التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود أنه قال : من شاء لاعنته أن الآية التي في النساء القصرى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) الآية ، نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة [٢٣٤] بكذا وكذا شهرا.

وقال علي وابن عباس رضي‌الله‌عنهما : تعتد الحامل المتوفى عنها زوجها بأبعد الأجلين من وضع الحمل ، والأشهر أي أربعة أشهر وعشر ، عملا بهذه الآية والتي في سورة البقرة.

وهذا في الواقع جمع بين المدتين ، وليس جمعا بين النصين ولا إعمالا لعموم كل منهما في مقتضاه ، فإننا إذا حكمنا بعدم انتهاء العدة على من وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشر ، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ). وكذلك إذا حكمنا بعدم انتهاء العدة على من مضى عليها أربعة أشهر وعشر ، ولم تضع حملها ، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي ومن يخف الله ويرهب عقابه ، فيأتمر بما أمر الله به ، وينته عما نهى عنه ، يسهّل عليه أمره كله في الدنيا والآخرة. وهذا تنويه بفضيلة التقوى في الدنيا والآخرة.

(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ، وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي جميع الأحكام المتقدمة في الطلاق والعدة والسكنى هو أمر الله الذي أمر به عباده ، وأنزله إليهم في قرآنه ، ومن يخف الله ، بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، يمح عنه ذنوبه من صحائف أعماله ، ولا يؤاخذه بها ، كما وعد بذلك في قوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ١١ / ١١٤] ويضاعف له جزاء

٢٨١

حسناته ، ويجزل له المثوبة على عمله. وقد كرر الأمر بالتقوى للتأكيد عليها ، وكونها عماد النجاة والسعادة الدنيوية والأخروية.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ عدة المرأة اليائس التي انقطع دمها بسبب الكبر وتقدم السن ، وعدة الفتاة الصغيرة التي لم تر الدم هي ثلاثة أشهر ، تقابل القروء الثلاثة عند من ترى الدم. وسن اليأس في تقدير الحنابلة : خمسون سنة ، وفي تقدير الحنفية : خمس وخمسون ، وعند الشافعية : اثنان وستون سنة ، وعند المالكية : سبعون سنة.

ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع ، فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها ، تسعة أشهر ثم ثلاثة. وكذلك المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها ، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة ، وتكون عدتها عند المالكية والحنابلة سنة بعد انقطاع الحيض ، بأن تمكث تسعة أشهر ، وهي مدة الحمل غالبا ، ثم تعتد بثلاثة أشهر ، فيكمل لها سنة ، ثم تحل. وحكمها عند الحنفية والشافعية أنها تبقى أبدا حتى تحيض أو تبلغ سن من لا تحيض ، ثم تعتد بثلاثة أشهر.

ومن تأخر حيضها لمرض ، فكذلك تعتد عند مالك تسعة أشهر ثم ثلاثة. وأما من انقطع حيضها بسبب الرضاع فإن عدتها عند المالكية تنقضي بمضي سنة بعد انتهاء زمن الرضاع وهو سنتان ، فإن رأت الحيض ولو في آخر يوم من السنة ، انتظرت الحيضة الثالثة.

وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة أو ممتدة الدم فعدتها عند المالكية سنة كاملة ، تمكث تسعة أشهر استبراء لزوال الريبة ، لأنها مدة الحمل غالبا ، وثلاثة أشهر عدة ، وتحل للأزواج.

٢٨٢

والمفتي به عند الحنفية : أنها تنقضي عدتها بسبعة أشهر ، بأن يقدر طهرها بشهرين ، فتكون أطهارها ستة أشهر ، وتقدر ثلاث حيضات بشهر احتياطا.

وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن عدة المستحاضة الناسية لوقت الحيض ، والمبتدأة كالآيسة : ثلاثة أشهر ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر حمنة بنت جحش أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة ، فجعل لها حيضة من كل شهر.

٢ ـ عدة الحامل تنتهي بوضع الحمل ، سواء كانت مطلّقة أو متوفى عنها زوجها. وتحل عند المالكية إذا وضعت علقة أو مضغة. وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تحلّ إلا بما يكون ولدا.

٣ ـ من يتّق الله في اجتناب معاصيه ، يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعات ، وقال الضحاك : من يتق الله في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. ثم كرر الله تعالى الحث على التقوى ، فذكر أن من يعمل بطاعة الله يكفّر عنه سيئاته من الصلاة إلى الصلاة ، ومن الجمعة إلى الجمعة ، ويعظم أجره في الآخرة.

٤ ـ إن المذكور من الأحكام المتقدمة أمر الله أنزله للناس وبيّنه لهم.

السكنى والنفقة للمعتدة وأجر الرضاع

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

٢٨٣

الإعراب :

(أَسْكِنُوهُنَ) جواب عن سؤال تقديره : كيف نتقي الله فيهن؟

(مِنْ وُجْدِكُمْ) عطف بيان لقوله : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) أو بدل مما قبله ، بإعادة الجار ، وتقدير مضاف ، أي أمكنة سعتكم ، لا ما دونها.

المفردات اللغوية :

(أَسْكِنُوهُنَ) أسكنوا المطلقات المعتدات. (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) أي بعض مساكنكم وفي مستوى سكناكم. (مِنْ وُجْدِكُمْ) مما تجدونه ويكون في وسعكم وطاقتكم. (وَلا تُضآرُّوهُنَ) أي في النفقة والسكنى. (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) لتضايقوهن في المساكن ، فتلجئوهن إلى الخروج ، ولا في النفقة فيفتدين منكم. (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فحينئذ يخرجن من العدة. (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أولادكم منهن بعد انتهاء رابطة الزواج. (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) على الإرضاع. (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي ليأمر بعضكم بعضا بجميل وروح كريمة في الإرضاع والأجر ، رعاية لمصلحة الأم والولد وحال الأب ، فلا بخل من الأب ، ولا معاسرة أو مضايقة وإرهاق لجانب الأب. (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) تضايقتم في الإرضاع ، وضيق بعضكم على بعض في الأجر وأصابكم إعسار واختلاف ، فامتنع الأب من الأجرة ، والأم من الرضاع. (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) سترضع للأب امرأة أخرى ، ولا تكره الأم على الرضاع ، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة.

(لِيُنْفِقْ) على المطلقات والمرضعات. (ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) لينفق الموسر بقدر يسره ووسعه. (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) ضيق عليه أو قتر عليه في الرزق ، وهو المعسر ، فلينفق بقدر وسعه. (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) مما أعطاه الله على قدره. (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) لا يكلف الله نفسا إلا بقدر ما أعطاها من الرزق قليلا أو كثيرا ، وفيه تطييب لقلب المعسر ، فوعده باليسر ، فقال : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي يبدل بالعسر يسرا ، عاجلا أو آجلا.

المناسبة :

بعد بيان عدة الآيسة والصغيرة والحامل الحبلى ، ذكر الله تعالى ما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى بقدر الطاقة ، سواء كانت مطلقة أو حاملا ، ثم ذكر ما يجب للمطلقة من أجرة على رضاع ولدها إذا هي أرضعته ، فالأم أولى بالإرضاع إذا رضيت بأجر المثل ، فإن أبت أرضعت المولود امرأة أخرى.

٢٨٤

التفسير والبيان :

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ، وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) أي أسكنوا المطلقات في مسكن مشابه لما تسكنون فيه بقدر أحوالكم ، وقدر سعتكم وطاقتكم ، ولو كان ذلك في حجرة من غرف الدار التي تسكنون فيها ، ولا تلحقوا بهن ضررا في النفقة والسكنى ، فتلجئوهن إلى الخروج من المسكن ، أو التنازل عن النفقة ، فالوجد : الغنى والمقدرة. وهذا بيان ما يجب للمطلقات من السكنى في المستوى الملائم لحال الرجل ، لأن السكنى نوع من النفقة الواجبة على الزوج ، فإذا طلق الرجل زوجته ، وجب عليه أن يسكنها في منزل حتى تنقضي عدتها ، دون مضارّة في السكنى أو النفقة.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي إن كانت المرأة المطلقة حاملا ، وجب الإنفاق عليها حتى تضع حملها. ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة. وقد ذهب الحنفية إلى تعميم هذا الحكم ، فقالوا : تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة ، ولو مبتوتة ، وإن لم تكن ذات حمل ، لقوله تعالى : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) وترك النفقة من أكبر الأضرار ، لما روي عن عمر رضي‌الله‌عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في المبتوتة : «لها النفقة والسكنى» لأن ذلك جزاء الاحتباس ، وتستوي فيه الحامل وغيرها. لكن قال الإمام أحمد : لا يصح ذلك عن عمر.

ورأى مالك والشافعي : أن للمطلقة ثلاثا السكنى ، ولا نفقة لها إلا إذا كانت حاملا ، لأن آية (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) هي في البائن الحامل ، بدليل أن الرجعية تجب نفقتها ، سواء كانت حاملا أو حائلا (غير حامل) لذا قالوا : الآية دليل على اختصاص النفقة بالحامل من المعتدات ، والأحاديث تؤيده.

ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور : ألا نفقة للمطلقة ثلاثا ولا سكنى ، لما

٢٨٥

رواه مسلم وأحمد من حديث فاطمة بنت قيس الذي طلّقها زوجها ثلاثا ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نفقة لك ولا سكنى». وذكر الدار قطني عن الأسود بن يزيد قال : قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس : لا نجيز في المسلمين قول امرأة. وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. لكن قال الدار قطني : السنة بيد فاطمة قطعا.

ثم أمر الله تعالى بدفع الأجرة على الرضاع ، فقال :

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ، وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي فإن أرضعت الأمهات المطلقات أولادكم بعد ذلك ، فأعطوهن أجور إرضاعهن إذا رضين بأجر المثل ، وائتمروا وتآمروا وتشاوروا أيها الأزواج والزوجات الذين وقع بينهم الفراق بالطلاق بما هو جميل معروف ، وحسن غير منكر ، في شأن الولد بما يضمن أوضاعه الصحية والمعاشية ، من غير إضرار ولا مضارة ، كما قال تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها ، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) [البقرة ٢ / ٢٣٣] وقال سبحانه : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة ٢ / ٢٣٣]. والآية دليل على أن أجرة الرضاع للأولاد على الأزواج ، وحق الحضانة على الزوجات.

(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي وإن تضايقتم واختلفتم في شأن الإرضاع ، فأبى الزوج أن يعطي الأم الأجر الذي تريده ، وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر ، فيستأجر الأب مرضعة أخرى ترضع ولده. وفي هذا عتاب للأم على التشدد في الطلب ، وعدم التسامح مع الأب. وذلك إذا قبل الولد ثدي امرأة أخرى ، وإلا وجب الإرضاع على الأم.

ثم أبان الله تعالى مقدار النفقة ، فقال :

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب طاقته أو قدرته ، ومن كان فقيرا

٢٨٦

مقترا أو مضيّقا عليه في الرزق ، فلينفق مما أعطاه الله من الرزق بقدر سعته ، ليس عليه إلا ذلك ، كما قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة ٢ / ٢٨٦].

وقال هنا :

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي لا يكلف الله نفسا إلا ما أعطاها من الرزق ، فلا يكلف الفقير بأن ينفق على الزوجة والقريب الرحم ما ليس في وسعه ، كنفقة الغني.

ثم وعد الله تعالى بالعطاء والفضل ، فقال :

(سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي سيجعل الله بعد ضيق وشدة سعة وغنى ، وهذا وعد منه تعالى ، ووعده حق لا يخلفه ، وهو بشرى بالفرج بعد الكرب ، كما قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الانشراح ٩٤ / ٥ ـ ٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على الأحكام التالية :

١ ـ السكنى بقدر الطاقة وفي المستوى اللائق بحال الزوج واجبة لكل مطلقة. وقد أجمع العلماء على أن للمرأة الرجعية (التي يحق مراجعتها بعد طلقة واحدة رجعية أو طلقتي) السكنى والنفقة ، أما السكنى : فللآية : (أَسْكِنُوهُنَ) وآية (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) وأما النفقة ولو لم تكن حاملا فلأن الرجعية كالزوجة في بقاء حق الاحتباس وسلطة الزوج عليها ، فيكون الإجماع مخصصا لمفهوم قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ).

٢٨٧

واتفق العلماء أيضا على أن للبائن (التي طلقت طلاقا بائنا) الحامل السكنى والنفقة ، لقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) وقوله سبحانه : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ).

وأما البائن غير الحامل أو المطلقة ثلاثا ، فاختلف العلماء في سكناها ونفقتها على أقوال ثلاثة تقدم ذكرها ، وموجزها كما يلي :

أحدها ـ وجوب السكنى والنفقة لها : وهو مذهب عمر وابن سعود وكثير من فقهاء الصحابة والتابعين ، ومذهب الحنفية والثوري ، لقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) فهو أمر بالسكنى لكل مطلقة ، ولأن النفقة جزاء الاحتباس لحق الزوج ، سواء كانت حاملا أو حائلا. والمقصود بآية (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) دفع توهم ألا نفقة لها لطول مدة الحمل. وقد قال عمر رضي‌الله‌عنه : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقول امرأة ، لا ندري جهلت أم نسيت. يريد قول فاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها البتة : «لم يجعل لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكنى ولا نفقة».

والثاني ـ ألا نفقة للمبتوتة ولا سكنى : وهو رأي ابن عباس وأصحابه وجابر بن عبد الله وفاطمة بنت قيس وبعض التابعين ، وإسحاق وداود وأحمد ، لحديث مسلم وغيره المتقدم عن فاطمة بنت قيس حينما طلقها عمرو بن حفص البتة ، فلم يفرض لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفقة ولا سكنى.

والثالث ـ للمطلقة البائن بينونة كبري السكنى دون النفقة : وهو مذهب مالك والشافعي ، أما السكنى فلقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) وأما عدم النفقة فلمفهوم قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فإن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة ، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل ، فدل مفهوم : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) على أن المطلقة البائن غير الحامل لا نفقة لها.

٢٨٨

وردّ الجصاص على حديث فاطمة بنت قيس بقوله : وهذا حديث قد ظهر من السلف النكير على راويه ، ومن شرط قبول أخبار الآحاد تعريها من نكير السلف ، أنكره عمر بن الخطاب على فاطمة بنت قيس ، فقال : لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة ، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت ، لها السكنى والنفقة ، قال الله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ، وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) (١).

ثم جمع بين هذا الحديث ـ على فرض صحته ـ وبين الآية ، فقال : وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على مذهبنا فيما روته من نفي السكنى والنفقة ، وذلك لأنه قد روي أنها استطالت بلسانها على أحمائها ، فأمرها بالانتقال ، فلما كان سبب النقلة من جهتها ، كانت بمنزلة الناشزة ، فسقطت نفقتها وسكناها جميعا ، فكانت العلة الموجبة لإسقاط النفقة هي الموجبة لإسقاط السكنى (٢).

٢ ـ تحريم مضارة المرأة المطلقة في المسكن والنفقة ، كما تحرم الرجعة والطلاق بقصد الضرار ، وهو أن يطلقها ، فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها.

٣ ـ لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا ، أو أقل منهن حتى تضع حملها.

أما الحامل المتوفى عنها زوجها : فقال جماعة من الصحابة كعلي وابن عمر وابن مسعود والتابعين كالنخعي والشعبي وحماد : ينفق عليها من جميع المال أي من التركة حتى تضع. وقال ابن عباس وابن الزبير ومالك والشافعي وأبو حنيفة : لا ينفق عليها إلا من نصيبها ، روى الدار قطني بإسناد صحيح

__________________

(١) أحكام القرآن ٣ / ٤٦١

(٢) المرجع السابق ٣ / ٤٦٢

٢٨٩

عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليس للحامل المتوفى عنها زوجها نفقة».

٤ ـ إذا أرضعت المطلقات أولاد الزوج ، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. ويجوز عند مالك والشافعي للرجل أن يستأجر امرأته للرضاع ، كما يستأجر أجنبية. ولا يجوز عند أبي حنيفة الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبنّ أي يصبحن بائنات.

فإذا رضيت الأم أن ترضع ولدها بأجر المثل ، فهي أحق به ، لوفور شفقتها ، فهي أولى بحضانته وإرضاعه من كل أحد ، وليس للأب أن يسترضع غيرها في هذه الحالة. وتستحق الأجرة بالفراغ من العمل ، لا بالعقد ، لأن الله أوجبها بعد الرضاع بقوله : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ).

٥ ـ دلّ قوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ..) أيضا على أن نفقة الولد الصغير على أبيه ، لأنه إذا لزمه أجرة الرضاع ، فكفايته ألزم. لذا أجمعوا على ذلك في طفل لا مال له ، وألحق به بالغ عاجز عن نفقة نفسه ، لخبر هند بنت عتبة فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».

٦ ـ على الأزواج والزوجات الائتمار بينهم أو قبول بعضهم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل في الإرضاع والأجر وغيرهما. والجميل من الأم المطلقة إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل من الأب توفير الأجرة للأم للإرضاع.

٧ ـ إن حدث التعاسر أو تضييق بعض الأزواج على بعض في أجرة الرضاع ، فأبى الزوج أن يدفع للأم أجرة المثل ، أو أبت الأم الرضاع أو تغالت في الأجرة ، فليس للزوج إكراهها ، وليستأجر مرضعة أخرى غير أمه.

ودلت الآية (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ ..) أيضا على أنه إذا طلبت الأم أكثر من أجر

٢٩٠

المثل ، فللأب أن يسترضع غيرها ممن يرضى بأجر المثل ، إذا قبل الصبي ثدي المرأة الأخرى ، ولم يحصل له ضرر بلبنها ، وإلا أجبرت الأم على إرضاعه بأجرة المثل.

فإن اختلفا في الأجرة : فإن دعت الأم إلى أجر مثلها ، وامتنع الأب إلا تبرعا ، فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعا. وإن دعا الأب إلى أجر المثل ، وامتنعت الأمّ لتطلب شططا ، فالأب أولى به. فإن أعسر الأب بأجرتها ، أخذت جبرا برضاع ولدها.

٨ ـ على الزوج الإنفاق على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه وطاقته ، فإن كان غنيا موسرا أنفق نفقة الأغنياء ، وإن كان فقيرا أنفق نفقة الفقراء.

وتقدر النفقة بحسب حالة المنفق وحاجة المنفق عليه بالاجتهاد على وفق العرف والعادة ، في رأي المالكية. وقال الإمام الشافعي : النفقة مقدّرة محدّدة ، ولا اجتهاد لحاكم أو لمفت فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده يسرا وعسرا ، ولا يعتبر بحالها وكفايتها ، فإن كان الزوج موسرا لزمه مدّان ، وإن كان متوسطا فمدّ ونصف ، وإن كان معسرا فمدّ ، لقوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) الآية ، وقوله سبحانه : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) [البقرة ٢ / ٢٣٦] ، فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها ، ولأن مراعاة كفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره ، فتقع الخصوصة ، لأن الزوج يدّعي أنها تطلب فوق كفايتها ، وهي تزعم أن ما تطلبه قدر كفايتها ، فجعلت مقدرة قطعا للخصومة.

وأدلة المالكية على تقدير النفقة بحسب حال الزوجين معا عرفا وعادة قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة ٢ / ٢٣٣] ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين لهند امرأة أبي سفيان : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» وفي صحيح مسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبة الوداع : «واتقوا الله في

٢٩١

النساء ، فإنكم أخذتموهن بسنة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» ففي الحديثين إحالة على الكفاية ، ولم يقل عليه الصلاة والسلام للأم في حديث هند : لا اعتبار بكفايتك ، وأن الواجب لك شيء مقدر.

٩ ـ آية (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد ، دون الأمّ ، خلافا لمحمد بن الموّاز يقول : إنها على الأبوين على قدر الميراث. وفي البخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقول لك المرأة : أنفق علي وإلا فطلّقني ، ويقول لك العبد : أنفق علي واستعملني ، ويقول لك ولدك : أنفق عليّ ، إلى من تكلني».

١٠ ـ قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) دليل على أنه لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني ، وعلى أنه لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة ، لأنه تضمن عدم التكليف بالإنفاق في حال العجز ، فلا يجوز إجباره على الطلاق من أجل النفقة ، لأن فيه إيجاب التفريق لشيء لم يجب عليه.

وكذلك قوله تعالى : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) يدل على أنه لا يفرق بين الزوجين من أجل عجزه عن النفقة ، لأن العسر يرجى له اليسر ، وسيجعل الله بعد الضيق غنى ، وبعد الشدّة سعة ، كما قال تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ ، فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة ٢ / ٢٨٠]. وهذا مذهب الحنفية ورواية عن أحمد.

والقول بالفسخ للإعسار بالنفقة مذهب مالك وأظهر قولي الشافعي ورواية أخرى عن أحمد ، بدليل خبر الدار قطني والبيهقي في الرجل لا يجد شيئا ينفق على امرأته : يفرّق بينهما. ولأنه شرع الفسخ بالعنّة لإزالة الضرر ، والضرر الذي يلحق المرأة بعدم النفقة أشد من ضررها بالعنة ، فكان الفسخ بالعجز عن النفقة أولى من الفسخ بالعنة.

٢٩٢

ودلت الآية : (لا يُكَلِّفُ اللهُ ..) أيضا على أنه ينبغي للإنسان مراعاة حال نفسه في النفقة والصدقة ، جاء في الحديث : «إن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا ، إذا هو سبحانه وسّع عليه وسّع ، وإذا هو عزوجل قتّر عليه قتّر» (١).

وعيد المخالفين ووعد الطائعين والتذكير بقدرة الله

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

الإعراب :

(الَّذِينَ آمَنُوا) نعت للمنادى أو بيان له.

(قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ، رَسُولاً رَسُولاً) : منصوب بأحد خمسة أوجه : إما منصوب ب (ذِكْراً) على أنه مصدر ، أي : أن اذكر رسولا ، كانتصاب (يَتِيماً) في قوله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيماً) [البلد ٩٠ / ١٤ ـ ١٥] أي أن أطعم يتيما ، أو منصوب بفعل مقدر ، أي وأرسل رسولا ، أو بتقدير : أعني ، أو أن يكون بدلا من (ذِكْراً) ويكون (رَسُولاً) بمعنى رسالة ، وهو بدل الشيء من الشيء نفسه ، أو منصوب على الإغراء ، بتقدير : اتبعوا رسولا.

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٨ / ١٤٠

٢٩٣

(مُبَيِّناتٍ) حال من اسم الله أو صفة رسولا. (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) مبتدأ وخبر.

(وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ مِثْلَهُنَ) : إما منصوب بتقدير فعل أي : من الأرض خلق مثلهن ، وليس منصوبا بفعل (خَلَقَ) المتقدم لئلا يقع الفصل بين واو العطف والمعطوف بالجار والمجرور. أو مرفوع بالظرف أو على الابتداء ، أو الخبر مع خلاف فيه. (لِتَعْلَمُوا) اللام إما تتعلق ب (يَتَنَزَّلُ) أو تتعلق ب (خَلَقَ).

البلاغة :

(فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً ، وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً ، فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) تكرار الوعيد للترهيب.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) مجاز مرسل ، أي أهل قرية ، من إطلاق المحل وإرادة الحالّ.

(لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) استعارة ، استعار الظلمات للكفر والضلال ، والنور للهدى والإيمان.

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) هذه الآيات فيما سبق من السورة سجع بديع غير متكلف.

المفردات اللغوية :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي وكثير من أهل قرية ، (وَكَأَيِّنْ) : كاف الجرّ دخلت على «أي» بمعنى «كم». (عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) عصت وأعرضت أو تجبرت وتكبرت ، المراد عتى أهلها. (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) بالاستقصاء والمناقشة ، والحساب في الآخرة ، وعبر عنها بالماضي وإن لم تجئ لتحقق وقوعها. (عَذاباً نُكْراً) عذابا منكرا عظيما وهو عذاب النار.

(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) عاقبة عتوها وكفرها ومعاصيها. (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً٠) أي خسارة وهلاكا ، وهي خسارة لا ربح فيها أصلا. (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) تكرار الوعيد للتوكيد. (أُولِي الْأَلْبابِ) أصحاب العقول. (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) أي قرآنا. (رَسُولاً) أي وأرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الذين آمنوا بعد إنزال الذكر ومجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من الكفر والضلالة إلى الإيمان والهدى.

(قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) هو رزق الجنة التي لا ينقطع نعيمها ، وفيه تعجب وتعظيم لما رزقوا من الثواب. (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي وخلق مثلهن في العدد من الأرض ، يعني سبع

٢٩٤

أرضين. (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي يجري أمر الله وقضاؤه بينهن ، وينفذ حكمه فيهن. (لِتَعْلَمُوا) متعلق بمضمر يعم كلّا من الخلق والتنزيل فإن كلّا منهما يدل على كمال قدرته وعلمه ، فهو علة للأمرين.

المناسبة :

بعد بيان أحكام الطلاق والعدة وما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى ، والنهي عن تجاوز حدود الله ، أنذر الله تعالى وتوعد كل من خالف أمره وكذب رسله عليهم‌السلام ، بعقاب مماثل لعقاب الأمم الخالية التي كفرت وكذبت رسلها ، ثم أردف ذلك بالتذكير بعظيم قدرته وإحاطة علمه ، للحث على التزام الأوامر والعمل بالشريعة والأحكام ، فكانت الآيات تحذيرا من مخالفة الأمر بعد بيان الأحكام.

التفسير والبيان :

توعد الله تعالى كل من خالف أمره وكذّب رسله ، وسلك غير ما شرعه ، وأخبر عما حلّ بالأمم السالفة بسبب ذلك ، فقال :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ ، فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي وكثير من أهل القرى عصوا أمر الله ورسله ، وأعرضوا وتكبروا وتمردوا عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله ، حاسبها الله بأعمالها التي عملتها في الدنيا ، وعذب أهلها عذابا عظيما منكرا في الآخرة ، وفي الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف.

وعبّر بقوله : (فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها) بالماضي عن المستقبل في الآخرة للدلالة على التحقق والوقوع لوعيد الله ، مثل : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل ١٦ / ١] ، وقوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [الزمر ٣٩ / ٦٨] ، وقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف ٧ / ٤٤] ، ونحو ذلك.

٢٩٥

ثم أخبر عن سبب العذاب ، فقال :

(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها ، وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي لقيت شدة أمرها وعقوبة كفرها ، وكان مصيرها الخسران والهلاك والنكال في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، فخسروا أنفسهم وأموالهم وأهلهم.

ثم أكّد الوعيد بقوله :

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أي هيأ الله لهم عذابا شديد الوقع والألم لكفرهم وعتوهم وتمردهم ، وهو عذاب النار.

ثم ذكر الله تعالى العبرة من الإنذار والوعيد وهي حث المؤمنين على التقوى ، فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي فخافوا عقاب الله يا أصحاب العقول الراجحة ، والأفهام المستقيمة ، فلا تكونوا مثلهم ، فيصيبكم مثلما أصابهم.

ثم أوضح لهم ما يذكّرهم بنحو دائم ، فقال :

(الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ، رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ ، لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي فاتقوا الله يا أولي العقول من هذه الأمة الذين صدقوا بالله ورسله ، وأسلموا الله ، واتبعوا رسولهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد أنزل الله إليكم ذكرا دائما وهو القرآن العظيم ، وأرسل إليكم رسولا بهذا القرآن ، فهو الترجمان الصادق ، وهو الذي يبلّغكم وحي الله ، ويقرأ عليكم كلام الله وآياته في حال كونها بيّنة واضحة جلية ، يبيّن فيها للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام ، ليخرج الله بالآيات والرسول الذين آمنوا بالله ورسله ، وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية ، ومن ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

ثم أكرمهم ورغّبهم ببيان جزاء الإيمان والعمل الصالح ، فقال :

٢٩٦

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً ، يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) أي ومن يصدق بالله ، ويعمل العمل الصالح ، فيجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه ، يدخله جنات ، أي بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ، ماكثين فيها أبدا على الدوام ، وقد وسّع الله له رزقه في الجنة.

ثم نبّه عباده إلى عظيم قدرته وإحاطة علمه ، فقال :

١ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي إن الله هو الذي أبدع السموات السبع ، والأرضين السبع ، أي سبعا مثل السموات السبع ، يتنزل أمر الله وقضاؤه وحكمه ووحيه من السموات السبع إلى الأرضين السبع ، قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [الملك ٦٧ / ٣].

وثبت في الصحيحين : «من ظلم قيد شبر من الأرض ، طوّقه من سبع أرضين» وفي صحيح البخاري : «خسف به إلى سبع أرضين» وفي البخاري وغيره أيضا : «اللهم ربّ السموات السبع وما أظللن ، وربّ الأرضين وما أقللن».

وروى ابن مسعود أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي ، إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة».

وقال قتادة : في كل أرض من أرضه ، وسماء من سمائه خلق من خلقه ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه.

٢ ـ (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) أي فعل ذلك ، فخلق السموات والأرض وأنزل قضاءه وأمره فيهما ، لأجل أن تعلموا كمال قدرته ، وإحاطة علمه بجميع الأشياء ، فلا يخرج عن علمه شيء

٢٩٧

منها كائنا ما كان ، فاحذروا المخالفة ، واعتبروا بمصير الأمم السابقة ، فإن الله عالم بأعمالكم كلها ، وسيجازيكم عليها.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ حذر الله سبحانه من مخالفة أوامره ، من طريق بيان عتو قوم وحلول العذاب بهم ، فكثير من أهل القرى الظالمة التي عصت أمر الله ورسله ، جازاهم بالعذاب في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف وسائر المصائب ، وسيحاسبهم في الآخرة حسابا شديدا ، ويعذبهم عذابا منكرا عظيما.

فذاقوا عاقبة كفرهم ، وكان عاقبة أمرهم الهلاك والخسران في الدنيا بما ذكر ، وفي الآخرة بجهنم.

وقد بيّن الله تعالى نوع الخسر وهو أنه عذاب جهنم في الآخرة.

٢ ـ أمر الله بالتقوى عن الكفر به وبرسوله ، وجعل الأمر خطابا لأهل العقول الراجحة ، وللمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله ، والذين أنزل عليهم القرآن ، وأرسل لهم الرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يتلو عليهم الآيات البينات الواضحات التي تبين ما يحتاج إليه الناس من الأحكام والشرائع.

والتقوى : الخوف من الله والعمل بطاعته ، والانتهاء عن معاصيه. والغاية السامية من التقوى والإيمان والعمل الصالح هي الخروج من الكفر والضلالة إلى الهدى والنور.

٣ ـ الدليل على كمال قدرة الله تعالى ، وأنه يقدر على البعث والحساب هو خلق السموات والأرض ، والدليل على إحاطة علم الله تعالى بكل شيء : علمه بجميع أحوال أهل السماء وأهل الأرض ، وتدبير الكون ، وتنزيل الأمر فيهم ،

٢٩٨

وإنفاذ القضاء والحكم والوحي في شؤونهم ، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته ، وهو القادر على مجازاة جميع مخلوقاته ، ولا يعلم أجرام السماء ولا تلك الأحكام ولا كيفية تنفيذها في المخلوقات إلا علام الغيوب.

ولا خلاف في أن السموات سبع ، بعضها فوق بعض ، كما دلّ حديث الإسراء وغيره ، واختلفوا في الأرض ، فقال الجمهور : إنها سبع أرضين طباقا ، بعضها فوق بعض ، ولعل ذلك طبقات الأرض ، لقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي سبعا من الأرضين ، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق أو فرجة ، وللأحاديث الصحيحة المتقدمة مثل الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن عائشة وسعيد بن زيد : «من ظلم قيد شبر من الأرض ، طوّقه من سبع أرضين». وقيل : إنها أرض واحدة ، وأن المماثلة ليست في العدد ، وأن المماثلة في العدد ، وإنما هي في الخلق والإبداع والإحكام. والرأي الأول أصح وأظهر ، كما قال القرطبي وغيره من كبار المفسرين القدامى والمعاصرين ، لأن الأخبار دالّة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما.

٢٩٩

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة التحريم

مدنيّة ، وهي اثنتا عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة «التحريم» ، لتحريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا على نفسه ، وافتتاح السورة بعتابه على سبيل التلطف في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ..).

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة :

١ ـ افتتاح السورتين كلتيهما بخطاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ).

٢ ـ اشتراك السورتين في الأحكام المخصوصة بالنساء ، فالأولى سورة الطلاق في بيان أحكام الطلاق والعدة وحقوق المعتدة وحسن المعاشرة ، وهذه السورة في موقف بعض نساء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكيفية معاملة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهنّ بالحسنى واللين والنصح.

٣ ـ إن سورة الطلاق المتقدمة في تحريم ما أحل الله بالطلاق ، وإنهاء خصومة بعض نساء الأمة ، وهذه السورة في تحريم ما أحل الله من نوع آخر بالإيلاء ، وإنهاء خصومة نساء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإفرادها بأحكامهن تعظيما لهن ، لذا ختمت بذكر زوجته في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران.

٣٠٠