التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

وبعد الرد على إنكار الألوهية ، رد الله تعالى على من قال : الملائكة بنات الله ، فقال :

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أي بل أتجعلون لله البنات ، وتخصون أنفسكم بالبنين؟ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، فمن كان هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء ، ولا يستبعد منه إنكار البعث ، وجحد التوحيد.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتسألهم أجرة يدفعونها إليك على تبليغك الرسالة ، فهم من التزام غرامة تطلبها منهم محمّلون غرما ثقيلا ، فلا يسلمون ولا يجيبون دعوتك؟ الواقع لست تسألهم على ذلك شيئا ، ولا تطلب منهم أدنى شيء يشق عليهم ويثقلهم. وهذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجرا ما.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب ، وهو ما في اللوح المحفوظ ، فيكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب؟ ليس الأمر كذلك ، فإنه لا يعلم أحد الغيب إلا الله. قال قتادة : لما قالوا : نتربص به ريب المنون ، قال الله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) حتى علموا متى يموت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو إلى ما يؤول إليه أمره.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي إن كنتم تعلمون الغيب فأنتم كاذبون ، وإن كنتم تظنون أنكم تقدرون عليه ، فأنتم غالطون ، فإن الله يصونه عنكم وينصره عليكم ، فإن كنتم تريدون تدبيرا أو مكرا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإهلاكه ، فالكافرون هم الممكور بهم ، المجزيون بكيدهم. ولام (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) لهؤلاء الكفار أو للجنس ، فيشملهم وغيرهم. وتنكير الكيد إشارة إلى وقوع العذاب بغتة من حيث لا يشعرون. وصرح بقوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) للدلالة على كون الكافر مكيدا في مقابلة كفره ، لا في مقابلة إرادته الكيد.

٨١

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي بل ألهم إله غير الله يحرسهم من عذاب الله؟ تنزه الله عن الشريك والمثيل والنظير وعن كل ما يعبدونه سواه. وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله ، وتنزيه الله نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن إثبات وجود الله ووحدانيته وقدرته على الحشر هو خلق الأنفس والآفاق ، أي خلق الإنسان والحيوان والنبات من غير سابق وجود ، وخلق السموات والأرض بعد العدم ، فالخلق دليل على وجود الله تعالى ، وهو الدليل الأعظم الذي ذكره القرآن الكريم ، كما قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل ١٦ / ١٧].

والانفراد بالخلق دليل على وحدانية الخالق ، لأن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد. والخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر.

وإذا أقر الكفار بأن ثمّ خالقا ، فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام ، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث.

وهم يقرون بأنه لا يعقل وجودهم من غير رب خلقهم وقدّرهم ، كما يقرون إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض بأنه هو الله ، فلم لا يوقنون بالحق ، كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان ٣١ / ٢٥].

٢ ـ أنكر القرآن على الكفار اعتراضهم على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه هل عندهم خزائن الرحمة والغيب والرزق حتى يختاروا للنبوة من أرادوه ، أو أنهم المصيطرون على العالم الغالبون حتى يدبروا أمر العالم على حسب مشيئتهم؟

٨٢

٣ ـ ثم أنكر القرآن على الكفار قدرتهم على شيء من علم الغيب ، ومضمون ذلك : أيدّعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا يستمعون الأخبار ، ويصلون به إلى علم الغيب ، كما يصل إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الوحي ، فإذا صح ذلك فليأت مستمعهم على صحة ادعائه بحجة بيّنة أن هذا الذي هم عليه حق. وهذا تتميم للدليل السابق لإثبات النبوة.

٤ ـ سفّه القرآن أحلام كفار قريش وأمثالهم وقرّعهم ووبخهم في قولهم : الملائكة بنات الله ، وهذا إشارة إلى نفي الشرك. فهل يعقل أن يكون لله البنات ، وللبشر البنون؟ ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث.

٥ ـ ثم أكد الحق سبحانه صدق نبوة عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل أنه لا يطلب أجرا على تبليغ الرسالة ، فهم من المغرم الذي يطالبهم به مجهدون لما كلفهم به. ثم أضاف دليلا آخر وهو أنه ليس عندهم علم بالغيب يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيب.

٦ ـ أخبر الله تعالى بأنه عاصم نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السوء والشر ومكائد أعدائه ، فإنهم إن أرادوا به شرا ومكيدة ومكرا كما دبروا في دار الندوة ، فإنهم المهزومون المغلوبون الممكور بهم الذين يعود عليهم وبال الكيد : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر ٣٥ / ٤٣] وذلك أنهم قتلوا ببدر ، وأظهر الله دين الإسلام.

٧ ـ أعاد الله تعالى إثبات التوحيد ونفي الشرك ، فقال موبخا : هل لهم إله غير الله يخلق ويرزق ويمنع ، تنزّه الله وتعالى وتقدس عن نسبة الشرك له أو أن يكون له شريك ، فإن الشريك دليل العجز ، والإله الحق يتميز بالقدرة المطلقة التي تشمل الكون كله وما فيه من مخلوقات حتى تصح الدينونة والخضوع والانقياد والعبادة له دون غيره.

٨٣

وهذا تصريح بالمقصود الكلي من الآيات ، لذا وبخهم على إشراكهم ، ونزه نفسه عن ذلك بقوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن إشراكهم وعن الذين يشركون.

الإعراض عن الكفار لمكابرتهم في المحسوسات

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

الاعراب :

(كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً ساقِطاً) إما مفعول به ثان ، أو حال.

(يَوْمَهُمُ) مفعول (يُلاقُوا). و (يَوْمَ لا يُغْنِي) منصوب على البدل من (يَوْمَهُمُ) وليس بمنصوب على الظرف.

(وَإِدْبارَ النُّجُومِ) إدبار بكسر الهمزة : مصدر أدبر يدبر إدبارا ، وتقديره : وسبّحه وقت إدبار النجوم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرئ بفتح الهمزة ، على أنه جمع دبر : وهو منصوب لأنه ظرف زمان.

البلاغة :

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) أسلوب الفرض والتقدير ، أي لو رأوا ذلك لقالوا ما قالوا.

(بِأَعْيُنِنا) مجاز عن الحفظ.

٨٤

المفردات اللغوية :

(كِسْفاً) قطعة. (يَقُولُوا) من فرط طغيانهم وعنادهم. (سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي هذا سحاب تراكم بعضه على بعض ، نرتوي به ، ثم لا يؤمنون. والآية جواب قولهم : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٧].

(فَذَرْهُمْ) اتركهم وأعرض عنهم. (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) يموتون أو يقتلون. (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي لا يفيد شيئا من الإغناء في ردّ العذاب. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون من عذاب الله تعالى في الآخرة. (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بكفرهم ، وهو يحتمل العموم والخصوص فإن كان العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم ، وإن كان العذاب هو عذاب يوم بدر فالذين ظلموا هم أهل مكة. (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي دون عذاب الآخرة ، أي في الدنيا قبل موتهم ، كعذاب الجوع والقحط سبع سنين ، والقتل يوم بدر ، أو عذاب القبر.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم وتبليغ الرسالة ، ولا يضق صدرك بعنائهم وإعراضهم وجدالهم. (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) بمرأى منا ، نراك ونحفظك ونكلؤك ، وجمع مبالغة بكثرة أسباب الحفظ. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) قارنا التسبيح بالتحميد ، فقل : سبحان الله وبحمده (حِينَ تَقُومُ) من منامك أو من مجلسك أو إلى الصلاة ، أي من أي مكان قمت. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) نزهه بقولك : سبحان الله ، وخصه بالليل وقدمه على الفعل ، لأن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء. (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي عقب غروبها سبحه أيضا ، أي إذا أدبرت النجوم من آخر الليل.

المناسبة :

بعد تفنيد مزاعم المشركين في الحشر والمعاد ، والألوهية والوحدانية ، والنبوة والشرك ، وإثبات المعاد والتوحيد وصدق النبوة ونفي الشرك ، أجاب الله تعالى عن بعض مقترحاتهم بإسقاط قطعة من السماء تعذيبا لهم ، وبين مدى مكابرتهم في إنكار المحسوسات ، فضلا عن المعقولات ، ثم أمر نبيه بالإعراض عنهم ، والصبر على مساوئهم ومكائدهم ، فإن الله ناصرك عليهم وحافظك ، وأخبره بأن العذاب واقع بهم في الدنيا قبل الآخرة ، وقوّى معنوية نبيه بالاعتصام بالله ، والإقبال على طاعته ، وذكره صباحا ومساء ، نهارا وليلا حين يقوم من منامه أو من مجلسه أو بعد غياب النجوم ، وإصباح الصباح.

٨٥

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن عناد المشركين ومكابرتهم للمحسوس ، فيقول :

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا : سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي إن ير هؤلاء المشركون قطعة من نار السماء ساقطة عليهم لتعذيبهم ، لما صدقوا ولما أيقنوا ، ولما انتهوا عن كفرهم ، بل يقولون : هذا سحاب متراكم ملقى بعضه على بعض ، نرتوي به. وهذه غاية المكابرة ، لأنهم ينكرون ما تبصره الأعين وتشاهده النفوس.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقالُوا : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر ١٥ / ١٤ ـ ١٥].

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي إذا كان هذا شأنهم وتبين أنهم لا يرجعون عن كفرهم ، فدعهم يا محمد ولا تأبه بهم حتى يلقوا أو يأتي يوم مجازاتهم بأعمالهم السيئة الذي يحدث فيهم هلاكهم السريع ، وهو يوم موتهم أو قتلهم وهو يوم بدر ، وهو الظاهر في الآية كما قال البقاعي ، لأنهم عذبوا فيه ، أو يوم النفخة الأولى يوم القيامة ، لأن صعقته تعم جميع الخلائق ، وهو قول الجمهور ، كما ذكر أبو حيان.

وإسقاط كلمة الإشارة قبل كلمة (سَحابٌ) أي هذا سحاب لوضوح الأمر وظهور العناد ، كما أن كلمة (يَقُولُوا) تدل على العناد.

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي ذلك اليوم يوم لا ينفعهم فيه مكرهم ولا كيدهم الذي كادوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا ، ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع ولا ينصرهم ناصر ، بل هو واقع بهم لا محالة.

٨٦

والكيد : هو فعل يسوء من نزل به ، وإن حسن ممن صدر منه. وإنما قال تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي ...) للرد على ما كانوا يعتقدون أنه أحسن أعمالهم.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وإن للظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي وكيد النبي وعبادة الأوثان عذابا في الدار الدنيا وهو قتلهم يوم بدر ، أو هو مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا ، وذهاب الأموال والأولاد ، والقحط والجوع سبع سنين قبل يوم بدر الذي حدث في السنة الثانية من الهجرة ، غير أن أكثرهم لا يعلمون ما سينزل بهم من عذاب الله وبأسه وبلاياه ، لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والعناد ، ولو كشف عنهم العذاب لعادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه. والمراد بالأكثر الكل على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر ، أو هم في أكثر أحوالهم لم يعلموا.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة ٣٢ / ٢١]. وجاء في الحديث لبيان عودة الكفار بعد جلاء العذاب إلى كفرهم : «إن المنافق إذا مرض وعوفي ، مثله في ذلك كمثل البعير ، لا يدري فيما عقلوه ، ولا فيما أرسلوه».

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي إلى أن يحكم الله أو لقضاء الله ، والمعنى : واصبر أيها الرسول على أذى هؤلاء القوم ، ولا تبال بهم ، إلى أن يقع بهم العذاب الذي وعدناهم به ، فإنك بمرأى ومنظر منا ، وفي حفظنا وحمايتنا وتحت كلاءتنا ، والله يعصمك من الناس ، ونزّه ربك عما لا يليق به لإنعامه عليك تنزيها مصحوبا بالحمد ، حين تقوم من مجلسك ، أي من كل مجلس جلسته ، فتقول : (سبحان الله وبحمده) أو (سبحانك اللهم وبحمدك) أو حين تقوم إلى الصلاة ، كما قال الضحاك : «سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك».

٨٧

روى مسلم في صحيحة عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة ، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول ذلك.

وقال أبو الجوزاء : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) أي من نومك من فراشك ، واختاره ابن جرير ، ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تعارّ من الليل (١) ، فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : رب اغفر لي ـ أو قال : ثم دعا ـ استجيب له ، فإن عزم فتوضأ ، ثم صلى قبلت صلاته».

ويتأيد الرأي الأول في كون التسبيح والتحميد بعد كل مجلس بما أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم في المستدرك وابن مردويه وابن أبي شيبة عن أبي برزة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول بآخر عمره إذا أراد أن يقوم من المجلس : «سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك».

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي وإذا قمت من نومك فسبّحه واذكره واعبده في بعض الليل ، وفي آخر الليل حين أفول النجوم ، لأن العبادة حينئذ أشق على النفس وأبعد عن الرياء. وقال مقاتل : أي صلّ المغرب والعشاء ، وقيل : ركعتي الفجر. قال الرازي : والظاهر أن المراد من (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وقت الصبح حيث يدبر النجم ، ويخفى ، ويذهب ضياؤه بضوء الشمس. وحينئذ يكون قوله : (حِينَ تَقُومُ) المراد به النهار ، وقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ) ما عدا وقت النوم.

__________________

(١) تعارّ الرجل من الليل : إذا هب من نومه مع صوت

٨٨

ونظير الآية : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسرار ١٧ / ٧٩] وهذا يتفق مع الحديث الصحيح : «خمس صلوات في اليوم والليلة ، قال : هل علي غيرها؟ قال : لا إلا أن تطوّع».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ شأن الكفار وديدنهم العناد ومكابرة المحسوسات ، حتى إنهم لو رأوا بأعينهم أمارات العذاب النازل عليهم من السماء كالشهب والصواعق ، لما أيقنوا وظلوا على كفرهم ، وزعموا أنه سحاب محفّل بالمطر متراكم بعضه على بعض ، وليس صواعق. وهذا جواب قولهم : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٧] وقولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء ١٧ / ٩٢].

٢ ـ هددهم الله تعالى بالهلاك السريع وأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتركهم والإعراض عنهم حتى يوم بدر ، أو يوم يموتون أو يوم النفخة الأولى في يوم القيامة حيث يأتيهم فيه من العذاب ما تشيب منه الرؤوس وتزول به العقول. وليس قوله : (فَذَرْهُمْ) للتخلي عن دعوتهم إلى الإسلام ، والقول بأن ذلك منسوخ بآية القتال ضعيف كما ذكر الرازي ، وإنما المراد التهديد.

٣ ـ في ذلك اليوم الذي يلاقونه لا ينفعهم فيه شيء من مكرهم وما كادوا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا ، وما تآمروا به عليه ، ولا يجدون فيه ناصرا ينصرهم من الله ، أو مانع يمنعهم من عذاب الله. وقوله : (يَوْمَ لا يُغْنِي) فيه تمييز يوم الكفار والفجار عن يوم المؤمنين حيث قال تعالى فيه : (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة ٥ / ١١٩].

٨٩

٤ ـ للكفار عذابان : عذاب جهنم في الآخرة ، وهو الأدهى والأمر ، لأنه عذاب خالد دائم ، وعذاب في الدنيا قبل موتهم وهو أخف من عذاب الآخرة بالتعرض لمصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد ، والجوع والجهد والقحط سبع سنين ، وقد عذب به أهل مكة ، والقتل في المعارك كمعركة يوم بدر الذي قتل فيه زعماء قريش ، ولكن أكثر الكفار لا يعلمون أن العذاب نازل بهم ، ولا ما يصيرون إليه في الآخرة أو الدنيا.

٥ ـ الصبر مفتاح الفرج ، لذا أمر الله نبيه وكل مؤمن بالصبر على قضاء ربه فيما حمّله من رسالته ، وأعلمه بأنه بمرأى ومنظر من الله يراه ويسمع ما يقول ويفعل ، والله حافظه وحارسه وراعيه.

٦ ـ إن الإقبال على طاعة الله والاعتصام بقوته وقدرته وتفويض الأمور إليه يقوي النفس البشرية ، وينفخ فيها روح الجدّ والعزيمة والإقدام والجرأة على أداء رسالة الحياة ، لذا أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل مؤمن بتسبيح الله وحمده كل وقت وعقب كل مجلس ، وبالصلاة ، والتهجد ليلا. وقد سبق إيراد الآيات والأحاديث الآمرة والمرغبة بكل ما ذكر ، ومنها حديث الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جلس في مجلس ، فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عمر قال : «كنا نعدّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم : رب اغفر لي وتب علي ، إنك أنت التواب الغفور» (١).

وفي الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل : «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت قيّوم السموات والأرض

__________________

(١) قال الترمذي عن كل من الحديثين : حديث حسن صحيح غريب.

٩٠

ومن فيهن ، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ، أنت الحقّ ، ووعدك الحق ، وقولك الحقّ ، ولقاؤك الحق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة حق ، والنبيون حقّ ، ومحمد حق ، اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت ، وأسررت وأعلنت ، أنت المقدّم وأنت المؤخّر ، لا إله إلا أنت ، ولا إله غيرك».

وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل ، مسح النوم عن وجهه ، ثم قرأ الآيات العشر الأواخر من سورة [آل عمران] أي من قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١٩٠) إلى آخر السورة.

٩١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النجم

مكيّة ، وهي اثنتان وستون آية.

تسميتها :

سميت سورة النجم ، لأن الله تعالى افتتحها بالقسم بالنجم ، وأل للجنس ، أي بنجوم السماء وقت سقوطها وغربها ، لأن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري ، لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال ، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات ، والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر ، لأن الناظر إليه يستدل بغروبه على الجهة.

مناسبتها لما قبلها :

ترتبط هذه السورة بما قبلها بوجوه أربعة :

١ ـ إن سورة الطور ختمت بقوله : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وافتتحت هذه السورة بقوله: (وَالنَّجْمِ).

٢ ـ في سورة الطور ذكر تقوّل القرآن وافتراؤه ، وهذه السورة بدئت بذلك وردت عليه.

٣ ـ ذكر في الطور ذرية المؤمنين ، وأنهم تبع لآبائهم ، وفي هذه السورة ذكرت ذرية اليهود في آية : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) (٣٢).

٩٢

٤ ـ في حق الآباء المؤمنين قال تعالى في الطور : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٢١) أي ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين ، مع نفعهم بعمل آبائهم ، وقال في النجم في حق الكفار أو أبناء الكفار الكبار : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩).

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السورة المكية المعنية بأصول العقيدة ، وهو إثبات الرسالة وصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلقي القرآن بالوحي عن الله ، والتوحيد والكلام على الأصنام وبيان عدم جدواها ، والتحدث عن قدرة الله عزوجل ، وعن البعث والنشور.

افتتحت السورة بإثبات ظاهرة الوحي بوساطة جبريل عليه‌السلام ، والكلام عن (المعراج) وقرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربه ، ورؤيته عجائب ملكوت الله تعالى ، ومشاهدته جبريل على صورته الحقيقية الملكية مرتين.

ثم قرّعت المشركين على عبادة الأوثان والأصنام ، ووصفتها بأنها عبادة باطلة لآلهة مزعومة لا وجود لها ، ووبختهم أيضا على جعل الملائكة إناثا ، وتسميتهم إياها : بنات الله ، وبيان أن الملائكة لا تملك الشفاعة إلا بإذن الله تعالى.

ثم وصفت الجزاء العادل يوم القيامة ، حيث يجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وذكرت أوصاف المحسنين ، ونددت بإعراض الكافرين عن الإسلام ، وأعلمت الناس جميعا أن المسؤولية فردية شخصية ، فيسأل كل إنسان عن سعيه وعمله ، ولا تتحمل نفس إثم أو وزر نفس أخرى ، ولا تقبل تزكية المرء نفسه.

٩٣

وأبانت السورة إحاطة علم الله بما في السموات والأرض ومظاهر قدرة الله تعالى في الإحياء والإماتة ، والإغناء والإفقار ، وخلق الإنسان من النطفة ، والبعث والحشر والنشر.

وهددت المشركين الذين أنكروا الوحدانية والرسالة والبعث بالإهلاك كإهلاك أقوام أخرى أشداء ، كعاد وثمود وقوم نوح ولوط.

وختمت بالتعجب من استهزاء المشركين بالقرآن وإعراضهم عنه ، وأمر المؤمنين بالعبادة الخالصة لله تعالى.

فضلها :

أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أن سورة النجم أول سورة أعلن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقراءتها ، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون.

وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود أيضا قال : «أول سورة أنزلت فيها سجدة : (وَالنَّجْمِ) فسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب ، فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا» وهو أمية بن خلف.

وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب ، فإنه رفع حفنة من تراب ، وقال : يكفي هذا. فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك.

٩٤

إثبات النبوة وظاهرة الوحي

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

الاعراب :

(إِذا هَوى) ظرف لفعل «أقسم» المقدر ، والمراد ب (إِذا) هنا مطلق زمان.

(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) جملة في جواب سؤال مقدر نشأ بعد قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى).

(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) الواو في (وَهُوَ) : واو الحال ، والجملة بعدها من المبتدأ والخبر : في موضع نصب على الحال من ضمير (فَاسْتَوى) أي استوى عاليا ، يعني جبريل.

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) كذب بالتخفيف ، فتكون (ما) في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : ما كذب الفؤاد فيما رأى. و (ما) : إما بمعنى الذي ، و (رَأى) الصلة ، والهاء المحذوفة العائد ، أي رآه ، فحذف الهاء تخفيفا ، وإما مصدرية. وقرئ (كَذَبَ) بالتشديد ، فتكون (ما) مفعولا به ، من غير تقدير حذف حرف جر ، لأنه متعد بنفسه.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى نَزْلَةً) : منصوب على المصدر في موضع الحال ، كأنه قال : رآه نازلا نزلة أخرى ، وذهب الفرّاء إلى أنه منصوب على الظرف ، إذ معناه : مرة أخرى.

٩٥

البلاغة :

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) إبهام الموحى به للتعظيم والتهويل ، ومثله : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [النجم ٥٣ / ١٦] وكذلك (فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النجم ٥٣ / ٥٤].

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى .. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) بين هوى والهوى جناس ، فالأول بمعنى خرّ وسقط ، والثاني بمعنى هوى النفس.

(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) جملة يوحى لدفع المجاز وتأكيد الإيحاء.

المفردات اللغوية :

(وَالنَّجْمِ) جنس النجوم ، أو الثريا ، فإنه غلب فيه إذا غرب أو انتثر يوم القيامة ، والواو للقسم. (هَوى) غرب وسقط. (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) ما عدل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق الهداية المستقيم. (وَما غَوى) ما وقع في الغي : وهو الجهل مع الاعتقاد الفاسد ، وهو الجهل المركب ، والمراد : ما اعتقد باطلا قط ، والخطاب في هذا لقريش. والمراد : نفي ما ينسبون إليه.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ما يتكلم بالقرآن عن الهوى أي بالباطل. (إِنْ هُوَ) أي ما القرآن أو الذي ينطق به. (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وحي يوحيه الله إليه. (عَلَّمَهُ) إياه ملك. (شَدِيدُ الْقُوى) صاحب القوى الشديد ، وهو جبريل عليه‌السلام. (ذُو مِرَّةٍ) ذو قوة وحصافة في عقله ورأيه. (فَاسْتَوى) فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها ، ورآه عليها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين : مرة في السماء ، ومرة في الأرض عند غار حراء في بدء النبوة.

(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) أفق السماء وهو الجهة العليا بالنسبة للناظر ، والضمير لجبريل. (ثُمَّ دَنا) قرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَتَدَلَّى) زاد في القرب ونزل وتعلق به ، وهو تمثيل لعروجه بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي فكان جبريل على مقدار قوسين أو أقرب من ذلك ، والمراد به هنا مقدار ما بين مقبض القوس والسّية : وهي ما عطف من طرفيها ، ولكل قوس قابان : طرفان. والخلاصة : فكان مقدار مسافة قربه منه مثل مقدار مسافة قاب قوسين. والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحي إليه ، بنفي البعد الموقع في اللبس والغموض.

(فَأَوْحى) الله تعالى. (إِلى عَبْدِهِ) جبريل. (ما أَوْحى) جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يذكر الموحى به تفخيما لشأنه ، أو فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي ما أنكر فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه‌السلام.

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) أفتجادلونه وتغلبونه وتكذبونه على ما يراه معاينة ، من المراء :

٩٦

وهو الجدال بالباطل. (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) رأى محمد جبريل على صورته الحقيقية مرة أخرى. (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) أعلى مكان في السماء ، ينتهي إليها علم الخلائق وأعمالهم ، شبّهت بالسدرة : وهي شجرة النبق ، لأنهم يجتمعون في ظلها. (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين المتقين. (إِذْ) حين. (يَغْشَى) يغطي ويستر. (ما يَغْشى) تعظيم وتكثير لما يغشاها بحيث لا يحيط بها وصف ولا عدد. (ما زاغَ الْبَصَرُ) ما مال بصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما رآه. (وَما طَغى) وما تجاوز ما أمر به تلك الليلة. (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي رأى في تلك الليلة ـ ليلة المعراج ـ بعض آيات ربه العظمى ، وعجائب الملكوت ، كرؤية جبريل حينما سدّ أفق السماء بما له من ست مائة جناح.

التفسير والبيان :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) أي أقسم بالنجم أي بالنجوم عند ما تميل للغروب ، إذ بالميل إلى الأفق تعرف الجهات ، ما عدل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق الهداية والحق ، وما صار غاويا متكلما بالباطل ، وقيل : النجم : الثريا إذا سقطت مع الفجر. روى ابن أبي حاتم عن الشعبي وغيره قال : الخالق يقسم بما شاء من خلقه ، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق.

وقد عرض الرازي مقارنة في المقسم به والمقسم عليه بين هذه السورة والسور المتقدمة ، فذكر أن السور التي تقدمت وهي والصافات والذاريات والطور وهذه السورة كان القسم فيها بالأسماء دون الحروف ، أقسم الله في الأولى لإثبات الوحدانية : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ). وفي الثانية لإثبات الحشر والجزاء : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ). وفي الثالثة لإثبات دوام العذاب بعد وقوعه يوم القيامة : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ). وفي هذه السورة لإثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاكتملت الأصول الثلاثة : الوحدانية ، والحشر ، والنبوة (١).

ويلاحظ أن القسم على الوحدانية والنبوة قليل في القرآن ، والقسم على إثبات البعث كثير ، كما في سورة الذاريات ، والطور ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٧٧

٩٧

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ، (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) ، وغير ذلك ، لأن دلائل الوحدانية كثيرة ، وكلها عقلية كما قيل :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

ودلائل النبوة والرسالة أيضا كثيرة وهي المعجزات المشهورة والمتواترة ، أما البعث فإمكانه يثبت بالعقل ، وأما وقوعه فلا يثبت إلا بالأدلة السمعية أو النقلية وهي القرآن والحديث ، لذا أكثر الله تعالى في القرآن بالقسم عليه ليؤمن به الناس.

ونظير الآية : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الواقعة ٥٦ / ٧٥ ـ ٨٠].

والحكمة في القسم بالنجوم أنه عالم رهيب ، سواء في السرعة أو في الحجم ، أو في النوع ، فسرعة نور الكواكب ٣٠٠ ألف كيلومتر في الثانية ، أي أن النور يجري حول الأرض في سبع ثانية مرة واحدة ، والشمس أكبر من الأرض بمليون وثلاث مائة ألف مرة ، وهي وا؟ حد من ثلاثين ألف مليون شمس ، والنظام الشمسي والكواكب السيارة الإحدى عشرة جزء من عالم المجرّة ، والمجرّة ذات نجوم بنحو ٣٠ ألف مليون نجم ، منها ما هو أكبر من الشمس ، والمجرة عادة تشبه قرصا مفرطحا ، ويبلغ قطر المجرّة التي تنتمي إليها ١٠٠ ألف سنة ضوئية (١) ، وإن

__________________

(١) السنة الضوئية تساوي ٦ ملايين ميل. وقد أشار تقرير حول أعمال الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية لعلم الفلك في مدينة (أوستن) ـ (ولاية تكساس) إلى أن علماء الفلك الأمريكيين رصدوا مجرتين هما الأقدم والأبعد عن الأرض بين كل تلك التي رصدت إلى اليوم. وأوضح التقرير أن هاتين المجرتين تقعان على بعد ١٧ مليار سنة ضوئية عن الأرض ، وأنهما تكونتا إبان الانفجار الكبير (بيج بانج) الذي يقال : إنه أسفر عن نشوء الكون ، والمجرتان على حد ما جاء في التقرير هما أبعد وأقدم من إشعاعات (كازار) التي تشبه النجوم ، وتبعث إشعاعا كهربائيا ومغناطيسيا قويا.

٩٨

التحام قوة الجاذبية بين المجرّات بالكميات الهائلة من الغازات والمواد الموجودة فيها يحوّل ما يعرف بالفجوات السوداء في وسط هذه المجرّات الفضائية إلى شهب مشتعلة ، تحدث نادرا في ظروف مئات الملايين من السنين. والشهب أشبه بالنجوم إلا أنها تصدر إشعاعات مغناطيسية تفوق في طاقتها ما يصدر عن النجوم العادية المعروفة بالإشعاعات ، وبعد الشهب عن الأرض بمسافة عشرة آلاف مليون سنة ضوئية.

وقد أوضحت سابقا أن الشمس على مدار السنة تتنقل في اثني عشر برجا ، وتوجد في كل برج لمدة شهر حيث تتم دورتها السنوية في اثني عشر شهرا (٣٦٥ يوما وست ساعات وتسع دقائق وعشر ثوان). ويطلق على هذه السنة : السنة النجمية التي تبدأ في ٢١ آذار (مارس). وللقمر بروج أيضا تسمى منازل القمر ، يقيم فيها كل يوم في منزل جديد ، ويستمر بالتنقل على مدار الشهر ما بين ٢٩ أو ٣٠ منزلا ، يسمى المنزل الأخير محاقا ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس ١٠ / ٥] وتدل آية (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر ٤٠ / ٥٧] على أن الإعجاز القرآني في الفلك أكبر من الإعجاز القرآني في الطب والإنسان ، وقد طلب الله منا أن نمعن النظر في آياته الكونية ، ونكتشف ظواهر الكون (١).

__________________

(١) في يوم الأربعاء الموافق ١٢ نيسان (أبريل) لعام ١٩٦١ قامت أول مركبة فضائية تحمل بشرا وتدور حول كوكب الأرض ، بقيادة رائد الفضاء جاجارين من الاتحاد السوفييتي ، وكان أول سؤال وجهه إليه الصحفيون الروس هو : هل وجدت الله؟ فأجاب بمنطق الإلحاد المطلق المعروف بأنه لم يجد الله. ثم تلاه رائد فضاء سوفييتي آخر اسمه (تيتوف) استمر في الفضاء لمدة أطول من رفيقه (جاجارين) فلما عاد إلى الأرض ، سئل : هل وجدت الله؟ فأجاب : «نعم ، لقد وجدت عظمة الخالق ، وفي عمله الجبار بالسيطرة على قوانين الجاذبية بين الأرض والقمر والشمس».

٩٩

لهذه الأهمية للنجوم أقسم الله بها على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بضال تائه عن الحق ، ولا غاو يعدل عن الحق ، وسبب رشده وعدم ضلاله وغوايته ما قال تعالى :

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي ما يقول قولا عن هوى وغرض ، وما ينطق بالقرآن عن هواه الشخصي ، إنما ينطق بوحي من الله أوحاه إليه ، ويبلّغ ما أمر به كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش ، فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسول الله بشر يتكلم في الغضب ، فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اكتب ، فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق».

وأخرج الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أخبرتكم أنه من عند الله ، فهو الذي لا شك فيه».

وأخرج أحمد عن أبي هريرة أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا أقول إلا حقا ، قال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال : إني لا أقول إلا حقا».

ثم أخبر الله تعالى عن معلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جبريل عليه‌السلام : فقال :

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) أي علّم القرآن النبيّ جبريل الذي هو شديد قواه العلمية والعملية ، وهو ذو قوة وشدة في الخلق ، وذو حصافة في العقل ، ومتانة في الرأي ، وقد استقام جبريل على

١٠٠