التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

٤ ـ الويل : كلمة عذاب أو واد في جهنم ، وتقال للهالك ، والويل لكل من كذب الرسل الذين هم في تردد في الباطل ، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب.

٥ ـ يدفع أهل النار إليها يوم القيامة دفعا عنيفا شديدا ، قال المفسرون : إن خزنة النار يغلّون أيديهم إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم ، وزجّا في أقفيتهم.

٦ ـ وإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة للتوبيخ والتقريع والتهكم :

أ ـ هذه النار التي كذبتم بها في الدنيا.

ب ـ أفسحر هذا الذي ترون الآن بأعينكم ، كما كنتم تقولون عن الوحي : إنه سحر؟ بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون؟

ج ـ ذوقوا حر جهنم بالدخول فيها ، وسواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن ، فلا ينفعكم شيء ، وإنما الجزاء بالعمل. وقد أخبر الله عنهم أنهم يقولون : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ، ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم ١٤ / ٢١].

جزاء المتقين ونعم الله عليهم يوم القيامة

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣)

٦١

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))

الاعراب :

(فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ) ما : مصدرية. (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً هَنِيئاً) منصوب على الحال من ضمير (كُلُوا) أو ضمير (اشْرَبُوا). وقوله : (بِما كُنْتُمْ ..) الباء : سببية ، أي بعملكم.

(مُتَّكِئِينَ) حال من الضمير المستكن في قوله : (جَنَّاتٍ).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا .. أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الَّذِينَ) في محل رفع مبتدأ ، وخبره : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ).

(كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) في موضع نصب على الحال.

(إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ إِنَّهُ) بالكسر : على الابتداء ، وبالفتح : على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : لأنه.

البلاغة :

(كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) تشبيه مرسل ، مجمل ، حذف منه وجه الشبه ، فصار مجملا.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) أي إن العاملين بالأوامر الإلهية ، المبتعدين عن المحظورات الشرعية هم في بساتين خضراء نضرة تجري العيون والينابيع والأنهار من تحتهم ، ويغمرهم نعم كثيرة من الله تعالى. (فاكِهِينَ) متلذذين مستمتعين مسرورين وقرئ «فكهين» أي طيبة نفوسهم. (آتاهُمْ) أعطاهم. (وَوَقاهُمْ) حفظهم وحماهم ، وهو معطوف على (آتاهُمْ) أي بإتيانهم ووقايتهم.

٦٢

(كُلُوا وَاشْرَبُوا ..) أي ويقال لهم ذلك. (هَنِيئاً) أي أكلا وشربا هنيئا ، أو طعاما وشرابا هنيئا : وهو ما لا تنغيص فيه ولا نكد ، أو ما لا مشقة فيه ولا يؤدي إلى سقم أو عناء وتخمة. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بسبب عملكم. (سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) أي متصلة ببعضها حتى تصير صفا واحدا. (وَزَوَّجْناهُمْ) قرناهم ، معطوف على (جَنَّاتٍ). (بِحُورٍ عِينٍ) حور : جمع حوراء : وهي المرأة البيضاء ، والعين : جمع عيناء ، وهي المرأة العظيمة الواسعة العين ، أي نساء بيض عظام الأعين حسانهن ، وحور العين : اسوداد المقلة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) معطوف على (بِحُورٍ) أي قرناهم بأزواج ورفقاء مؤمنين كقوله تعالى : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر ١٥ / ٤٧] ، ويصح جعله مبتدأ ، وخبره: (أَلْحَقْنا بِهِمْ). (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) اعتراض للتعليل ، والذرية : لفظ يقع على الواحد والكثير ، وقرئ : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان ، والذرية : تشمل الصغار والكبار ، وقوله : (بِإِيمانٍ) حال من ضمير : واتبعتهم ، وتنكيره للتعظيم ، أو الإشعار بأنه يكفي للإلحاق : المتابعة في أصل الإيمان. (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) في دخول الجنة ، أو الدرجة ، وإن لم يعملوا بعملهم ، تكرمة للآباء باجتماع الأولاد إليهم ، ولما روي مرفوعا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما يرويه ابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس : «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه لتقرّ بهم عينه» ثم تلا هذه الآية.

(وَما أَلَتْناهُمْ) وما نقصناهم بهذا الإلحاق. (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي فيزاد في عمل الأولاد بالتفضل عليهم ، وهو اللائق بكمال لطف الله. (بِما كَسَبَ) من خير أو شر. (رَهِينٌ) مرهون بعمله عند الله ، فيؤاخذ بالشر ، ويجازى بالخير ، والعمل الصالح يكفّه ، والعمل الصالح يهلكه. (وَأَمْدَدْناهُمْ) زدناهم وقتا بعد وقت. (مِمَّا يَشْتَهُونَ) من أنواع النعم ، وإن لم يصرحوا بطلبه.

(يَتَنازَعُونَ فِيها) يتجاذبون في الجنة ملاعبة وسرورا ، أو يتعاطون بينهم. (كَأْساً) خمرا ، فهي إناء الخمر ما دام مملوءا فإن كان فارغا لم يسم كأسا ، وسماها باسم محلها ، ولذلك أنت الضمير في قوله : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي لا يتكلمون بسبب شربها بلغو الحديث (وهو ما لا خير فيه) ، ولا يفعلون ما يأثم به فاعله من فحش الكلام وغيره مما يغضب الله ، كما هو عادة الشاربين في الدنيا ، وذلك مثل قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات ٣٧ / ٤٧].

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) للخدمة بالكأس وغيرها. (غِلْمانٌ لَهُمْ) مماليك مخصوصون بهم. (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي كأن الغلمان حسنا ولطافة لؤلؤ مصون في الصدف ، لأن فيها أحسن منها في غيرها ، وذلك من صفائهم وبياضهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه ابن جرير وعبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة : «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».

٦٣

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله ، استمتاعا وتلذذا واعترافا بالنعمة. (قالُوا : إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أي كنا في الدنيا خائفين من عذاب الله ، وهذا القول إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة. (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالمغفرة والرحمة. (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) حمانا من عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم ، وقرئ : (وَوَقانا) بالتشديد.

وقالوا أيضا إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا. (نَدْعُوهُ) نعبده موحدين ، أو نسأله الوقاية. (إِنَّهُ) بالكسر : استئناف ، وإن كان تعليلا معنى ، وقرئ بالفتح : أنه تعليلا لفظا. (الْبَرُّ) المحسن ، الصادق في وعده. (الرَّحِيمُ) الكثير الرحمة.

المناسبة :

بعد بيان وقوع البعث والعذاب بالكافرين حتما وما يلاقونه من الشدائد والإهانات ، ذكر الله تعالى حال المؤمن وجزاءه المتميز ، أي أنه ذكر ما يتلقاه المؤمن في الآخرة بعد بيان حال الكافر ، ثم ذكر الثواب عقب العقاب ، جريا على الموازنة وعادة القرآن في إيراد الأضداد ، والجمع بين الترغيب بالترهيب ، حتى يتأمل الإنسان في المصير ، فيرغب في الرحمة ، ويرهب النقمة والعقاب.

ومما يزيد في الترغيب : أنه تعالى لم يقصر النعمة على المستحق ، وإنما أفاضها أيضا على الذرية والأولاد ، فلم يكتف بتعداد صنوف اللذات النفسية في الملبس والمسكن والمأكل والمشرب والزواج ، وإنما زاد في الفضل والإكرام ، فألحق بالأصول الذرية المؤمنة في المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الجنان. وأبعد اليأس والملل والوحشة عن أهل الجنة ، وأحل محلها المتعة المتجددة والأنس ، بتجاذب الكؤوس فرحا ولعبا ، والتنذر بأطيب الأحاديث ، والتحدث بأحوال الدنيا ومقارنتها بأحوال الآخرة ، ونحو ذلك.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ، فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا باتباع أوامره واجتناب نواهيه يكونون

٦٤

في بساتين نضرة ، ويتنعمون فيها بنعيم دائم ، بضد ما أولئك الكفار فيه من العذاب والنكال ، وهم يتفكهون بفواكه الجنة تفكها فيه غاية الطيبة واللذة والسرور ، بما أعطاهم الله من النعيم ، من أصناف الملاذ في المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والفرش والأزواج وغير ذلك ، وحماهم الله من عذاب النار ، ونجاهم من لظى السعير ، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها ، مع دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

وقوله : (فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) يفيد أنهم يتنعمون في الجنان تنعما فعليا ، لا كمجرد الناطور الذي يحرس البستان. وقوله : (فاكِهِينَ) للدلالة على أن التنعم في النفس والقلب أيضا ، فقد يكون التنعم ظاهريا ، والقلب مشغول ، كحال كثير من أغنياء الدنيا.

وتقول لهم ملائكة الرضوان في الجنة :

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تهنئهم الملائكة وتقول لهم : كلوا من طيبات الرزق ، واشربوا مما لذ وصفا وطاب ، لا تجدون في الأكل والشرب تنغيصا ولا نكدا ولا كدرا ، وهذا معنى الهنيء ، وذلك بسبب ما قدمتم من أعمال صالحة في الدنيا ، فهذا بذاك تفضلا وإحسانا.

ونظير الآية : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة ٦٩ / ٢٤]. قيل للربيع بن خيثم ، وقد صلى طوال الليل : أتعبت نفسك ، فقال : راحتها طلبت.

ثم ذكر الله تعالى تمتعهم بالفرش والبسط والأزواج ، فقال :

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ، وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي والحال أنهم يجلسون ويستندون على أسرّة مصفوفة متصل بعضها ببعض ، حتى تصير صفا

٦٥

واحدا ، وهذا دليل الاطمئنان والراحة وعدم التكلف وفراغ البال من الشواغل. وكذلك قرنّا كل واحد منهم بقرينات صالحات وزوجات حسان من نساء الجنة ، وهن الحوريات الشديدات بياض العين ، والشديدات سوادها ، والواسعات الأعين. ويلاحظ أن كلمتي الحور والعين جمع للمذكر والمؤنث ، أي أحور حوراء وأعين عيناء.

روى ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ، ما يتحول عنه ولا يملّه ، يأتيه ما اشتهت نفسه ، ولذّت عينه».

ويلاحظ أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسباب التنعيم الأربعة على الترتيب ، فذكر أولا المسكن وهو الجنات ، ثم الأكل والشرب ، ثم الفرش والبسط ، ثم الأزواج. وذكر في كل نوع ما يدل على الكمال فيه ، وهو قوله (فاكِهِينَ) في الجنات ، لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور ، وقوله : (هَنِيئاً) إشارة إلى خلو المأكول والمشروب عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا كالتخمة والمرض والغصة والانقطاع. وقوله : في السرر : (مُتَّكِئِينَ) للدلالة على عدم التكلف ، والهيئة دليل خير. وقوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إنجاز لما وعدهم به ربهم في الدنيا ، من غير من ، وإنما كان المنّ في الدنيا بالهداية للإيمان والتوفيق للعمل الصالح ، كما قال تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات ٤٩ / ١٧].

وقوله : (مَصْفُوفَةٍ) إشارة إلى أنها مخصصة لكل واحد ، لا اشتراك فيها. وقوله : (وَزَوَّجْناهُمْ) دليل على أن المزوج بأمانة هو الله تعالى ، وأن المنفعة في التزويج لهم وأنه لم يقتصر على الزوجات ، بل وصفهن بالحسن ، واختار أحسن الحسن وهو جمال العيون (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٤٩

٦٦

ويلاحظ أيضا الفرق بين جزاء الكفار حيث قال تعالى في حقهم : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وبين جزاء المتقين حيث قال في حقهم : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فجزاء الكفار منحصر بكلمة (إِنَّما) للحصر ، أي لا تجزون إلا ذلك ، وأما المؤمنون فيضاعف ما عملوا ويزيدهم من فضله ، ويجازى الكفار عين أعمالهم بقوله : (بِما كُنْتُمْ) إشارة إلى المبالغة في المماثلة ، وقال في حق المؤمنين : (بِما كُنْتُمْ) كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملهم الصالح ، وذكر الله تعالى الجزاء في حق الكفار ، وهو ينبئ عن الانقطاع ، ولم يذكره في حق المؤمنين مما يدل على الدوام وعدم الانقطاع (١).

ثم أخبر الله تعالى عن مزيد فضله وكرمه ولطفه بخلقه وإحسانه بإلحاق الذرية بالآباء في المنزلة ، وإن لم يبلغوا عملهم ، لتقرّ عين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي إن المؤمنين الذين تتبعهم ذريتهم في الإيمان أو بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء ، يلحقهم الله بآبائهم في المنزلة فضلا منه وكرما ، والمعنى : أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه ، وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر عينه ، وتطيب نفسه ، بشرط كونهم مؤمنين. ومن باب أولى يلحق الآباء بالأبناء إن كان هؤلاء أحسن حالا من آبائهم ، فيرفع ناقص العمل إلى منزلة كامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته ، للتساوي بينه وبين ذاك. قال ابن عباس : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل ، لتقرّ بهم عينه ، ثم قرأ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (٢) وتنكير لفظة (بِإِيمانٍ) للدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٤٩

(٢) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، ورواه البزار عن ابن عباس مرفوعا ، ورواه الثوري عن ابن عباس موقوفا.

٦٧

ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم (١).

وروى الحافظ الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل الرجل الجنة ، سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك ، فيقول : يا ربّ ، قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به». وقرأ ابن عباس : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) الآية.

وهذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء ، وفضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء ، أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة ، فيقول : يا ربّ أنى لي هذه؟ فيقول : باستغفار ولدك لك» وله شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له».

(وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئا.

(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي كل إنسان مرتهن يوم القيامة بعمله ، فلا يتحمل أحد ذنب آخر سواء كان أبا أو ابنا ، كما أن الرهن لا ينفك ما لم يؤدّ الدين ، فإن كان العمل صالحا فكّه ونجاه ، لأن الله يقبله ، وإن كان صالحا أهلكه.

ونظير الآية كثير في القرآن ، مثل : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر ٧٤ / ٣٨ ـ ٣٩] أي كل نفس مرهونة بعملها ، لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين بعملهم الطيب.

__________________

(١) تفسير الكشاف : ٣ / ١٧٣

٦٨

ثم عدد الله تعالى أصناف النعم على المتقين ، فقال :

١ ـ (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي وزدناهم على ما كان لهم من النعيم فاكهة متنوعة ، ولحما مختلفا من أنواع اللحوم ، من كل ما تشتهيه أنفسهم وتستطيبه وتلذ به.

٢ ـ (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي يتعاطون في الجنة كأسا من خمر الجنة ، ويتجاذبون الكؤوس مع جلسائهم تجاذب سرور ولهو وملاعبة ، لشدة فرحهم ، وليس في شراب الآخرة ما يدعو إلى اللغو والإثم ، فلا يتكلمون بكلام لاغ ، أي هذيان ، ولا قول فيه إثم أي فحش ، كما يتكلم شاربو الخمر في الدنيا ، قال ابن قتيبة : لا تذهب بعقولهم ، فيلغوا ، كما يكون من خمر الدنيا ، ولا يكون منهم ما يؤثمهم.

وقد أخبر الله تعالى عن حسن منظر خمر الآخرة وطيب طعمها ومذاقها ، فقال : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات ٣٧ / ٤٦ ـ ٤٧] وقال : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة ٥٦ / ١٩].

٣ ـ (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ ، كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي ويدور عليهم للخدمة بالكأس والفواكه والطعام وغير ذلك فتيان يخدمونهم ، كأنهم في الحسن والبهاء لؤلؤ مستور ، مصون في الصدف ، لم تمسّه الأيدي.

ونحو الآية : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ، بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الواقعة ٥٦ / ١٧ ـ ١٨].

روى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : «بلغني أنه قيل : يا رسول الله ، هذا الخادم مثل اللؤلؤ ، فكيف بالمخدوم؟ فقال : والذي نفسي

٦٩

بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وروي ذلك أيضا عن الحسن.

٤ ـ (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي أقبلوا يتحادثون ويسأل بعضهم بعضا في الجنة عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا ، وما كان فيها من متاعب ومخاوف. ونكد وكدر.

ثم ذكر الله تعالى أجوبتهم التي تومئ إلى علة الوصول إلى الجنان ، فقال :

ـ (قالُوا : إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا ، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) أي أجابوا قائلين : إنا كنا في الدار الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله وعقابه ، فتفضل الله علينا بالمغفرة والرحمة ووفقنا إلى العمل الصالح ، وأجارنا مما نخاف من عذاب النار. وسموم جهنم : ما يوجد من حرّها.

ـ (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) أي إنا كنا في الدنيا نوحد الله ونعبده ، ونسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرحمة ، فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا ، إنه سبحانه الكثير الإحسان والكرم ، الكثير الرحمة والفضل لعباده.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن جزاء المتقين دخول الجنان ، والتمتع بأنواع النعيم المختلفة ، فهم ذوو فاكهة كثيرة ، طيبو النفس ، مزّاحون ، ناجون من عذاب النار ، يقال لهم : كلوا واشربوا هنيئا ، والهنيء : ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر.

وهم متكئون على سرر موصولة بعضها ببعض حتى تصير صفا واحدا ، ويتزوجون بما شاؤوا من الحور العين ، أي بنساء بيض نجل العيون حسانها.

٧٠

٢ ـ يلحق الله الذرية الصغار والكبار بالآباء ، والآباء بالذرية ، في المنزلة والدرجة في الجنة تكريما من الله وتفضلا وإحسانا لتقر أعين الآباء بهم ، ولا ينقص الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم ، ولا ينقص الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم ، وذلك بشرط الإيمان بين الأصول والفروع.

قال الزمخشري : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم (١).

وقال الرازي في الآية : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ ..) : تدل على أن شفقة الأبوة كما هي في الدنيا متوفرة كذلك في الآخرة ، ولهذا طيب الله تعالى قلوب عباده بأنه لا يولهم بأولادهم ، بل يجمع بينهم (٢).

٣ ـ (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) ، قال الزمخشري : عام في كل أحد ، مرهون عند الله بالكسب ، فإن كسب خيرا فك رقبته ، وإلا أربق بالرهن (٣).

٤ ـ زيادة من الله وفضله يمد المؤمنين بأنواع الفاكهة واللحوم المختلفة حسبما يشتهون ، غير الذي كان لهم ، ويتناول بعضهم من بعض كأسا وهو إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره ، وهم المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة.

ويطوف عليهم مماليك مخصوصون بالفواكه والتحف والطعام والشراب كما قال تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) [الزخرف ٤٣ / ٧١] (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الصافات ٣٧ / ٤٥]. وأولئك المماليك كأنهم في الحسن والبياض لؤلؤ مستور مصون في الصدف ، كما قال تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) [الواقعة ٥٦ / ١٧].

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ١٧٣.

(٢) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٥٠

(٣) الكشاف : ٣ / ١٧٤

٧١

عن عائشة رضي‌الله‌عنها أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أدنى أهل الجنة منزلة منزلة من ينادي الخادم من خدمه ، فيجيبه ألف كلّهم : لبّيك لبّيك» (١).

٥ ـ يقبل أهل الجنة بعضهم على بعض. فيتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة ، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم ، وامتنان الله عليهم بالجنة والمغفرة ، وبالتوفيق والهداية ، والنجاة من عذاب نار جهنم ، نار السّموم ، والسموم : الريح الحارّة.

٦ ـ يجد أهل الجنة ثواب ما عملوا في الدنيا ، فإنهم كانوا في الدنيا يعبدون الله ويوحدونه ، ويدعونه بأن يمنّ عليهم بالمغفرة من تقصيرهم ، فيرون ثمرة ذلك في الآخرة ، فإن الله تعالى كثير البر والجود والإحسان ، اللطيف الصادق فيما وعد ، الكثير الرحمة.

متابعة التذكير والموعظة بالرغم من المكائد

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤))

الاعراب :

(بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ بِكاهِنٍ) خبر ما ، و (مَجْنُونٍ) معطوف عليه.

(أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ أَمْ) هنا : منقطعة بمعنى بل والهمزة ، وكذلك (أَمْ) في أوائل الآيات : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) إلى قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) (٣٢ ـ ٤٣) كلها

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٧ / ٣٤

٧٢

منقطعة ، بمعنى (بل والهمزة) وهي خمسة عشر موضعا. و (بَلْ) للإضراب الانتقالي والهمزة للإنكار والتقريع والتوبيخ ، أي ما كان ينبغي أن يحصل ، أو بمعنى ما حصل هذا.

البلاغة :

(رَيْبَ الْمَنُونِ) استعارة تصريحية ، أستعير لفظ الريب (وهو الشك) لنوائب الدهر وحوادثه ، بتشبيه حوادث الدهر بالريب بجامع التقلب وعدم الاستمرار على حالة واحدة.

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) أسلوب تهكمي للتهكم بعقولهم والسخرية منهم ، وأمر الأحلام بأقوالهم مجاز عن أدائها إليه.

المفردات اللغوية :

(فَذَكِّرْ) فاثبت على التذكير والموعظة ، ولا تكترث بقولهم ، ولا تتراجع لاتهامات باطلة كالقول بأنك كاهن أو مجنون. (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بحمد ربك وإنعامه عليك. (بِكاهِنٍ) الكاهن : هو المخبر عن الماضي بالظن ، والعرّاف : هو المخبر عن المستقبل ، بالاعتماد على الجن. (نَتَرَبَّصُ) ننتظر. (رَيْبَ الْمَنُونِ) أي حوادث الدهر ليهلك كغيره ، والريب في الأصل : الشك ، وأطلق على الحوادث ، والمنون : الدهر ، سمي بذلك ، لأنه يقطع الأجل ، وقيل : المنون : الموت.

(تَرَبَّصُوا) انتظروا هلاكي. (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي ، فعذبوا بالقتل يوم بدر. (أَحْلامُهُمْ) عقولهم ، جمع حلم : وهو العقل. (بِهذا) التناقض في القول ، فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر ، والمجنون عديم العقل ، والشاعر يكون ذا كلام موزون متسق نابع من الخيال ، ولا يتأتى ذلك من المجنون. (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) بل هم مجاوزون الحد في العناد والمكابرة.

(تَقَوَّلَهُ) اختلق القرآن وافتراه من تلقاء نفسه. (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) بل يكفرون. فيرمون بهذه المطاعن لكفرهم وعنادهم. (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) مثل القرآن. (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في زعمهم ، إذ فيهم كثير من الفصحاء ، فهذا رد لأقوالهم المذكورة بالتحدّي.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٠):

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) : أخرج ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس : أن

٧٣

قريشا لما اجتمعوا في دار النّدوة في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال قائل : احبسوه في وثاق ، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك ، كما هلك من قبله من الشعراء : زهير والنابغة والأعشى ، فإنما هو كأحدهم ، فأنزل الله في ذلك : (أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ).

المناسبة :

بعد قسم الله تعالى على وقوع العذاب ، وذكر أحوال المعذبين والناجين ، أمر تعالى نبيه بالتذكير إنذارا للكافر ، وتبشيرا للمؤمن ، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته ، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون باعتبارهما طريقين إلى الإخبار ببعض المغيّبات ، بالاعتماد على الجن. وكان شيبة بن ربيعة ممن ينسبه إلى الكهانة ، وعقبة بن أبي معيط ممن ينسبه إلى الجنون. ثم بيّن الله تعالى ما في هذا الاتهام من التناقض والاضطراب ، ثم أمره ربه بتهديدهم بمثل صنيعهم ، ثم تحداهم بأن يأتوا بمثل القرآن أو بمثل أقصر سورة من هذا الكلام المفترى ، وفيهم الفصحاء والبلغاء ، بل هم قوم طاغون متجاوزون الحد ، جاحدون كافرون لا يؤمنون بالوحي ، فقالوا بأهوائهم مثل تلك الأقاويل.

التفسير والبيان :

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) أي إذا كان في الوجود قوم يخافون الله ، ويشفقون في أهليهم من عذاب الله كما تقدم في الآيات السابقة ، فوجب عليك أيها الرسول الإتيان بما أمرت به من التذكير ، فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبّطنك قولهم : كاهن أو مجنون ، فلست بحمد الله وإنعامه بكاهن كما يقول جهلة كفار قريش ، ولا مجنون ، والكاهن : هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي ، ويخبر عن الماضي بالأخبار الخفية ، وليس ما تقوله كهانة ، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله

٧٤

بإبلاغه. والمجنون : هو الذي يتخبطه الشيطان من المس ، في عرف العرب. وممن قال : إنه كاهن كما تقدم : شيبة بن ربيعة ، وممن قال : إنه مجنون عقبة بن أبي معيط.

لا تبال بهذا ، فإنه قول باطل متناقض ، لأن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله ، ولست بما عرف عنك من رجاحة العقل أحد هذين.

ثم أنكر الله تعالى عليهم قولا آخر في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

(أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي بل يقولون : إنه شاعر ننتظر به حوادث الأيام ، فيموت كما مات غيره ، أو يهلك كما هلك من قبله ، فنستريح منه ومن شأنه وينقضي ما جاء به من هذا الدين.

ثم هددهم الله وتهكم بهم قائلا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ـ (قُلْ : تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي قل لهم أيها الرسول : انتظروا موتي أو هلاكي ، فإني معكم من المنتظرين لعاقبة الأمر ، وقضاء الله فيكم ، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة ، وأنا واثق من نصر الله تعالى.

ـ (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي أأنزل عليهم ذكر أم أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض؟ وهي دعوى أن القرآن سحر أو كهانة أو شعر ، وقولهم في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كاهن وشاعر مع قولهم : مجنون ، فالشاعر غير الكاهن وغير المجنون ، فالأول ينطق بالحكمة ، والثاني يذكر الخرافات ، والثالث زائل العقل ، وكانت عظماء قريش توصف بأنهم أهل الأحلام والنهى والعقول ، فتهكم الله بعقولهم التي لا تميز بين الحق والباطل.

٧٥

أم إنهم قوم طغوا وتجاوزوا الحد في العناد والعصيان والضلال عن الحق ، واغتروا وقالوا ما لا دليل عليه سمعا ، ولا مقتضى له عقلا.

وعلى هذا تكون (أَمْ) متصلة ، كما ذكر الرازي ، وذكر غيره (١) أن أم في الموضعين منقطعة ، أي بل أتأمرهم عقولهم ، بل أطغوا وجاوزوا الحد؟ أي لكن عقولهم تأمرهم بهذه الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور ، وهم قوم طاغون ضلّال معاندون.

(أَمْ يَقُولُونَ : تَقَوَّلَهُ ، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي أتقولون : كاهن ، أم تقولون : شاعر ، أم تقوله أي اختلقه وافتراه من عند نفسه ، يعنون القرآن. فرد الله تعالى عليهم : بل إن كفرهم وكونهم لا يؤمنون بالله ولا يصدقون بما جاء به رسوله هو الذي يحملهم على هذه الأقوال المتناقضة ، والمطاعن المفتراة الكاذبة.

ثم رد عليهم ردا آخر فيه تحدّ لهم ، فقال :

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي إن صدقوا في قولهم : إن محمدا تقوله وافتراه من عند نفسه ، فليأتوا (٢) بمثل هذا القرآن في نظمه وحسن بيانه وبديع أسلوبه ، مع أنه كلام عربي ، وهم أساطين البيان ، وفرسان البلاغة والفصاحة ، والممارسون لجميع أساليب العربية من نظم ونثر.

والحقيقة أنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس ، ما جاؤوا بمثله ، ولا بعشر سور من مثله ، ولا بسورة من مثله.

__________________

(١) قال أبو حيان في (البحر المحيط : ٨ / ١٥١) : والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة ، وقد تقدم في الإعراب أن أم كلها في الآيات منقطعة بمعنى (بل والهمزة) وهو رأي ابن الأنباري وغيره من النحاة.

(٢) الفاء للتعقيب ، أي إذا كان الأمر كذلك ، فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم ، ويبطل كلامه.

٧٦

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ أمر الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثبات على التذكير والوعظ لقومه بالقرآن ، دون مبالاة بمطاعن كفار قريش ، فليس هو بالكاهن ولا بالشاعر ولا بالمجنون ، وإنما هو صادق النبوة ، وقد عرف بين قومه أنفسهم برجاحة العقل ، وأصالة الرأي.

٢ ـ لقد انتظر الكفار المعاندون سوءا أو هلاكا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تخلصا منه ومن دينه ، فعجل الله لهم الهلاك في معركة بدر وغيرها. قال الضحاك : هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر ، أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء ، وأن أباه مات شابا ، فربما يموت كما مات أبوه.

٣ ـ وفي حال حياتهم أورد القرآن عدة تقريعات وتوبيخات لهم بأسلوب التهكم :

أولها ـ أنه لا عقل لهم بنحو سليم ، إذ لو كان لهم عقل سليم لميزوا بين الحق والباطل ، والمعجز وغيره ، ولما أوقعوا أنفسهم في تناقضات حين وصفوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوصاف متناقضة ، فقالوا : إنه كاهن ، شاعر ، مجنون. والجنون لا يتفق مع الكهانة ونظم الشعر اللذين يتطلبان حذاقة وذكاء وإبداعا وقوة خيال.

ثانيها ـ أنهم قوم طغوا وتجاوزوا الحد بغير عقول.

ثالثها ـ زعمهم أن محمدا تقوّل القرآن ، أي اختلقه وافتراه من تلقاء نفسه ، والتقول يراد به الكذب.

رابعها ـ أنهم لم يؤمنوا بالله ورسوله جحودا وعنادا واستكبارا ، وقد صح عندهم إعجاز القرآن ، وإلا (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي بقرآن يشبهه من تلقاء

٧٧

أنفسهم (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتراه.

فإن كان شاعرا ففيكم الشعراء البلغاء ، والكهنة الأذكياء ، ومن يرتجل الخطب والقصائد ويقص القصص ، فليأتوا بمثل ما أتى به.

إثبات الخالق وتوحيده بالأنفس والآفاق

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣))

البلاغة :

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع لهم.

المفردات اللغوية :

(مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) من غير خالق ، فلذلك لا يعبدونه. (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) الذين خلقوا أنفسهم؟ وبما أنه لا يعقل مخلوق بغير خالق ، ولا معدوم يخلق ، فلا بد لهم من خالق هو الله الواحد ، فلم لا يوحدونه ويؤمنون برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه الكريم؟!

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهم لا يستطيعون ذلك ، فلا يقدر على خلقهما إلا الله الخالق القادر ، فلم لا يعبدونه؟! (بَلْ لا يُوقِنُونَ) به ، وإلا لآمنوا بنبيه ، ولو أيقنوا بأن الخالق هو الله لما أعرضوا عن عبادته.

٧٨

(خَزائِنُ رَبِّكَ) خزائن رزقه ، حتى يرزقوا النبوة والرزق وغيرهما ، فيخصوا من شاؤوا بما شاؤوا. (الْمُصَيْطِرُونَ) القاهرون الغالبون على الأشياء المسلطون عليها يدبرونها كيف شاؤوا ، من سيطر على كذا : إذا تسلط عليه وأقام عليه ، مثل بيطر وبيقر. (سُلَّمٌ) مرتقى إلى السماء ، والسلم : كل ما يتوصل به إلى غيره من الأماكن العالية. (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) يستمعون عليه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن ، وينازعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزعمهم إن ادعوا ذلك. (بِسُلْطانٍ) بحجة قوية. (مُبِينٍ) أي بحجة واضحة تصدّق استماعه.

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ) بزعمكم. (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) الذكور ، فيه تسفيه آرائهم وإشعارهم بأن من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء ، فضلا عن الاطلاع على الغيوب. (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أم تطلب منهم أجرة على تبليغ الرسالة. (مَغْرَمٍ) من التزام غرامة أو غرم : وهو التزام الإنسان ما ليس عليه. (مُثْقَلُونَ) محملون الثقل ، فلذلك زهدوا في اتباعك ولم يسلموا.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي علم الغيب. (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ذلك ويحكمون بناء عليه. (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) تدبير مكيدة وشر ، وهو كيدهم في دار الندوة. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) يحتمل العموم والخصوص ، فيشمل جميع الكفار ، أو كفار قريش ، فيكون ذلك تسجيلا للكفر عليهم. (الْمَكِيدُونَ) المغلوبون المهلكون ، الذين يحيق بهم الكيد ، أو يعود وبال كيدهم عليهم ، وهو قتلهم يوم بدر. (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يعينهم ويحرسهم من عذابه. (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها لله ، وهو اسم علم للتسبيح. (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم أو شركة ما يشركون به وعن الذين يشركون.

المناسبة :

بعد أن رد الله تعالى على ما زعم كفار قريش من أن محمدا كاهن أو شاعر أو مجنون ، ذكر الدليل من الأنفس والآفاق على صدقه ، وإبطال تكذيبهم لرسالته ، وإنكارهم للخالق ، وإثبات التوحيد بخلقهم وخلق السموات والأرض ، علما بأن إثبات الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر.

ثم طمأن الله نبيه بأن كيدهم له لا يضره شيئا ، وأن الله ناصره ، ومظهر دينه ، ولو كره الكافرون.

٧٩

التفسير والبيان :

هذه الآيات لإثبات الربوبية وتوحيد الألوهية ، فقال تعالى :

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) هذا رد على إنكار الخالق الواحد ، فهل وجدوا من غير موجد ، أم هم أوجدوا أنفسهم؟ وإذا كان الأمران منتفيين بشهادة العقل والحس والواقع وبإقرارهم ، فالله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا.

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، بَلْ لا يُوقِنُونَ) وهل خلقوا السموات والأرض وما فيهما من العجائب والغرائب وأسباب الحياة والمعيشة؟ إنهم في الواقع لا يستطيعون ادعاء ذلك ، والحقيقة أن عدم إيقانهم من قولهم بأن الله هو الخالق هو الذي حملهم على التكذيب وإنكار رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لو أيقنوا حقا بأن الله هو الخالق ما أعرضوا عن عبادته.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي هل هم يملكون خزائن الله من النبوة والرزق وغيرهما ، فيتصرفوا فيها كيف شاؤوا ، أم هم المسلطون على المخلوقات يدبرون أمرها كيف يشاءون؟ الواقع أن الأمر ليس كذلك ، بل الله عزوجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ، فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بل أيقولون : إن لهم سلّما منصوبا إلى السماء يصعدون به ، أي مرقاة إلى الملأ الأعلى ، ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم ، ويطلعون على علم الغيب؟ فليأت مستمعهم إليهم على صحة ما هم فيه بحجة ظاهرة واضحة ، كما أتى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبرهان الدال على صدقه. الواقع ليس لهم سبيل إلى ذلك ، فليس لهم دليل ولا حجة على ما يقولون.

٨٠