التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

المناسبة :

بعد بيان أحكام العلاقات بين المسلمين وغيرهم في حال السلم ، أبان الله تعالى حكم ردّ النساء المهاجرات من بلاد الكفر إلى ديار الإسلام ، والتزوج بهن عقب صلح الحديبية ، والزواج بالمشركات ، ورد مهور هؤلاء النساء إلى أزواجهن ، وتعويض الأزواج المسلمين من الغنائم عن مهور زوجاتهن اللاتي ذهبن إلى بلاد الكفار ، والاعتصام في كل ذلك بتقوى الله تعالى. قال القرطبي : لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين ، اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبيّن أحكام مهاجرة النساء.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جاءكم النساء اللاتي آمنّ مهاجرات من بين الكفار ، فاختبروهن ، لتعلموا مدى رغبتهن في الإسلام ، واسألوهن عن سبب مجيئهن. وقوله : (فَامْتَحِنُوهُنَ) أمر بمعنى الوجوب ، أو بمعنى الندب أو بمعنى الاستحباب.

وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يردّ عليهم من جاءهم من المسلمين ، فلما هاجر إليه النساء ، أبي الله أن يرددن إلى المشركين ، وأمر بامتحانهن ، فكن يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا لالتماس دنيا ، بل حبا لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورغبة في دينه. فإذا حلفت على هذا النحو أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ، ولم يردّها إليه.

(اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)

١٤١

أي إن الامتحان أمر في الظاهر فقط ، أما في الحقيقة والواقع ، فلا يعلم حقيقة حالهن إلا الله سبحانه ، والله أمركم بالظواهر ، وهو يتولى السرائر ، فإن غلب على ظنكم أنهن مؤمنات بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به ، فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين الكافرين. وإنما سمّي الظن علما من باب الظن الغالب ، وما يفضي إليه الاجتهاد ، والقياس جار مجرى العلم.

قال ابن كثير : فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطّلاع عليه يقينا.

ثم أردف الله تعالى ذلك بأحكام أخرى تتعلق بهن ، فقال :

١ ـ (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) أي ليست المؤمنات حلالا للكفار ، وإسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها ، لا مجرد هجرتها ، وليس الكفار حلالا للمؤمنات. وهذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب رضي‌الله‌عنها ، وقد كانت مسلمة ، وهو على دين قومه ، فلما وقع في الأسارى يوم بدر ، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها ، كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقّ لها رقة شديدة ، وقال للمسلمين : «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا».

فأطلقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يبعث ابنته إليه ، فوفى له بذلك ، وصدقه فيما وعده ، وبعثها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع زيد بن حارثة رضي‌الله‌عنه ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر سنة اثنتين ، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان ، فردها عليه بالنكاح الأول ، ولم يحدث لها صداقا (١) ، كما قال الإمام أحمد عن ابن عباس : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ ابنته زينب على

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٥١

١٤٢

أبي العاص ، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ، ولم يحدث شهادة ولا صداقا» (١). ومنهم من يقول : بعد سنتين.

وأخرج عبد بن حميد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد» قال يزيد بن هارون : حديث ابن عباس أجود إسنادا ، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عدتها منه ، لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ، ولم يسلم ، انفسخ نكاحها منه.

٢ ـ (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي وادفعوا إلى أزواج المهاجرات من المشركين الذي غرموه عليهن من المهور. وهذا يدل على أن عهد صلح الحديبية اقتصر على ردّ الرجال دون النساء. قال الشافعي : وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها ، منع منها بلا عوض.

٣ ـ (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي لا إثم ولا حرج عليكم أيها المؤمنون في الزواج بالمؤمنات المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن ، وبشرط انقضاء العدة ، وتزويج الولي وغير ذلك.

٤ ـ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي ويحرم عليكم أيها المؤمنون زواج المشركات والاستمرار معهن في العصمة الزوجية ، فمن كانت له امرأة كافرة مشركة ، فليست له بامرأة ، لانقطاع عصمتها باختلاف الدين. وكان الكفار يزوجون المسلمين ، والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية. وهذا دال على تحريم صريح للمشركات ، وهو خاص بهن ، دون الكوافر من أهل الكتاب.

__________________

(١) ورواه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجه.

١٤٣

وينفسخ الزواج ببقاء الزوجة على الشرك ، ولا مانع من نكاح أختها أو نكاح امرأة خامسة ، ما دامت في العدة.

ثبت في الصحيح كما تقدم عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية ، جاءه نساء من المؤمنات ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) ـ إلى قوله ـ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ)فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين ، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية.

٥ ـ (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ ، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي وطالبوا بمهور نسائكم إذا ارتددن ، وليطالبوا بمهور نسائهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدة إلى الكفار من أهل العهد ، يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت : ردّوا مهرها على زوجها الكافر (١).

(ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجهتين ، والمذكور في صلح الحديبية واستثناء النساء منه هو حكم الله وشرعه يحكم به بين خلقه ، والحكم متعلق بالمشركين بعد صلح الحديبية ، بخلاف المشركين الذين لا عهد لهم. والله بليغ العلم لا تخفى عليه خافية ، بالغ العلم بما يصلح عباده ، بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله ، فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة.

قال ابن العربي : وكان هذا مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة (٢) ، أي رد المهور.

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٧٧٦

(٢) المرجع والمكان السابق ، تفسير القرطبي : ١٨ / ٦٨

١٤٤

٦ ـ (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ، فَعاقَبْتُمْ ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي إن سبقكم وانفلت منكم وذهبت امرأة من أزواجكم إلى الكفار ، بأن ارتدت المسلمة ورجعت إلى دار الكفر ، ولو أهل كتاب ، فأصبتم غنيمة من قريش أو غيرها بعد الانتصار في الحرب ، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة إذا لم يرد المشركون على زوجها مهرها ، واحذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم ، وخافوا الله تعالى بتنفيذ حكمه وشرعه.

قال ابن عباس وآخرون : يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار ، أمر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة قبل أن تخمّس ، أي قبل قسمتها أخماسا (١). فقوله : (فَعاقَبْتُمْ) معناه فغنمتم ، أو ظفرتم. وقال الزهري : يعطى من مال الفيء.

والخلاصة : على الكفار رد مهر المرأة التي تعود إلى دار الكفر ، فإن أمكن ذلك فهو الأولى ، وإلا فمن الغنائم التي تؤخذ من أيدي الكفار.

روي عن الزهري ومسروق : أن من حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم ، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة ، فأقر المسلمون بحكم الله تعالى ، وأبي المشركون ، فنزلت : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي سبقكم وانفلت منكم.

وقال الحسن ومقاتل : نزلت في أم حكيم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها عباس بن تميم القرشي ، ولم ترتد امرأة من غير قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ٧٠

١٤٥

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على الأحكام التالية :

١ ـ وجوب امتحان النسوة اللاتي هاجرن من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، ليعرف مدى صدق إيمانهن وإخلاص إسلامهن. قال ابن عباس : كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقا لرجل منّا ، بل حبّا لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك ، أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها ، فذلك قوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ).

٢ ـ أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاهد قريشا في صلح الحديبية ، من أنه يرد إليهم من جاءه منهم مسلما ، فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. ويرى بعضهم أن الآية نزلت بيانا لنص العقد ، وأنه ما تناول إلا الرجال ، غير أن هذا يكون من تخصيص العام المتأخر. وذهب جماعة إلى أن التعميم في عقد الصلح لم يكن من طريق الوحي ، بل كان اجتهادا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثيب عليه بأجر واحد ، وجاءت هذه الآية بعدم إقراره على هذا الاجتهاد. والتعميم الوارد في الصلح : «من جاء إلى محمد من قريش بدون إذن وليه ، رده عليه» (١).

ويرى الحنفية أن هذا الحكم كله منسوخ في الرجال والنساء ، ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد إليهم من جاءه مسلما ، لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز ، واستدلوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تراءى ناراهما» أي تتراءى ناراهما ، وهذا مجاز ، أي يلزم المسلم أن

__________________

(١) نص المعاهدة كما أخرج البخاري عن مروان والمسور : «أنه لا يأتيك أحد منا ، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ..» (نيل الأوطار : ٨ / ٣٧).

١٤٦

يباعد منزله عن منزل المشرك ، وينزل مع المسلمين في دارهم. فهذا ناسخ لردّ المسلمين إلى المشركين ، إذ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد برئ ممن أقام معهم في دار الحرب.

ومذهب مالك والشافعي : أن هذا الحكم غير منسوخ ، وعقد الصلح على ذلك جائز. قال الشافعي : وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره ، لأنه يلي الأموال كلها.

٣ ـ إن هذا الامتحان في الظاهر ، والله في الحقيقة أعلم بإيمانهن ، لأنه متولّي السرائر. فإذا علم ، أي غلب على الظن إيمان المهاجرات ، لم يجز ردهن إلى بلاد الكفار ، لأن الله لم يحل مؤمنة لكافر ، ولا نكاح مؤمن مشركة. وسبب الفرقة هو إسلام المرأة لا هجرتها ، لأن الله تعالى قال : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) فبيّن أن العلة عدم الحلّ بالإسلام ، وليس باختلاف الدار.

وقال أبو حنيفة ومالك : الذي فرّق بينهما هو اختلاف الدارين ، روي عن ابن عباس أن اختلاف الدارين يقطع العصمة.

وعلى هذا إذا خرجت الحربية مسلمة ، ولها زوج كافر في دار الحرب ، وقعت الفرقة بينهما ولا عدة عليها ، وقال أبو يوسف ومحمد : تقع الفرقة وعليها العدة. وإن أسلم الزوج بعد ذلك لم تحل له إلا بعقد زواج جديد ، وهو رأي سفيان الثوري.

وقال مالك والشافعي : إن أسلم الزوج في العدة أي قبل أن تحيض ثلاث حيض ، فهي امرأته ، ولا تحصل الفرقة إلا إذا انقضت العدة ، فإذا انقضت العدة ، فلا تحل له إلا بعقد جديد.

٤ ـ يجب على المسلمين أن يردوا على زوج المرأة التي أسلمت ما أنفق من المهر ، وذلك من الوفاء بالعهد ، حتى لا يخسر الأمرين : الزوجة والمال.

١٤٧

٥ ـ لا غرم للمهر إلا إذا طالب الزوج الكافر به ، فإن ماتت المرأة قبل حضور الزوج لم نغرم المهر ، إذ لم يتحقق المنع ، أي منعها منه ، وإن كان المهر المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا ، لأنه لا قيمة له.

وللشافعي في هذا الحكم قولان : أحدهما ـ أن هذا منسوخ ، والثاني ـ يعطى الزوج المهر إن طالب به ، وليس ذلك لأحد من الأولياء سوى الزوج.

٦ ـ إن المطالب برد مثل ما أنفق إلى الأزواج هو الإمام ، من بيت المال. وهذا الحكم ـ كما قال مقاتل ـ خاص برد صداق نساء أهل العهد ، فأما من لا عهد له مع المسلمين ، فلا يرد إليهم الصداق. وعلى هذا فلا مانع من العمل بهذا في المعاهدات التي تجري بين المسلمين وغيرهم في مثل تلك الحالة التي كان عليها المسلمون في الماضي ، فإذا عاهدناهم على رد ما أنفقوا على أزواجهم وجب الوفاء بالعهد.

٧ ـ يباح للمسلمين الزواج بالمهاجرات المسلمات إذا انقضت عدتهن ، لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدّة ، فإن أسلمت قبل الدخول ، فلها التزوج في الحال ، إذ لا عدة عليها.

٨ ـ قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) دليل على تحريم التزوج بالمشركات عبدة الأوثان ، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب ، أما الكتابيات (اليهوديات والنصرانيات) فيجوز الزواج بهن ، لقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) الآية [المائدة ٥ / ٥].

فإذا أسلم وثني أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرّق بينهما وهو مذهب المالكية. ومنهم من قال : ينتظر بها تمام العدة ، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال

١٤٨

الحنفية : إذا أسلمت المرأة ، عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فرّق بينهما.

وهذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها ، فإن كانت غير مدخول بها ، فلا خلاف في انقطاع العصمة بينها وبين زوجها ، إذ لا عدة عليها. وهذا مذهب مالك أيضا في المرأة المرتدة وزوجها مسلم ، لقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ). ومذهب الشافعي وأحمد : أنه ينتظر بها تمام العدة.

فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة : فمذهب مالك والشافعي وأحمد : الانتظار إلى تمام العدة ، وكذا الوثني تسلم زوجته ، فإنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها. ومن العلماء من قال : ينفسخ النكاح بينهما.

٩ ـ إذا ذهبت مسلمة مرتدة إلى الكفار من أهل العهد ، يطالب الكفار بمهرها ، وإذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة ، يرد إلى الكفار مهرها. وهذا الحكم كان مخصوصا بزمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد صلح الحديبية.

١٠ ـ إذا لم يدفع الكفار المعاهدون وغيرهم مهر امرأة ارتدت وذهبت إلى ديار الكفر ، وجب تعويض زوجها من غنائم الحرب. وقال قتادة : هذا خاص في الكفار المعاهدين ، ثم نسخ هذا في سورة براءة. وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضا.

١١ ـ حذر الله تعالى من مخالفة الأحكام السابقة ، فقال في الآية الأولى : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ذلكم الحكم الزموه ، وقال في الآية الثانية : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به.

١٤٩

مبايعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجرات (بيعة النساء)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

الإعراب :

(وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ يَفْتَرِينَهُ) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير (يَأْتِينَ) أو في موضع جر على الوصف ل (بِبُهْتانٍ).

(كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) : في موضع نصب ، لأنه يتعلق ب (يَئِسَ) وتقديره : يئسوا من بعث أصحاب القبور ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه.

البلاغة :

(وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) : كناية عن اللقيط.

(قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) تشبيه مرسل مجمل. وفي الآية ما يسمى رد العجز على الصدر ، فقد ختمت السورة بمثل ما بدئت به.

وقوله : (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) فيه وضع الظاهر موضع الضمير ، للدلالة على أن الكفر أيأسهم.

المفردات اللغوية :

(يُبايِعْنَكَ) البيعة : العقد والعهد على التزام الطاعة. (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) أي بوأد البنات. (بِبُهْتانٍ) أي بولد مفترى ملصق بالزوج كذبا. (يَفْتَرِينَهُ) الافتراء : الكذب ، والمراد يختلقن نسبة الولد إلى الزوج. (مَعْرُوفٍ) المعروف : كل ما ندب إليه الشرع من

١٥٠

المحسنات ، ونهى عنه من المستقبحات. والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأمر إلا به ، تنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق. (فَبايِعْهُنَ) أي إذا بايعنك فبايعهن ، أي فالتزم لهن بضمان الثواب حال الوفاء بهذه الأشياء. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) اطلب لهن المغفرة.

(قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) عامة الكفار ، أو اليهود إذ روي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ، ليصيبوا من ثمارهم. (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) لكفرهم بها ، أو لعلهم بأنه لا حظ لهم فيها لمعاندة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) من موتاهم أن يبعثوا ، أي يرجعوا أحياء.

سبب النزول :

نزول الآية (١٢):

نزلت يوم الفتح ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من بيعة الرجال ، أخذ في بيعة النساء. أخرج البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمتحن من هاجرن إليه بهذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) ـ إلى قوله ـ : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات ، قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد بايعتك» كلاما ، ولا ، والله ما مسّت يده يد امرأة في المبايعة قط ، ما بايعهن إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك».

وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : «كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمتحنّ بقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ) إلى آخر الآية. قالت عائشة : فمن أقرّ بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انطلقن فقد بايعتكن ، ولا والله ما مسّت يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة قطّ ، غير أنه بايعهن بالكلام. قالت عائشة : والله ، ما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفّ امرأة قط ، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن : قد بايعتكنّ كلاما».

١٥١

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب ، وكان يشترط عليهن.

وروى أحمد عن أميمة بنت رقية التيمية قالت : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نساء لنبايعه ، فأخذ علينا ما في القرآن : «ألا نشرك بالله شيئا ـ حتى بلغ ـ ولا يعصينك في معروف» فقال : فيما استطعتنّ وأطقتنّ ، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ، قلنا : يا رسول الله ، ألا تصافحنا؟ قال : إني لا أصافح النساء ، وإنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة» (١). وزاد أحمد في رواية : «ولم يصافح منا امرأة».

نزول الآية (١٣):

أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن عمر ، وزيد بن الحارث يوادّان رجلا من يهود ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) الآية.

المناسبة :

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال ، أخذ في بيعة النساء ، وهو على الصفا ، وعمر أسفل منه يبايع النساء ، بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويبلغهن عنه.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً ..) الآية : أي إذا جاءك المؤمنات بالله ورسوله يعاهدنك ويقصدن مبايعتك على الإسلام والطاعة ، فبايعهن على ألا يشركن بالله شيئا من وثن

__________________

(١) ورواه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم.

١٥٢

أو حجر أو ملك أو بشر ، ولا يسرقن من أموال الناس شيئا ، ولا يزنين (والزنى : الاعتداء على الأعراض) ولا يقتلن أولادهن : أي ولا يئدن البنات ، وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات ، ولا يلحقن بأزواجهن أولادا ليسوا لهم ، قال الفراء : كانت المرأة تلتقط المولود ، فتقول لزوجها : هذا ولدي منك. فكان هذا من البهتان والافتراء.

(وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) : وهو كل أمر وافق طاعة لله ، أي كل ما أمر به الشرع ، أو نهى عنه ، كالنهي عن النّوح ، وتمزيق الثياب ، وجزّ الشعر ، وشق الجيب ، وخمش الوجوه ، والدعاء بالويل ، والخلوة بالأجنبي غير المحرم ، فبايعهن ، واطلب من الله المغفرة لهن بعد هذه المبايعة منك ، إن الله غفور لذنوب عباده ، رحيم بهم ، فلا يعذبهم بما اقترفوه قبل الإسلام ، ويجزل لهم الثواب إذا وفّين بهذا العهد الذي حدث في فتح مكة.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال : أبا يعكن على ألا تشركن بالله شيئا ، قالت هند بنت عتبة ، وهي منتقبة ، خوفا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرفها ، لما صنعته بحمزة يوم أحد : والله ما عبدنا الأصنام ، وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال ، تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا تسرقن» فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وإني أصيب من ماله قوتنا؟ فقال أبو سفيان : هو لك حلال ، فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفها ، وقال : «أنت هند؟» فقالت : عفا الله عما سلف.

فقال : «ولا تزنين» فقالت هند : أو تزني الحرة؟ فقال : «ولا تقتلن أولادكن» أي لا تئدن البنات ولا تسقطن الأجنة ، فقالت هند : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر ، فأنتم وهم أبصر أو أعلم. فضحك عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه حتى استلقى ، وكان ابنها البكر حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر ، وتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٥٣

فقال : «ولا تأتين ببهتان تفترينه» وهو أن تلصق بزوجها ما ليس منه ، فقالت هند : والله ، إن البهتان لأمر قبيح ، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال : «ولا تعصينني في معروف» فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا ، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

وتحريم الزنى عام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اليدان تزنيان ، والعينان تزنيان ، والرّجلان تزنيان ، والفرج يصدق ذلك أو يكذّبه» (١).

وأكد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحريم النواح ، فقال : «ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية» (٢).

وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : «جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذ عليها : ألا يشركن بالله شيئا ، ولا يسرقن ، ولا يزنين ...» الآية ، قال : فوضعت يدها على رأسها حياء ، فأعجبه ما رأى منها ، فقالت عائشة : أقرّي أيتها المرأة ، فو الله ما بايعنا إلا على هذا ، قالت : نعم ، فبايعها بالآية».

ولم تقتصر بنود بيعة النساء عليهن ، وإنما بويع بها الرجال أيضا.

روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا» قرأ آية النساء ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا ، فعوقب ، فهو كفارة

__________________

(١) رواه مسلم عن أبي هرير بلفظ : «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى ، مدرك ذلك لا محالة ، فالعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليدان تزنيان ، وزناهما البطش ، والرجلان تزنيان وزناهما المشي ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» وأخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس بلفظ آخر.

(٢) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود.

١٥٤

له ، ومن أصاب من ذلك شيئا ، فستره الله ، فهو إلى الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له منها».

وروى محمد بن إسحاق وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال : «كنت فيمن حضر العقبة الأولى ، وكنا اثني عشر رجلا ، فبايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن يفرض الحرب ، على ألا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف ، وقال : فإن وفيتم فلكم الجنة».

ثم أكد تعالى النهي عن موالاة الكفار كما بدأ السورة ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي يا أيها المؤمنون برسالة الإسلام لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم ولعنهم واستحقوا الطرد والإبعاد من رحمته ، أولياء وأنصارا وأصدقاء ، وقد يئسوا من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عزوجل ، وأصبحوا لا يوقنون بالآخرة بسبب كفرهم وعنادهم ، بالرغم من قيام الأدلة والبينات والمعجزات على الإيمان بالله واليوم الآخر ، كيأسهم من بعث موتاهم ، لاعتقادهم عدم البعث.

قال ابن عباس : يريد حاطب بن أبي بلتعة يقول : لا تتولوا اليهود والمشركين ، وذلك لأن جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم ، فنهوا عن ذلك ، ويئسوا من الآخرة. يعني أن اليهود كذبت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم يعرفون أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنهم أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم إياه ، فهم يئسوا من الآخرة ، كما يئس الكفار من أصحاب القبور ، أي كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم أن يرجعوا أحياء. وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٥٥

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية الأولى على تحريم الشرك بالله ، والسرقة ، والزنى ، وقتل الأولاد ، أي وأد البنات الذي كان في الجاهلية ، وإلحاق الأولاد اللقطاء بغير آبائهم ، وعصيان شرع الله فيما أمر ونهى.

وقد صرح في الآية بأركان النهي في الدين وهي ستة ، ولم يذكر أركان الأمر ، وهي ستة أيضا : الشهادة ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والاغتسال من الجنابة ، لأن النهي دائم في كل الأزمان وفي كل الأحوال ، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد وأهم وأخطر. ولم تقتصر البيعة على هذه الأمور على النساء فقط ، وإنما بويع عليها وفد من الأنصار في بيعة العقبة الأولى ، فأصبح الحكم عاما للرجال والنساء.

وأكدت الآية الثانية تحريم موالاة الكفار وتزويدهم بأخبار المسلمين ، والإسرار إليهم ، واتخاذهم أصدقاء وأخلاء ، لأنهم لا يؤتمنون على مصالح المسلمين ، بل يخونونهم ويفيدون من ذلك في قتالهم ومعاداتهم ، ولأنهم قوم كفروا بالآخرة ولم يؤمنوا بالبعث والحساب ، ويئسوا من ثواب الآخرة ، كما يئس الكفار الأحياء من رجوع موتاهم أصحاب القبور إلى الدنيا.

١٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الصف

مدنيّة ، وهي أربع عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة الصف ، لقوله تعالى في مطلعها : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ، كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) [٤].

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين :

١ ـ نهت السورة السابقة في مطلعها وأثنائها وختامها عن موالاة الكفار من دون المؤمنين ، وأمرت هذه السورة بوحدة الأمة ووقوفها صفا واحدا تجاه الأعداء.

٢ ـ ذكرت السورة المتقدمة أحكام العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم داخل الدولة الإسلامية وخارجها ، وقت السلم ، وحرضت هذه السورة على الجهاد ورغبت فيه بسبب العدوان ، وأنّبت التاركين للقتال وشبهتهم ببني إسرائيل الذين عصوا موسى عليه‌السلام حين ندبهم للقتال ، ثم عصوا عيسى عليه‌السلام حين أمرهم باتباعه بعد إتيانه بالبينات والمعجزات ، واتباع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بشر به.

١٥٧

ما اشتملت عليه السورة :

إن محور السورة وموضوعها هو القتال وجهاد الأعداء ، والتضحية في سبيل الله تعالى ، وبيان ثواب المجاهدين العظيم ، وذلك من الأحكام التشريعية التي تعنى بها السور المدنية عادة.

وقد بدئت السورة بتسبيح الله سبحانه وتنزيهه وتمجيده تنبيها لعظمة منزلها ، وبيان خطورة ما ترشد إليه من وجوب الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية ، ووقوفها صفا واحدا في قتال الأعداء ، لرفع منار الحق ، وإعلاء كلمة الله تعالى ، ثم لوم الذين يخالفون بعملهم أقوالهم.

ثم حذرت من الفرقة والعصيان والمخالفة شأن بني إسرائيل الذين عصوا أمر موسى وعيسى عليهما‌السلام حينما أمرهم موسى بقتال الجبارين ، وأمرهم عيسى باتباعه واتباع الرسول أحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يأتي بعده وتلك بشارة به : (وَإِذْ قالَ مُوسى .. وَإِذْ قالَ عِيسَى ..) الآية ، ثم ضربت المثل للمشركين بمن يريد إطفاء نور الله بأفواههم : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا ..).

وأردفت ذلك بالبشارة والإخبار بنصرة الإسلام ودعوته وتفوقه وغلبته على سائر الأديان ، فهو دين الهدى والحق.

ثم رسمت طريق الهدى ، وأوضحت منهاج السعادة الكبرى وسبيل النجاة من العذاب الأخروي بإعلان الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس ، وبيان ثمرة الجهاد وهو النصر في الدنيا وثواب المجاهدين في الآخرة ، وأكدت ذلك بالأمر بنصرة دين الله عزوجل ، كمناصرة الحواريين دين عيسى عليه‌السلام : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ ..) الآيات ، وبالدعوة إلى نصرة دين الله يتناسب ختام السورة مع بدايتها.

١٥٨

فضلها :

أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن سلام قال : تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلينا رجلا رجلا ، فجمعنا ، فقرأ علينا هذه السورة ، يعني سورة الصف كلها.

وأخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام أيضا قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزوجل لعملناه ، فأنزل الله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قال عبد الله بن سلام ، فقرأها علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الدعوة إلى القتال في سبيل الله صفا واحدا

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤))

الإعراب :

(كَبُرَ مَقْتاً مَقْتاً) : تمييز منصوب ، وفاعل (كَبُرَ) يفهم بالتفسير ، وتقديره : كبر المقت مقتا ، مثل (كَبُرَتْ كَلِمَةً) [الكهف ١٨ / ٥]. و (أَنْ تَقُولُوا) مرفوع على الابتداء ، و (كَبُرَ مَقْتاً) : خبر مقدم ، وتقديره : قولكم ما لا تفعلون كبر مقتا ، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو أن تقولوا ما لا تفعلون ، أو هو فاعل (كَبُرَ).

١٥٩

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ صَفًّا) : منصوب على المصدر في موضع الحال ، و (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) : في موضع نصب على الحال من واو (يُقاتِلُونَ) أي يقاتلون مشبهين بنيانا مرصوصا.

البلاغة :

(لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) استفهام بأسلوب التوبيخ والإنكار ، وما في قوله (لِمَ) استفهامية حذفت ألفها تخفيفا.

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) بعد قوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) إطناب بتكرار اللفظ لبيان شدة قبح ما فعلوا. وقوله : (تَقُولُوا) و (تَفْعَلُونَ) بينهما طباق.

(كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) تشبيه مرسل مفصّل ، حذف منه وجه الشبه ، أي في المتانة والالتئام.

المفردات اللغوية :

(سَبَّحَ لِلَّهِ) نزهه ومجده ودل عليه ، واللام مزيدة. (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) جيء بقوله (ما) وليس (من) تغليبا للأكثر. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القوي الغالب القاهر في ملكه. (الْحَكِيمُ) في صنعه وتدبير أمور خلقه.

(لِمَ تَقُولُونَ لِمَ) مركبة من لام الجر وما الاستفهامية ، والأكثر حذف ألفها مع حرف الجر تخفيفا لكثرة استعمالهما معا ودلالتهما على المستفهم عنه ، أي لأي شيء تقولون : قد فعلنا ، مع أنكم لم تفعلوا ، والمقصود التأنيب والتوبيخ على المغالطة والكذب في طلب الجهاد وغيره ، مع أنهم انهزموا يوم أحد. (كَبُرَ) عظم. (مَقْتاً) المقت : أشد البغض. (يُحِبُ) يرضى ويكرم وينصر. (صَفًّا) أي صافين. (مَرْصُوصٌ) متراص من غير فرجة أو متلاصق محكم ، والرص : اتصال أجزاء البناء وإحكامه.

سبب نزول الآية (١ ، ٢):

أخرج الترمذي كما تقدم والحاكم وصححه والدارمي عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتذاكرنا ، فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه ، فأنزل الله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ،)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) فقرأها

١٦٠