التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

والظهار نوعان : صريح وكناية ، فالصريح : أنت علي كظهر أمي ، وأنت عندي ، وأنت مني ، وأنت معي كظهر أمي ، أو أنت علي حرام كظهر أمي ، وكذا : أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه ، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي ، ففي ذلك كله يكون مظاهرا.

والكناية : أن يقول : أنت علي كأمي أو مثل أمي ، فإنه يعتبر فيه النية ، فإن أراد الظهار كان ظهارا ، وإن لم يرد الظهار ، لم يكن مظاهرا عند أئمة المذاهب الأربعة ، لأنه أطلق تشبيه امرأته بأمه ، فكان ظهارا.

والظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها ، على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه.

ويلزم عند مالك الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها ، ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة ، لقوله تعالى : (مِنْ نِسائِهِمْ) وهذه ليست من نسائه.

والذميّ لا يلزم ظهاره عند أبي حنيفة ومالك ، لقوله تعالى : (مِنْكُمْ) يعني من المسلمين ، وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. ويلزم ظهاره عند الشافعي وأحمد ، لعموم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ..).

ولا ظهار للمرأة من الرجل في قول الجمهور ، لأن الله تعالى قال : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) ولم يقل : اللائي يظاهرن منكن من أزواجهم ، إنما الظهار على الرجال. وقال الأوزاعي وإسحاق وأبو يوسف : إذا قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أمي فلانة ، فهي يمين تكفّرها. وقال أحمد : يجب عليها كفارة الظهار ، لأنها أتت بالمنكر من القول والزور.

٢١

وظهار السكران صحيح كطلاقه ، ويلزمه حكم الظهار والطلاق إذا عقل ، بالاتفاق ، ولا يصح ظهار المكره عند الجمهور غير الحنفية. وكذا يلزم الغضبان حكم الظهار. ومن كان به لمم ، أي إلمام بالنساء وشدة حرص وتوقان إليهن ، كأوس بن الصامت الذي ظاهر من زوجته خولة بنت ثعلبة ، لزمه ظهاره. وليس معنى اللمم : الجنون والخبل كما قال الخطابي ، إذ لو كان به ذلك ، ثم ظاهر في تلك الحالة ، لم يكن يلزمه شيء.

ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ بها بشيء حتى يكفّر في رأي الجمهور ، ورأى الشافعي أن المباشرة ليلا لا تقطع الصوم ولا تحرم.

ومن وطئ قبل أن يكفّر : عليه كفارة واحدة في رأي الجمهور ، وقال بعضهم (مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن مهدي) : عليه كفارتان ، ودليل الجمهور : أن الآية دلت على أنه يجب على المظاهر كفارة قبل العود ، وهنا فاتت صفة القبلية ، فيبقى أصل وجوب الكفارة ، وليس في الآية دلالة على أن ترك التقديم يوجب كفارة أخرى.

وإذا كظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة ، كقوله : أنتن علي كظهر أمي ، كان مظاهرا من كل واحدة منهن ، ولم يجز له وطئ إحداهن ، وأجزأته كفارة واحدة في قول الجمهور ، وقال الشافعي في الأظهر : تلزمه أربع كفارات.

وإن قال لأربع نسوة : إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي ، فتزوج إحداهن ، لم يقربها حتى يكفّر ، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن.

وإن قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة (١) ، لزمه الطلاق والظهار معا ، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر ، ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفّر. والمبتوتة عند المالكية لا يلحقها طلاق ولا ظهار.

__________________

(١) يريد ب (البتة) هنا : الطلاق الثلاث.

٢٢

٣ ـ كفارة الظهار واجبة على الترتيب : الإعتاق ، ثم الصيام شهرين متتابعين ، ثم إطعام ستين مسكينا ، وذلك قبل التّماس ، أي الجماع ومقدماته عند الحنفية ، والجماع فقط عند الشافعية ، فإن جامع قبل أن يكفر ، لم يجب عليه إلا كفارة واحدة في قول أكثر العلماء كما تقدم.

٤ ـ العود لما قال المظاهر في الظهار : معناه عند الحنفية والمالكية : العزم على الوطء أو إرادة الوطء ، والوطء في الفرج عند الحنابلة ، وإمساك الزوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق في مذهب الشافعية.

والأظهر أنه لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفّر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها ، ويجبره على التكفير.

٥ ـ يجزئ عند الحنفية إعتاق الرقبة الكافرة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها ، ولا يجزئ إعتاق غير الرقبة المؤمنة عند بقية المذاهب ، ولا يجزئ عند الشافعي رحمه‌الله إعتاق المكاتب.

ومن لم يجد الرقبة ولا ثمنها ، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته ، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته ، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه ، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة : لا يصوم وعليه عتق ، ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك : إذا كان له دار وخادم ، لزمه العتق ، فإن عجز عن الرقبة ، صام شهرين متتابعين.

٦ ـ تتابع الصيام شرط ، وينقطع تتابع صوم الشهرين إن أفطر بغير عذر ، ويستأنف. فإن أفطر بعذر من سفر أو مرض ، بنى وأكمل عند المالكية والحنابلة ، واستأنف أو ابتدأ الصيام من جديد عند الحنفية والشافعية ، لفوات التتابع ، ولكن لا ينقطع عند هؤلاء بحيض أو نفاس أو جنون.

٢٣

وينقطع التتابع بالوطء ليلا أو نهارا عند الجمهور ، لقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ولا يبطل التتابع عند الشافعية بالوطء ليلا ، لأنه ليس محلا للصوم.

٧ ـ لا يجزئ عند مالك والشافعي وأحمد أن يطعم أقل من ستين مسكينا ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد ، أجزأه.

٨ ـ إن كفارة الظهار إيمان بالله سبحانه وتعالى ، لقوله : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي لتكونوا مطيعين لله سبحانه ، واقفين عند حدود الكفارة لا تتعدّوها ، فسمى التكفير طاعة ، ومراعاة الحد إيمانا. وتلك حدود الله تعالى بين معصيته وطاعته ، فمعصيته الظهار ، وطاعته الكفارة ، ولمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم.

وهذا دليل على أن العمل داخل في مسمى الإيمان ، لأن الله أمر بهذه الأعمال ، وبيّن أنه أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين ، فدلت الآية على أن العمل من الإيمان. وأنكر بعضهم ذلك وقال : إنه تعالى لم يقل : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ) بعمل هذه الأشياء ، ورد الرازي عليهم بأن المعنى : ذلك لتؤمنوا بالله بالإقرار بهذه الأحكام.

ودل قوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) على أنه لا بد لهم من الطاعة ، وأن العذاب لمن جحد هذا وكذب به.

٢٤

وعيد الذين يعادون الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧))

الإعراب :

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً يَوْمَ) : ظرف زمان متعلق بما قبله ، وهو (مُهِينٌ) في قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي لهم عذاب مهين في هذا اليوم ، أو بإضمار : اذكر.

(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ ثَلاثَةٍ) : مجرور بالإضافة ، ويكون (نَجْوى) مصدرا ، أو مجرور على البدل ، بمعنى (متناجين) وتقديره : ما يكون من متناجين ثلاثة.

البلاغة :

(وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ) بينهما طباق ، لأن معنى (أَدْنى) أقل ، فصار الطباق بينها وبين أكثر.

المفردات اللغوية :

(يُحَادُّونَ) يعادون ويخالفون ، وأصل المحادّة : الممانعة ، يقال للبواب : حداد. (كُبِتُوا) خذلوا وأذلوا وأهينوا. (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في مخالفتهم رسلهم ، وهم كفار الأمم الماضية.

٢٥

(وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات دالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به. (وَلِلْكافِرِينَ) بالآيات. (عَذابٌ مُهِينٌ) ذو إهانة ، وإذلال ، يذهب عزهم وتكبرهم.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) يبعثهم كلهم ، لا يدع أحدا غير مبعوث ، أو مجتمعين. (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) يخبرهم بأعمالهم أمام الناس ، تشهيرا لحالهم ، وتقريرا لعذابهم وتوبيخا وتقريعا لهم. (أَحْصاهُ اللهُ) أحاط به عددا ، لم يغب عنه شيء. (وَنَسُوهُ) لكثرته ، أو تهاونهم به. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) لا يغيب عنه شيء.

(أَلَمْ تَرَ) تعلم. (ما يَكُونُ) ما يوجد. (نَجْوى) تناجي ومسارّة ، أو أصحاب نجوى ، مأخوذ من النجوة : وهي ما ارتفع من الأرض ، لأن المتسارّين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض. (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) أي محيط بهم بعلمه. (وَلا خَمْسَةٍ) ولا نجوى خمسة. (إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) تخصيص العددين إما لخصوص الواقعة ، فإن الآية نزلت في تناجي المنافقين ، أو لأن التشاور لا بدّ له من اثنين يكونان كالمتنازعين وثالث يتوسط بينهما. (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) ولا أقل مما ذكر كالواحد والاثنين. (وَلا أَكْثَرَ) من هذا العدد. (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) يعلم ما يجري بينهم. (أَيْنَ ما كانُوا) علم الله شامل لكل شيء ، لا يتحدد بمكان. (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) يخبرهم بأعمالهم ، فضحا لهم وتقريرا لجزائهم. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عالم بكل شيء على سواء.

المناسبة :

بعد بيان أحكام الظهار في شريعة الإسلام ، وتوبيخ المتورطين في الظهار ، ومدح المؤمنين الواقفين عند حدوده ، ذكر تعالى ما يلحق المخالفين لشرع الله والمعادين لأمر الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خزي وهوان في الدنيا ، وعذاب في غاية الذل والمهانة في الآخرة ، وأيد ذلك بالوعيد الشديد لهم ، فأخبر أن الله مطلع عليهم وعلى أعمالهم ، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم في السر والعلن ، وسيخبرهم بذلك يوم الحساب ، ويجازيهم على ما قدموا من عمل.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إن الذين يعادون الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويخالفون شرع ربهم ويعاندونه ، أذلّوا وأخزوا وأهينوا ولعنوا ، وينكل بهم في الدنيا ، كما أذل الذين من قبلهم من

٢٦

كفار الأمم المتقدمة ، بسبب معاداتهم شرع الله سبحانه ، وقد تحقق هذا الإنذار بإذلال المشركين بالقتل والأسر والقهر يوم بدر والخندق. وفي ذلك تبشير بنصر المؤمنين على من عاداهم ، ووعيد لكل الحكام المسلمين الذين يهجرون شريعتهم الإلهية ، ويعملون بالقوانين الوضعية ، ونظير الآية : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ..) الآية [النساء ٤ / ١١٥] وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الحشر ٥٩ / ٤].

(وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي وقد أنزلنا للناس آيات واضحات ، لا يخالفها إلا كل كافر فاجر مكابر ، وللجاحدين بتلك الآيات ، المستكبرين عن اتباع شرع الله والانقياد له ، عذاب يهين صاحبه ، ويذله ، بسبب كفرهم وتكبرهم عن حكم الله ، وذلك العذاب : هو الخزي والهوان في الدنيا ، ونار جهنم في الآخرة.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً ، فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي اذكر ذلك اليوم تعظيما له ، وأخبر بأن لهم عذابا مهينا يوم يحسرهم الله جميعا من الأولين والآخرين في يوم الحساب ، مجتمعين في حالة واحدة ، لا يبقى منهم أحد لا يبعث ، فيخبرهم الله بأعمالهم القبيحة التي عملوها في الدنيا ، لإقامة الحجة وتكميلها عليهم ، كما يخبرهم بكل ما صنعوا من خير وشر ، ضبطه الله وحفظه عليهم ، في صحائف كتبهم ، وهم قد نسوا ما كانوا عملوا ، والله مطلع وناظر لا يغيب عنه شيء ، ولا يخفى ولا ينسى شيئا.

وفي هذا أيضا وعيد شديد لكل من قدم الأعمال المنكرة والأفعال القبيحة.

ثم أخبر الله تعالى تأكيدا لما سبق بإحاطة علمه بخلقه واطلاعه على كل شيء ، فقال:

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ

٢٧

إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ، أَيْنَ ما كانُوا) أي ألم تعلم أيها النبي وكل مخاطب أن علم الله واسع شامل محيط بكل شيء في الأرض والسماء ، بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما ، فما يوجد من تناجي أشخاص ثلاثة أو خمسة إلا هو معهم بعلمه ، ومطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم ، ولا يوجد من نجوى أقل من ذلك العدد أو أكثر منه مهما كان الرقم عشرات ومئات أو ألوفا أو ملايين إلا وهو عليم بهم ، في أي زمان وفي أي مكان ، يعلم السر والجهر ، لا تخفى عليه خافية ، ولا يغيب عنه شيء من تناجيهم في السر والعلن ، لأن علم الله تعالى محيط بكل شيء ، لا يحده زمان ولا يحجبه مكان ، يسمع كلامهم ، ويبصر ويرى مكانهم حيثما كانوا ، وأينما كانوا ، ورسله أيضا مع ذلك تكتب ما يتناجون به ، مع علم الله به ، وسمعه له.

والسبب في ذكر الثلاثة والخمسة وإهمال ذكر الاثنين والأربعة : هو إما تصوير الحالة الواقعية التي نزلت الآية بسببها ، فإنها نزلت في قوم منافقين ، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين ، وكانوا على هذين العددين. عن ابن عباس : أن ربيعة وحبيبا ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما ما يتحدثون ، فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر : يعلم بعضا ولا يعلم بعضا ، وقال الثالث : إن كان يعلم بعضا ، فهو يعلم كله ، فنزلت.

وإما أن طبيعة المشاورة ، تتطلب وجود عدد وتر ، فيكون الاثنان أو الأربعة متنازعين ، والثالث أو الخامس كالمتوسط الحكم بينهم ، فذكر سبحانه الثلاثة والخمسة تنبيها على الأفراد والمجموعات الباقية.

ونظير الآية كثير في القرآن ، نحو قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ، وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التوبة ٩ / ٧٨] وقوله سبحانه : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ، بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٨٠].

٢٨

ولهذا أجمع المفسرون على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ، ولا شك في إرادة ذلك.

ومع علم الله وسمعه وبصره بكل شيء ، هو سبحانه وتعالى مطلع على جميع أمور خلقه ، كما قال : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ثم يخبر الله عباده المتناجين وغيرهم بجميع أعمالهم يوم القيامة ، ليعلموا أن الله عالم بهم ، وليكون إعلامه لمن يتناجون بالسوء والمكر توبيخا لهم وتكبيتا ، وإلزاما للحجة ، والله تعالى واسع العلم بكل الأشياء والأعمال ، لا تخفى عليه خافية من الأمور ، ويجازيهم عليها.

قال الإمام أحمد : افتتح الآية بالعلم ، واختتمها بالعلم.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن كل من خالف شرع الله أو عاداه ، أو تجاوز حدوده ، له الخزي والذل والهوان في الدنيا ، والعذاب المهين في الآخرة. وهذا بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر ، ووعيد وإنذار للكافرين بالعقاب الشديد.

٢ ـ يوم يبعث الله الرجال والنساء من أول عمر الدنيا إلى آخرها ، من قبورهم في حالة واحدة ، يخبرهم بما عملوا في الدنيا ، وقد أحصاه الله عليهم في صحائف أعمالهم ، بالرغم من نسيانهم له ، ليكون أبلغ في الحجة عليهم ، والله مطّلع وناظر لا يخفى عليه شيء.

٣ ـ لا يخفى على الله سر ولا علانية في السموات والأرض ، فكل ما يكون من تناجي أو سرار اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو أقل أو أكثر من ذلك العدد ، يعلم به الله ويسمع نجواهم ، كما دل عليه افتتاح الآية : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ..)

٢٩

بالعلم ، ثم ختمها بالعلم ، وسمع الله محيط بكل كلام ، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها ، وعلمه شامل كل شيء ، لأن علمه علم قديم ، فهو عالم بجميع المعلومات.

٤ ـ أكد الله تعالى المذكور في الآية السابقة بأنه سيخبر يوم القيامة خلقه بما عملوا من حسن وسوء ، لأن الله عليم بجميع الأشياء ، والمراد به أنه يحاسب الناس على أعمالهم ، ويجازيهم على قدر استحقاقهم. ودل قوله : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) على التحذير من المعاصي ، والترغيب في الطاعات.

٥ ـ المراد من كونه تعالى رابعا للثلاثة ، وسادسا للخمسة وكونه معهم : كونه تعالى عالما بكلامهم وضميرهم وسرهم وعلنهم ، وكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم ، مع تنزيهه تعالى عن المكان والمشاهدة.

عقاب المتناجين بالسوء وآداب المناجاة في القرآن

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

٣٠

الإعراب :

(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها ، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) مبتدأ وخبر ، و (يَصْلَوْنَها) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (جَهَنَّمُ) وبئس المصير : حذف المقصود بالذم ، وتقديره : جهنم.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) ألم تنظر. (الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) هم اليهود والمنافقون كانوا يتناجون فيما بينهم ، أي يتحدثون سرا للتآمر على المؤمنين وإيقاع الريبة في قلوبهم ، فنهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عادوا لمثل فعلهم. (بِالْإِثْمِ) بما هو معصية وذنب. (وَالْعُدْوانِ) الاعتداء على غيرهم. (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) التواصي بمخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) أي إذا جاؤوك أيها النبي قالوا : السام عليك ، أي الموت ، أو أنعم صباحا .. ، والله تعالى يقول : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل ٢٧ / ٥٩]. و (حَيَّوْكَ) خاطبوك بالتحية ، والتحيات لله : أي البقاء. (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي فيما بينهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) هلا يعذبنا بسبب ذلك ، أي بالتحية لو كان محمد نبيا. (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذاب جهنم كاف لهم. (يَصْلَوْنَها) يدخلونها ويقاسون حرّها. (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم.

(فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ..) كما يفعله المنافقون. (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) بما يتضمن خير المؤمنين واتقاء معصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيما تأتون وتذرون ، فإنه مجازيكم عليه ، و (تُحْشَرُونَ) تجمعون.

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) النجوى بالإثم والعدوان من الشيطان ، فإنه المزين لها والدافع إليها. (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ليوقعهم بتوهمه في الحزن. (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً) أي وليس الشيطان بضارّ المؤمنين. (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بمشيئته. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فليفوضوا الأمر إليه ، ولا يبالوا بنجواهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٨):

(أَلَمْ تَرَ ...) : أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان قال : كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين اليهود موادعة ، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة ، جلسوا

٣١

يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله ، أو بما يكرهه ، فنهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النجوى ، فلم ينتهوا ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) الآية.

وأخرج أحمد والبزار والطبراني بسند جيد عن عبد الله بن عمرو : أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سام عليكم ، ثم يقولون في أنفسهم : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) ، فنزلت الآية : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ).

وقال ابن عباس ومجاهد : نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم ، وينظرون إلى المؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا : ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم وأقرباؤهم ، فلما طال ذلك وكثر ، شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرهم أن يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك ، وعادوا إلى مناجاتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

نزول قوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) :

عن عائشة قالت : جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقلت : السام عليكم وفعل الله بكم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مه ، يا عائشة ، فإن الله تعالى لا يحبّ الفحش ولا التفحش ، فقلت : يا رسول الله ، ألست أدري ما يقولون؟ قال : ألست ترين أردّ عليهم ما يقولون؟ أقول : وعليكم ، ونزلت هذه الآية في ذلك : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) (٢).

__________________

(١) أسباب النزول للنيسابوري : ص ٢٣٣

(٢) المرجع والمكان السابق ، والحديث رواه ابن أبي حاتم.

٣٢

نزول الآية (١٠):

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) : أخرج ابن جرير عن قتادة قال : كان المنافقون يتناجون بينهم ، وكان ذلك يغيظ المؤمنين ، ويكبر عليهم ، فأنزل الله : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) الآية.

المناسبة :

بعد بيان علم الله بكل شيء ، ومنه السر والنجوى ، أبان الله تعالى حال أولئك الذين نهوا عن النجوى وهم اليهود والمنافقون ، ثم عودتهم إلى المنهي عنه ، وتحيتهم بالسوء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قائلين له : السام عليك ، أي الموت ، وتهديد بدخول جهنم.

ثم ذكر تعالى آداب المناجاة من الامتناع عن التناجي بالإثم والعدوان ، أي بالمعصية والقبيح والاعتداء وكل ما يؤدي إلى ظلم الغير ، وضرورة التناجي بالبر والتقوى ، أي بالخير وما يتقى به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي.

التفسير والبيان :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) أي ألم تنظر إلى الذين نهيتهم عن التناجي والمسارة بالسوء ، ثم عودتهم إلى ما نهيتهم عنه ، وهم اليهود والمنافقون كما ذكر في سبب النزول.

(وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي ويتسارّون أو يتحدثون فيما بينهم بما هو معصية وذنب كالكذب ، واعتداء وظلم للآخرين وعدوان على المؤمنين ، وتواص بمخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) أي وإذا أتى إليك اليهود حيّوك بتحية سوء لم يحيّك بها الله إطلاقا ، فيقولون : السام عليك ، يريدون

٣٣

بذلك السلام ظاهرا ، وهم يعنون الموت باطنا ، فيقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وعليكم. روي في الصحيح لدى البخاري ومسلم عن عائشة : أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : السام عليكم يا أبا القاسم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وعليكم ، وقالت عائشة : عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا عائشة ، عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش ، فقلت : ألا تسمعهم يقولون : السام؟ فقال عليه الصلاة والسلام : وأما سمعت ما أقول : وعليكم ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) أي والله تعالى يقول : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل ٢٧ / ٥٩] و (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) و (يا أَيُّهَا النَّبِيُ).

(وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ : لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي يفعلون هذا ، ويقولون فيما بينهم : لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به ، فأجاب الله تعالى عن قولهم : بأن جهنم تكفيهم ، كما قال سبحانه :

(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها ، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي يكفيهم عذاب جهنم عن الموت الحاضر ، يدخلونها ، فبئس المرجع والمآل ، وهو جهنم.

ثم ذكر الله تعالى آداب المناجاة حتى لا يكون المؤمنون مثل اليهود والمنافقين ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، إِذا تَناجَيْتُمْ ، فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي يا أيها المؤمنون الذين يقتضي إيمانكم امتثال أمر الله ، والابتعاد عن كل ما يتنافى مع الإيمان الصحيح ، إذا تحدثتم سرا فيما بينكم ، فلا تفعلوا مثلما يفعل الجهلة من اليهود والمنافقين ، من التناجي بالمعصية والذنب. والاعتداء على الآخرين وظلمهم ، ومخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائد الأمة ومنقذها من الضلالة.

(وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وتحدثوا بالطاعة وترك المعصية ، وبالخير واتقاء الله فيما تفعلون وتتركون ، فإنكم إليه

٣٤

تجمعون يوم القيامة والحساب ، فيخبركم بأعمالكم وأقوالكم ، ويحاسبكم عليها ، ويجازيكم بما تستحقون ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة ، فلا يتناجى رجلان دون الآخر ، حتى تختلطوا بالناس ، فإن ذلك يحزنه» (١).

ثم ذكر الله تعالى بواعث مناجاة الكفار بالسوء ، فقال :

(إِنَّمَا النَّجْوى (٢) مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إنما التناجي أو المسارّة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تزيين الشيطان وتسويله ووسوسته ليسوء المؤمنين ، ولأجل أن يوقعهم في الحزن بإيهامهم أنهم في مكيدة يكادون بها ، وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا ، إلا بإرادة الله تعالى ومشيئته.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي فلا يأبه المؤمنون بتناجيهم ، وليتوكلوا على الله ربهم ، بأن يكلوا أمرهم إليه ، ويفوضونه في جميع شؤونهم ، ويستعيذون بالله من الشيطان ، ولا يبالون بما يزينه من النجوى.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن شأن اليهود وديدنهم معاداة القيم والأنبياء ، والتآمر والمكايد ، فتراهم يتناجون سرا بالإثم والعدوان ، أي بالكذب والظلم ، ويتواصون بمخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويخرجون عن الآداب الاجتماعية المعروفة ، فيحيون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم : السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهرا ، وهم يعنون الموت باطنا ، فيجيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «عليكم» أو «وعليكم» وكانوا يقولون : لو كان محمدا

__________________

(١) رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه وعبد الرزاق عن ابن مسعود.

(٢) اللام للعهد ، وهو التناجي بالإثم والعدوان ، زينه الشيطان لأجلهم.

٣٥

نبيا لما أمهلنا الله بسبّه والاستخفاف به ، وجهلوا أن الباري تعالى حليم ، لا يعاجل من سبّه ، فكيف من سبّ نبيه؟!

وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا أحد أصبر على الأذى من الله ، يدعون له الصاحبة والولد ، وهو يعافيهم ويرزقهم».

واختلف العلماء في رد السلام على أهل الذمة ، هل هو واجب كالرد على المسلمين ، فذهب ابن عباس والشعبي وقتادة إلى الوجوب ، للأمر بذلك. وذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك ليس بواجب ، فإن رددت فقل عليك. قال القرطبي : وما قاله مالك أولى اتباعا للسنة ، أخرج الترمذي عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : عليك ما قلت».

٢ ـ أمر الله المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم بالبر والتقوى ، أي بالطاعة والعفاف عما نهى الله عنه ، ونهاهم عن التناجي أي التسارر بالمعصية والذنب ، والاعتداء على الآخرين والظلم ، فإنهم مجموعون في الآخرة إلى الله الذي يجازيهم على ما قالوا وما عملوا.

٣ ـ إن الباعث على نجوى السوء من تزيين الشيطان ، ليوقع المؤمنين في الهمّ والحزن ، وليوهمهم أن المسلمين أصيبوا في السرايا ، أو أنهم متعرضون لمكايدة الأعداء ، والوقوع فريسة الأقوياء ، ومحنة السوء ، مع العلم بأن الشيطان لا يضر أحدا بشيء إلا بمشيئة الله وتدبيره ، وعلى المؤمنين أن يكلوا أمرهم إلى الله ربهم القاهر القادر ، ويفوضوا جميع شؤونهم إلى عونه ، ويستعيذوا به من الشيطان ومن كل شر ، فهو الذي سلّط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا ، ولو شاء لصرفه عنه.

٤ ـ من أدب الإسلام ، كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود المتقدم : «إذا كنتم ثلاثة ...» ألّا يتناجى أو يتحدث سرا اثنان أمام ثالث ، حتى يجد الثالث

٣٦

من يتحدث معه ، كما فعل ابن عمر ، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل ، فجاء آخر يريد أن يناجيه ، فلم يناجيه حتى دعا رابعا ، فقال له وللأول : تأخرا ، وناجى الرجل الطالب للمناجاة (١). ويستوي في ذلك كل الأعداد ، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا ، لوجود ذلك المعنى في حقه ، بل وجوده في العدد الكثير أوقع ، فيكون بالمنع أولى ، وإنما خص الثلاثة بالذكر ، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال ، وإليه ذهب الجمهور ، وسواء أكان التناجي في مندوب أم مباح أم واجب ، فإن الإساءة تشمله (٢).

أدب المجالسة في الإسلام

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

البلاغة :

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) الجملة الأخيرة عطف خاص على عام تنويها بشرف العلماء ، مع أنهم داخلون في المؤمنين.

المفردات اللغوية :

(تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) توسعوا فيها ، وليفسح بعضكم عن بعض ، يقال : افسح عني ، أي

__________________

(١) أخرجه الموطأ.

(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ٢٩٥

٣٧

تنّح ، وقرئ : «في المجلس» ، والمراد به الجنس. (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) يوسع الله لكم في رحمته ، من المكان والصدر والرزق والجنة وغيرها. (انْشُزُوا) انهضوا للتوسعة على القادمين ، أو ارتفعوا في المجلس ، أي تنحوا من الموضع ، ويقال : امرأة ناشز ، أي منتحية عن زوجها. (فَانْشُزُوا) فانهضوا دون تباطؤ. (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) يعلي منزلتهم بالنصر وحسن السمعة في الدنيا ، والإيواء في غرف الجنان في الآخرة. (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي ويرفع العلماء منهم خاصة درجات في الكرامة وعلوّ المنزلة ، لجمعهم بين العلم والعمل ، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به زيادة رفعة ، جاء في الحديث : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» (١). (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عالم مطلع على جميع أعمالكم ، وهو تهديد لمن لم يمتثل الأمر.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة قال : كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ، ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ : تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل : أنها نزلت يوم الجمعة ، وقد جاء ناس من أهل بدر ، وفي المكان ضيق ، فلم يفسح لهم ، فقاموا على أرجلهم ، فأقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفرا بعدتهم وأجلسهم مكانهم ، فكره أولئك النفر ذلك ، فنزلت.

المناسبة :

بعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن التناجي سرا في المجتمعات ، والتناجي بالإثم والعدوان ، لكونه سبب التباغض والتنافر ، أمرهم تعالى بما يكون سببا لزيادة المحبة والمودة من التوسع في المجالس ، والانصراف عنها عند الطلب لمصلحة ما ، ثم أخبر عن رفع منازل المؤمنين والعلماء درجات في الجنان وفي الدنيا أيضا.

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية عن معاذ ، وهو ضعيف.

٣٨

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ ، فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا طلب منكم التوسع في الأماكن والمجالس ، وعدم التضايق فيها ، سواء مجالس النبي أو مواضع القتال ، فليفسح بعضكم لبعض ، وليوسع أحدكم للآخر ، يوسع الله لكم في الجنة ، أي إن الجزاء من جنس العمل.

والآية عامة في كل مجلس ، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر ، سواء كان مجلس حرب أو ذكر وعلم ، أو يوم جمعة أو عيد ، وكل واحد أحق بمكانه الذي يسبق إليه ، ولكن يوسع لأخيه. جاء في الحديث الثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ، ثم يجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا» (١).

قال : الرازي : (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) : هو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه ، من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة.

والآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة ، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة ، ولا ينبغي للشخص أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس ، بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم ، وإدخال السرور في قلبه ، لذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (٢).

__________________

(١) رواه مالك والشافعي وأحمد والترمذي وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما ، وأخرجه الشيخان في الصحيحين.

(٢) تفسير الرازي : ٢٩ / ٢٦٩ ، والحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة.

٣٩

وهذا الأدب له تأثيره الكبير في غرس المحبة والتقدير في القلوب. وهو يومئ إلى أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسماع حديثه ، والانتفاع بهديه وأدبه وفضله.

وفي الحديث المروي في السنن : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ، ولكن حيث يجلس ، يكون صدر ذلك المجلس ، فكان الصحابة رضي‌الله‌عنهم يجلسون منه على مراتبهم ، فالصديق رضي‌الله‌عنه يجلسه عن يمينه ، وعمر عن يساره ، وبين يديه غالبا عثمان علي ، لأنهما كانا ممن يكتب الوحي وكان يأمرهما بذلك ، روى مسلم وأحمد وأهل السنن إلا الترمذي عن أبي مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهى ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه.

ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر ، إما لتقصير أولئك في حق البدريين ، أو ليأخذ البدريون نصيبهم من العلم ، كما أخذ أولئك قبلهم ، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام.

وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال :

فمنهم من رخص في ذلك ، محتجا بحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري : «قوموا إلى سيدكم» وهو سعد بن معاذ حينما استقدمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكما في بني قريظة.

ومنهم من منع ذلك محتجا بحديث أحمد وأبي داود والترمذي عن معاوية بن أبي سفيان : «من أحب أن يتمثّل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار».

ومنهم من فصّل ، فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دلت عليه قصة سعد المتقدمة ، ليكون أنفذ لحكمه ، فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم ، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من

٤٠