التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

ثم أخبر الله تعالى عن الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون ، فقال:

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي ادعى المشركين أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء ، كما قال في آية أخرى : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً ، أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٨٢]. وفي هذا تقريع لكفار مكة ، لأن الزعم ادعاء العلم مع ظهور أمارات خلافه. جاء في الحديث : «زعموا : مطية الكذب».

فرد الله عليهم بقوله :

(قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ ، وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي قل أيها الرسول لهم وأخبرهم بأنكم والله ستبعثون وتخرجون من قبوركم أحياء ، ولتخبرنّ بجميع أعمالكم جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها ، إقامة للحجة عليكم ، ثم تجزون به ، وذلك البعث والجزاء هيّن سهل على الله تعالى ، لا يصرفه صارف. وقوله : (بَلى) إثبات لما بعد (أَنْ) وهو البعث.

وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسم بربه عزوجل على وقوع المعاد ووجوده ، الأولى منها قوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ : إِي وَرَبِّي ، إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [يونس ١٠ / ٥٣] والثانية منها قوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ، قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ ٣٤ / ٣] والثالثة هذه الآية.

ونظير الآية : (قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس ٣٦ / ٧٨ ـ ٧٩].

٢٤١

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ حذر الله المشركين في مكة وغيرها من تماديهم في الكفر بأن يعاقبوا مثل عقوبات كفار الأمم الخالية كقوم نوح وهود وصالح التي عوقبوا بها في الدنيا ، وتنتظرهم في الآخرة.

٢ ـ إن أسباب تعذيب الكفار في الماضي : هي كفرهم بالله وجحودهم بآياته ، وتكذيب رسلهم الذين أرسلوا إليهم بالمعجزات والدلائل الواضحة ، وإنكارهم البعث والحساب والجزاء.

وكان كفرهم برسلهم أنهم أنكروا أن يكون الرسول من البشر ، واستصغروه ، ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده ، كما لم يعلموا أن الله تعالى مستغن بسلطانه عن طاعة عباده.

٣ ـ أمر الله نبيه بأن يقسم بربه للمشركين على أن البعث حق كائن ، لا محالة ، فلا بد من أن يخرجوا من قبورهم أحياء ، وعلى أنهم سيخبرون بما عملوا ، وأن البعث والجزاء يسير على الله ، إذ الإعادة أسهل من الابتداء.

المطالبة بالإيمان والتحذير من أهوال القيامة

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠))

٢٤٢

الإعراب :

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يَوْمَ) ظرف متعلق بقوله : (لَتُبْعَثُنَ) أو (لَتُنَبَّؤُنَ) وتقديره : لتبعثن أو لتنبؤون يوم يجمعكم ليوم الجمع. و (يَجْمَعُكُمْ) بالرفع وهي القراءة المشهورة ، وقرئ يجمعكم بسكون العين لكثرة توالي الحركات ، كما قرئ : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ) بسكون الميم [الإنسان ٧٦ / ٩].

البلاغة :

(وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) استعارة ، أطلق النور على القرآن بطريق الاستعارة ، فإن القرآن ينير الظلمات ويبدد الشبهات.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً ..) و (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ...) مقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين.

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) بينهما جناس اشتقاق.

(يَوْمُ التَّغابُنِ) استعارة ، فقد أطلق التغابن على ما يكون يوم القيامة من مبادلة الخير بالشر ، وهو يشبه المبادلة والمعاوضة والتجارة.

المفردات اللغوية :

(وَرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) أي القرآن ، فإنه بإعجازه ظاهر بنفسه ، مبين شارح لما تضمنه من عقيدة وتشريع وأحكام. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) مجاز عليه.

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) أي اذكر يوم جمعكم وحشركم. (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) هو يوم القيامة الذي تجمع فيه الخلائق كلها من ملائكة وإنس وجن ، لأجل ما فيه من الحساب والجزاء ، سمي يوم القيامة بيوم الجمع ، لأن الله يجمع فيه جميع المخلوقات في صعيد واحد. (يَوْمُ التَّغابُنِ) يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان ، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان ، مستعار من تغابن التجار بأن يبيع البائع بأقل من القيمة ، أو يشتري المشتري بأكثر من الثمن. وتغابن الآخرة ، هو التغابن في الحقيقة ، لا في أمور الدنيا ، لعظم أمور الآخرة ودوامها ، وفسر بعض المعاصرين يوم التغابن بأنه يوم الذهول. وفيه تهكم بالأشقياء ، جاء في الحديث الذي رواه أحمد بسنده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار ، لو أساء ، ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة ، لو أحسن ، ليزداد حسرة». (وَيَعْمَلْ صالِحاً) أي ويعمل عملا صالحا. (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي مجموع الأمرين من تكفير السيئات ودخول الجنات مع الخلود الأبدي ، لأنه جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع. (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) القرآن ، الذي تدل آياته على البعث.

٢٤٣

ويلاحظ أن الآيتين معا : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا ..) بيان للتغابن وتفصيل له ، كما ذكر البيضاوي.

المناسبة :

بعد بيان أدلة التوحيد والألوهية والنبوة ، والرد على منكري البعث ، وإيضاح ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية ، لكفرهم بالله وتكذيب الرسل ، طالب الله تعالى بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبآي القرآن وبالبعث ، علما بأن الاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان ، ثم حذر من الحساب والجزاء في الآخرة ، وأبان مظاهر التغابن فيه ، وفصله تفصيلا تاما.

التفسير والبيان :

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي إذا كان أمر البعث هيّنا يسيرا على الله لا يصرفه صارف ، فصدّقوا بالله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه المنير الهادي إلى السعادة ، والمنقذ من ظلمة الضلالة ، فهو نور يهتدى به إذا أشكلت الأمور ، والله عالم بكل شيء ، لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم ، فهو مجازيكم على ذلك خيرا أو شرا. وفي هذا وعيد على كل ما يؤتى من المعاصي ، أو يترك من الفرائض والواجبات. ووصف القرآن بأنه نور ، لأنه يهتدى به في الشبهات ، كما يهتدى بالنور في الظلمات.

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أي واذكروا يوم القيامة الذي يجمع الله فيه أهل المحشر من الأولين والآخرين في صعيد واحد للجزاء ، ويجمع فيه بين كل عامل وعمله ، وبين كل نبي وأمته ، كما قال تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود ١١ / ١٠٣]. وقال سبحانه : (قُلْ : إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ ، إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة ٥٦ / ٤٩ ـ ٥٠].

ذلك اليوم وهو يوم القيامة يوم التغابن الذي يظهر فيه غبن الكافر بتركه

٢٤٤

الإيمان ، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان ، فكل من الفريقين تظهر له الخسارة الفادحة ، فكأن أهل النار استبدلوا بالخير الشر ، وبالجيد الرديء وبالنعيم العذاب ، وأهل الجنة على العكس مما ذكر ، ومع ذلك يشعرون بالنقص والخسارة ، إذا لم يقدموا عملا صالحا أكثر مما قدموا ، فالمغبون : من غبن أهله ومنازله في الجنة ، جاء في الحديث الصحيح المتقدم الذي رواه أحمد : «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزدادا شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة ليزداد حسرة». وأصل التغابن : مأخوذ من الغبن : وهو أخذ الشيء من صاحبه بأقل من قيمته ، في عقود المعاوضات ، وبما أنه لا معاوضة في الآخرة ، فيكون إطلاق التغابن على العمل المقدم في الدنيا وجزائه في الآخرة ، من قبيل الاستعارة ، للدلالة على النقص على البائع.

والخلاصة : أن يوم القيامة يوم التغابن الجائز ، فيه يغبن بعض أهل المحشر بعضا ، فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل ، وأهل الجنة يغبنون أهل النار.

ثم فصل الله تعالى التغابن وبيّنه ، فقال :

١ ـ (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ، وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ومن يصدق بالله تصديقا صحيحا ويصدق بما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة والنار وغير ذلك ، ويعمل العمل الصالح بأداء الفرائض والطاعات ، واجتناب المنهيات ، يمح الله سيئاته وذنوبه ، ويدخله الجنات التي تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ، ماكثين فيها على الدوام ، وذلك التكفير للسيئات وإدخال الجنات هو الظفر الذي لا يساويه ظفر ، ولا ظفر قبله ولا بعده ، لإحراز أفضل الثمرات والنتائج. وإنما قال : (خالِدِينَ فِيها) بلفظ الجمع بعد قوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ) بلفظ الواحد ، لأن ذلك بحسب اللفظ ، وهذا بحسب المعنى.

٢٤٥

٢ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ، خالِدِينَ فِيها ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي والذين جحدوا وحدانية الله تعالى وقدرته ، وكذبوا بآياته المنزلة على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنها الآيات الدالة على البعث ، أولئك أصحاب النار ، خالدين فيها على الدوام ، وبئس المرجع مرجعهم ، وبئست النار مثوى لهم.

والآيتان دليل على حال السعداء وحال الأشقياء ، لبيان ما تقدم من التغابن. وقد عبر الله تعالى عن أهل الإيمان بقوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) بلفظ المستقبل ، وفي الكفر بقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بلفظ الماضي ، لأن تقدير الكلام : ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ، يدخله جنات ، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ بعد الإخبار بقيام الساعة ، أمر الله عباده بالإيمان به وبرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن المنزل عليه ، لئلا ينزل بهم من العقوبة ما نزل بالأمم الخالية لكفرهم بالله وتكذيب الرسل ، وأكد تعالى الأمر بقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عالم بما تسرون وما تعلنون ، فراقبوه وخافوه في الحالين معا.

٢ ـ ثم أكد الله تعالى هذا الأمر بالتحذير من مخاوف القيامة وأهوالها ، ومن شدة الحساب والجزاء ، فذكر أنه سيجمع يوم القيامة جميع أهل السموات وأهل الأرض ، فهو يوم الجمع والحشر ، ويوم التغابن ، لأن الكافرين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، واشتروا الضلالة بالهدى ، فما ربحت تجارتهم ، وأما المؤمنون فقد دلهم ربهم على التجارة الرابحة وهي الإيمان والجهاد ، فباعوا أنفسهم بالجنة ، فخسرت صفقة الكفار ، وربحت صفقة المؤمنين. فيكون المعنى : ذلك يوم

٢٤٦

التغابن الجائز مطلقا. قال مقاتل بن حيان : لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة ، ويذهب بأولئك إلى النار.

٣ ـ قال ابن العربي : استدل علماؤنا بقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية ، لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة ، فقال : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا ، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود ، إذا زاد على الثلث. وهو الغبن الفاحش ، وهو من الخداع المحرّم شرعا في كل ملة.

أما الغبن اليسير : فلا يمكن الاحتراز منه لأحد ، فلا ينقض به البيع ، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا ، لأنه لا يخلو منه ، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه ، فوجب الرد به.

والفرق بين القليل والكثير : هو الثلث ، وقدّر علماؤنا الثلث بهذا الحد ، إذ رأوه في الوصية وغيرها (١).

٤ ـ إن جزاء المؤمنين : دخول الجنات التي تجري من تحت قصورها الأنهار ، مع الخلود الأبدي فيها ، وهو الفوز الساحق الذي لا فوز بعده ، لاشتماله على النجاة من المخاطر والأهوال.

٥ ـ إن جزاء الكافرين بالله وبالقرآن : دخول النيران ، مع الخلود فيها على الدوام ، وبئس المصير نار جهنم.

وهذا الجزاء المقرر للفريقين هو تفسير التغابن المذكور آنفا.

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٨٠٤ ، تفسير القرطبي : ١٨ / ١٣٨

٢٤٧

كل شيء بقضاء وقدر

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))

البلاغة :

(ما أَصابَ مُصِيبَةٍ) بينهما جناس الاشتقاق.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) إطناب بتكرر الفعل : (أَطِيعُوا) زيادة في التأكيد.

المفردات اللغوية :

(مُصِيبَةٍ) كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر. (بِإِذْنِ اللهِ) بتقديره وإرادته ومشيئته. (يَهْدِ قَلْبَهُ) يشرح صدره للخير والطاعة ، والثبات على الإيمان ، والصبر على المصيبة والرضا بها. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) حتى بالقلوب وأحوالها.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم. (الْبَلاغُ الْمُبِينُ) التبليغ البين الواضح. (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ليفوضوا أمرهم إلى الله ، لإيمانهم بأن كل شيء منه.

المناسبة :

بعد بيان كون الناس قسمين : مؤمن وكافر ، ثم الأمر بالإيمان والعمل الصالح ، والنهي عن الكفر والتنفير فيه ، أبان الله تعالى أن كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر ، فهو بقضاء الله وقدره على وفق السنن الكونية المدبرة والمرتبة بإرادة الله ، ثم أمر تعالى بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالتوكل على الله وحده.

٢٤٨

التفسير والبيان :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إن كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر ، فهو بقضاء الله وقدره. قيل : إن سبب نزولها أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا ، لصانهم الله عن المصائب في الدنيا.

فما على الإنسان إلا السعي والعمل لجلب الخير ودفع الضر عن نفسه ، ثم التوكل على الله بعدئذ ، فإن تحقيق النتائج يكون بقضاء الله وقدره. ونظير الآية قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [الحديد ٥٧ / ٢٢].

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ومن يصدق بالله ، ويعلم أن ما أصابه من مصيبة هو بقضاء الله وقدره ، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله ، يهد قلبه ويشرح صدره عند المصيبة ، والله واسع العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية ، فهو عليم بالقلوب وأحوالها.

قال ابن عباس : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) يعني يهد قلبه لليقين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

وفي الحديث المتفق عليه : «عجبا للمؤمن ، لا يقضي الله قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته سرّاء شكر ، فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».

ثم أمر الله بطاعته : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي واشتغلوا بطاعة الله فيما شرع وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلّغ ، وافعلوا ما به أمر ، واتركوا ما عنه نهى وزجر ، فإن أعرضتم عن الطاعة ونكلتم عن العمل ، فإثمكم على أنفسكم ، وليس على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بأس ، إذ

٢٤٩

وظيفته التبليغ البيّن الواضح ، وعليكم ما حمّلتم من السمع والطاعة. قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغة ، وعلينا التسليم. ثم أمر تعالى بالتوكل عليه :

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إن الله هو الإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله غيره ولا رب سواه ، وهو المستحق للعبودية دون غيره ، فوحدوا الله وأخلصوا العمل لديه ، ولا تشركوا به شيئا ، وفوضوا أموركم إليه ، واعتمدوا عليه ، لا على غيره ، كما قال تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل ٧٣ / ٩].

وهذا إرشاد للعباد في وجوب الاعتماد على الله ، والتوكل عليه ، وطلب العون الدائم منه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى المبادئ التالية في العقيدة والتشريع :

١ ـ وجوب الرضا بالقضاء والقدر ، فإن كل ما يحدث في الكون ، وكل ما يصيب الإنسان من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل ، هو بعلم الله وقضائه.

٢ ـ من يصدّق ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله ، يهد قلبه للصبر والرضا والثبات على الإيمان ، فهو إن أعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإذا ظلم غفر ، والله بكل شيء عليم ، لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلّم لأمره ، ولا كراهة من كرهه.

وليست المصائب في الدنيا دليلا على عدم الرضا ، وليس النجاح فيها دليلا على الرضا.

٢٥٠

٣ ـ على المؤمنين تهوين المصائب على أنفسهم ، والاشتغال بطاعة الله تعالى ، والعمل بكتابه ، وإطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العمل بسنته ، فإن تولوا عن الطاعة ، فليس على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا التبليغ.

٤ ـ على الناس قاطبة توحيد الله وعبادته وحده ، فلا إله إلا هو ، ولا معبود سواه ، ولا خالق غيره ، وعليهم التوكل على الله ، وحسن الظن بالله ، والاعتماد عليه بعد تعاطي الأسباب ، والقيام بما يقتضيه الواجب من السعي والعمل في الحياة.

التحذير من فتنة الأزواج والأولاد والأموال والأمر بالتقوى

والإنفاق

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

الإعراب :

(وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ خَيْراً) إما منصوب ب (أَنْفِقُوا) ويراد به هنا المال ، أو منصوب بفعل مقدر دل عليه. (أَنْفِقُوا) أي وآتوا خيرا ، أو وصف لمصدر محذوف ، أي وأنفقوا إنفاقا خيرا ، أو خبر كان مقدرة ، أي وأنفقوا وكان الإنفاق خيرا ..

٢٥١

البلاغة :

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بينهما طباق.

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) استعارة تمثيلية ، شبه الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء بمن يقرض الله قرضا واجب الوفاء بطريق التمثيل ، سماه قرضا من حيث التزام الله بثوابه. (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) صيغة مبالغة على وزن فعول وفعيل.

(رَحِيمٌ عَظِيمٌ حَلِيمٌ الْحَكِيمُ) سجع مرصع لتوافق الفواصل.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) يشغلكم عن طاعة الله والتخلف عن الخير ، كالجهاد. (وَإِنْ تَعْفُوا) عنهم في التثبيط عن الخير وعن ذنوبهم ، بترك المعاقبة. (وَتَصْفَحُوا) بالإعراض وترك اللوم. (وَتَغْفِرُوا) بالتجاوز عما فعلوا والتمهيد للمعذرة. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعاملكم بمثل ما عملتم.

(فِتْنَةٌ) اختبار لكم بمعرفة مدى شغلها لكم عن أمور الآخرة. (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر محبة الله وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي لهم. (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم. (وَاسْمَعُوا) مواعظه. (وَأَطِيعُوا) أوامره. (وَأَنْفِقُوا) في وجوه الخير والطاعة لوجهه الكريم. (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي افعلوا ما هو خير ، وهو خبر «يكن» مقدرة ، جوابا للأمر.

(وَمَنْ يُوقَ) يحفظ نفسه. (شُحَ) الشح : البخل مع الحرص. (الْمُفْلِحُونَ) الفائزون. (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ) بصرف المال فيما أمر. (قَرْضاً حَسَناً) هو التصدق من الحلال ، مقرونا بالإخلاص وطيب النفس. (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) يزيد الثواب من عشرة أضعاف إلى سبع مائة ضعف وأكثر ، وقرئ : يضعفه بالتشديد. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ببركة الإنفاق. (وَاللهُ شَكُورٌ) ـ يعطي على الطاعة الجزيل بالقليل. (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة على المعصية.

(عالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن الأنظار ويشمل السر. (وَالشَّهادَةِ) ما يشاهد بالحس ، ويشمل العلانية ، فلا يخفى عليه شيء. (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تام القدرة والعلم فهو القوي في ملكه ، الحكيم المتقن في صنعه وتدبيره.

٢٥٢

سبب النزول :

نزول الآية (١٤):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) : أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) في قوم من أهل مكة ، أسلموا ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم ، فأتوا المدينة ، فلما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رأوا الناس قد فقهوا ، فهمّوا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله : (إِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا) الآية.

وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ ..) نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد ، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ، ووقفوا ، فقالوا : إلى من تدعنا؟ فيرقّ ويقيم ، فنزلت هذه الآية ، وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة.

وفي رواية عن ابن عباس قال : كان الرجل يريد الهجرة ، فتحبسه امرأته ، فيقول : أما والله لئن جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ ، فجمع الله بينهم في دار الهجرة ، فأنزل الله هذه الآية :

سبب نزول الآية (١٦):

(فَاتَّقُوا اللهَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم ، وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تخفيفا على المسلمين : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

المناسبة :

بعد الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حذر تعالى من الأزواج

٢٥٣

والأولاد الذين يثبطون عن الطاعة ، شأن أكثر ميل الناس عن الطاعات ، ثم أبان أن الأموال والأولاد فتنة ، فينبغي الحذر ، ثم أمر تعالى بالتقوى والإنفاق في سبيل الله ، مبينا مضاعفة الثواب للمنفقين ومغفرته لهم.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ، فَاحْذَرُوهُمْ) أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن بعض أزواجكم وأولادكم أعداء لكم ، عداوة أخروية ، يشغلونكم عن الخير والأعمال الصالحة التي تنفع في الآخرة ، فكونوا منهم على حذر ، واحذروا أن تؤثروا حبهم وشفقكم عليهم على طاعة الله تعالى.

وقد عرفنا سبب النزول : أن رجالا من مكة أسلموا ، وأرادوا أن يهاجروا ، فلم يدعهم أزواجهم ولا أولادهم ، فأمر الله سبحانه بأن يحذروهم ، فلا يطيعوهم. وجاء في الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «يأتي زمان على أمتي ، يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده ، يعيّرانه بالفقر ، فيركب مراكب السوء ، فيهلك» (١).

ثم أمر الله تعالى العفو والصفح عنهم ، فقال :

(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا ، فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وإن تعفوا عن ذنوب أزواجكم وأولادكم التي ارتكبوها بترك المعاقبة ، وتصفحوا بترك اللوم والتثريب عليها ، وتستروا الأخطاء تمهيدا لمعذرتهم فيها ، فالله غفور لذنوب عباده ، رحيم بهم ، يعامل الناس بأحسن مما عملوا.

ثم زاد الله تعالى الأمر بيانا ، فقال :

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٨ / ١٢٦

٢٥٤

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ، وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي الأموال والأولاد بلاء واختبار ومحنة ، وربما يحملونكم على كسب الحرام ، ومنع حق الله ، وارتكاب المعاصي والآثام ، والله عنده الثواب الجليل لمن آثر طاعة الله تعالى ، وترك معصيته في محبة ماله وولده.

أخرج أحمد والترمذي والحاكم والطبراني عن كعب بن عياض قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل أمة فتنة ، وإن فتنة أمتي المال».

وأخرج أحمد وأبو بكر البزار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الولد ثمرة القلوب ، وإنهم مجبنة مبخلة محزنة».

وأخرج الطبراني عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزا لك ، وإن قتلك دخلت الجنة ، ولكن الذي لعله عدو لك : ولدك الذي خرج من صلبك ، ثم أعدى عدو لك مالك الذي ملكت يمينك».

ثم أمر الله بالتقوى والطاعة والنفقة ، فقال :

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ، وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي فالزموا أوامر الله واجتنبوا نواهيه قدر جهدكم وطاقتكم ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه». واسمعوا ما تؤمرون به وأطيعوا أوامر الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنفقوا من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير ، ولا تبخلوا بها ، فإن الإنفاق في مصالح الأمة والدين خير وسعادة لأنفسكم من الأموال والأولاد ، وهو خير لكم في الدنيا والآخرة ، وإن لا تفعلوا يكن شرا لكم في الدنيا والآخرة.

٢٥٥

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي من وقاه الله وحفظه من داء الشح والبخل ، فأنفق في سبيل الله ووجوه الخير ، فأولئك هم الظافرون بما يرجون ، الفائزون بما يطلبون.

ثم أكد الله تعالى الحث على الإنفاق قائلا :

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) أي إن تصرفوا بعض أموالكم في وجوه الخير بإخلاص نية وطيب نفس ، يضاعف الله لكم الثواب ، فيجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، ويغفر لكم أيضا ذنوبكم ، والله يجزي على القليل الكثير ، يصفح ويغفر ويستر الذنوب والزلات والخطايا ، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة. وفي الآية إيماء إلى أن الشقي من لا يقدم لنفسه شيئا يستقرضه منه رازقه ، مع شدة حاجته إليه بعد مماته.

ونظير الآية : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ..) [البقرة ٢ / ٢٤٥].

وأخرج الحاكم وصححه وابن جرير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله : استقرضت عبدي ، فأبى أن يقرضني ، ويشتمني عبدي ، وهو لا يدري ، يقول : وا دهراه ، وأنا الدهر ، ثم تلا أبو هريرة هذه الآية : (إِنْ تُقْرِضُوا ..).

ثم رغب الله تعالى في النفقة ترغيبا زائدا ، فقال :

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن الله سبحانه بالغ العلم بما غاب عنكم وما حضر ، الغالب القاهر ، ذو الحكمة الباهرة ، يضع الأمور في مواضعها الصحيحة.

٢٥٦

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ حذر الله تعالى كل إنسان من ضرر الأزواج والأولاد وأنذر من عداوتهم ، إما ضررا دينيا أخرويا ، وإما ضررا بدنيا متعلقا بالدنيا وضرر الدين : عدم الطاعة لأوامر الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وترك الهجرة التي كانت مفروضة في العهد الإسلامي الأول ، وترك الإنفاق في سبيل الله أي الجهاد. وضرر الدنيا كارتكاب معصية إرضاء لهم ، مثل السرقة للإنفاق ، أو هجر الضرّة مثلا أو قطيعة جار أو صديق أو قريب.

وهذه العداوة لا تكون عادة إلا بسبب الكفر والنهي عن الإيمان ، ولا تكون بين المؤمنين ، فأزواجهم وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدوا لهم. وفي هؤلاء الأزواج والأولاد الذين منعوا أزواجهم وآباءهم عن الهجرة في الماضي نزل قوله تعالى كما تقدم : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لا تطيعوهم في معصية الله تعالى. وفتنة ، أي بلاء وشغل عن الآخرة. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد. لكن خصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.

٢ ـ ليس الأزواج والأولاد أعداء بالذات ، وإنما أعداء بأفعالهم ، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا. جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان ، فقال له : أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه فآمن ، ثم قعد له على طريق الهجرة ، فقال له : أتهاجر وتترك مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر ، ثم قعد له على طريق الجهاد ، فقال له : أتجاهد فتقتل نفسك ، فتنكح نساؤك ويقسم مالك؟ فخالفه فجاهد فقتل ، فحق على الله أن يدخله الجنة».

٢٥٧

وقعود الشيطان إما بالوسوسة وإما بحمله على ما يريد الزوج والولد والصاحب ، قال تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) [فصلت ٤١ / ٢٥].

٣ ـ إن العفو والصفح ومغفرة الزلات والخطايا أفضل من الانتقام والعقاب ، وإن الله غفور للسيئات رحيم بالعباد ، فلا يعجل بالعقوبة ، ويجازيكم خيرا حال العفو والصفح.

٤ ـ إن الأموال والأولاد فتنة ، أي بلاء واختبار يحمل على كسب الحرام ومنع حق الله تعالى ، فلا طاعة لهم في معصية الله ، ورد في الحديث : «يؤتى برجل يوم القيامة ، فيقال : أكل عياله حسناته» (١).

٥ ـ عند الله الأجر العظيم وهو الجنة ، فهي الغاية ، ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين ، وهذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة. جاء في الصحيحين ـ واللفظ للبخاري ـ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبّيك ربّنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ، قالوا : يا ربّ ، وأيّ شيء أفضل من ذلك ، فيقول : أحلّ عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا».

٦ ـ تكون تقوى الله أي التزام أوامره واجتناب نواهيه بقدر الطاقة ، للآية هنا : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقوله في آية أخرى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة ٢ / ٢٨٦].

ورأى جماعة مثل قتادة أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٨ / ١٢٧

٢٥٨

آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران ٣ / ١٠٢]. ورأى آخرون : ألا تعارض بين الآيتين ، لأن قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون ، لأنه فوق الطاقة والاستطاعة.

ورأى كثير من المفسرين مثل مجاهد أن المراد بآية : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) : أن يطاع سبحانه فلا يعصى. ولا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك ، كما تقدم.

٧ ـ أمر الله بالسمع والطاعة ، أي سماع ما يوعظ به المؤمنون ، وإطاعة ما أمر الله به ، والانتهاء عما نهى عنه.

٨ ـ أمر الله أيضا بالإنفاق من الأموال في حق الله كالزكاة والصدقة النفل والنفقة في الجهاد ، ونفقة الرجل لنفسه وعياله ، فالآية عامة. ثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال له رجل : عندي دينار؟ قال : أنفقه على نفسك ، قال : عندي آخر ، قال : أنفقه على عيالك ، قال : عندي آخر؟ قال : أنفقه على ولدك ، قال : عندي آخر؟ قال : تصدق به» فبدأ بالنفس والأهل والولد ، وجعل الصدقة بعد ذلك ، وهو الأصل في الشرع.

والإنفاق في الحقيقة خير للنفس ، لما فيه من ثواب جزيل عند الله ، لذا قال سبحانه : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

٩ ـ أكد الله تعالى الحث على الإنفاق في سبيل الله ، فقال : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) وقال : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) فالله تعالى رتب على القرض الحسن المنفق بإخلاص وطيب نفس تضعيف ثواب القرض وغفران الذنوب ، وأبان أنه شكور يحب المتقرّبين إلى حضرته ، يجزي بالكثير على القليل ، وأنه حليم لا يعجل بالعقوبة. والقرض الحسن : التصدق من

٢٥٩

الحلال بإخلاص وطيب نفس ، كما تقدم.

١٠ ـ زاد الله تعالى الحث على الإنفاق تأكيدا ، فقال : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن الله مطلع على كل ما غاب وحضر ، وهو الغالب القاهر ، المحكم الصنع والتدبير ، خالق الأشياء ، واهب الأرزاق ، وهذا دليل على كمال علم الله سبحانه وكمال قدرته.

٢٦٠