التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

(لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) هذا هو المشهور ، وقرئ (لَيُخْرِجَنَ) بفتح الياء ، وهو فعل لازم مضارع (خرج) إلا أنه نصب (الْأَذَلَ) على الحال ، وهو شاذ ، لأن الحال لا يكون فيها الألف واللام ، مثل : «مررت به المسكين» منصوب على الحال ، وقولهم : ادخلوا الأول فالأول.

البلاغة :

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) بينهما طباق السلب.

(مُسْتَكْبِرُونَ) ، (الْفاسِقِينَ) ، (لا يَفْقَهُونَ) ، (لا يَعْلَمُونَ ...) إلخ ، توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ) أي احضروا معتذرين يطلب لكم الرسول المغفرة. (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) عطفوها وأمالوها إعراضا واستكبارا عن ذلك واستهزاء. (يَصُدُّونَ) يعرضون عن الاستغفار وعن القائل. (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الاعتذار. (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لرسوخهم في الكفر. (الْفاسِقِينَ) الخارجين عن طاعة الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) لأصحابهم من الأنصار. (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) من المهاجرين. (حَتَّى يَنْفَضُّوا) يتفرقوا عنه. (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خزائن الأرزاق فيهما ، فبيده الأرزاق ، وهو الرزاق للمهاجرين وغيرهم. (لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون ذلك لجهلهم بالله ، فهم لا يدركون عظمة الله وقدرته وسعته.

(لَئِنْ رَجَعْنا) من غزوة بني المصطلق. (الْأَعَزُّ) أي المنافقون. (الْأَذَلَ) أي المؤمنين في زعمهم. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) الغلبة والنصرة والقوة. (لا يَعْلَمُونَ) ذلك من فرط جهلهم وغرورهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٥):

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ..) : أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قيل لعبد الله بن أبي : لو أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستغفر لك ، فجعل يلوي رأسه ، فنزلت فيه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) الآية. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة مثله.

٢٢١

وأخرج البخاري ومسلم ، والترمذي بمعناه في بيان سبب نزول هذه الآية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال له (المريسيع) من ناحية (قديد) إلى الساحل ، فازدحم أجير لعمر يقال له (جهجاه) مع حليف لعبد الله بن أبي يقال له (سنان) على ماء (بالمشلّل) فصرخ جهجاه بالمهاجرين ، وصرخ سنان بالأنصار ، فلطم جهجاه سنانا ، فقال عبد الله بن أبي : أو قد فعلوها! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول : سمّن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ـ يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم قال لقومه : كفّوا طعامكم عن هذا الرجل ، ولا تنفقوا على من عنده حتى ينفضّوا ويتركوه ، فقال زيد بن أرقم ـ وهو من رهط عبد الله ـ : أنت والله الذليل المنتقص في قومك ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عز من الرحمن ، ومودّة من المسلمين ، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدا ، فقال عبد الله : اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله ، فأقسم بالله ما فعل ولا قال ، فعذره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال زيد : فوجدت في نفسي ولامني الناس ، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فقيل لعبد الله : قد نزلت فيك آيات شديدة ، فاذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستغفر لك ، فألوى برأسه ، فنزلت الآيات.

نزول الآية (٦):

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ ..) : أخرج ابن جرير عن عروة قال : لما نزلت : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة ٩ / ٨٠] قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأزيدن على السبعين» ، فأنزل الله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ..) الآية. وأخرج عن مجاهد وقتادة مثله. وأخرج عن ابن عباس قال : لما نزلت آية براءة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا أسمع ، إني قد رخص لي فيهم ، فو الله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة ، لعل الله أن يغفر لهم» فنزلت.

٢٢٢

نزول الآية (٧ ، ٨):

أخرج البخاري كما تقدم وأحمد وغيرهما عن زيد بن أرقم قال : سمعت عبد الله بن أبي يقول لأصحابه : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت ذلك لعمّي ، فذكر ذلك عمي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحدثته ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه ، فحلفوا ما قالوا ، فكذّبني ، وصدّقه ، فأصابني شيء لم يصبني مثله ، فجلست في البيت ، فقال عمي : ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومقتك ، فأنزل الله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) فبعث إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأها ، ثم قال : «إن الله قد صدّقك» (١).

وروى الترمذي أيضا عن زيد بن أرقم : أن أعرابيا نازع أنصاريا في بعض الغزوات على ماء ، فضرب الأعرابي رأسه بخشبة فشجّه ، فشكا إلى ابن أبيّ ، فقال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، وإذا رجعنا إلى المدينة ، فليخرج الأعز الأذل. عنى بالأعز نفسه ، وبالأذل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

المناسبة :

بعد بيان قبائح خصال المنافقين وهي الكذب والأيمان الكاذبة ، والصد عن سبيل الله ، والجبن ، وجمال الأجسام وضعف العقول ، وعداوة الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر تعالى أدلة تثبت كذبهم ونفاقهم من الواقع المشاهد ، كإعراضهم عن الاعتذار ، وتصميمهم بعد وقعة بني المصطلق (قبيلة يهود) على طرد المؤمنين من المدينة.

__________________

(١) وأخرجه الترمذي أيضا وقال : هذا حديث حسن صحيح.

٢٢٣

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى أدلة كذب المنافقين وأسباب غضب الله عليهم ، فقال :

١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ ، لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ ، وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي وإذا قيل للمنافقين بقيادة عبد الله بن أبي : أقبلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب لكم المغفرة من الله ، أعرضوا استكبارا واستهزاء بذلك ورغبة عن الاستغفار ، ورأيتهم يعرضون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم مستكبرون عن الإتيان إليه وطلب الاستغفار منه ، فهم أكبر من ذلك في زعمهم. والمشهور في السيرة أن ذلك كان في غزوة المريسيع ، وهي غزوة بني المصطلق ، وليس في غزوة تبوك كما ذكر بعضهم ، لأن عبد الله بن أبي لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك ، بل رجل بطائفة من الجيش.

قال الكلبي : لما نزل القرآن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفة المنافقين ، مشى إليه عشائرهم من المؤمنين ، وقالوا لهم : افتضحتم بالنفاق ، وأهلكتم أنفسكم فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوبوا إليه من النفاق ، واسألوه أن يستغفر لكم ، فأبوا ذلك ، وزهدوا في الاستغفار ، فنزلت (١).

وقال ابن عباس : لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس ، مقته المسلمون ، وعنّفوه ، وأسمعوه المكروه ، فقال له بنو أبيه : لو أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يستغفر لك ويرضى عنك ، فقال : لا أذهب إليه ، ولا أريد أن يستغفر لي ، وجعل يلوي رأسه ، فنزلت(٢).

وعند الأكثرين من المفسرين : إنما دعي إلى الاستغفار ، لأنه قال : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) وقال : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ)

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ١٥

(٢) المرجع السابق.

٢٢٤

فقيل له : يستغفر لك رسول الله ، فقال : ماذا قلت ، فذلك قوله تعالى : (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ).

ثم أبان الله تعالى أن الاستغفار لهم لا ينفعهم ، فقال :

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي جازاهم الله على استكبارهم وإعراضهم ، فأوضح أن الاستغفار لا ينفعهم لإصرارهم على النفاق ، واستمرارهم على الكفر ، فسواء حدث الاستغفار لهم أو لم يحدث لا يجديهم نفعا ، ولن يغفر الله لهم ، ما داموا على النفاق ، إن الله لا يوفق الخارجين عن الطاعة ، المنهمكين في معاصي الله ، ومنهم المنافقون بالأولى.

قال قتادة كما تقدم : نزلت هذه الآية بعد قوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وذلك لأنها لما نزلت ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيرني ربي ، فلأزيدنهم على السبعين» فأنزل الله تعالى : (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

٢ ـ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي إن هؤلاء المنافقين يقولون للأنصار : لا تطعموا أصحاب محمد المهاجرين ، حتى يجوعوا ويتفرقوا عنه.

فرد الله عليهم بقوله :

(وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) أي إن الله هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين ، وبيده مفاتيح أرزاق العباد ، يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ولكن المنافقين يجهلون أن خزائن الأرزاق بيد الله ، فظنوا أن الله لا يوسّع على المؤمنين.

٢٢٥

٣ ـ (يَقُولُونَ : لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) أي يقول هؤلاء المنافقون ، والقائل عبد الله بن أبي زعيم المنافقين : لئن عدنا من هذه الغزوة ، أي غزوة بني المصطلق إلى المدينة ، ليخرجن الأعز ـ عنى بالأعز نفسه ومن معه ـ منها الأذل ، أراد بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، فنحن الأعزاء الأقوياء ، وهم الأذلاء الضعفاء. وقد رجع ابن أبي إلى المدينة ، فلم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات ، فاستغفر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وألبسه قميصه ، فنزلت هذه الآية.

فرد الله عليهم قولهم ، فقال :

(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي إن لله وحده القوة والغلبة ، ولمن منحها من رسله وصالحي عباده المؤمنين ، لا لغيرهم ، ولكن المنافقين لا يدرون ذلك ، لفرط جهلهم ، وعدم إيمانهم ، وشدة حيرتهم وقلقهم ، فالله هو الذي ينصر من يشاء من عباده ، كما قال : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة ٥٨ / ٢١]. والعزة والمنعة والقوة لله ، خلافا لما توهموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع. والعزة غير الكبر ، فالعزة : الشعور بالسمو مع معرفة الإنسان حقيقة نفسه ، والكبر : غمط الناس حقوقهم وجهل الإنسان بنفسه.

روي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول قال لأبيه : والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الأعز وأنا الأذلّ ، فقاله (١).

وإنما قال في الآية الأولى : (لا يَفْقَهُونَ) وهنا (لا يَعْلَمُونَ) ليعلم بالأول قلة كياستهم وفهمهم ، وبالثاني كثرة حماقتهم وجهلهم.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٢٩

٢٢٦

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ السبب الأول في غضب الله على المنافقين : إباؤهم الاعتذار من أقوالهم وأفعالهم ، وإعراضهم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم متكبرين عن الإيمان.

٢ ـ كل من الاستغفار للمنافقين وعدم الاستغفار سواء ، فلا ينفعهم استغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، لأن الله لا يغفر لهم ، وإن الله لا يهدي من سبق في علمه أنه يموت فاسقا كافرا.

٣ ـ السبب الثاني : قول ابن أبي وصحبه للأنصار : لا تنفقوا على من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أصحابه المهاجرين حتى يتفرقوا عنه.

٤ ـ رد الله على ذلك ببيان أن خزائن السموات والأرض ومفاتيح الرزق لله عزوجل ، ينفق كيف يشاء ، غير أن المنافقين لا يفهمون أنه تعالى إذا أراد أمرا يسره.

٥ ـ السبب الثالث : قول ابن أبي أيضا : لئن عدنا إلى المدينة من غزوة بني المصطلق ليخرجن الأعز ـ يعني نفسه ـ منها الأذل ـ يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه ـ لتوهمه أن العزة بكثرة الأموال والأتباع ، فرد الله عليه بأن العزة والقوة لله وحده ولمن أفاضها عليهم من رسله وعباده الصالحين. عن بعض الصالحين وكان في هيئة رثة : ألست على الإسلام ، وهو العز الذي لا ذل معه ، والغنى الذي لا فقر بعده. وعن الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهما : أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها ، فقال : ليس بتيه ، ولكنه عزة ، وتلا الآية : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ..).

٢٢٧

تحذير المؤمنين من أخلاق المنافقين وأمرهم بالإنفاق في سبيل الخير

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

الإعراب :

(وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، (أَكُنْ) : مجزوم بالعطف على موضع (فَأَصَّدَّقَ) لأن موضعه الجزم على جواب التمني. وقرئ وأكون بالنصب عطفا على لفظ (فَأَصَّدَّقَ) وهو منصوب بتقدير (أن).

البلاغة :

(الْخاسِرُونَ) ، (الصَّالِحِينَ) ، (تَعْمَلُونَ) توافق الفواصل مثلما سبق ، مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(لا تُلْهِكُمْ) لا تشغلكم عن الصلاة وسائر العبادات المذكّرة بالمعبود ، والمراد النهي عن اللهو بالأموال والأولاد ، وتوجيه النهي إليها للمبالغة. (ذِكْرِ اللهِ) الصلوات الخمس والعبادات الأخرى. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) وهو اللهو أو الشغل بها. (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في تجارتهم ، لأنهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) أي أنفقوا بعض أموالكم لادخار ثوابها للآخرة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي قبل أن يرى دلائله. (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي لَوْ لا) بمعنى هلا ، وهي كلمة تفيد تمني حصول ما بعدها ، و (أَخَّرْتَنِي) أمهلتني. (أَجَلٍ قَرِيبٍ) أمد غير بعيد. (فَأَصَّدَّقَ) أي

٢٢٨

فأتصدق بالزكاة وغيرها. (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بتدارك الأعمال الصالحة كالحج وغيره. (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ) لن يمهلها. (إِذا جاءَ أَجَلُها) آخر عمرها. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي مطلع على كل أعمالكم ، فمجازيكم عليها.

لمناسبة :

بعد بيان خصال المنافقين وذمهم وتوبيخهم عليها ، حذر الله المؤمنين من أخلاق المنافقين ، ثم أمرهم أن ينفقوا بعض أموالهم في مجالات الخير ، ولا يؤخروا ذلك حتى يداهمهم الموت ، فيندموا ويطلبوا إطالة العمر حتى يتداركوا ما فاتهم من خير.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي يا أيها المؤمنون المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تشغلكم الأموال وتدبيرها والأولاد والعناية بشؤونها عن القيام بذكر الله تعالى من قراءة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل وأداء فرائض الإسلام وحقوق الله تعالى.

ثم حذر من المخالفة وتوعد اللاهين بالدنيا ، فقال :

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن يلتهي بالدنيا ومتاعها وزخارفها وزينتها ، وينصرف عن الدين وطاعة ربه وذكره ، فإنه من الخاسرين ، الكاملين في الخسران ، الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، لأنه باع خالدا باقيا بفان زائل.

ثم حث المؤمنين على الإنفاق في طاعته ، فقال :

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، فَيَقُولَ : رَبِّ ، لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وأنفقوا بعض

٢٢٩

ما رزقناكم في سبيل الخير ، شكرا على النعمة ، ورحمة بالفقراء ، ورعاية لمصلحة الأمة العامة ، من قبل مجيء أسباب الموت ومشاهدة علاماته ، فيقول الواحد منكم : هلا أمهلتني وأخّرت موتي إلى مدة أخرى قصيرة ، فأتصدق بمالي ، وأكن من الصالحين المستقيمين.

وهذا يدل على أن كل مفرط يندم عند الاحتضار ، ويسأل طول المدة ، ولو شيئا يسيرا ليستدرك ما فاته ، ولكن فات الأوان.

أخرج الترمذي وابن جرير عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان له مال يبلّغه حج بيت الله ، أو تجب عليه فيه الزكاة ، فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت» ، فقال له رجل : يا ابن عباس : اتق الله ، فإنما يسأل الرجعة الكافر!! فقال : سأتلو عليكم بذلك قرآنا : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، فَيَقُولَ : رَبِّ ، لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ..) الآية.

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي لن يؤخر الله أي نفس إذا حضر أجلها ، وانقضى عمرها ، والله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فهو مجازيكم عليها ، بالإحسان إحسانا ، وبالإساءة سخطا وعذابا ، وبعدا عن الرحمة والرضوان.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ وجوب الاشتغال بطاعة الله تعالى ، كقراءة القرآن ، وإدامة الذكر ، وأداء الصلوات الخمس ، وإيتاء الزكاة ، وإتمام الحج ، والقيام بجميع الفرائض.

٢ ـ عدم الاشتغال بتدبير الأموال والاهتمام بشؤون الأولاد عن أداء حقوق

٢٣٠

الله ، كما فعل المنافقون ، إذ قالوا بسبب الشح بأموالهم : لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه ، فأولئك هم الخاسرون.

٣ ـ قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ ..) يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة ، ولا يجوز تأخيرها أصلا ، وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها ، يجب أداؤها فورا.

والآية في العموم حث على الإنفاق الواجب خاصة ، دون النفل ، لأن الوعيد إنما يتعلق بالواجب دون النفل ، وذلك إما مطلقا ، وإما في طريق الجهاد ، قبل فوات الأوان ومجيء أمارات الموت حين لا تقبل التوبة ، ولا ينفع العمل ، فيسأل الإنسان التأخير في الأجل لتدارك ما فات. وتشمل الآية على العموم الحج عند الجمهور القائلين بأنه على الفور. ولا تشمله عند الشافعية القائلين بأنه على التراخي.

٤ ـ قال ابن عباس في آية : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي ..) : هذه الآية أشدّ على أهل التوحيد ، لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة. واستثنى العلماء الشهيد ، فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل ، لما يرى من الكرامة.

٥ ـ الله تعالى خبير بما يعمل العباد من خير وشر ، لا تخفى عليه خافية ، ويجازي كل امرئ بما عمل خيرا أو شرا.

٢٣١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة التغابن

مدنيّة ، وهي ثماني عشرة آية.

تسميتها :

سميت التغابن تذكيرا بيوم القيامة الذي يظهر فيه غبن الكافر وخسارته بتركه الإيمان ، وهو المذكور في قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ، ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) (٩).

مناسبتها لما قبلها :

تتضح مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة :

١ ـ في السورة السابقة ذكر الله أوصاف المنافقين ، وحذر المؤمنين من أخلاق المنافقين ، وهنا حذر تعالى من صفات الكافرين : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ..) وقسم الناس في الجملة قسمين : مؤمن وكافر ، وبشر المؤمن بالجنة ، وهدد الكافر بالنار.

٢ ـ نهى الله تعالى في السورة المتقدمة عن الاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) وفي هذه السورة ذكر أن الأموال والأولاد فتنة : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) وهذا كالتعليل لما سبق.

٣ ـ أمر الله في آخر سورة (المنافقون) السالفة بالإنفاق في سبيل الله : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ ..) كذلك أمر بالإنفاق في أواخر هذه السورة :

٢٣٢

(وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ ..) كما أن سورة التغابن تدل على أنه يغبن الناس في يوم القيامة بعضهم بعضا بترك الإيمان والعمل الصالح والإنفاق في سبيل الله.

ويلاحظ الترتيب بين السور الست التالية ، فإنها اشتملت على أصناف الأمم ، فسورة الحشر : في ذكر المعاهدين من أهل الكتاب ، فإنها نزلت في بني النضير حين نبذوا العهد وقوتلوا ، وسورة الممتحنة : في ذكر المعاهدين من المشركين ، وسورة الصف : ذكر فيها أهل الكتاب : اليهود والنصارى ، والمؤمنون ، وكذلك سورة الجمعة : ذكر فيها اليهود وأهل الإيمان ، وسورة (المنافقون) : في أهل النفاق ، وسورة التغابن : ذكر فيها المشركون والكفار بنحو عام. وبه يتبين أن الفصل بين المسبّحات التي هي نظائر (وهي الحشر والصف والجمعة والتغابن) جاء لحكمة دقيقة هي الكلام الشامل عن هذه الأمم.

ما اشتملت عليه السورة :

سورة التغابن من السور المدنية التي عنيت خلافا للمعتاد بأمور متعلقة بالعقائد.

ابتدأت ببيان بعض صفات الله الحسنى المتصلة بجلال الله وقدرته وعلمه وخلقه الإنسان الذي يؤول أمره إلى أحد قسمين : مؤمن وكافر.

ثم أنذرت الكفار بما حل بالأمم الماضية التي كذبت الرسل بسبب بشريتهم ، وإنكارهم البعث ، والرد عليهم بقسم الله بوقوعه وأنه حق ، وبجزائه على الأعمال.

ودعت بعدئذ إلى الإيمان بالله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن النور الذي أنزله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهددت بما يلقاه الناس يوم القيامة يوم يغبن فيه الكافر بتركه الإيمان ، ويغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان ، ويدخل المؤمنون الذين

٢٣٣

يعملون الصالحات الجنان ، ويدخل الكافرون النيران ، وفي ذلك أمر بالطاعة وتحذير من المعصية.

ثم أبانت أن كل ما يحدث في الكون بإرادة الله ومشيئته ، وأكدت الأمر بطاعة الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتوكل على الله وحده ، فإن أعرضوا فلا يضير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقاءهم على الكفر.

ثم حذرت من عداوة بعض الأزواج والأولاد الذين يمنعون الإنسان أحيانا عن الجهاد ، وأوصت بالعفو والصفح عن المسيء ، وأخبرت بأن الأموال والأولاد فتنة واختبار.

وختمت السورة بالأمر بالتقوى والإنفاق في سبيل الله لإعلاء دينه ، وحذرت من الشح والبخل ، وأبانت مضاعفة الثواب للمحسنين المنفقين من أجل إعلاء كلمة الله تعالى.

مظاهر قدرة الله تعالى

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤))

٢٣٤

البلاغة :

(فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) بينهما طباق ، وكذا بين قوله : (يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ).

(لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر والاختصاص من حيث الحقيقة ، أي له وحده الملك والحمد.

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بينهما جناس ناقص ، لاختلاف الحركات والشكل.

(يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ينزهه ويمجّده ويدل عليه جميع المخلوقات في السموات والأرض ، بدلالتها على كماله واستغنائه ، واللام زائدة ، وعبر ب (ما) دون (من) تغليبا للأكثر. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أن قدرته في إيجاد جميع المخلوقات على سواء.

(فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) قال الشوكاني : خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب ، والكافر يكفر ويختار الكفر ، والمؤمن يؤمن ويختار الإيمان ، والكل بإذن الله ، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) مبصر أعمالكم عالم بها ، فيعاملكم بما يناسب أعمالكم. (بِالْحَقِ) بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وهو أن جعل الأرض مقر المكلفين ليعلموا فيجازيهم وسخر السموات لهم. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي جعل أشكالكم الآدمية بأحسن صورة ، أي أتقنها وأحكمها ، وجعلكم أنموذج جميع المخلوقات كما قال تعالى : (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين ٩٥ / ٤] فالتصوير : تخطيط وتشكيل وتمييز وتخصيص. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) إليه المرجع فأحسنوا السرائر والظواهر. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) عليم بحديث النفس وخطرات القلب ، والسر ، فلا يخفى عليه شيء كليا أو جزئيا ، وعلمه بجميع الأشياء على سواء. قال البيضاوي : وتقديم تقرير القدرة : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) على العلم : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولا وبالذات ، وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.

التفسير والبيان :

هذه السورة هي آخر المسبحات ، قال تعالى :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلى

٢٣٥

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ينزه الله عن كل نقص وعيب ، ويمجده ، ويدل عليه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه ، فهو بارئها ومالكها ، له الملك وحده دون غيره ، لأنه الخالق المصور المتصرف في جميع الكائنات ، وله الحمد والشكر وحده ، لأنه المستحق لذاك ، وهو المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره ، فالملك والحمد يختصان به ، ليس لغيره منهما شيء ، وما كان لعباده منهما فهو من فيضه وراجع إليه ، وهو قادر على كل شيء ، لا يعجزه شيء في السموات والأرض ، فمهما أراد كان ، وما لم يشأ لم يكن.

والتسبيح إما باللسان والنطق كما يفعل الإنسان ، وإما بنطق وحال لا نفقهه ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].

ثم ذكر الله تعالى بعض آثار قدرته ، فقال :

١ ـ خلق الإنسان : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إن الله هو الذي أوجدكم على هذه الصفة ، وآل أمركم أن يكون بعضكم كافرا باختياره وكسبه على خلاف مقتضى فطرت ، وبعضكم مؤمنا مختارا للإيمان على وفق الفطرة السوية القائمة على التوحيد والإيمان بالله ، والله العالم البصير قبل الخلق بما يؤول إليه أمر كل واحد منكم ، الشهيد على أعمال عباده ، وسيجزيهم بها أتم الجزاء.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد ٥٧ / ٢٦].

أخرج أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يعرب عنه لسانه ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه».

٢٣٦

٢ ـ خلق العالم كله بالحكمة البالغة : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي أوجد السموات والأرض بالعدل والحكمة البالغة المحققة لنفع العالم في الدين والدنيا ، وخلقكم أيها البشر في أكمل صورة ، وأحسن تقويم ، وأجمل شكل ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار ٨٢ / ٦ ـ ٨] وقال سبحانه : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً ، وَالسَّماءَ بِناءً ، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [غافر ٤٠ / ٦٤] وقال عزوجل : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين ٩٥ / ٤].

وإليه في عالم الآخرة المرجع والمآب ، فيجازي كل نفس بما كسبت.

٣ ـ العلم الشامل : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي يعلم الله جميع ما في السموات والأرض ، فلا تخفى عليه من ذلك خافية ، ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه ، والله محيط علمه بما يضمره كل إنسان في نفسه من الأسرار والمعتقدات.

ويلاحظ أنه تعالى عطف الخاص على العام في قوله : (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) ثم عطف ما هو أخص من الخاص وهو حديث النفس الذي لا يعبر عنه الإنسان بكلام أو إشارة أو بيان ما.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ ينزه الله ويمجده جميع مخلوقاته في السموات والأرض لدلالتها على كماله واستغنائه ، وهو تنزيه وتسبيح دائم متجدد شامل كل جزء من أجزاء العالم. وهذا بخلاف قوله تعالى في موضع آخر : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي

٢٣٧

الْأَرْضِ) [الحشر ٥٩ / ١] وقوله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحديد ٥٧ / ١] فهما للدلالة على التسبيح في الجملة على سبيل المبالغة.

٢ ـ الله تعالى هو خالق الإنسان وبارئه ، ويعلم حال كل واحد في علمه الأزلي قبل وجوده من إيمان وكفر ، أخرج البخاري والترمذي من حديث ابن مسعود : وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها» قال العلماء : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم ، فيجري ما علم وأراد وحكم. فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال ، وقد يريده إلى وقت معلوم. وكذلك الكفر.

٣ ـ خلق الله العالم كله سماءه وأرضه بالعدل والحكمة البالغة ، وحقا يقينا لا ريب فيه ، وخلق الإنسان في أحسن شكل وصورة وتقويم ، وإليه في الحياة الآخرة المرجع ، فيجازي كلّا بعمله.

٤ ـ الله سبحانه عالم الغيب والشهادة ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ويعلم السرائر والظواهر ، ويعلم ما في الضمائر والقلوب.

إنكار المشركين الألوهية والنبوة والبعث

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧))

٢٣٨

الإعراب :

(أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا بَشَرٌ) مبتدأ ، وإنما قال : (يَهْدُونَنا) الذي هو الخبر لأنه كنى به عن (بَشَرٌ) ، و (بَشَرٌ) يصلح للجمع كما يصلح للواحد ، والمراد به هنا الجمع ، مثل قوله تعالى : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [يس ٣٦ / ١٥]. ولو أراد الواحد لقال : «يهدينا» كما في آية : (فَقالُوا : أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر ٥٤ / ٢٤].

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا زَعَمَ) : فعل يتعدى إلى مفعولين ، وجملة : (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) سدت مسد المفعولين ، لما فيها من ذكر الحديث والمحدث عنه ، كقوله تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) [العنكبوت ٢٩ / ٢]. و (أَنْ) : مخففة من (أنّ) واسمها محذوف ، أي أنهم.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أيها الكفار ، والاستفهام للتعجيب من أمرهم. (نَبَأُ) خبر مهم. (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) كقوم نوح وهود وصالح عليهم‌السلام. (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) عقوبة وضرر كفرهم في الدنيا أو عاقبته ، وأصل الوبال : الثقل ، ومنه طعام وبيل ، أي ثقيل على المعدة ، والوابل : المطر الثقيل ، ثم أطلق على الضرر الذي يصيب الإنسان ، لأنه يثقل عليه ، و (أَمْرِهِمْ) كفرهم ، إشارة إلى أنه أمر عظيم خطير. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي لهم في الآخرة عذاب مؤلم.

(ذلِكَ) أي المذكور من الوبال وعذاب الدنيا. (بِأَنَّهُ) أي بسبب أنه ، والهاء : ضمير الشأن ، أي بسبب أن الشأن. (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات والحجج الظاهرات على الإيمان. (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) المراد به جنس البشر ، أنكروا وتعجبوا أن يكون الرسول بشرا ، والبشر : يطلق على الواحد والجمع. (فَكَفَرُوا) بالرسل. (وَتَوَلَّوْا) أعرضوا عن الإيمان والتدبر في البينات. (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أظهر غناه عن كل شيء ، ومنه طاعتهم وإيمانهم إذ أهلكهم. (وَاللهُ غَنِيٌ) عن خلقه وعن عبادتهم وغيرها. (حَمِيدٌ) محمود في أفعاله ويحمده كل مخلوق. (بَلى) أي تبعثون وهي كلمة جواب تقع بعد النفي للإثبات. (وَرَبِّي) قسم ، أكد به الجواب. (لَتُبْعَثُنَ) لتخرجن من قبوركم أحياء وتحاسبن وتجزون بأعمالكم. (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) لتخبرن بأعمالكم بالمحاسبة والجزاء. (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لقدرته التامة وقبول المادة ما أراد.

المناسبة :

بعد بيان أدلة وجود الله تعالى وقدرته وآثاره في الكون ، حذر مشركي مكة من الكفر وإنكار الألوهية : (الَّذِينَ كَفَرُوا) وإنكار النبوة : (أَبَشَرٌ

٢٣٩

يَهْدُونَنا) وإنكار البعث : (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) وأبان عقوبتهم في الدنيا وما أعدّ لهم من العذاب في الآخرة ، وأثبت أن البعث حق كائن لا ريب فيه ، وأن كل إنسان سيجازى بما فعل يوم القيامة.

التفسير والبيان :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ألم يبلغكم يا كفار مكة خبر كفار الأمم الماضية ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وما حل بهم من العذاب والنكال بسبب مخالفة الرسل والتكذيب بالحق ، فقد دعتهم رسلهم إلى توحيد الله وعبادته وترك الأوثان التي اتخذوها أربابا من دون الله ، فأصابهم عاقبة كفرهم وتكذيبهم ورديء أفعالهم من عذاب الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم جدا وهو عذاب النار. وهذا تعجيب من حالهم الغريبة.

ثم بيّن الله تعالى أسباب عقابهم الدنيوي والأخروي ، فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَقالُوا : أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا ، وَاسْتَغْنَى اللهُ ، وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي ذلك العذاب في الدارين بسبب أنه كانت تجيئهم الرسل المرسلة إليهم بالمعجزات الظاهرة ، والأدلة والبراهين الواضحة ، فقال كل قوم لرسولهم : كيف يتصور أن يهدينا البشر ، أو من كان من جنس البشر؟ أي إنهم استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر ، وأن يكون هداهم على يدي البشر مثلهم ، فكفروا بالرسل وما جاؤوا به ، وأعرضوا عنهم وعن الحق وعن العمل به ، ولم يتدبروا فيما جاؤوا به ، واستغنى الله عن إيمانهم وعبادتهم ، إذ أهلكهم ، والله غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له ، محمود من كل مخلوقاته بلسان المقال أو الحال.

٢٤٠