التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ختمها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه ، قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه ، فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شك فيه ، وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به ، وإقرار برسالة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما نزل الجهاد ، كره ذلك ناس من المؤمنين ، وشق عليهم أمره ، فأنزل الله الآية (١).

ويؤيد ذلك قول عبد الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله ، لعملناه ، فلما نزل الجهاد كرهوه.

التفسير والبيان :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي نزّه الله ومجده لعظمته وقدرته ووحدانيته وجميع صفات كماله جميع ما في السموات وما في الأرض من العقلاء وغير العقلاء ، وهو القوي الغالب القاهر فوق عباده الذي لا يغالب ، الحكيم في أفعاله وأقواله ، وفي تدبير خلقه وتصريف أمورهم وإرشادهم.

وفيه الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات ، ثم أرشد خلقه إلى فضائل الأخلاق والأعمال ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله ، لأي شيء تقولون قولا وتخالفونه عملا. وهذا إنكار على من يعد وعدا ، أو يقول قولا لا يفي به ، قال ابن كثير : ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا ، سواء ترتب عليه غرم للموعود أم لا ، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٥٨

١٦١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آية المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف ، وإذا حدّث كذب ، وإذا اؤتمن خان». وفي الحديث الآخر في الصحيح : «أربع من كنّ فيه ، كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها» فذكر منهن إخلاف الوعد.

وذهب الإمام مالك رحمه‌الله تعالى إلى أنه إذا أدخل الواعد الموعود به في ورطة ، وجب الوفاء به ، كما لو قال لغيره : تزوج ولك علي كل يوم كذا ، فتزوج وجب عليه أن يعطيه ، ما دام كذلك ، لأنه تعلق به حق آدمي ، وهو مبني على المضايقة.

وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب ديانة مطلقا الوفاء بالوعد ، وإن كان يجب ديانة ومروءة ، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم ، فلما فرض نكل عنه بعضهم ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ : كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَآتُوا الزَّكاةَ ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، وَقالُوا : رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ، لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ، قُلْ : مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء ٤ / ٧٧ ـ ٧٨] وقال تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ ، وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد ٤٧ / ٢٠].

ثم ذمّهم سبحانه على مخالفة القول العمل ، فقال :

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي عظم جرما أن تقولوا قولا وتفعلون غيره ، فإن خلف الوعد دليل على حب الذات (الأنانية) وإهدار لمصلحة وكرامة ووقت الآخرين ، وإخلال بالثقة بين الأفراد والجماعات ،

١٦٢

وما أسوأ خلف الوعد وأقبح بصاحبه ، لذا كان مبغوضا عند الله أشد البغض ومعاقبا عليه ، كما هو مبغوض مستنكر مذموم عند الناس جميعا.

وفي مقابل ذم التاركين للقتال الهاربين منه ، مدح الله تعالى الذين أقدموا على القتال ، فقال :

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي إن الله يرضى عن المقاتلين ، ويثيب ثوابا جزيلا الذين يقاتلون في سبيل الله ، صافّين أنفسهم صفا واحدا ، وكتلة متراصة لا تتزحزح من المواقع ، كأنهم بناء راسخ شامخ ملتزق بعضه ببعض دون فرج كقطعة واحدة.

وهذا تعليم من الله للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم ، وحث على الجهاد بأسلوب آخر ، ودليل على قوتهم وشدتهم في أمر الله ، دون تراخ فيهم ، وإشارة إلى إحكام أمر القتال ، وتنفيذ مهمة الجهاد بدقة وإتقان ، وتضامن واجتماع حازم على وحدة الكلمة ، وإمضاء الأمر بعزيمة لا تعرف اللين ، وهمة لا تردد فيها ، ولقاء للعدو بقلوب ثابتة راسخة لا تخاف ولا تخشى الموت. وهكذا تبني الأمم القوية أمجادها ، وتثبت هيبتها وشخصيتها الذاتية ، وتنتزع احترام الآخرين لها.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن تسبيح الله وتنزيهه وتمجيده من جميع ما في السموات وما في الأرض دليل على الربوبية والوحدانية والعظمة والقدرة والاتصاف بجميع صفات الكمال.

٢ ـ توجب آية : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً ...) على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها ، فإن من التزم شيئا لزمه شرعا.

١٦٣

والملتزم قسمان :

أحدهما ـ النذر : وهو نوعان : نذر تقرّب مبتدأ ، كقوله : لله علي صوم وصلاة وصدقة ، ونحوه من القرب ، فهذا يلزم الوفاء به إجماعا. ونذر مباح معلق على شرط ، مثل إن قدم غائبي فعلي صدقة ، أو إن كفاني الله شرّ كذا فعلي صدقة ، فقال أكثر العلماء : يلزمه الوفاء به. ورأى بعضهم أنه لا يلزمه الوفاء به ، والآية حجة للأكثرين ، لأنها بمطلقها تتناول ذمّ من قال ما لا يفعله ، على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط. ويري الشافعي أن نذر اللجاج والغضب لا يجب الوفاء به ، وهو ما لا يقصد به النذر والقربة ، مثل : إن كلمت فلانا فلله علي صوم أو نحوه.

والثاني ـ الوعد : فإن كان متعلقا بسبب ، كقوله : إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت شيئا أعطيتك كذا ، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا ، فقيل : يلزم ، عملا بسبب نزول الآية المتقدم ، وقيل : لا يلزم ، قال ابن العربي والقرطبي : والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر (١).

٣ ـ إن خلف الوعد مذموم شرعا ، مستوجب للإثم والمؤاخذة ، أما في الماضي فيكون كذبا ، وأما في المستقبل فيكون خلفا ، وكلاهما مذموم.

٤ ـ يرضى الله سبحانه عن الذين يقاتلون في سبيله صفا واحدا ، وهذا يدل على وجوب الثبات في الجهاد في سبيل الله ، ولزوم المكان كثبوت البناء.

ولا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان ، أو لأداء رسالة يرسلها الإمام أو القائد ، أو لمنفعة تظهر في المقام ، كفرصة تنتهز ولا خلاف

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٧٨٨ ، تفسير القرطبي : ١٨ / ٧٩

١٦٤

فيها ، أو للخروج للمبارزة إذا طلبها العدو ، كما كانت حروب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر وفي غزوة خيبر.

التذكير بقصة موسى وعيسى عليهما‌السلام مع بني إسرائيل

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))

الإعراب :

(وَقَدْ تَعْلَمُونَ) في موضع الحال.

(يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) جملة (يَأْتِي) : جملة فعلية في موضع جر ، لأنها صفة لرسول. و (اسْمُهُ أَحْمَدُ) جملة اسمية من المبتدأ والخبر في موضع جر ، لأنها صفة بعد صفة.

(لِيُطْفِؤُا) منصوب بأن مقدرة ، واللام مزيدة.

البلاغة :

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) استعارة ، شبّه من أراد إبطال الدين بمن أراد إطفاء الشمس بفمه ، واستعار نور الله لدينه وشرعه.

(الْفاسِقِينَ مُبِينٌ الظَّالِمِينَ ..) إلخ سجع لطيف مقبول.

١٦٥

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ قالَ مُوسى) أي واذكر حين قال ، وهو كلام مستأنف مقرر لما قبله من ذم التاركين للقتال والمخالفين أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) بالعصيان ومخالفة أمري إذ تركتم القتال ، ومن الأذى أيضا الرمي بالأدرة ، أي بانتفاخ الخصية ، وهو كذب وافتراء. (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) بما جئتكم من المعجزات ، وفائدة (قَدْ) تأكيد العلم ، لا تقليله ، كأنه قال : وتعلمون علما يقينيا لا شبهة لكم فيه ، وفيه إشارة إلى نهاية جهلهم ، إذ عكسوا القضية ، وصنعوا مكان تعظيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيذاءه. (زاغُوا) مالوا عن الحق والهدى الذي جاء به موسى بإيذائه.

(أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أمالها عن الهدى وصرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لا يوفق إلى معرفة الحق أو إلى الجنة القوم الكافرين الخارجين عن الطاعة. (وَإِذْ قالَ عِيسَى) أي واذكر. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) لم يقل : يا قوم ، لأنه لم يكن له فيهم قرابة. (لِما بَيْنَ يَدَيَ) لما تقدمني أو قبلي من الكتب كالتوراة والزبور. (أَحْمَدُ) من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي أحمد الناس لربه. (فَلَمَّا جاءَهُمْ) جاء أحمد الناس الكفار. (بِالْبَيِّناتِ) الأدلة والعلامات والمعجزات. (قالُوا : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي قالوا : هذا المجيء به سحر بيّن. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الكافرين ، أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم.

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) أي يريدون أن يطفئوا ، واللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيدا. (نُورَ اللهِ) شرعه ودينه أو كتابه والحق الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (بِأَفْواهِهِمْ) بأقوالهم : إنه سحر وشعر وكهانة. (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) مظهر دينه وناشره في الآفاق. (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ذلك الانتشار الشامل لدعوة الإسلام إرغاما لهم.

(بِالْهُدى) بالقرآن أو المعجزة. (وَدِينِ الْحَقِ) الملة الحنيفية. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ليعليه على جميع الأديان. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) لما فيه من الدعوة إلى التوحيد المحض ، وإبطال الشرك.

سبب النزول :

نزول الآية (٨):

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا ..) : حكى الماوردي عن عطاء عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود ، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان ليتمّ أمره ،

١٦٦

فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، واتصل الوحي بعدها (١).

المناسبة :

بعد الحث على الجهاد وتأنيب المتخلفين عنه ، التاركين للقتال ، ذكّر الله المؤمنين بقصة موسى عليه‌السلام مع قومه حين دعاهم إلى قتال الجبارين بقوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ...) [المائدة ٥ / ٢١] فخالفوه وعصوا أمره ، كيلا يفعلوا بنبيهم مثلما فعل به بنو إسرائيل. ثم ذكّرهم أيضا بقصة عيسى عليه‌السلام مع بني إسرائيل أيضا حين جاءهم بالبينات والمعجزات وبشرهم بمجيء رسول من بعده اسمه أحمد ، فعصوه ولم يمتثلوا أمره. وقرنت القصتان هنا لأن كلّا من موسى وعيسى من أنبياء بني إسرائيل ، ولأن المخالفين هم أنفسهم.

ثم شنع على هؤلاء العصاة الذين لم يستجيبوا لدعوة النبي إلى الإسلام ، وإنما افتروا على الله الكذب بوصف المعجزات بأنها سحر ، ثم ذكر غرضهم من الافتراء وهو محاولة إبطال دين الله وإطفاء نوره وشرعه ، والحال أن الله متم نوره ، ومظهر دينه على الأديان كلها.

التفسير والبيان :

يحذر الله سبحانه أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مخالفة أمر نبيهم بأن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما ، فيقول :

ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي ، وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) أي واذكر يا محمد لقومك خبر موسى بن عمران عليه‌السلام حين قال لقومه بني إسرائيل : يا قوم لم تلحقون الأذى بي بمخالفة ما آمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم ، أو لم تؤذونني بالشتم والانتقاص ، وأنتم تعلمون يقينا

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٨ / ٨٥

١٦٧

صدقي فيما جئتكم به من الرسالة ، والرسول يحترم ويعظّم ، وقد شاهدتم معجزاتي التي توجب الاعتراف برسالتي.

وهذا تعليم للمؤمنين ونهي لهم من إيذاء نبيهم كما أوذي موسى عليه‌السلام ، كما جاء في آية أخرى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ، فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا ، وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) [الأحزاب ٣٣ / ٦٩] وفي هذا أيضا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر ، ولهذا قال : «رحمة الله على موسى : لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي وإنهم لما تركوا الحق ولم يتبعوا نبيهم وآذوه ، أمال الله قلوبهم عن الهدى ، وصرفها عن الحق ، وأسكنها الشك والحيرة ، جزاء بما ارتكبوا ، كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ ، كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام ٦ / ١١٠].

والله لا يوفق للحق ولا يرشد للهداية القوم الكافرين الذين كفروا بأنبيائهم ، وعصوا رسلهم ، وهؤلاء من جملتهم.

ـ (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : يا بَنِي إِسْرائِيلَ ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي واذكر يا محمد أيضا لقومك خبر عيسى إذ قال : يا بني إسرائيل ، إني رسول الله إليكم بالإنجيل ، لم آتكم بشيء يخالف التوراة ، وإنما أؤيدها وأكملها ، فكيف تعصونني وتنفرون عني وتخالفونني؟!

(وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) أي إن التوراة قد بشرت بي ، وأنا مصداق ما أخبرت عنه ، وأنا مبشر بمن بعدي ، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد : وهو الذي يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره.

١٦٨

وهو خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة ، كما أن عيسى خاتم أنبياء بني إسرائيل.

أورد البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ـ أي بعدي ـ ، وأنا العاقب» أي الآخر الآتي بعد الأنبياء. وروى مسلّم وأبو داود الطيالسي عن أبي موسى قال : سمى لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه أسماء ، منها ما حفظنا ، فقال : «أنا محمد ، وأنا أحمد ، والحاشر ، والمقفي ، ونبي الرحمة والتوبة والملحمة».

وعن كعب الأحبار : أن الحواريين قالوا لعيسى : يا روح الله ، هل بعدنا من أمة؟ قال : نعم ، أمة محمد ، حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم باليسير من العمل.

وجاء في الفصل العشرين من السّفر الخامس من التوراة : «أقبل الله من سينا ، وتجلّى من ساعير ، وظهر من جبال فاران ، معه الربوات الأطهار عن يمينه». وسينا مهبط الوحي على موسى ، وساعير مهبط الوحي على عيسى ، وفاران جبال مكة مهبط الوحي على محمد.

وجاء في إنجيل يوحنا في الفصل الخامس عشر : قال يسوع المسيح : إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي ، يعلمكم كل شيء ، والفارقليط : لفظ يدل على الحمد ، وهو إشارة إلى أحمد ومحمد اسمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي حين جاء أحمد المبشّر به في الكتب المتقدمة بالأدلة والمعجزات القاطعة ، قال الكفرة والمخالفون : هذا

١٦٩

الذي جئت به سحر واضح لا شك فيه. وقيل : المراد لما جاءهم عيسى بالمعجزات ، قالوا : هذا الذي جاءنا به سحر واضح ظاهر.

ثم ذكر الله تعالى حكم المعارضين المخالفين الذين دعوا إلى الإسلام وتوحيد الله ، فقال :

ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ، وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ، ويجعل له أندادا وشركاء ، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص ، والله لا يرشد للحق والصواب الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم ، وهؤلاء منهم.

ـ (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ، وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي إن هؤلاء الكفار يحاولون جاهدين إبطال دعوة الإسلام ، ومنع هدايته ، ومقاومة دعوته بأفواههم الكاذبة ، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه ، وكما أن هذا مستحيل ، كذلك إبطال دعوة الإسلام مستحيل ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي والله مظهر دين الإسلام في الآفاق ، ويعليه على غيره من الأديان ، ومؤيد رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو كره الكافرون ذلك.

ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أي إن الله عزوجل هو الذي أرسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهدى الكامل ، ودين الحق الأبلج الواضح ، المتمثل بالقرآن والسنة النبوية ، ليجعله متفوقا منتصرا على جميع الأديان ، عاليا عليها ، غالبا بالمنطق والواقع لها ، ولو كره المشركون ذلك ، فإنه كائن لا محالة.

وإنما قال أولا : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) وهم اليهود والنصارى والمشركون ، ثم قال : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) لأنه ذكر أولا النور وإطفاءه ، فكان اللائق به

١٧٠

الكفر : وهو الستر والتغطية ، ثم ذكر الرسول والإرسال ودين الحق ، وكان الاعتراض عليه أولا من المشركين ، ولأن أكثر الحاسدين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش ، وهم المشركون. ولما كان النور أعم من الدين والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ناسبه ذكر الكافرين الذين هم جميع مخالفي الإسلام ، ولفظ الكافر أعم من لفظ المشرك ، والرسول والدين أخص من النور ، فناسبه ذكر المشركين الذين هم أخص من الكافرين (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن مخالفة أوامر الأنبياء والرسل موجبة لعقاب المخالفين ، وقد أمر الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكر لقومه العرب أنه لما أمر المؤمنون بالجهاد ، فتثاقل بعضهم وتبرموا منه ، كان حالهم كحال بني إسرائيل لما أمرهم موسى وعيسى بالتوحيد والجهاد في سبيل الله ، خالفوا ، فحل العقاب بمن خالف.

٢ ـ يريد الله الخير لعباده ، ولا يضل أحدا بغير موجب ، فلا يضل المهتدين ، وإنما يضل الظالمين والفاسقين ، ولما زاغ بنو إسرائيل (مالوا عن الحق) أزاغ الله قلوبهم ، أي أمالها عن الهدى وعن الطاعة والإيمان والثواب.

٣ ـ نزل الإنجيل على عيسى عليه‌السلام متمما للتوراة التي نزلت على موسى عليه‌السلام ، فلم يأتهم عيسى بشيء يخالف التوراة ، فينفروا عنه ، وقد بشرت التوراة بعيسى ، وبشر عيسى بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا أمر منطقي ، لأن رسالات الأنبياء صلوات الله عليهم كلهم يكمل بعضها بعضا ، فهي من مصدر واحد ، وذات غاية واحدة تنحصر في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته والإيمان بالرسل والملائكة والكتب الإلهية واليوم الآخر.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٩ / ٣١٥ ـ ٣١٦

١٧١

٤ ـ سمى الله نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسمه قبل أن يسمّي به نفسه ، ومعنى (أحمد) أنه أحمد الحامدين لربه ، والأنبياء عليهم‌السلام كلهم حامدون لله ، ونبينا أحمد أكثرهم حمدا. ومحمد : هو الذي حمد مرة بعد مرة ، واسمه صادق عليه ، فهو محمود في الدنيا لما هدى إليه ، ونفع به من العلم والحكمة ، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة ، ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد ، حمد ربه فشرفه بالنوبة ، فلذلك تقدم اسم (أحمد) على (محمد) في بشارة عيسى عليه‌السلام : (اسْمُهُ أَحْمَدُ). وذكره موسى عليه‌السلام حين قال له ربه : تلك أمة أحمد ، فقال : اللهم اجعلني من أمة محمد.

٥ ـ كل من عيسى ومحمد عليهما‌السلام لما جاء بالبينات أي المعجزات والأدلة على النبوة ، قال المعارضون : هذا سحر مبين.

٦ ـ إن الكفر بعيسى ومحمد عليهما‌السلام بعد المعجزات التي ظهرت لهما ، أمر يدعو إلى العجب ، والكافرون برسالات الأنبياء ، المنكرون لوجود الله ، أو المشركون به أحدا من خلقه هم أظلم الناس على الإطلاق.

٧ ـ كل محاولات الكفرة لإبطال دين الله تعالى ومقاومة دعوة الإسلام بالإنكار والتكذيب خائبة خاسرة ، ومثلهم في إرادة إبطال الحق مثل من أراد إطفاء نور الشمس بفيه ، فوجده مستحيلا ممتنعا.

٨ ـ الله متم نوره بقدرته وتدبيره ، ومعلن دينه بإظهاره في الآفاق ، ولو كره الكافرون جميعا ذلك.

٩ ـ أرسل الله تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق والرشاد ، ليعليه على جميع الأديان بالحجج ، ولو كره المشركون قاطبة ذلك. وقال أبو هريرة : «ليظهره على الدين كله» بخروج عيسى. وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لينزلن ابن مريم حكما عادلا ،

١٧٢

فليكسرنّ الصليب ، وليقتلنّ الخنزير ، وليضعنّ الجزية ، ولتتركنّ القلاص (١) ، فلا يسعى عليها ، ولتذهبنّ الشحناء والتباغض والتحاسد ، وليدعون إلى المال ، فلا يقبله أحد».

التجارة الرابحة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

الإعراب :

(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) خبر معناه الأمر ، أي آمنوا ، بدليل قوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) بجزم (يَغْفِرْ) على الجواب ، وتقديره : آمنوا ، إن تؤمنوا يغفر لكم ، ولولا أنه في معنى الأمر ، لما كان للجزم وجه.

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ .. أُخْرى) : إما في موضع جر عطفا على قوله : (تِجارَةٍ) وتقديره : وعلى تجارة أخرى ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه. وإما في موضع رفع على الابتداء ، أي ولكم خلة أخرى. والوجه الأول أوجه. و (تُحِبُّونَها) : جملة فعلية في موضع جر أو رفع ، لأنها وصف بعد وصف. و (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي نصر من الله.

__________________

(١) القلوص جمع قلص وقلائص وهي الناقة الشابة ، وجمع القلص : قلاص.

١٧٣

(فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ ظاهِرِينَ) : خبر (أصبح) المنصوب.

البلاغة :

(هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ)؟ استفهام للترغيب والتشويق.

(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(تِجارَةٍ) التجارة هنا : العمل الصالح ، وهي في الأصل : تداول البيع والشراء لأجل الكسب. (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ ..) أي تدومون على الإيمان ، وهو كلام مستأنف مبين لنوع التجارة وهو الجمع بين الإيمان والجهاد ، والمراد به الأمر ، أي آمنوا ، وإنما جيء بلفظ الخبر إيذانا بأن ذلك مما لا يترك. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي ما ذكر من الإيمان والجهاد. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم من أهل العلم ، إذ الجاهل لا يعتد بفعله.

(يَغْفِرْ) جواب للأمر المراد من الخبر : (تُؤْمِنُونَ) أو جواب الشرط المقدر أي إن تفعلوه يغفر. (طَيِّبَةً) طاهرة خالصة. (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بساتين إقامة دائمة. (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إشارة إلى ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة.

(وَأُخْرى) أي ولكم نعمة أخرى أو يؤتكم نعمة أخرى. (تُحِبُّونَها) فيه تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل. (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) نصر عاجل ، وهو فتح مكة. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر والفتح ، وهو معطوف على محذوف وهو : قل : يا أيها الذين آمنوا ، أو على (تُؤْمِنُونَ) الذي هو في معنى الأمر ، أي آمنوا وجاهدوا وبشرهم يا رسول الله بما وعدتهم عليهما عاجلا وآجلا.

(كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) أي بعض أنصار الله أي الناصرين لدينه ، أي قل لهم كما قال عيسى. (لِلْحَوارِيِّينَ) أصفياء عيسى وخواصه ، وهم أول من آمن به ، وكانوا اثني عشر رجلا ، والحواري : صفي الرجل وخليله ، من الحور : البياض الخالص. (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي من جندي متوجها إلى نصرة الله. (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) آمنت جماعة بعيسى عليه‌السلام ، وقالوا : إنه عبد الله رفع إلى السماء. (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) بعيسى ، لقولهم : إنه ابن الله رفعه إليه ، فاقتتلت الطائفتان. (فَأَيَّدْنَا) قوّينا وساعدنا ، أي بالحجة أو بالحرب ، وذلك بعد رفع عيسى. (الَّذِينَ آمَنُوا) من الطائفتين. (عَلى عَدُوِّهِمْ) الطائفة الكافرة. (ظاهِرِينَ) غالبين بالحجة والبينة.

١٧٤

سبب النزول :

نزول الآية (١٠):

(هَلْ أَدُلُّكُمْ ..) : أخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : قالوا : لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله وأفضل؟ فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ ..) الآية ، فكرهوا الجهاد ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن ابن عباس ، وابن جرير عن الضحاك قال : أنزلت : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) في الرجل يقول في القتال ما لم يفعله من الضرب والطعن والقتل.

نزول الآية (١١):

(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قال المسلمون : لو علمنا ما هذه التجارة ، لأعطينا فيها الأموال والأهلين ، فنزلت : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

المناسبة :

بعد حث المؤمنين على الجهاد في سبيل الله ، وتحذيرهم من المخالفة ، حتى لا يكونوا أمثال بني إسرائيل الذين خالفوا موسى وعيسى ، ذكر الله تعالى أن التجارة الرابحة التي لا تبور هي في الإيمان بالله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. ثم حث على مناصرة دين الله تعالى وشرعه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ناصر الحواريون عيسى عليه‌السلام.

١٧٥

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ألا أرشدكم إلى تجارة نافعة رابحة ، تحققون بها النجاح والنجاة من العذاب الشديد المؤلم يوم القيامة؟

وهذا أسلوب فيه ترغيب وتشويق ، وقد جعل العمل الصالح لنيل الثواب العظيم بمنزلة التجارة ، لأنهم يربحون فيه كما يربحون فيها ، وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار ، ونوع التجارة كما بيّنت الآيتان التاليتان ، ومعناهما أن الإيمان والجهاد ثمنهما من الله الجنة ، وذلك بيع رابح ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة ٩ / ١١١].

ثم بين نوع التجارة بقوله :

(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أي هي أن تدوموا على الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتخلصوا العمل لله ، وتجاهدوا من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه بالأنفس والأموال. وقدم تعالى الأموال ، لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ذلك المذكور من الإيمان والجهاد خير لكم وأفضل من أموالكم وأنفسكم ، ومن تجارة الدنيا والاهتمام بها وحدها ، إن كنتم من أهل العلم والوعي للمستقبل ، فإن المهم هو النتائج والغايات ، ولا يدرك تلك الغاية النبيلة أهل الجهل.

والجهاد نوعان : جهاد النفس : وهو منعها عن الشهوات ، وترك الطمع والشفقة على الخلق ورحمتهم ، وجهاد العدو : وهو مقاومة الأعداء ورد عدوانهم من أجل نشر دين الله تعالى.

١٧٦

ثم ذكر ثمرة الإيمان والجهاد ، فقال :

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً ، فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم ، غفرت لكم ذنوبكم ، وأدخلتكم الجنات التي تجري من تحت قصورها الأنهار ، والمساكن الطيبات للنفوس ، والدرجات العاليات في جنات الإقامة الدائمة التي لا تنتهي بموت ولا خروج منها ، وذلك المذكور من المغفرة وإدخال الجنات هو الفوز الساحق الذي لا فوز بعده. وهذه هي الفائدة الأخروية.

ثم ذكر الله تعالى الفائدة الدنيوية بقوله :

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي ولكم خصلة أو نعمة أخرى تعجبكم هي نصر مبين من الله لكم ، وفتح عاجل للبلاد كمكة وغيرها من فارس والروم ، أي إذا قاتلتم في سبيل الله ، ونصرتم دينه ، تكفل الله بنصركم ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٧] وقال سبحانه : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج ٢٢ / ٤٠].

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر أيها الرسول المؤمنين بالنصر العاجل في الدنيا ، وبالجنة في الآخرة.

ثم أمرهم الله تعالى بنصرة دينه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل وقت ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دوموا على ما أنتم عليه من نصرة دين الله وتأييد شرعه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في جميع الأحوال بالأقوال والأفعال ، والأنفس والأموال ،

١٧٧

واستجيبوا لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما استجاب الحواريون (أصفياء المسيح وخلصاؤه) لعيسى حين قال لهم : من الذي ينصرني ويعينني في الدعوة إلى الله عزوجل ، ومن منكم يتولى نصري وإعانتي فيما يقرب إلى الله ، أو من أنصاري متجها إلى نصرة الله؟

قال الحواريون : وهم أنصار المسيح وخلّص أصحابه ، وأول من آمن به ، وكانوا اثني عشر رجلا : نحن أنصار دين الله ، ومؤيدوك ومؤازروك فيما أرسلت به ، فبعثهم دعاة إلى دينه في بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين.

وهكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي في أيام الحج : «من رجل يؤويني حتى أبلّغ رسالة ربي ، فإن قريشا قد منعوني أن أبلّغ رسالة ربي؟» حتى قيّض الله الأوس والخزرج من أهل المدينة ، فبايعوه على نشر دينه في بلدهم.

(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) أي لما بلّغ عيسى رسالة ربه إلى قومه ، وآزره الحواريون ، اهتدت طائفة من بني إسرائيل إلى الإيمان الحق وآمنوا بعيسى على حقيقته أنه عبد الله ورسوله ، وضلّت طائفة أخرى ، وكفرت بعيسى ، وجحدوا نبوته ، واتهموه وأمه بالفاحشة ، وتغالت جماعة أخرى من أتباعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة ، فوصفوه بأنه ابن الله أو هو الله أو ثالث ثلاثة : الأب والابن وروح القدس. وصارت النصارى فرقا وأحزابا كثيرة.

(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ ، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي فنصرنا المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى ، وقوّينا المحقّين منهم بالحجة والروح من عندنا على المبطلين ، فأصبحوا عالين غالبين عليهم ، كما قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) [غافر ٤٠ / ٥١].

١٧٨

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) قال : قد كان ذلك بحمد الله ، جاءه سبعون رجلا ، فبايعوه عند العقبة ، وآووه ونصروه ، حتى أظهر الله دينه.

وأخرج ابن إسحاق وابن سعد : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة : «أخرجوا إليّ اثني عشر منكم يكونون كفلاء على قومهم ، كما كفلت الحواريون لعيسى ابن مريم». ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنقباء : «إنكم كفلاء على قومكم ، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل قومي ، قالوا : نعم».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي :

١ ـ أرشد الله إلى التجارة الرابحة المنجّية المخلّصة من العذاب المؤلم في الآخرة ، وهي الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجهاد في سبيله بالأموال والأنفس. قال مقاتل في آية : (هَلْ أَدُلُّكُمْ ..) : نزلت في عثمان بن مظعون ، وذلك أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أذنت لي فطلّقت خولة ، وترهّبت واختصيت وحرّمت اللحم ، ولا أنام بليل أبدا ، ولا أفطر بنهار أبدا! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من سنتي النكاح ، ولا رهبانية في الإسلام ، إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله ، وخصاء أمتي الصوم ، ولا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ، ومن سنتي أن أنام وأقوم وأفطر وأصوم ، فمن رغب عن سنتي ، فليس مني» فقال عثمان : والله لوددت يا نبي الله ، أي التجارات أحب إلى الله ، فأتّجر فيها ، فنزلت.

وهذا مع ما ذكر سابقا من حالات تعدد أسباب النزول.

٢ ـ الإيمان والجهاد خير من الأموال والأنفس في الواقع وعند تأمل الإنسان مستقبله ، وتعمقه في الفكر ، لذا قال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم

١٧٩

تعلمون أنه خير لكم ، كان خيرا لكم ، لأن نتيجة الخير إنما تحصل بعد اعتقاد كونه خيرا.

٣ ـ إن جدوى الإيمان والجهاد في سبيل الله في الآخرة مغفرة الذنوب ودخول الجنات ، والتمتع بالمساكن الطيبة الطاهرة في جنات إقامة دائمة ، وتلك هي السعادة الدائمة الشاملة.

٤ ـ وللإيمان والجهاد فائدة أو مزية أخرى في الدنيا وهي الظفر والنصر على الأعداء ، وفتح بلاد الأعداء كمكة وفارس والروم في الماضي ، وبشارة المؤمنين برضا الله عنهم.

٥ ـ أمر الله تعالى بإدامة النصرة لدين الله تعالى والثبات عليه ، كنصرة الحواريين (أصفياء) عيسى عليه‌السلام حين قال لهم : من ينصر دين الله ويؤازرني؟ فناصروه وآزروه.

٦ ـ اختلف بنو إسرائيل والنصارى في شأن عيسى بعد رفعه إلى السماء ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من كفر به ، وصاروا ثلاث فرق : فرقة قالوا : كان الله فارتفع ، وفرقة قالوا : كان ابن الله فرفعه إليه ، وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه ، وهم المسلمون ، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس. ثم أيد الله الذين آمنوا بعيسى على أنه عبد الله ورسوله على الذين كفروا بعيسى ، فأصبحوا غالبين.

ثم تأيدت الفئة الغالبة ببعثه النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فظهرت على الكافرة.

١٨٠