التفسير المنير - ج ٢٨

الدكتور وهبة الزحيلي

٦ ـ إن مثل المنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم مثل الشيطان الذي سوّل للإنسان الكفر ، فلما كفر تبرأ منه ، مدعيا أنه يخاف عذاب الله.

فكانت عاقبة المنافقين واليهود مثل عاقبة الشيطان والإنسان ، حيث صارا إلى النار خالدين فيها على الدوام.

الأمر بالتقوى والعمل للآخرة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

البلاغة :

(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) كناية في كلمة (لِغَدٍ) كنى بها عن القيامة لقربها.

(الْجَنَّةِ) و (النَّارِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(نَفْسٌ) تنكيرها للتقليل أي تقليل الأنفس النواظر ، كأنه قال : فلتنظر نفس واحدة في ذلك. (ما قَدَّمَتْ) أي الذي قدمته من الأعمال الصالحة. (لِغَدٍ) هو يوم القيامة ، سمي به لقربه وتحقق وقوعه وتنكيره للتعظيم وإبهام أمره ، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لعظمه. (نَسُوا اللهَ) نسوا حق الله ، فتركوا طاعته. (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أنساهم أن يقدموا لها خيرا. (الْفاسِقُونَ) الكاملون في الفسق.

١٠١

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي لا يتساوى أصحاب النار الذين لم يعملوا ما ينقذهم منها ، فاستحقوا النار ، والذين استكملوا نفوسهم ، فاستأهلوا الجنة ، واحتج به الشافعية على أن المسلم لا يقتل بالكافر. (هُمُ الْفائِزُونَ) بالنعيم المقيم.

المناسبة :

بعد بيان أحوال المنافقين واليهود ، أمر الله تعالى بالتقوى التي هي التزام المأمورات واجتناب المنهيات ، وأمر بالعمل في الدنيا للآخرة ، ورغب في الإعداد للجنة ، وحذر من عمل أهل النار ، ووصف أهل الجنة المستحقين لها بالفائزين ، وأهل النار بالفاسقين.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ، وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، افعلوا ما أمر الله به ، واتركوا ما زجر عنه ، واتقوا عقابه ، ولتتأمل نفس أي شيء قدّمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة ، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، واتقوا الله ـ وكرر الأمر بالتقوى للتأكيد والحث على ما ينفع في الآخرة ـ فإن الله لا تخفى عليه من أعمالكم وأحوالكم خافية ، فهو مجازيكم بأعمالكم صغيرها وكبيرها ، قليلها وكثيرها.

ثم نهى الله تعالى عن التشبه بالذين أهملوا حقوق الله ، فقال :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ، أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي واحذروا أن تكونوا كالذين تركوا أمر الله ، وأهملوا حقوق الله الواجبة على العباد ، ولم يخافوا ربهم ، فجعلهم ناسين أنفسهم بسبب نسيانهم لربهم ، فلم يعملوا الأعمال الصالحة التي تنفعهم في المعاد ، وتنجيهم من العذاب ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وأولئك التاركون حقوق الله هم الخارجون الكاملون في الخروج

١٠٢

عن طاعة الله ، الهالكون يوم القيامة ، الخاسرون يوم معادهم.

وذلك كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المنافقون ٦٣ / ٩].

ثم قارن الله تعالى بين المحسنين والمسيئين لبيان أنه لا استواء بين الفريقين ، فقال :

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي لا يستوي مستحقو النار ومستحقو الجنة في حكم الله تعالى في الفضل والرتبة يوم القيامة ، أصحاب الجنة هم الظافرون بكل مطلوب ، الناجون من كل مكروه.

ونظير الآية كثير في القرآن ، مثل قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية ٤٥ / ٢١] وقوله سبحانه : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ، قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) [غافر ٤٠ / ٥٨]. وقوله عزوجل : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨].

وهذا ترغيب في العمل للجنة ، وترهيب من العمل للنار. ويلاحظ أن الآيات بدأت بالأمر بالتقوى ، ثم نهت عن نسيان حقوق الله ، ثم وازنت بين الطائعين والعصاة ، وكل ذلك لتأكيد الأمر بالتقوى وطاعة الله ، فبعد إرشاد المؤمنين إلى ما فيه مصلحتهم يوم القيامة : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) وتهديد الكافرين بقوله : (كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أبان تعالى الفرق بين الفريقين.

١٠٣

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ لزوم تقوى الله في أوامره ونواهيه ، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه.

٢ ـ أعاد الله تعالى الأمر بالتقوى مرة ثانية للتأكيد ، أو يحمل الأمر الأول على أداء الواجبات والتوبة فيما مضى من الذنوب ، والثاني على ترك المعاصي في المستقبل.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستشهد بهذه الآية في الحث في خطبه على عمل الخير والمعروف ، أخرج أحمد ومسلم عن المنذر بن جرير عن أبيه ، قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدر النهار ، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار (١) أو العباء ، متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر ، فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج ، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة ، فصلى ثم خطب ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) إلى آخر الآية [النساء ٤ / ١] وقرأ الآية التي في الحشر : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ).

«تصدّق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع برّه ، من صاع تمره» ، حتى قال : «ولو بشق تمرة». فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناس ، حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهّبة (٢) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) أي مخططي الثياب.

(٢) أي صفحة مموهة بالذهب.

١٠٤

«من سنّ في الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».

٣ ـ نهى الله تعالى عن التشبه بقوم تركوا أمر الله ـ والنهي يقتضي التحريم ـ حتى نسوا أنفسهم أن يعملوا لها خيرا ، فكانوا هم الفاسقين ، أي الذين خرجوا عن طاعة الله تعالى.

روى أبو القاسم الطبراني عن نعيم بن نمحة قال : كان في خطبة أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم ، فمن استطاع أن يقضي الأجل ، وهو في عمل الله عزوجل ، فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عزوجل ، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم ، فنهاكم الله عزوجل أن تكونوا أمثالهم : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ).

أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدّموا في أيام سلفهم ، وخلوا بالشّقوة والسعادة ، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن ، وحصّنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار ، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه ، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة ، واستضيئوا بسنائه وبيانه.

إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) لا خير في قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم (١).

٤ ـ هناك فرق واضح في حكم الله تعالى في الفضل والرتبة بين المؤمنين أهل

__________________

(١) قال ابن كثير : هذا إسناد جيد ، ورجاله كلهم ثقات (تفسير القرآن العظيم : ٤ / ٣٤٢).

١٠٥

الجنة ، وبين الكافرين أهل النار ، فالأولون ناجون فائزون بالمطلوب ، والآخرون فاسقون هالكون معذبون.

٥ ـ احتج الشافعية بآية : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ ...) على أن المسلم لا يقتل بالكافر الذمي ، وإلا استويا ، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالقهر وإلا استويا.

مكانة القرآن وعظمة منزّله ذي الأسماء الحسنى

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

الإعراب :

(لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) منصوبان على الحال من هاء (لَرَأَيْتَهُ) لأن (رأيت) من رؤية البصر.

(الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ الْمُصَوِّرُ) من صوّر يصوّر ، لا من صار يصير فهو مصيّر ، وهو مرفوع على أنه وصف بعد وصف ، أو خبر بعد خبر. وقرئ المصور وهو آدم عليه‌السلام وأولاده ، والمعنى : الخالق الذي برأ المصوّر ، وقرئ (الْمُصَوِّرُ) بالجر على الإضافة ، كقولهم : الضارب الرجل ، بالجر حملا على الصفة المشبهة باسم الفاعل ، كقولهم : الحسن الوجه.

١٠٦

البلاغة :

(لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) تمثيل وتخييل مثل آية : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ..).

(الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) أي وجعل فيه تمييز ووعي كالإنسان. (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً خاشِعاً) منقادا خاضعا ، و (مُتَصَدِّعاً) متشققا. (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وتلك الأمثال المذكورة يراد بها توبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن ، لقساوة قلبه ، وقلة تدبّره.

(الْغَيْبِ) ما غاب عن الحس والمشاهدة من العوالم غير المرئية. (الشَّهادَةِ) عالم الماديات والمرئيات المشاهدة المحسوسة ، وقدم الغيب على الشهادة ، لأن الغيب معدوم متقدم في الوجود ، والشهادة موجود متأخر. (الْقُدُّوسُ) الطاهر المنزه عما لا يليق به من النقص. (السَّلامُ) ذو السلامة من كل نقص وآفة. (الْمُؤْمِنُ) المصدّق رسله فيما بلّغوه عنه بالقول ، أو بخلق المعجزة على أيديهم ، أو هو واهب الأمن لعباده. (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب على أعمال عباده ، الحافظ لكل شيء. (الْعَزِيزُ) القوي الغالب. (الْجَبَّارُ) الذي جبر خلقه على ما أراد. (الْمُتَكَبِّرُ) البليغ الكبرياء والعظمة ، الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا. (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزه الله عما يصفه به المشركون من الصاحبة والولد والشريك ، فلا يشاركه أحد من خلقه في شيء من ذلك.

(الْخالِقُ) المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته. (الْبارِئُ) المنشئ من العدم ، الموجد للأشياء بريئا من التفاوت. (الْمُصَوِّرُ) الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التسعة والتسعون الوارد بها الحديث ، والحسنى : مؤنث الأحسن ، وقد وصفت بالحسنى ، لأنها دالة على محاسن المعاني التي تظهر في هذا الوجود ، فإن جمال الكون البديع دليل على كمال صفات الموجد المبدع.

(يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ينزهه جميع المخلوقات ، لتنزهه عن النقائص كلها. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الجامع للكمالات كلها المتمثلة في كمال القدرة والعلم.

المناسبة :

بعد بيان أحوال اليهود والمنافقين ، وأمر المؤمنين بالتقوى والاستعداد ليوم

١٠٧

القيامة ، عظّم الله عزوجل أمر القرآن الذي يعلم منه هذا البيان ، ونبّه إلى عظمة منزّل القرآن ذي الأسماء الحسنى الذي انقادت السموات والأرض لحكمه وأمره ونهيه ، وتنزه عن النقائص.

التفسير والبيان :

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي لقد بلغ من شأن القرآن وعظمته وبلاغته واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب ، أنه لو أنزل على جبل من الجبال ، وجعل له عقل كما جعل للبشر ، لرأيت الجبل ، مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة ، خاشعا خاضعا متذللا منقادا ، متشققا من خوف الله ، حذرا من عقابه ، وخوفا من عدم أداء ما يجب عليه من تعظيم كلام الله تعالى.

وهذا تعظيم لشأن القرآن ، وتمثيل لعلو قدره وشدة تأثيره على النفوس ، لما فيه من المواعظ والزواجر ، ولما اشتمل عليه من الوعد الحق والوعيد الأكيد ، فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته ، لو فهم هذا القرآن لخشع وتصدع من خوف الله عزوجل ، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه ، ولهذا قال تعالى :

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ، لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وهذه الأمثال المذكورة نضربها لجميع الناس ، لعلهم يتفكرون فيما يجب عليهم التفكر فيه ليتعظوا بالمواعظ ، وينزجروا بالزواجر ، وقد قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) الآية [الرعد ١٣ / ٣١] أي لكان هذا القرآن. وثبت في الحديث المتواتر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما عمل له المنبر ، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد ، فلما وضع المنبر أول ما وضع ، وجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخطب ، فجاوز الجذع إلى نحو المنبر ، فعند

١٠٨

ذلك حنّ الجذع ، وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكّت ، لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده.

والمراد بالآية التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار ، وغلظ طباعهم ، وتوبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن ، فإذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته ، لخشعت وتصدعت من خشيته ، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟!!

ثم عظم الله تعالى شأن القرآن بوجه آخر ، وهو التنبيه على أوصاف منزّله فقال :

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أي إن الله منزل القرآن ، هو الذي لا إله إلا هو ، فلا رب غيره ، ولا إله للوجود سواه ، وكل ما يعبد من دونه فباطل ، وأنه عالم ما غاب عن الإحساس وما حضر ، يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، من جليل وحقير ، وصغير وكبير ، في الذرّ (النمل الأسود) في الظلمات ، وأنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات ، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف ٧ / ١٥٦] وقال سبحانه : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام ٦ / ٥٤].

ثم ذكر الله تعالى أوصافا أخرى لنفسه ، فقال :

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ ، الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أكد تعالى صفة الوحدانية مرة أخرى ، وكرر ذلك للتأكيد والتقرير في مطلع هذه الآية كالتي قبلها ، فهو تعالى الإله الواحد الذي لا شريك له ، المالك لجميع الأشياء ، المتصرف فيها ، بلا ممانع

١٠٩

ولا مدافع ، الظاهر من كل عيب ، المنزه عن كل نقص ، الذي سلم من كل نقص وعيب لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله ، وسلم الخلق من ظلمه ، والواهب الأمن والصدق لأنبيائه بالمعجزات ، وأمن خلقه من أن يظلمهم ، فهو المصدق لرسله بإظهار المعجزات ، وللمؤمنين بما وعدهم به من الثواب ، وهو الشاهد الرقيب على عباده بأعمالهم ، فهو بمعنى الرقيب عليهم ، كقوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج ٨٥ / ٩]. وقوله : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) [يونس ١٠ / ٤٦]. وقوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد ١٣ / ٣٣].

وهو القاهر الغالب غير المغلوب ، الذي قد عزّ كل شيء ، فقهره وغلب الأشياء ، ذو الجبروت أي العظمة ، الذي تكبر عن كل نقص ، وتعظم عما لا يليق به ، والكبر في صفات الله مدح ، وفي صفات المخلوقين ذم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث القدسي الصحيح : «العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدا منهما عذّبته» (١).

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه الله عما يصفه به المشركون من إشراكهم بالله غيره ، كالصاحبة والولد والشريك.

ثم قال الله تعالى :

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ ، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي هو الله الخالق أي المقدّر للأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته ، البارئ ، أي المنشئ المخترع للأشياء الموجد لها ،

__________________

(١) أخرجه مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري بلفظ : «العز إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته» وفي رواية : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، فمن نازعني في واحد منهما قصمته ثم قذفته في النار».

١١٠

فالخلق : التقدير ، والبرء : هو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود ، وليس كل من قدر شيئا ورتّبه ، يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عزوجل ، وهو المصوّر ، أي الموجد للصور على هيئات مختلفة ، وصفات أرادها ، كما قال : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار ٨٢ / ٨] وله الأسماء والصفات الحسنى التي لا يماثله أحد فيها ، لعزته ، ومن عزته كان منزها عن النقائص ، أهلا للتسبيح ، ينطق بتنزيهه بلسان الحال أو المقال كل ما في السموات والأرض ، ومن حكمته أنه أمر المكلفين في السموات والأرض بأن يسبحوا له ليربحوا ، لا ليربح هو عليهم ، كما قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].

وهو القوي الغالب القاهر الذي لا يغالبه مغالب ، الشديد الانتقام من أعدائه ، الحكيم في تدبير خلقه وشرعه وقدره ، وفي كل الأمور التي يقضي فيها ، فهو كامل القدرة ، كامل العلم.

وإنما قدم ذكر الخالق على البارئ ، لأن ترجيح الإرادة مقدم على تأثير القدرة ، وقدم البارئ على المصور ، لأن إيجاد الذوات مقدم على إيجاد الصفات.

وتقدم بيان أسماء الله الحسنى في الآية (١٨٠) من سورة الأعراف والآية (١١٠) من سورة الإسراء.

ويحسن ذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر» ورواه أيضا الترمذي وابن ماجه بالزيادة التالية ، وأذكر هنا لفظ الترمذي :

«هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الغفّار ،

١١١

القهّار ، الوهّاب ، الرزّاق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ، المذلّ ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العليّ ، الكبير ، الحفيظ ، المغيث ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحقّ ، الوكيل ، القويّ ، المتين ، الوليّ ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيّوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصّمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البرّ ، التوّاب ، المنتقم ، العفوّ ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغنيّ ، المعي ، المعطي ، المانع ، الضارّ ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ حثّ الله تعالى ، على تأمل مواعظ القرآن ، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبّر ، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها ، لانقادت لمواعظه ، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة أي ذليلة ، متصدعة ، أي متشققة من خشية الله ، كما ذكر القرطبي.

٢ ـ إن هذا المثل للناس للتفكر والتدبر ، فإنه لو نزل هذا القرآن على جبل كما تقدم ، لخشع لوعده وتصدّع لوعيده.

٣ ـ الله تعالى عالم السرّ والعلانية ، وما كان وما يكون ، ما لم يعلم العباد ولا عاينوه ، وما علموا وشاهدوا ، وعالم بالآخرة والدنيا ، وهو الواسع الرحمة ، المنعم بجلائل النعم ودقائقها.

١١٢

٤ ـ الله تعالى مالك الملك ، القدّوس (المنزّه عن كل نقص ، والطاهر من كل عيب) ، السلام (ذو السلامة من النقائص) المؤمن (المصدّق لرسله بإظهار معجزاته على أيديهم ، ومصدّق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب ، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب) المهيمن (الرقيب الحافظ لكل شيء) العزيز (الغالب القاهر) الجبار (العظيم) المتكبر (الذي تكبر بربوبيته ، فلا شيء مثله) والكبرياء في صفات الله مدح ، وفي صفات المخلوقين ذمّ.

وهو المنزه لجلالته وعظمته عما يشرك به المشركون ، والخالق (المقدّر) والبارئ (المنشئ المخترع) والمصوّر (مركب الصور على هيئات مختلفة) وله الأسماء والصفات الحسنى ، وينزهه جميع ما في السموات والأرض ، وهو العزيز الحكيم (كامل القدرة وكامل العلم).

عن أبي هريرة قال : سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اسم الله الأعظم ، فقال : يا أبا هريرة ، عليك بآخر سورة الحشر ، فأكثر قراءتها ، فأعدت عليه فأعاد علي ، فأعدت عليه فأعاد علي. وقال جابر بن زيد : إن اسم الله الأعظم هو الله ، لمكان هذه الآية.

وعن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الحشر ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أصاب عبدا همّ ولا حزن ، فدعا بهذا الدعاء (أي بأسماء الله الحسنى) إلا أذهب الله همّه وحزنه ، وأبدله مكانه فرجا».

وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعا : اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر. وفي رواية عبد الرحمن النيسابوري عن البراء عن علي رضي‌الله‌عنهما أنه قال : يا براء ، إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم ، فاقرأ من أول

١١٣

سورة الحديد عشر آيات ، وآخر الحشر ، ثم قل : يا من هو كذلك ، وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا وكذا ، فو الله لو دعوت علي لخسف بي.

وأخرج الديلمي عن علي وابن مسعود مرفوعا أنه قال في قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا) إلى آخر السورة : هي رقية الصداع.

١١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الممتحنة

مدنيّة ، وهي ثلاث عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة الممتحنة (بكسر الحاء) أي المختبرة ، بإضافة الفعل إلى المرأة مجازا ، كما سميت سورة (براءة) : المبعثرة والفاضحة ، لما كشفت عيوب المنافقين. ويقال : (الممتحنة) بفتح الحاء وهو المشهور بإضافة الفعل حقيقة إلى المرأة التي نزلت فيها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، قال الله تعالى : (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) [١٠] الآية. وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ، ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة الحشر من وجهين :

١ ـ ذكر في الحشر موالاة المؤمنين بعضهم بعضا ، ثم موالاة الذين نافقوا للكفار من أهل الكتاب ، وافتتحت هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتخاذ الكافر أولياء ، لئلا يشابهوا المنافقين في ذلك ، وكرر النهي في السورة ، ثم ختمت به.

٢ ـ كانت سورة الحشر في المعاهدين من أهل الكتاب ، وهذه السورة للمعاهدين من المشركين ، لأنها نزلت في صلح الحديبية ، فالسورتان تشتركان في بيان علاقات المسلمين مع غيرهم.

١١٥

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية في بيان الأحكام التشريعية ، وهي هنا أحكام المتعاهدين من المشركين ، والذين لم يقاتلوا المسلمين ، والمؤمنات المهاجرات وامتحانهن.

ابتدأت السورة بالنهي عن موالاة المشركين وأسباب ذلك وهي إيذاء المؤمنين وعداوتهم لله ولمن آمنوا ، وإلجاؤهم إلى الهجرة وترك الديار والأوطان.

ثم ذكرت أن القرابة أو الصداقة غير نافعة يوم القيامة ، وإنما النافع للإنسان هو الإيمان والعمل الصالح : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ..).

وأعقبت ذلك بضرب الأمثال بقصة إبراهيم ومن معه من المؤمنين ، وتبرؤهم من قومهم المشركين ، ليتخذ المؤمن أبا الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن قدوة وأسوة طيبة : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ..) الآيات.

ثم وضعت أصول العلاقات بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب في حالتي السلم والحرب ، والمودة والعداوة : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ .. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ) الآيات.

وانتقل البيان عقب ما ذكر إلى حكم العلاقات مع المشركين فيما يتعلق بالنساء المؤمنات ، وضرورة امتحانهن عند الهجرة لدار الإسلام ، وعدم ردهن إلى الكفار في دار الكفر وإيتاء أزواجهن مهورهن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ ..) الآيات.

واستتبع ذلك بيان حكم مبايعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهن ، وشروط البيعة وبنودها ، وأصولها في الإسلام وداره.

وختمت السورة بتأكيد النهي عن موالاة أعداء المؤمنين من المشركين

١١٦

والكفار ، حرصا على وحدة الأمة والملة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً ...).

النهي عن موالاة الكفار

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

الإعراب :

(تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تُلْقُونَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو. (لا تَتَّخِذُوا) أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ملقين. وكذلك : (وَقَدْ كَفَرُوا ..) حال من واو (لا تَتَّخِذُوا).

(يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا ... جِهاداً فِي سَبِيلِي يُخْرِجُونَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو (كَفَرُوا). و (أَنْ تُؤْمِنُوا) : في موضع نصب على المفعول لأجله. وإن في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) حرف شرط ، وجوابه فيما تقدم ، لدلالة الكلام عليه ، وهو (لا تَتَّخِذُوا) أي فلا تتخذوهم أولياء ، فهذا متعلق بقوله : (لا تَتَّخِذُوا) يعني لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. و (جِهاداً) و (ابْتِغاءَ) منصوبان على المفعول لأجله ، أو على المصدر في موضع الحال ، وتقديره : مجاهدين في سبيلي ، ومبتغين لمرضاتي. و (تُسِرُّونَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال ، تقديره : مسرّين إليهم بالمودة ، أو بدل من قوله : (تُلْقُونَ) ، وباء (بِالْمَوَدَّةِ) زائدة أو ثابتة غير زائدة.

١١٧

(يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ) ظرف ، وعامله : إما (تَنْفَعَكُمْ) أو (يَفْصِلُ). ويفصل بينكم المبني للمعلوم تقديره : يفصل الله بينكم ، وقرئ مبنيا للمجهول. (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيكون (بَيْنَكُمْ) قائما مقام الفاعل ، إلا أنه بني على الفتح ، كقوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام ٦ / ٩٤] أي وصلكم.

البلاغة :

(تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ ..) عتاب وتوبيخ.

(أَخْفَيْتُمْ) و (أَعْلَنْتُمْ) بينهما طباق ، فالإخفاء يقابل الإعلان.

المفردات اللغوية :

(عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) عدو الله : من كفر به أو أشرك ، ولم يؤمن بما أنزل في كتبه وعدو المؤمنين : من خانهم أو أضر بمصالحهم ، أو قاتلهم أو عاون على مقاتلتهم ، مثل كفار مكة في الماضي والماديين الملحدين الذين لا يؤمنون بوجود الله أو يؤمنون بألوهية أحد من البشر بتأويلات باطلة في عصرنا. (أَوْلِياءَ) أصدقاء جمع ولي ، أي صديق توليه بالسر. (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) تفضون إليهم المودة ، والمراد هنا النصيحة بالمكاتبة وإرسال أخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم. (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) أي دين الإسلام والقرآن. (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة بالتضييق عليكم. (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) أي لأجل أن آمنتم ، وفيه تغليب المخاطب في عهد التنزيل ، والتفات من الخطاب إلى الغيبة ، للدلالة على ما يوجب الإيمان ، وهو تعليل لقوله : (يُخْرِجُونَ) أي يخرجونكم لإيمانكم بالله تعالى.

(إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي خرجتم من أوطانكم للجهاد في سبيل الله وطلب مرضاته أي رضائه. (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) أي أنا أعلم منكم ، والباء في قوله : (بِما أَخْفَيْتُمْ) مزيدة ، وما : موصولة أو مصدرية. (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) يفعل الاتخاذ. (ضَلَ) أخطأ طريق الهدى. (سَواءَ السَّبِيلِ) السواء في الأصل : الوسط ، والمراد هنا الطريق المستوي وهو طريق الحق.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يظفروا بكم. (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) بالقتل والضرب. (وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي بما يسوؤكم بالسب والشتم. (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) تمنوا كفركم. (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) لن تفيدكم قراباتكم. (وَلا أَوْلادُكُمْ) الذين توالون المشركين لأجلهم. (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) يفرق بينكم من شدة الهول ، فيفرّ بعضكم من بعض. ويفصل بالبناء للفاعل بالتخفيف أو التشديد أي الله عزوجل ، وقرئ يفصل بالبناء للمجهول مع التشديد ، أو التخفيف ، ونفصل ونفصّل.

١١٨

سبب النزول :

نزول الآية (١):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ..) : أخرج الشيخان وبقية الأئمة عن علي رضي‌الله‌عنه قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود ، فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (١) ، فإن بها ظعينة (٢) ، معها كتاب ، فخذوه منها ، فأتوني به ، فخرجوا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي من كتاب ، فقلنا : لتخرجن الكتاب ، أو لنلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة ، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما هذا يا حاطب؟ قال : لا تعجل علي يا رسول الله ، إني كنت امرءا ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات ، يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من نسب فيهم أن أتخذ يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدق.

وفيه أنزلت هذه السورة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ، تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) الآية.

وتفصيل القصة والكتاب : «أن مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها : سارّة ، أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، وهو متجهز لفتح مكة سنة ثمان من الهجرة ، فعرضت حاجتها ، فحث بني المطلب على الإحسان إليها ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة ، وأعطاها عشرة دنانير ، وكساها بردا ، واستحملها كتابا

__________________

(١) موضع بين مكة والمدينة على اثني عشر ميلا من المدينة.

(٢) الظعينة : المرأة في الهودج.

١١٩

إلى أهل مكة ، هذه نسخته : «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة : اعلموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم ، فخذوا حذركم» فخرجت سارّة ، ونزل جبريل عليه‌السلام بالخبر ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا رضي‌الله‌عنه وعمارا وعمرا وفرسانا أخر ، وقال :

انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة ، معها كتاب ، فخذوه منها ، فإن أبت ، فاضربوا عنقها ، فأدركوها فجحدته وحلفت ، فهموا بالرجوع ، فقال علي رضي‌الله‌عنه : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسلّ سيفه ، وقال :

أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك ، فأخرجته من عقاص شعرها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحاطب : ما حملك عليه؟ فقال : يا رسول الله ، ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن كنت غريبا في قريش ، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة ، يحمون أهاليهم وأموالهم ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا ، فصدّقه وقبل عذره ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : وما يدريك يا عمر ، لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر ، فقال لهم : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم ، وأنزلت السورة».

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ، تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تتخذوا عدوي وعدوكم (١) أنصارا وأصدقاء وأعوانا لكم ، توصلون إليهم أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، بسبب

__________________

(١) العدو يطلق على الواحد والجمع.

١٢٠