهاتنا أمهات المؤمنين شدة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذاهنّ إياه ، فاستقريتهنّ امرأة امرأة أعظها ، وأنهاها عن أذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقول : إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكنّ ، حتى أتيت على زينب ، فقالت : يا ابن الخطاب ، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ، فأمسكت ، فأنزل الله : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) الآية.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يا أيها الرسول النبي ، لماذا تمنع نفسك من بعض ما أباح الله لك ، قاصدا إرضاء أزواجك ، والله غفور لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك ، وما تقدم من الزلّة ، رحيم بك ، فلا يعاقبك على ذنب تبت منه ، ولم يؤاخذك به.

وهذا عتاب بطريق التلطف ، مثل قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة ١٠ / ٤٣] ، وسمي الامتناع عن الحلال ذنبا ، وهو مباح لغيره ، تعظيما لقدره الشريف ، وإشارة إلى أن ترك الأولى بالنسبة إليه كالذنب ، وإن لم يكن ذنبا في الواقع. والمراد بالتحريم : الامتناع من تناول العسل أو الاستمتاع ببعض الزوجات ، وليس المراد اعتقاد كونه حراما بعد ما أحله الله ، لأن تحريم الحلال كفر. قال القرطبي : والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.

وتحريم الحلال يراه أبو حنيفة يمينا في كل شيء ، حسبما ينوي ، فإذا حرّم طعاما فقد حلف على أكله ، وإذا حرّم ملبسا أو شرابا أو شيئا مباحا ، فهو بمنزلة اليمين ، وإذا حرم امرأة فقد حلف يمين الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ، وإن نوى

٣٠٦

الظهار فظهار ، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن ، وإن نوى عددا معينا في الطلاق كاثنتين أو ثلاث فعلى ما نوى.

ولا يراه الشافعي يمينا ، ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي. فإن حلف ألا يأكل شيئا فخالف ، حنث ويبرّ بالكفارة.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ، وَاللهُ مَوْلاكُمْ ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي شرع الله لكم تحليل أيمانكم بأداء الكفارة المقررة في سورة المائدة [الآية ٨٩] وهي : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ، ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ).

وبيّن لكم ذلك ، وليس لأحد أن يحرّم ما أحل الله ، فالتحليل والتحريم إلى الله سبحانه ، فإن فعل الإنسان شيئا من ذلك لا ينعقد ولا يلزم صاحبه ، والله متولي أموركم وناصركم على الأعداء ، وهو العليم بما فيه صلاحكم وفلاحكم ، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير أموركم.

وسبب إيراد آية التحليل هذه أن التحريم الذي كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في الظاهر مقترنا بيمين ، لظاهر الآية : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) فهو دليل على أن هناك يمينا تحتاج إلى التحلة ، وأيد ذلك بعض الروايات ، فتكون هذه الآية مناسبة لما قبلها باعتبار كون تحريم المرأة أو العسل يمينا ، وهو يمين إيلاء من المرأة.

وهل كفّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يمينه هذه؟ اختلف العلماء في ذلك ، فقال الحسن البصري : إنه لم يكفّر ، لأنه كان مغفورا له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وإنما هو تعليم للمؤمنين. وفي هذا نظر ، لأن الأحكام الشرعية عامة ، ولم يقم دليل على

٣٠٧

التخصيص ، لذا قال مقاتل : إنه ـ أي النبي ـ أعتق رقبة في تحريم مارية ، ونقل عن الإمام مالك في المدونة أنه أعطى الكفارة.

أما تحريم الرجل لزوجته كأن يقول لها : أنت علي حرام أو الحلال علي حرام دون استثناء شيء ، ففيه كما ذكر ابن العربي (١) خمسة عشر قولا (٢) ، منها ما ذكرناه سابقا أن أبا حنيفة يقول : إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى ، وإلا كانت يمينا ، وكان الرجل موليا من امرأته.

وذهب الشافعي ومالك إلى أن ذلك ليس بيمين ، لكن إن حرم الزوجة ونوى بالتحريم الطلاق ، يقع الطلاق الرجعي.

وذهب مالك إلى أنه طلاق بائن يقع به ثلاث تطليقات.

وقال أبو بكر الصديق وعائشة والأوزاعي : إنه يمين تكفر.

ثم ذكر الدليل على إحاطة علم الله بكل شيء ، فقال :

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً ، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ ، عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي واذكر حين أسرّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزوجته حفصة حديثا هو تحريم العسل أو مارية ، أو أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتيه على أمته من بعده ، فلما أخبرت به غيرها ، وأطلع الله نبيه على ما وقع منها من إخبار غيرها ، عرّف حفصة بعض ما أخبرت به ، وأعرض عن تعريف بعض ذلك.

(فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ : مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؟ قالَ : نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي فحينما أخبرها بما أفشت من الحديث ، قالت : من أخبرك به؟ قال : أخبرني به الله الذي لا تخفى عليه خافية ، فهو العليم بالسر ، الخبير بكل شيء في السماء والأرض.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٨٣٥ وما بعدها.

(٢) وذكر القرطبي في تفسيره (١٨ / ١٨٠) ثمانية عشر قولا.

٣٠٨

ثم وجّه الله تعالى زوجتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حفصة وعائشة إلى التوبة وعاتبهما قائلا :

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ ، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي إن تتوبا إلى الله ، فتكتما السر ، وتحبّا ما أحبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتكرها ما كرهه ، قبلت توبتكما من الذنب وكان خيرا لكما ، فقد عدلت قلوبكما ومالت عن الحق والخير ، وهو حق تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصون سره وتكريمه.

والخطاب لحفصة وعائشة ، لما أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه قال : لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللتين قال الله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق ، عدل عمر وعدلت معه بالإداوة فتبرّز ، ثم أتاني ، فسكبت على يديه ، فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين : من المرأتان من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللتان قال الله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ ، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)؟ فقال عمر : وا عجبا لك يا ابن عباس ، هما عائشة وحفصة.

(وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ ، وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي وإن تتعاضدا وتتعاونا على ما يسوؤه ويؤذيه بسبب الغيرة والرغبة في إفشاء سره ، فإن الله يتولى نصره ، وكذلك جبريل وصالح المؤمنين كأبي بكر وعمر ، والملائكة بعد نصر الله له ونصر جبريل والمؤمنين الصالحين أعوان له وحراس وحفظة. وقوله : (بَعْدَ ذلِكَ) تعظيم للملائكة ومظاهرتهم.

ولم نر مثل هذا العون والعصمة والتأييد الرباني لأحد من الأنبياء والرسل وسائر البشر ، للمبالغة في تعظيم شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتخلص من مكر النساء ، وتبديد أوهام المشركين والمنافقين من محاولات الكيد والأذى وإلحاق الضرر.

٣٠٩

ثم أنذرهما الله وحذرهما مع بقية الأزواج ، فقال تعالى :

(عَسى (١) رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ ، قانِتاتٍ تائِباتٍ ، عابِداتٍ ، سائِحاتٍ ، ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أي لله القدرة البالغة ، فإنه قادر إن وقع من النبي الطلاق أن يبدله أزواجا خيرا وأفضل منكن ، قائمات بفروض الإسلام ، كاملات الإيمان والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله ، مطيعات لله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تائبات من الذنوب ، مواظبات على عبادة الله متذللات له ، صائمات ، بعضهن ثيّبات ، وبعضهن أبكارا. والثيب : هي المرأة التي قد تزوجت ، ثم طلقها زوجها أو مات عنها. والبكر : هي العذراء. قال الكلبي : أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون ، وبالبكر مثل مريم بنت عمران. وهذا مأخوذ من أحاديث ضعيفة ، ومبني على أن الوعد بالتبديل في الآخرة فقط.

ويلاحظ أن جميع هذه الصفات يمكن اجتماعها في موصوف واحد ، ما عدا الوصفين الأخيرين ، لذا عطفا بالواو ، للدلالة على التغاير أو التباين في الوصفين ، والعطف يقتضي المغايرة.

والآية تتضمن غاية التهديد والوعيد على محاولات إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لا شيء أشد وأقسى على المرأة من الطلاق ، والعزم على التزوج بزوجة أخرى ، فذلك قاصم للظهر ، مؤرّق للبال ، محطم دائم للشعور الذاتي بالسعادة في الحياة. وفي الآية أيضا وعد من الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يزوجه بما يريد ، قيل : في الدنيا ، وقيل : في الآخرة ، والأولى الجمع بين الحالتين.

__________________

(١) عسى في القرآن : يجب تحقق ما بعدها إلا هذه ، وقيل : وهنا أيضا واجب ، ولكنه معلق بشرط التطليق.

٣١٠

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ عاتب الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الامتناع من تناول ما أحل الله ، فلا ينبغي لأحد تحريم المباح : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة ٥ / ٧٨]. قال الشعبي : كان مع الحرام يمين ، فعوتب في الحرام ، وإنما يكفر اليمين فذلك قوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ). وهذا العتاب دليل قاطع بأن القرآن من عند الله ، إذ لا يعقل ولا يؤلف أن يعاتب الإنسان نفسه ، أو يخبر عن نزاع خاص في بيته يظل خبرا متلوا دائما.

٢ ـ إن مجرد الامتاع من تناول الشيء المأكول أو المشروب من غير حلف ليس يمينا ، ولا يحرّم قول الرجل : «هذا علي حرام» إلا الزوجة ، فيكون إيلاء منها. وهذا رأي الجمهور. وقال أبو حنيفة : إن تحريم المأكول والمشروب والملبوس والشيء المباح يكون يمينا توجب الكفارة. وإذا حرم امرأة ، فقد حلف يمين الإيلاء منها ، كما تقدم.

والحقيقة : ليس في الموضوع نص يعتمد عليه ، فمن تمسك بالبراءة الأصلية قال : لا حكم ، فلا يلزم بها شيء ، ومن قال : إنها يمين ، قال : سماها الله يمينا. ومن قال : تجب فيها كفارة وليست بيمين ، اعتمد على أحد أمرين : أحدهما ـ أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها ، وإن لم تكن يمينا ، والثاني ـ أن معنى اليمين عنده التحريم ، فوجبت الكفارة على المعنى.

ومن قال : إنها طلقة رجعية ، فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه ، والرجعية محرّمة الوطء. ومن قال : إنها ثلاث ، حمل اللفظ على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. ومن قال : إنه ظهار ، فلأنه أقل درجات التحريم ، فإنه تحريم لا يرفع

٣١١

النكاح. ومن قال : إنه طلقة بائنة ، فاعتمد على أن الطلاق الرجعي لا يحرّم المطلّقة ، وأن الطلاق البائن يحرّمها (١).

٣ ـ تحليل اليمين كفارتها ، والظاهر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلف ، مع الامتناع عن تناول العسل ، وأنه في الأصح كفّر عن يمينه. والكفارات تجبر الخلل الحاصل.

وإن حرم الرجل أمته أو زوجته ، فكفارة يمين ، لما أحج مسلم في صحيحة عن ابن عباس قال : «إذا حرّم الرجل عليه امرأته ، فهي يمين يكفّرها» وقال : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب ٣٣ / ٢١].

٤ ـ للنساء بسبب الغيرة الفطرية الشديدة التأثير مواقف غريبة وعجيبة من بعضهن بعضا.

٥ ـ يصعب على النساء كتمان السر ، فقد أسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزوجته حفصة تحريم العسل أو مارية على نفسه ، أو أمر الخلافة من بعده لأبي بكر وعمر ، واستكتمها السر ، فأباحت به لعائشة.

٦ ـ يغفل الإنسان غالبا عن أن الله عالم خبير به وبأحواله ، فيتصرف تصرفات الغافل غير الواعي ولا المدرك لما يفعل ، ولا يحسب الحساب اللازم لمن يراه ويحاسبه على أعماله. وهذا ما كان من حفصة التي فاجأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فعلت ، وأعلمها بأن الله أخبره بذلك.

٧ ـ القرآن تهذيب وتربية وتعليم ، لذا حث الله سبحانه حفصة وعائشة على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى مخالفة محبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعظيم شأنه وإعلاء قدره وصون سره. فقد زاغت ومالت قلوبهما عن الحق ، وهو أنهما أحبّتا ما كره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اجتناب جاريته ، واجتناب العسل ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب العسل والنساء ، محبة فيها اعتدال وإعزاز وإكرام للنساء.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٨٣

٣١٢

٨ ـ هدد الله حفصة وعائشة بأنهما إن تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعصية والإيذاء ، فهناك حملة صون وحفظ وعصمة وحراسة له من الله والملائكة وجبريل والمؤمنين الصالحين ، كأبي بكر وعمر أبوي عائشة وحفصة.

٩ ـ وهددهما بتهديد آخر أشد ألما ووقعا على النفس ، وهو إن طلقهما وطلّق زوجاته ، أبدله الله زوجات خيرا وأفضل منهن في الدنيا والآخرة. وهذا وعد من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإخبار عن القدرة الإلهية وتخويف لهم ، مع علمه تعالى بأنه لا يطلقهن.

وأوصاف النساء اللاتي يبدله الله بدلا عن زوجاته الحاليات في غاية الكمال ، وهي كونهن مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مصدقات بما أمرن به ونهين عنه ، مطيعات ، تائبات من ذنوبهن ، كثيرات العبادة لله تعالى ، صائمات أو مهاجرات ، ثيّبات وأبكارا ، أي منهن ثيّب ، ومنهن بكر.

١٠ ـ حينما أفشت حفصة السر لعائشة ، آلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدخل على نسائه شهرا ، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة ، فأنزل الله عزوجل : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) الآية ، وهذا ما رواه الدار قطني عن ابن عباس عن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّم على نفسه مارية.

وروى مسلم في صحيحة قصة طويلة مفادها : لما اعتزل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه ، وقال الناس في المسجد : طلّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه ، وذلك قبل الأمر بالحجاب ، دخل عمر على كل من عائشة وحفصة يعاتبهما على إيذائهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو مضطجع على حصير ، فجلس ، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه ، فقال عمر : فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٣١٣

فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ، ومثلها قرظا (١) في ناحية الغرفة ، وإذا أفيق (٢) معلّق ، قال : فابتدرت عيناي ، قال : ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قلت : يا نبي الله ، وما لي لا أبكي ، وهذا الحصير قد أثّر في جنبك ، وهذه خزانتك لا أرى فيها الا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار ، وأنت رسول الله وصفوته ، وهذه خزانتك! فقال : يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ، ولهم الدنيا؟! قلت : بلى.

الوقاية من النار والتوبة النصوح وجهاد الكفار

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩))

__________________

(١) القرظ : ورق السلم يدبغ به.

(٢) الأفيق : هو الجلد الذي لم يتم دباغه.

٣١٤

الإعراب :

(قُوا أَنْفُسَكُمْ قُوا) : فعل أمر من (وقى ، يقي) وأصله (أوقيوا) بوزن أفعلوا ، فحذفت الواو ، كما حذفت من (يقي) لوقوعها بين ياء وكسرة.

(لا يَعْصُونَ اللهَ ، ما أَمَرَهُمْ ما أَمَرَهُمْ) : بدل من لفظ الجلالة ، أي لا يعصون أمر الله.

(تَوْبَةً نَصُوحاً) إنما قال : (نَصُوحاً) ولم يقل (نصوحة) على النسب ، كما قالوا : امرأة صبور وشكور ، على النسب. وقرئ نصوحا بضم النون ، وهو مصدر كالذهوب والجلوس والفسوق.

البلاغة :

(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) مجاز مرسل ، من قبيل ذكر المسبّب وإرادة السبب ، أي لازموا على الطاعة ، لتقوا أنفسكم وأهليكم من عذاب الله.

المفردات اللغوية :

(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) اجعلوا لأنفسكم وقاية من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات ، واحملوا أهليكم على ذلك بالنصح والتأديب. (وَقُودُهَا) ما توقد به النار. (النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) بجعلهما نارا تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب ، والمراد بالناس : الكفار ، وبالحجارة : الأصنام التي تعبد ، لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء ٢١ / ٩٨].

(عَلَيْها مَلائِكَةٌ) خزنة وعدتهم تسعة عشر ، كما في سورة المدثر (الآية ٣٠). (غِلاظٌ) غلاظ الخلق والطباع. (شِدادٌ) أقوياء البدن على الأفعال الشديدة. (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) لا يعصون أمر الله في الماضي. (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) في المستقبل ، وهو تأكيد لما سبق. قال الجلال المحلي : والآية تخويف للمؤمنين عن الارتداد ، وللمنافقين المؤمنين بألسنتهم دون قلوبهم.

(لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) يقال لهم ذلك عند دخولهم النار ، أي لأنه لا ينفعكم الاعتذار ، أو لأنه لا عذر لكم. (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء عملكم.

(تَوْبَةً نَصُوحاً) صادقة ، بالغة في النصح ، وهي الندم على ما فات ، والعزم على عدم العود إلى مثله في المستقبل.ئسئل علي رضي‌الله‌عنه عن التوبة ، فقال : يجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، والفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن تعزم على ألا تعود ، وأن تربي نفسك في طاعة الله كما ربّيتها في المعصية.

٣١٥

(عَسى رَبُّكُمْ) عسى من الله تدل على وجوب الوقوع ، وذكر بصيغة الإطماع جريا على عادة الملوك ، وإشعارا بأنه تفضل ، وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء. (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ) بساتين. (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) يوم ظرف متعلق ب (يُدْخِلَكُمْ) و (لا يُخْزِي) : لا يفضح. (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أمامهم ، أي يسعى بهم نور الإيمان على الصراط. (يَقُولُونَ) كلام مستأنف جديد. (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) إلى الجنة ، أما المنافقون فيطفأ نورهم. (وَاغْفِرْ لَنا) واسترنا يا ربنا.

(جاهِدِ الْكُفَّارَ) بمختلف أنواع الأسلحة كالسيف وغيره. (وَالْمُنافِقِينَ) أي وجاهدهم باللسان والحجة ، فالجهاد يكون تارة بالسيف ، وتارة بالحجة والبرهان. (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) اشتد عليهم بالانتهار والمقت والقتل بحق. (وَمَأْواهُمْ) مكان الإيواء والإقامة.

المناسبة :

بعد أن أمر الله نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوبة عما حدث من الزلات ، وحذرهم من مخالفته ووعظهم وأدبهم وهددهم بالطلاق ، أمر المؤمنين بطائفة من المواعظ والنصائح ، وأولها وقاية أنفسهم وأهليهم من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات ، ثم أخبر الكفار بما يقال لهم يوم دخولهم النار : لا عذر لكم ، ثم أمر المؤمنين بالتوبة الخالصة النصوح من الخطايا والذنوب ، وتوج جميع ذلك بالأمر بجهاد الكفار المعتدين ، والمنافقين المتسترين ، والمجاهدة قد تكون بالقتال ، وقد تكون بالحجة والبرهان ، ثم يكون جزاء الفريقين النار.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي يا أيها الذين صدّقوا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أدبوا أنفسكم وعلموها ، واتخذوا لها وقاية من النار ، وحافظوا عليها بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه ، وعلّموا أهليكم وأمروهم بطاعة الله وانهوهم عن معاصيه ، وانصحوهم وأدبوهم حتى لا تصيروا معهم إلى النار العظيمة الرهيبة التي تتوقد بالناس وبالحجارة ، كما يتوقد غيرها بالحطب. قال قتادة : تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله ، وأن تقوم

٣١٦

عليهم بأمر الله وتأمرهم به ، وتساعدهم عليه ، فإذا رأيت معصية ، قذعتهم عنها ، وزجرتهم عنها.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه ٢٠ / ١٣٢] وقوله سبحانه مخاطبا نبيه : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٢١٤]. وروى جماعة من أهل الحديث (أحمد وأبو داود والحاكم) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر ، وفرّقوا بينهم في المضاجع». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم عن عمرو بن سعيد بن العاصي : «ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن».

وروى أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده (أي سمرة بن جندب) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، فإذا بلغ عشر سنين ، فاضربوه عليها». وقال الضحاك ومقاتل : حق على المسلم أن يعلّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم ، وما نهاهم الله عنه. وقال ابن جرير : فعلينا أن نعلّم أولادنا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب.

والمراد بالناس الكفار ، وبالحجارة : الأصنام التي تعبد من دون الله ، لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء ٢١ / ٩٨] ، والأهل : هم الزوجة والأولاد والخدم.

والآية دليل على أن المعلّم يجب أن يكون عالما بما يأمر به وما ينهى عنه.

(عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ ، لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي على النار خزنة من الملائكة يلون أمرها وتعذيب أهلها ، غلاظ أطباعهم ، قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله ، شداد عليهم ، تركيبهم في غاية الشدة والصلابة والمنظر المزعج ، لا يرحمونهم إذا استرحموهم ، إنما خلقوا للعذاب ، عددهم تسعة عشر ملكا هم زبانيتها كما جاء في قوله تعالى : (عَلَيْها

٣١٧

تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر ٧٤ / ٣٠] يتميزون بالطاعة الكاملة لله ربهم ، فهم لا يخالفون أوامر الله تعالى ، ويؤدون ما يؤمرون به في وقته المحدد له من غير تراخ ، فلا يؤخرونه عنه ولا يقدّمونه ، وهم قادرون على الفعل ، ليس بهم عجز عنه.

وفائدة الإتيان بالجملتين : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أن الأولى في الماضي ، ولبيان الطواعية ، فإن عدم العصيان يستلزم امتثال الأمر ، ولنفي الاستكبار عنهم ، كما قال تعالى : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) [الأنبياء ٢١ / ١٩] والثانية للمستقبل وفورية التنفيذ والامتثال ونفي التراخي والكسل عنهم ، كما قال تعالى : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٩].

ثم وعظ المؤمنين بما يقال للكافرين عند دخولهم النار ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يقال للكفرة عند إدخالهم النار يوم القيامة ، تأييسا لهم وقطعا لأطماعهم : لا تعتذروا ، فإنه لا يقبل منكم العذر ، ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا ، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا.

والمراد بهذا أن الدنيا دار جهاد وعمل صالح ، والآخرة دار مقر وجزاء ، والدنيا مزرعة الآخرة ، فإن زرع فيها أو غرس الزرع أو الغرس الصالح ، جنى طيبا ، وإن زرع أو غرس نباتا أو شجرا رديئا ، حصد ما فعل.

وبما أن العذر أو التوبة لا يفيدان في الآخرة ، أرشد المؤمنين إلى طريق التوبة النصوح ، فقال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ارجعوا إلى الله تعالى ، وتوبوا إليه توبة خالصة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات : وهي

٣١٨

الندم بالقلب على ما مضى من الذنب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع بالبدن ، والعزم على ألا يعود ، لعل الله أن يمحو سيئات أعمالكم التي اقترفتموها ، ويدخلكم بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ، حين لا يعذب ولا يذل ولا يفضح الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يعذب ولا يذل الذين آمنوا به واتبعوا شريعته ، بل يكرمهم ويعزّهم.

وكلمة (عَسى رَبُّكُمْ) كما قال الزمخشري : إطماع من الله لعباده ، وفيه وجهان : أحدهما ـ أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة لعسى ولعل ، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت ، فإنهم إذا أرادوا فعلا يقولون : عسى أن نفعل كذا. والثاني ـ أن يجيء به تعليما للعباد أن يكونوا بين الخوف والرجاء.

والخلاصة : أن (عَسى) من الله موجبة تفيد التحقق.

وقوله : (لا يُخْزِي) تعريض لمن أخزاهم من أهل النار : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ ، فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران ٣ / ١٩٢].

قال العلماء : التوبة النصوح : هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر ، ويندم على ما سلف منه في الماضي ، ويعزم على ألا يفعل في المستقبل.

روى الإمام أحمد وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الندم توبة». وثبت في الصحيح : «الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها».

ثم ذكر الله تعالى أثر الإيمان ، فقال :

(نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ، يَقُولُونَ : رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن نور المؤمنين يضيء لهم طريقهم ، ويسعى

٣١٩

أمامهم وعن أيمانهم حال مشيهم على الصراط ، كما جاء في سورة الحديد : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ..) [٢٨] ، ويدعو المؤمنون حين يطفئ الله نور المنافقين يوم القيامة ، قائلين تقربا إلى الله : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) ، أي أبقه لنا ، فلا ينطفئ حتى نتجاوز الصراط ، واستر ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا ، ولا تفضحنا بالعقاب عليها حين الحساب ، فإنك على كل شيء قدير ، ومنه إتمام نورنا ، وغفران ذنوبنا ، وتحقيق رجائنا وآمالنا ، فأجب دعاءنا.

ثم أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي يا أيها الرسول النبي قاتل الكفار بالسيف ، والمنافقين بالحجة والبرهان وإقامة الحدود عليهم إذا ارتكبوها ، وشدّد عليهم في الدعوة إلى الإسلام في الدنيا ، واستعمل العنف والقسوة والشدة مع الفريقين ، فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة والوعيد ، لذا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطرد بعض المنافقين من الجامع قائلا : اخرج يا فلان ، اخرج يا فلان. وهذا عذابهم في الدنيا.

وسيكون مقر الفريقين ومسكنه في الآخرة جهنم ، وبئس المرجع والمثوى والمقيل.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يلي :

١ ـ أمر الله ـ والأمر للوجوب ـ بأن يقي المؤمنون أنفسهم النار بأفعالهم ، وأهليهم بالنصح والوعظ والإرشاد. وهذا يتطلب الالتزام التام بأحكام الشرع أمرا ونهيا ، وترك المعاصي وفعل الطاعات ، ومتابعة القيام بالأعمال الصالحة ، وحث الزوجة والأولاد على أداء الفرائض واجتناب النواهي ، ومراقبتهم المستمرة في ذلك.

٣٢٠