التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

٣ ـ دل قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء ، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة عن مالك بن الحويرث : «إذا حضرت الصلاة ، فأذّنا ، ثم أقيما وليؤمّكما أكبركما». وروى البخاري عن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس.

وروي عن أبي الصّديق وأحمد بن حنبل أنها تصلّى قبل الزوال ، وتمسك أحمد في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع : «كنا نصلّي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ننصرف ، وليس للحيطان ظل» بحديث ابن عمر وسهل : «ما كنا نقيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة».

ومذهب الجمهور من الخلف والسلف ما رواه البخاري فيما تقدم ، وما رواه وكيع عن يعلى بن إياس عن أبيه قال : «كنا نجمّع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا زالت الشمس ، ثم نرجع نتتبع الفيء». وقياسا على صلاة الظهر.

وحديث ابن عمر وسهل دليل على أنهم كانوا يبكّرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة أو قبلها ، فلا يتناولون الغداء إلا بعد انقضاء الصلاة ، وقد جاء في البخاري ومسلم ما يفيد استحباب التبكير إلى الجمعة ، وذلك ما روياه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجمعة ، ثم راح في الساعة الأولى ، فكأنما قرّب بدنة (١) ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة ، فكأنما قرّب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة ، فكأنما قرّب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذّكر».

والتبكير محمول عند أغلب العلماء على ساعات النهار الزمانية ، لحديث ابن عمر المتقدم : «ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها».

__________________

(١) البدنة : الناقة.

٢٠١

ورأى مالك أن التبكير بالجمعة إنما يكون قرب الزوال بيسير. قال ابن العربي : والقول الأول أصح.

٤ ـ الجمعة فرض عيني على كل مسلم ، وهو رأي جماهير الأمة والأئمة ، لقوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) وثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكوننّ من الغافلين». وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها على الأعيان. وفي سنن ابن ماجه عن أبي الجعد الضّمري الصحابي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها ، طبع الله على قلبه». وثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم».

٥ ـ أوجب الله السعي إلى الجمعة مطلقا من غير شرط. وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات ، لقوله عزوجل : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ..) [المائدة ٥ / ٦] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة : «لا يقبل الله صلاة بغير طهور».

أما غسل الجمعة فهو سنة أو مستحب لا فرض ، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» وفيهما أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم». وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حقّ لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل رأسه وجسده» وفيه أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ، ثم راح إلى الجمعة ، فاستمع وأنصت ، غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة ، وزيادة ثلاثة أيام ، ومن مسّ الحصى فقد

٢٠٢

لغا» (١). وهذا نص في عدم فرضية الغسل. وروى النسائي وأبو داود في سننهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت. ومن اغتسل فالغسل أفضل».

ويستحب أيضا لمن آتى الجمعة أن يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويتسوك ويتنظف ويتطهر ، لحديث أبي سعيد المتقدم :

«غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ، والسواك ، وأن يمس من طيب أهله» وروى أحمد عن أبي أيوب الأنصاري :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب أهله إن كان عنده ، ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج حتى يأتي المسجد ، فيركع إن بدا ولم يؤذ أحدا ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى».

٦ ـ لا تسقط الجمعة لكونها في يوم عيد ، خلافا لأحمد بن حنبل ، فإنه قال : إذا اجتمع عيد وجمعة ، سقط فرض الجمعة ، لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عليها ، ولما روي أن عثمان أذن في يوم عيد لأهل العوالي (٢) أن يتخلفوا عن الجمعة. لكن قول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه ، ولم يجمع معه عليه ، والأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام. وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه : أنه إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد ، يقرأ بالأعلى والغاشية أيضا في الصلاتين.

٧ ـ اختلف العلماء في أول جمعة صليت في الإسلام ، فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن ابن سيرين قال : جمّع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) اللغو : الكلام المطرح الساقط.

(٢) العالية والعوالي : أماكن بأعلى أراضي المدينة ، وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اجتمع في يومكم هذا عيدان ، فمن شاء أجزأه من الجمعة ، وإنا مجمعون».

٢٠٣

وقبل أن تنزل الجمعة ، قالت الأنصار : لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام ، وللنصارى مثل ذلك ، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه ، فنذكر الله تعالى ، ونشكره ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة ، وكانوا يسمون الجمعة بذلك ، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة ، فصلى بهم يومئذ ركعتين ، وذكرهم ، فسموه (الجمعة) حين اجتمعوا إليه. فذبح لهم شاة ، فتغذوا وتعشوا منها ، وذلك لعامتهم ، فأنزل الله تعالى ، في ذلك بعد : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) الآية (١).

وقيل : إن أول من جمع بالناس مصعب بن عمير ، وجمع بين الروايتين بأن جمع أسعد

كان بغير أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجمع مصعب كان بأمره.

والصحيح أن أول جمعة كانت هي صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد قدومه إلى المدينة بأربعة أيام ، حيث أدركه وقتها في بني سالم بن عوف ، فصلّاها في بطن واد لهم ، حيث خطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصلى بالناس.

أخرج ابن ماجه عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب ، فقال : «إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا ، في يومي هذا ، في شهري هذا ، في عامي هذا ، إلى يوم القيامة ، فمن تركها استخفافا بها ، أو جحودا بها ، فلا جمع الله شمله ، ولا بارك في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ولا زكاة له ، ولا حج له ، ولا صوم له ، ولا برّ له حتى يتوب ، فمن تاب تاب الله عليه». قال الألوسي : فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة ، بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير ، إذ ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام فيه : «لا حج له» أن الحج كان مفروضا إذ ذاك ، والأصح أنه فرض في السنة السادسة ، فإما أن يقدح في صحة الحديث ، وإما أن يقال : مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة ، أي بهذا القيد (٢).

__________________

(١) وروي ذلك أيضا في سنن أبي داود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٩٨ ، تفسير الألوسي : ٢٨ / ١٠٠

٢٠٤

٨ ـ الصحيح أن السعي إلى ذكر الله واجب ، وذكر الله يشمل الصلاة والخطبة والمواعظ ، ورأى الحنفية أنه لا يشترط في الخطبة اشتمالها على ما يسمى خطبة عرفا ، لأنه ورد الذكر في الآية مطلقا غير محدود ، ومن غير تفصيل بين كون الذكر طويلا أو قصيرا ، فكان الشرط هو الذكر مطلقا ، وما ورد من الآثار مشتملا على بيان كيفية الخطبة يدل على السنية أو الوجوب ، ولا يصلح دليلا على أنه لا يجوز الصلاة إلا بالخطبة.

ورأى العلماء الآخرون أن الخطبة واجبة ، لأنها تحرّم البيع ، ولولا وجوبها ما حرّمته ، لأن المستحب لا يحرّم المباح. واشترط الشافعية أن يأتي الخطيب بخطبتين بشروط خاصة ، بآثار وردت في ذلك.

وأجمع العلماء على اشتراط العدد في صلاة الجمعة ، لأنها ما سميت جمعة إلا لما فيها من الاجتماع. واختلفوا في أقل عدد تنعقد به الجمعة ، على أقوال كثيرة ، بلغت ثلاثة عشر قولا. منها : أن يكون العدد في رأي أبي حنيفة ومحمد ثلاثة رجال سوى الإمام ، ولو كانوا مسافرين أو مرضى ، لأن أقل الجمع الصحيح إنما هو الثلاث ، والجماعة شرط مستقل في الجمعة ، لقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) والجمعة مشتقة من الجماعة ، ولا بدّ لهم من خطيب.

واشترط المالكية حضور اثني عشر رجلا للصلاة والخطبة ، على أن يكون العدد من أهل البلد ، وأن يبقوا مع الإمام من أول الخطبة حتى السلام ، لأنه لم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصحابة الذين خرجوا للهو أو للتجارة إلا اثنا عشر رجلا.

وقال الشافعية والحنابلة : تقام الجمعة بحضور أربعين فأكثر بالإمام من أهل القرية المكلفين الأحرار الذكور المستوطنين ، لا مسافرين ، لكن يجوز كون الإمام مسافرا إن زاد العدد عن الأربعين ، لما روى البيهقي عن ابن مسعود أنه

٢٠٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمّع بالمدينة ، وكانوا أربعين رجلا. ولم يثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بأقل من أربعين ، فلا تجوز بأقل منه.

٩ ـ منع الله تعالى البيع عند صلاة الجمعة ، وحرمه في وقتها على من كان مخاطبا بفرضها ، والمراد من البيع المعاملة مطلقا ، فيشمل النهي كل ما يشغل عن الصلاة من شركة وإجارة وزواج ونحوها ، فهو مجاز عن ذلك كله ، وخص البيع ، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق. أما من لا يجب عليه حضور الجمعة ، فلا ينهى عن البيع والشراء ونحوهما. والأمر في قوله تعالى : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) للوجوب عند أكثر العلماء ، فيكون الاشتغال بهذه الأشياء محرما عند الجمهور ، وذلك من حين صعود الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة ، وهو مكروه تحريما عند الحنفية.

والبيع صحيح منعقد لا يفسخ عند الحنفية والشافعية ، لأنه لم يحرم لعينه أي ليس النهي متوجها نحو خصوص البيع ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو متوجه نحو ترك الجمعة ، فكان كالصلاة في الأرض المغصوبة ، والوضوء بماء مغصوب. وهو فاسد لا يصح عند الحنابلة ، والصحيح المشهور عند المالكية : أنه يفسخ ، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد ومسلم عن عائشة : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها هو حرام شرعا ، مفسوخ ردعا.

١٠ ـ السعي إلى ذكر الله ، وترك الأعمال من أجله خير للمؤمنين وأنفع من المنافع الدنيوية ، فإن كانوا من أهل العلم ، عرفوا أن امتثال أوامر الله في الذهاب إلى الجمعة ، والانتفاع بالمواعظ ، خير لهم في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيبصرهم الإمام بما فيه الخير والنجاة من الأذى ، وأما في الآخرة فإنهم يفوزون برضا الله عنهم ، حيث امتثلوا أوامره.

٢٠٦

١١ ـ يباح عقب الفراغ من الصلاة الانتشار في الأرض للتجارة والتصرف في الحوائج ، والابتغاء من رزق الله وفضله ، لقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) كقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة ٥ / ٢]. وهذا أمر بعد الحظر ، فهو للإباحة ، فلا يطلب من الإنسان الخروج من المسجد بعد الصلاة لا وجوبا ولا ندبا.

١٢ ـ نبّه الله تعالى بقوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) على ذكر الله بالطاعة واللسان ، وبالشكر على ما أنعم به على الإنسان من التوفيق لأداء الفرائض ، وفي وقت الاشتغال بالأعمال وعدم الاكتفاء بالذكر الذي حصل في صلاة الجمعة ، ليتحقق الفوز بخير الدارين. قال سعيد بن المسيب : الذكر طاعة الله تعالى ، فمن أطاع الله فقد ذكره ، ومن لم يطعه فليس بذاكر ، وإن كان كثير التسبيح.

١٣ ـ انفض الناس أثناء خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتجارة أصالة ، وللهو والفرح بمجيء التجارة تبعا ، فعاد الضمير للتجارة في قوله : (إِلَيْها).

١٤ ـ استدل العلماء بقوله تعالى : (وَتَرَكُوكَ قائِماً) على مشروعية القيام أثناء الخطبة ، وهو أمر متفق عليه ، ثبت في السنة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خطب إلا قائما ، وكذلك الخلفاء من بعده ، واستمر الأمر هكذا إلى زمن بني أمية حيث وجد منهم من استهان بأمر الخطبة ، فخطب جالسا ، وأول من خطب جالسا معاوية رضي‌الله‌عنه ، حينما كان عاجزا عن القيام.

والقيام في الخطبة سنة عند الحنفية ، فلو خطب الإمام قاعدا ، جاز ، لحصول المقصود ، إلا أنه يكره لمخالفته الموروث ، وهو واجب غير شرط عند المالكية ، فإن جلس أتم خطبته وصحت ، وشرط لا تصح إلا به عند الشافعية والحنابلة ، اتباعا للسنة. وهذه أحكام في الخطبة مأخوذة من السنة (١) :

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٨ / ١١٤ ـ ١٢٠

٢٠٧

أ ـ تصح الجمعة بغير إذن الإمام وحضوره ، لأن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما ، فصلى ابن مسعود بالناس من غير إذنه ، وروي أن عليا صلّى الجمعة يوم حوصر عثمان ، ولم ينقل أنه استأذنه ، وروي أيضا أن سعيد بن العاصي والي المدينة لما خرج من المدينة ، صلى أبو موسى بالناس الجمعة من غير استئذان.

واشترط أبو حنيفة وجود الإمام أو خليفته أو إذنه ، لأن كل تجمع يتطلب الإذن بالحضور ، ولأنه لا يحصل معنى الاجتماع إلا بالإذن ، ولأن الجمعة من شعائر الإسلام وخصائص الدين ، فلزم إقامتها بطريق الاشتهار.

ب ـ واشترط المالكية لأداء الجمعة أن تكون في المسجد المسقّف ، لقوله تعالى : (طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) [الحج ٢٢ / ٢٦]. وقوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) [النور ٢٤ / ٣٦]. وحقيقة البيت عرفا أن يكون ذا حيطان وسقف. وكذلك اشترط الحنفية أن تكون في مصلى المصر. ولم يشترط الشافعية والحنابلة إقامة الجمعة في مسجد ، واتفق الكل على أن تكون في بلد.

ج ـ يرى جمهور العلماء أن الخطبة شرط في انعقاد الجمعة لا تصح إلا بها ، لقوله تعالى : (وَتَرَكُوكَ قائِماً) وهذا ذم ، والواجب : هو الذي يذم تاركه شرعا ، ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصلها إلا بخطبة. وقال سعيد بن جبير : هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر ، فإذا تركها وصلى الجمعة ، فقد ترك الركعتين من صلاة الظهر.

وقال الحسن البصري وابن الماجشون : إنها سنة مستحبة ، وليست بفرض.

د ـ يخطب الخطيب متوكئا على قوس أو عصا ، روى ابن ماجه في سننه عن سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا خطب في الحرب ، خطب على قوس ، وإذا خطب في الجمعة ، خطب على عصا.

٢٠٨

ه ـ يرى جمهور العلماء أن الخطيب يسلّم إذا صعد المنبر على الناس ، لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صعد المنبر سلّم. وليس السلام سنة عند مالك.

و ـ الطهارة من الحدثين في الخطبة شرط عند الشافعي في الجديد ، وليست شرطا عند الجمهور ، فإن خطب الإمام على غير طهارة أساء عند مالك ، وصحت الخطبة ، ولا إعادة عليه إذا صلّى طاهرا.

ز ـ ذهب أكثر الفقهاء إلى أن أقل ما يجزئ في الخطبة : أن يحمد الله تعالى ، ويصلي على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويوصي بتقوى الله ، ويقرأ آية من القرآن ، ويجب في الثانية أربع كالأولى ، إلا أن الواجب هو الدعاء بدلا من قراءة الآية في الأولى.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو اقتصر الإمام على التحميد أو التسبيح أو التكبير ، أجزأه ، روي عن عثمان رضي‌الله‌عنه أنه صعد المنبر ، فقال : الحمد لله ، وأرتجّ عليه ، فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا ، وإنكم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال ، وستأتيكم الخطب ، ثم نزل فصلى ، وكان ذلك بحضرة الصحابة ، فلم ينكر عليه أحد.

ح ـ ما يذكر في الخطبة : روى مسلم في صحيحة عن أخت عمرة بنت عبد الرحمن قالت : ما أخذت (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة ، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة. وروى أيضا عن يعلى بن أميّة أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ على المنبر : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ..) [الزخرف ٤٣ / ٧٧].

وفي مراسيل أبي داود عن الزّهري قال : كان صدر خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ به من شرور أنفسنا. من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا

٢٠٩

عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى. نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ، ويتّبع رضوانه ويجتنب سخطه ، فإنما نحن به وله».

وعن الزهري قال : بلغنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول إذا خطب : «كل ما هو آت قريب ، ولا بعد لما هو آت. لا يعجل الله لعجلة أحد ، ولا يخفّ لأمر الناس. ما شاء الله ، لا ما شاء الناس. يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا ، ما شاء الله كان ولو كره الناس. ولا مبعد لما قرّب الله ، ولا مقرّب لما بعّد الله. لا يكون شيء إلا بإذن الله جلّ وعز».

وقال جابر : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة يخطب ، فيقول بعد أن يحمد الله ويصلّي على أنبيائه : «أيها الناس ، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن العبد المؤمن بين مخافتين : بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه ، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشبيبة قبل الكبر ، ومن الحياة قبل الممات. والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم»(١).

ط ـ يجب وجوب سنة السكوت للخطبة على من سمعها ، والسنة أن يسكت الجميع ، من سمع ومن لم يسمع ، وهما إن شاء الله في الأجر سواء ، ومن تكلم حينئذ لغا ، ولا تفسد صلاته بذلك. عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قلت لصاحبك : أنصت يوم الجمعة ، والإمام يخطب ، فقد لغوت» (٢).

__________________

(١) وروي ذلك أيضا عن ابن عباس (إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام : ص ١٩٤).

(٢) أخرجه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.

٢١٠

ي ـ يستقبل الإمام الناس إذا صعد المنبر ، اتباعا لفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما جاء في سنن أبي داود مرسلا وسنن ابن ماجه متصلا ، وعند أبي نعيم الحافظ.

ك ـ يرى الجمهور أن من دخل المسجد والإمام يخطب ركع ركعتين ، لما أخرج مسلم في صحيحة عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة ، والإمام يخطب ، فليركع ركعتين ، وليتجوّز فيهما». ولا يركع في رأي مالك وابن شهاب الزهري ، لأن خروج الإمام يقطع الصلاة ، وكلامه يقطع الكلام.

ل ـ يكره النوم والإمام يخطب ، عن سرمة بن جندب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا نعس أحدكم فليتحوّل إلى مقعد صاحبه ، وليتحول صاحبه إلى مقعده» (١).

م ـ فضل الجمعة : روى الأئمة عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر يوم الجمعة ، فقال : «وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم ، وهو يصلي ، يسأل الله عزوجل شيئا إلا أعطاه إياه» وأشار بيده يقلّلها (٢). وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة».

١٥ ـ ما عند الله من ثواب الصلاة خير من لذة اللهو وفائدة التجارة ، وكذلك ما عند الله من الرزق المقسوم للإنسان خير مما يصاب باللهو والتجارة ، والله خير من رزق وأعطى ، فهو الذي يقدر الأقوات وييسرها ، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء ، فما يصح لإنسان إهمال عبادة الله من أجل شيء ، فإن ما يكون له سوف يأتيه ، ولو على ضعفه ، وما لغيره لن يناله بقوّته ، ولن يفيد منه إلا الإسراع إليه ، والجري وراءه. وعلى الإنسان طلب الرزق من ربه ، والاستعانة بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة.

__________________

(١) ورواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر بلفظ «إذا نعس أحدكم وهو في المسجد ، فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره».

(٢) يقال : قلّله في عينه ، أي أراه إياه قليلا.

٢١١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المنافقون

مدنيّة ، وهي إحدى عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة (المنافقون) لافتتاحها بذلك ، وتحدثها عن أوصاف المنافقين ، ومواقفهم المعادية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين.

مناسبتها لما قبلها :

تبدو صلة هذه السورة بما قبلها بعقد مقارنة وإجراء تقابل بين المؤمنين والمنافقون ، ففي سورة الجمعة ذكر المؤمنون ، وفي هذه ذكر أضدادهم وهم المنافقون ، لذا أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في الجمعة سورة الجمعة ، يحرّض بها المؤمنين ، وسورة المنافقين يقرّع بها المنافقين.

كما أن سورة الجمعة مشتملة على ذكر من كان يكذب ببعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلبا ولسانا وهم اليهود ، وتذكر هذه السورة من كان يكذبه قلبا دون اللسان ويصدقه لسانا دون القلب ، وهم المنافقون.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كسائر السور المدنية هو الحديث عن التشريعات والأحكام وما تمخض عنه مجتمع المدينة بعد الهجرة من بروز ظاهرة النفاق.

٢١٢

وابتدأت السورة بإيراد صفات المنافقين التي من أهمها الكذب في ادعاء الإيمان ، وحلف الأيمان الفاجرة الكاذبة ، وجبنهم وضعفهم وتآمرهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين ، وصدهم الناس عن دين الله.

ثم ذكرت موقفهم المخزي والمستعلي وهو ادعاؤهم العزة وزعمهم بأنهم بعد العودة من غزوة بني المصطلق سيخرجون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من المدينة.

وختمت السورة بحثّ المؤمنين على التضامن والطاعة وعبادة الله ، وإنفاق الأموال في سبيل الله لمواجهة الأعداء في الداخل والخارج ، قبل انقضاء الأجل أو فوات الأوان ، فإن الأجل لا يتأخر لحظة.

أقبح أوصاف المنافقين في ميزان الشرع

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤))

٢١٣

الإعراب :

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) عامل (إِذا) هو (جاءَكَ) وإنما جاز أن يعمل فيها وإن كان مضافا إليه ، لأن (إِذا) فيها معنى الشرط ، والشرط يعمل فيه ما بعده ، لا ما قبله.

(قالُوا : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ..) الآية ، إنما كسرت (إن) في الآية في المواضع الثلاثة ، لمكان لام التأكيد في الخبر ، لأنها في تقدير التقدم ، فعلّقت الفعل عن العمل.

(خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) يقرأ بضم الشين وسكونها ، فمن قرأ بالضم فعلى الأصل ، ومن قرأ بالسكون فعلى التخفيف ، كأسد وأسد.

(ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ما) : إما موصولة في موضع رفع فاعل (ساءَ). و (يَعْمَلُونَ) جملة فعلية صلتها ، والعائد محذوف تقديره : يعملونه ، فحذف الهاء تخفيفا. وإما مصدرية في موضع رفع أيضا ب (ساءَ) ولا عائد لها ، وقيل : (ما) نكرة موصوفة في موضع نصب ، و (كانُوا يَعْمَلُونَ) صفتها ، والعائد إلى الموصوف من الصفة محذوف ، كما هو محذوف من الصلة.

البلاغة :

(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) تأكيد بالقسم وإنّ واللام ، زيادة في التقرير ، وتأكيد علمهم بهذا الخبر.

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) جملة اعتراضية بنى الشرط وجوابه ، لدفع توهم أن التكذيب لقولهم في حد ذاته.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) استعارة ، استعار لفظ (جُنَّةً) وهي كالترس ، للتظاهر بالإسلام الذي يعصم الدم والمال.

(آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) بينهما طباق.

(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) تشبيه مرسل مجمل.

(قاتَلَهُمُ اللهُ) جملة دعائية عليهم باللعنة والهلاك.

المفردات اللغوية :

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) إذا حضروا مجلسك ، والمنافق : من يظهر الإسلام ويبطن الكفر. (قالُوا) بألسنتهم خلافا لما في قلوبهم. (نَشْهَدُ) الشهادة : إخبار عن علم من الشهود. (وَاللهُ

٢١٤

يَشْهَدُ) يعلم. (إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) لأنهم لم يعتقدوا بالرسالة أصلا ، فهم كاذبون فيما أضمروه خلافا لما قالوه.

(جُنَّةً) وقاية وسترا من القتل والسبي وأخذ الأموال. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صدوا بالأيمان عن الجهاد في سبيل الله. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من نفاق وصدّ. (ذلِكَ) أي سوء أعمالهم. (آمَنُوا) باللسان. (ثُمَّ كَفَرُوا) بالقلب ، بمعنى أنهم استمروا على كفرهم به. (فَطُبِعَ) ختم ، حتى تمرنوا على الكفر واستحكموا فيه. (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) حقيقة الإيمان ولا يعرفون صحته.

(تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لضخامتها وجمالها. (تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لفصاحتهم وذلاقتهم وحلاوة كلامهم. (خُشُبٌ) جمع خشباء : وهي الخشبة المنخور جوفها. (مُسَنَّدَةٌ) منصوبة مسندة إلى الجدار. (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) يظنون أن كل صوت واقع بهم لجبنهم وهلعهم. (هُمُ الْعَدُوُّ) الضمير للكل ، والعدو يطلق على الجمع والمفرد. (قاتَلَهُمُ اللهُ) لعنهم وطردهم من رحمته ، وأهلكهم. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق والإيمان بعد قيام البرهان.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم ينطقون بالإسلام إذا جاؤوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم في الحقيقة على الضد من ذلك ، فيقول :

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أي إذا قدم المنافقون إليك يا رسول الله مثل عبد الله بن أبي وصحبه ، وحضروا مجلسك ، أظهروا لك الإسلام ، وقالوا : نشهد إنك لرسول الله شهادة تتطابق فيها القلوب مع الألسنة ، والله يعلم أن الأمر كما قالوا ، وأنك رسول الله إلى الناس كافة ، والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم : نشهد ، وفيما أخبروا عنه وهو الشهادة بالرسالة التي هي حق ، لأنهم لم يكونوا يعتقدون صدق وصحة ما يقولون ، ولا تطابق بين ما عليه قلوبهم مع ما أعلنته ألسنتهم ، ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم ، وأن شهادتهم لم تكن شهادة في الحقيقة ، فهم كاذبون في تسمية شهادة.

٢١٥

وقولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) فيه تأكيد شهادتهم ، للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم ، مع صدق اعتقادهم ، ومعنى (نَشْهَدُ) نعلم ونحلف. وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) جملة اعتراضية مخبرة أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي تصديق من الله عزوجل لما تضمنه كلامهم من الشهادة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة ، لئلا يتوهم كون التكذيب الآتي بعدئذ موجها إلى ذلك. وقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) يراد به تكذيب دعواهم أن شهادتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي من صميم القلب.

ثم أخبر الله تعالى عن استخدام الأيمان لإثباتهم ما يقولون ، وإقناع الناس بصدقهم ، فقال :

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً ، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنهم جعلوا أيمانهم الكاذبة التي حلفوها وقاية وسترا لصون دمائهم من القتل ، وأنفسهم من الأسر ، وأموالهم من الأخذ ، حتى لا تطبق عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر واغتنام المال ، فاغترّ بهم من لا يعرف حقيقة أمرهم ، فاعتقدوا بأنهم مسلمون ، فاقتدوا بهم فيما يفعلون ، مما ألحق ضررا بكثير من الناس ، إذ منعوهم من الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك والقدح في النبوة ، إنه لقبيح ما كانوا يفعلون من النفاق والصدّ عن سبيل الله تعالى.

والآية دليل على ارتكابهم جرمين كبيرين : الحلف بالأيمان الكاذبة ، والصد عن الدخول في الإسلام والجهاد في سبيل الله ، مما استوجب وصف أفعالهم بالقبح.

ثم أخبر الله تعالى عن أسباب موقفهم هذا ، فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ، ثُمَّ كَفَرُوا ، فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ ، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك المذكور من الكذب والصدّ وقبح الأعمال بسبب أنهم آمنوا نفاقا ، ثم كفروا

٢١٦

في الحقيقة والباطن ، فختم على قلوبهم بسبب كفرهم ، فلا يدخلها إيمان ، ولا تهتدي إلى حق ، ولا ينفذ إليها خير ، فأصبحوا لا يفهمون ما فيه رشدهم وصلاحهم ، ولا يعون ولا يدركون الأدلة الدالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرسالة.

ثم أبان الله تعالى مدى الاغترار بمظاهرهم وصورهم الجسدية ، فقال :

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي وإذا نظرت إليهم تروقك هيئاتهم ومناظرهم ، لما فيها من النضارة والرونق وجمال الصورة واعتدال الخلقة ، وإن تكلموا حسن السماع لكلامهم ، وظن أن قولهم حق وصدق ، لفصاحتهم وحلاوة منطقهم وذلاقة ألسنتهم ، كأنهم أخشاب جوفاء منخورة مستندة إلى الحيطان ، فهم مجرد كتل بشرية لا تفهم ولا تعلم ، وقد كان عبد الله بن أبي رأس المنافقين فصيحا جسيما جميلا ، ولكنه وصحبه لا وعي ولا إدراك لديهم ، لخلوهم عن الفهم النافع ، والعلم الذي ينتفع به صاحبه ، فهم صور بلا معان. فقوله : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ) يعني عبد الله بن أبي ، ومغيث بن قيس ، وجدّ بن قيس ، كانت لهم أجسام ومنظر ، تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها ، وكان عبد الله بن أبي جسيما صبيحا فصيحا.

(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ، قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي وهم مع جمال مناظرهم وجسامة أجسادهم في غاية الضعف والخور والجبن ، يظنون كل صوت كلما وقع أمر ، أو كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم ، نازلة بهم ، لفرط جبنهم ، ورعب قلوبهم ، وفراغهم النفسي ، وإحساسهم بالهزيمة من الداخل ، فهم الأعداء الألداء ، فاحذر مؤامراتهم ، ولا تطلعهم على شيء من أسرارك ، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار ، لعنهم الله وطردهم من رحمته وأهلكهم ، كيف يصرفون عن الحق ، ويميلون عنه إلى الكفر ، ويتركون الهدى إلى الضلال.

٢١٧

ونظير الآية قوله تعالى : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ ، سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ، أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا ، فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ١٩].

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن للمنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة ، وطعامهم نهبة ، وغنيمتهم غلول ، ولا يقربون المساجد إلا هجرا ، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا ، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون ، خشب بالليل ، صخب بالنهار».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن الإيمان تصديق القلب ، والكلام الحقيقي كلام القلب ، ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب ، فالمنافقون كاذبون ، لأنهم يقولون غير ما يعتقدون. وهذا مستنبط من الآية الأولى المتضمنة أن المنافقين يشهدون أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اعترافا بالإيمان ، ونفيا للنفاق عن أنفسهم ، وهم في هذا لم يضيفوا شيئا جديدا للحقيقة ، فالله يعلم أن محمدا رسول الله كما قالوا بألسنتهم ، ولكنه يشهد أنهم في ضمائرهم كاذبون ، وإن أظهروا الشهادة بالإسلام وبتصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحلفوا بألسنتهم.

٢ ـ لا يبالي المنافقون بالحلف كذبا ، ويصدون عن الدخول في الإسلام ، فقد اتخذوا بقيادة عبد الله بن أبي أيمانهم وقاية وسترا من الناس ، يتقون بها تطبيق أحكام الكفرة عليهم من القتل والسبي واغتنام الأموال ، فاغتر الناس بهم وظنوا أنهم مسلمون ، فقلّدوهم ، فأدى صنعهم هذا إلى صد الناس ، من اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام ، ومنعهم من الجهاد بسبب تخلفهم واقتداء

٢١٨

غيرهم بهم ، فبئست أعمالا أعمالهم الخبيثة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة وصدهم عن سبيل الله.

ولكن الله تعالى بيّن أن حالهم لا يخفى عليه ، ولكن حكمه أن من أظهر الإيمان ، أجري عليه في الظاهر حكم الإيمان.

٣ ـ قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ...) إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر ، لأنه أقر باللسان ، ثم كفر بالقلب ، والمعول عليه هو ما في القلوب. وكان من لوازم

اعتصامهم بالكفر أن ختم الله على قلوبهم بالكفر ، فأصبحوا لا يدركون معالم الإيمان وأدلته ، ولا مفهوم الخير وطرقه ، فهم على الكفر الثابت الدائم.

٤ ـ إن الحكم على الناس لا يكون بالأشكال والهيئات والمناظر ، وإنما يكون بالحقائق المدركة ، والأفعال الواقعة ، والأقوال الصادقة. وقد كان المنافقون حسان الهيئة ، فصيحي اللسان ، ولكنهم أشباح بلا أرواح ، وصور بلا معان. قال ابن عباس : كان عبد الله بن أبي وسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان ، فإذا قال سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته ، وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة.

أخرج مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

٥ ـ يؤدي النفاق عادة إلى القلق والتردد ، والضعف والهزيمة ، والجبن والجزع والهلع ، لذا كان المنافقون جبناء ، يحسبون كل واقعة ، كأنها نازلة بهم لجبنهم ، وكأن كل أمر وقع أو خوف نازل بهم وحدهم. قال مقاتل : إذا نادى مناد في العسكر ، وانفلتت دابة ، أو نشدت ضالة مثلا ، ظنوا أنهم يرادون بذلك ، لما في قلوبهم من الرعب ، ولأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم ، ويكشف أسرارهم ، يتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة.

٢١٩

٦ ـ المنافقون أعداء المؤمنين ، الكاملون في العداوة لله تعالى وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فينبغي الحذر من أقوالهم والميل لكلامهم ، والحرص من تآمرهم وتخذيلهم بعض ضعفة المؤمنين ، واطلاعهم على أسرار الأمة ، حتى لا تتسرب إلى الأعداء.

٧ ـ لهذه الأوصاف الذميمة كلها ختمت الآيات بكلمة الذم والتوبيخ وهي (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي لعنهم وطردهم من رحمته ، فكيف يصرفون عن الحق إلى الباطل ، وعن الهدى إلى الضلال ، وكيف تضل عقولهم عن الإيمان مع وضوح الدلائل؟!

أدلة إثبات كذب المنافقين ونفاقهم

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

الإعراب :

(تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ) هنا فعلان ، أعمل الثاني منهما وهو (يَسْتَغْفِرْ) ولا ضمير فيه ، لأن (رَسُولُ اللهِ) مرفوع به ، والفعل لا يرفع فاعلين. ولو أعمل الأول وهو (تَعالَوْا) لقيل : تعالوا إلى رسول الله يستغفر لكم ، وكان في (يَسْتَغْفِرْ) ضمير يعود إلى (رَسُولُ اللهِ) هو الفاعل. (أَسْتَغْفَرْتَ) استغني بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل.

٢٢٠