التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الذاريات

مكيّة ، وهي ستون آية.

تسميتها :

سميت (سورة الذاريات) لافتتاحها بالقسم بالذاريات ، وهي الرياح التي نذر والتراب وغيره ، أي تفرقه وتنقله من مكان إلى آخر. والقسم بها دليل على خطورتها ، وأنها من جند الله تعالى.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين :

١ ـ ختمت سورة ق بذكر البعث والجزاء والجنة والنار في قوله تعالى : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) وافتتحت هذه السورة بالقسم بالرياح والسحب والسفن والملائكة على أن ما وعد به الناس من ذلك صادق ، وأن الجزاء واقع.

٢ ـ ذكر في سورة ق إجمالا إهلاك الأمم المكذبة ، كقوم نوح ، وعاد وثمود ، ولوط وشعيب ، وتبّع ، وفي هذه السورة تفصيل ذلك في قصص إبراهيم ولوط وموسى وهود وصالح ونوح عليهم‌السلام.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كسائر السور المكية إثبات أصول العقيدة والإيمان وهي

٥

التوحيد والرسالة والبعث ، ونفي أضدادها وهي الشرك ، وتكذيب النبوة ، وإنكار المعاد.

وقد افتتحت ببيان دلائل البعث ووقوع المعاد من عجائب الكون ، بالقسم على حدوثه حتما بأربعة أمور هي الرياح المحركة للأشياء ، والسحب التي تحمل الأمطار ، والسفن الجارية بسهولة في البحار والأنهار الكبرى ، والملائكة التي تقسّم المقدرات الربانية ، وتدبّر أمر الخلق.

ثم ذكرت السورة أحوال كفار مكة وغيرهم الذين كذبوا بالقرآن وبالآخرة وما يلقونه من العذاب الشديد في نار جهنم ، كما ذكرت أحوال المؤمنين المتقين وما أعد لهم من جنات ونعيم في اليوم الآخر ، ليدرك العاقل الفرق بينهما ، ويقترن الترهيب بالترغيب للعظة والعبرة.

وتأكيدا لتلك الغاية أشارت الآيات إلى أدلة القدرة الإلهية والوحدانية في الأرض والسماء والأنفس وضمان الأرزاق للعباد ، وأوردت أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها ، فكان مصيرهم الدمار والهلاك ، وهم قوم إبراهيم ولوط وموسى ، وعاد وثمود ، وقوم نوح. وكان في الحديث عن قصص هؤلاء الرسل مع أقوامهم تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من أذى قومه.

ثم عادت إلى التذكير ببناء السماء وفرش الأرض وإيجاد الزوجين لبقاء النوع الإنساني والحيواني ، وأعقبت ذلك بالتزهيد في الدنيا ، والفرار إلى الله من مخاطرها ، والنهي عن الشرك بالله ، والإخبار عن تكذيب الرسل باستمرار ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن قومه ، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.

وختمت السورة ببيان الهدف من خلق الجن والإنس وهو معرفة الله تعالى وعبادته والإخلاص له ، وأخبرت بكفالة الرزق لكل مخلوق ، وأوعدت الكفار والمشركين الظالمي أنفسهم بعذاب شديد يوم القيامة ، وهددتهم بعذاب في الدنيا مماثل لعذاب أمثالهم ونظرائهم من المكذبين السابقين.

٦

القسم على وقوع البعث

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

الاعراب :

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) الواو : واو القسم ، (وَالذَّارِياتِ) صفة لموصوف محذوف تقديره : ورب الرياح الذاريات ، فحذف الموصوف ، وجواب القسم : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ). (فَالْحامِلاتِ وِقْراً وِقْراً) مفعول الحاملات.

(فَالْجارِياتِ يُسْراً يُسْراً) صفة لمصدر محذوف ، تقديره : جريا يسرا ، فحذف الموصوف ، وأقام الصفة مقامه ، أو مصدر في موضع الحال ، أي ميسرة.

(إِنَّما تُوعَدُونَ) ما : مصدرية أو موصولة ، وهو جواب القسم.

(أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) مبتدأ وخبر.

(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يَوْمَ) في موضع رفع على البدل من (يَوْمَ) الأول ، إلا أنه بني ، لأنه أضيف إلى غير متمكن.

البلاغة :

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) في قوله : (قُتِلَ) استعارة تبعية ، حيث استعار القتل للدعاء عليهم باللعن ، لأن الملعون يشبه المقتول في الهلاك.

٧

المفردات اللغوية :

(وَالذَّارِياتِ) الرياح تذرو التراب وغيره. (فَالْحامِلاتِ) السحب تحمل الأمطار.

(وِقْراً) ثقلا. (فَالْجارِياتِ) السفن التي تجري على سطح الماء. (يُسْراً) بسهولة أو جريا سهلا. (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الملائكة التي تقسّم أمور العباد والأمطار والأرزاق وغيرها.

(إِنَّما تُوعَدُونَ) أي إن وعدكم بالبعث وغيره. (لَصادِقٌ) لوعد صادق. (وَإِنَّ الدِّينَ) الجزاء بعد الحساب. (لَواقِعٌ) لحاصل لا محالة. استدل تعالى باقتداره على هذه الأشياء على اقتداره على البعث الموعود.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) ذات الطرق جمع حبيكة ، إما الطرق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو الطرق المعقولة التي يتوصل بها إلى المعارف. (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) إنكم يا أهل مكة في شأن القرآن الكريم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول متناقض مضطرب ، فتقولون تارة : سحر وساحر ، وتارة : شعر وشاعر ، وتارة : كهانة وكاهن ، وتقولون أحيانا : الله خالق السموات والأرض ، ثم تقولون بعبادة الأوثان معه ، وفي شأن الحشر : تارة تقولون : لا حشر ولا بعث ، وأخرى تقولون : الأصنام شفعاؤنا يوم القيامة عند الله.

(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) يصرف عن الرسول أو القرآن أو الإيمان من صرف عن الهداية في علم الله تعالى ، إذ لا صرف أشد منه.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) لعن الكذابون من أصحاب القول المختلف. (فِي غَمْرَةٍ) جهل يغمرهم. (ساهُونَ) غافلون عما أمروا به. (يَسْئَلُونَ) النبي سؤال استهزاء. (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) متى مجيء يوم الجزاء؟ وجوابهم محذوف ، أي يجيء. (يُفْتَنُونَ) يحرقون ، يقال : فتنت الذهب : أحرقته وأذبته ليعرف غشه ، فاستعمل في الإحراق والتعذيب. (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي يقال لهم : ذوقوا تعذيبكم. (هذَا) التعذيب. (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) وقوعه في الدنيا استهزاء.

التفسير والبيان :

لما بيّن الله تعالى في آخر سورة ق المتقدمة أن المشركين مصرّون على إنكار الحشر بعد إيراد البراهين الساطعة عليهم ، لم يبق إلا توكيد الدعوى بالإيمان ، فافتتحت هذه السورة بذلك :

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ، فَالْحامِلاتِ وِقْراً ، فَالْجارِياتِ يُسْراً ، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ،

٨

إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ، وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) أقسم الله سبحانه هنا لإثبات الحشر بالمتحركات ، لأن الحشر فيه جمع وموج وتفريق ، وهو بالحركة أليق ، فأقسم بالرياح التي تذرو وتفرّق التراب وكل ما شأنه أن يتطاير متجاوزة قانون الجاذبية الأرضية ، وبالسحب التي تحمل الماء بكميات ثقيلة ، وبالسفن التي تجري فوق وجه الماء ، وبالملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار بين العباد ، وكل ملك مخصص بأمر ، فجبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء ، وميكائيل الموكل بالرزق والرحمة ، وإسرافيل صاحب الصّور ، وعزرائيل لقبض الأرواح.

أقسم سبحانه بتلك المظاهر الكونية المرئية وغير المرئية العجيبة التأثير على أن ما وعد به الناس من الحشر إلى الله تعالى ، ووقوع المعاد ، لصادق غير كاذب ، وأن الجزاء من الثواب والعقاب لكائن حاصل لا محالة.

وكان هذا القسم تأكيدا لإخباره بوقوع الحشر ويسره وسهولته في السورة السابقة (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) وفيه إشارة إلى إنكار مشركي مكة وأمثالهم البعث وإصرارهم على الكفر به بعد إقامة البرهان عليه.

والحكمة من القسم هنا وفي غير ذلك من السور أن العرب كانت تعتقد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوي الحجة ، غالب في المجادلة والبرهان ، فأقسم الله لهم بكل شريف ليعلموا صدقه ، ويؤكد حجته ، كما أنهم كانوا يعتقدون أن الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع (خرائب) وأنها تضر صاحبها ، فحلف الله لهم للتصديق والثقة التامة ، وهم يعلمون أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحلف كاذبا ، ولم يصب بسوء بعد أيمانه ، بل ازداد رفعة وثباتا ، مما يدل على كونه صادقا فيما يقول.

ثم إن هذه الأيمان التي حلف الله تعالى بها كلها دلائل على كامل قدرته على البعث وغيرها ، فمن أوجد هذه الأشياء وصرّفها كيفما يشاء قادر بلا شك على البعث وإعادة الخلق مرة أخرى يوم القيامة.

٩

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي والسماء ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء ، فكل شيء أحكمته وأحسنت عمله ، فقد حبكته واحتبكته ، أو ذات الشدة مثل قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) [الطارق ٨٦ / ١١] أو ذات الطرائق والممرات المحكمة وهي ممرات الكواكب ، والبناء المتقن ، مثل قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [البروج ٨٥ / ١].

والخلاصة : والسماء ذات البنيان المتقن والجمال والحسن والطرائق المحكمة إنكم يا كفار قريش لفي قول مضطرب متناقض غير متلائم في أمر القرآن والرسول ، فمرة تقولون في القرآن : شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين ، وحينا تقولون في الرسول : شاعر وساحر وكاهن ومجنون ، وإنما يصرف عن هذا القرآن والإيمان به من كذّب به ، ويروج على من هو ضال في نفسه ، جاهل غمر لا فهم له ، لأنه قول باطل ، يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول متناقض ، إذ الشاعر أو الساحر أو الكاهن يحتاج إلى عقل وذكاء وفطنة ، أما المجنون فلا عقل عنده.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) لعن وقبح الكذابون أصحاب القول المختلف المرتابون في وعد الله ووعيده ، الذين هم في جهل يغمرهم ، غافلون في الكفر والشك عما أمروا به وعما هم قادمون عليه.

وهذا في الأصل دعاء عليهم بالقتل والهلاك ، كقوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس ٨٠ / ١٧] ثم جرى مجرى : لعن وقبح.

(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يسألك المشركون تكذيبا وعنادا واستهزاء ، قائلين : متى يوم الجزاء؟ فقل لهم : إنه يوم يعذب الكفار ويحرقون في نار جهنم ، يقال : فتنت الذهب : إذا أحرقته لتختبره.

١٠

ويقال لهم من الخزنة :

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ، هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي يقال لهم : ذوقوا عذابكم أو حريقكم ، هذا العذاب الذي كنتم تتعجلون به أو تطلبون تعجيله استهزاء منكم ، وظنا أنه غير كائن.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي :

١ ـ تعظيم المقسم به وهو الرياح الشديدة التأثير التي لا تخضع لقانون الجاذبية ، والسحب المحملة بأحمال ثقيلة وهي الأمطار سبب الرزق والخيرات ، والسفن الجارية فوق سطح الماء ، والملائكة التي تقسّم الأمطار وأرزاق العباد وأمورهم. ولله أن يقسم على ما يشاء ، في أي وقت يشاء ، ولكل أمر يشاء.

ويلاحظ أن جميع السور التي بدئت بغير الحروف ، كهذه السورة ، كان المقسم عليه أحد أصول الاعتقاد : التوحيد ، والرسالة ، والبعث ، فسورة الصافات أقسم فيها على التوحيد ، فقال : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) (٤) وفي سورة النجم والضحى أقسم على صدق الرسول ، حيث قال : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٢) (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (١ ـ ٣) وبقية السور كان المقسم عليه هو البعث والجزاء.

كما يلاحظ أيضا أن الله تعالى أقسم بمجموع المؤنث السالم في سور خمس ، ففي سورة والصافات لإثبات الوحدانية أقسم بالساكنات ، وفي السور الأربعة الباقية أقسم بالمتحركات لإثبات الحشر ، فقال : (وَالذَّارِياتِ وَالْمُرْسَلاتِ وَالنَّازِعاتِ وَالْعادِياتِ) لأن الحشر فيه جمع وتفريق ، وذلك بالحركة أليق ، كما تقدم.

١١

٢ ـ إن المقسم عليه هو صدق وعد الله بالحشر والبعث والمعاد ، ووقوع الجزاء والحساب والثواب والعقاب.

٣ ـ أقسم الله تعالى مرة ثانية في مطلع هذه السورة بالسماء ذات البنيان المتقن والجمال البديع ، والاستواء ، والطرائق المحكمة على أن المشركين في قول متخالف متناقض في شأن الله عزوجل ، حيث قلتم : إنه خالق السموات والأرض ، وتعبدون معه الأصنام ، وفي شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قلتم تارة : إنه مجنون ، وتارة أخرى : إنه ساحر ، والساحر لا يكون إلا عاقلا ، وفي أمر الحشر قلتم : لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا ، وزعمتم أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة ، ونحو ذلك من الأقوال المتناقضة.

٣ ـ يصرف عن الإيمان بالقرآن والرسول من صرف عنه في سابق علم الله تعالى ، وقضائه السابق ، لعلمه بأنه ضال في نفسه.

٤ ـ لعن الكذابون من أصحاب القول المختلف المتناقض ، المرتابون في وعد الله ووعيده ، الذين يقولون : لسنا نبعث ، ويتخرصون بما لا يعلمون ، فيقولون : إن محمدا مجنون كذّاب ساحر شاعر ، علما بأنهم في جهل ، غافلون عما أمروا به. وهذا دعاء عليهم ، لأن من لعنه الله ، فهو بمنزلة المقتول الهالك.

٥ ـ كان مشركو مكة وغيرهم من العرب متجبرين معاندين مصرين على كفرهم ، مما جعلهم يسألون استهزاء وشكا في القيامة وعنادا : متى يوم الحساب؟

فأجابهم ربهم بأنه اليوم الذي يحرقون فيه في نار جهنم ، ثم وبخهم الله وتهكم بهم قائلا لهم أو تقول الخزنة لهم : ذوقوا عذابكم وجزاء تكذيبكم ، ذلك العذاب الذي كنتم تستعجلون به في الدنيا ، وتسألون عنه استهزاء وكفرا به.

١٢

جزاء المتقين وأوصافهم

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

الاعراب :

(آخِذِينَ) حال من الضمير في حبر (إِنَ).

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ قَلِيلاً) إما صفة مصدر محذوف ، أي يهجعون هجوعا قليلا ، أو صفة لظرف محذوف ، أي كانوا يهجعون وقتا قليلا ، و (ما) زائدة ، ويجوز أن تكون (ما) مع ما بعدها مصدرا في موضع رفع على البدل من ضمير. كان و (قَلِيلاً) خبر كان ، وتقديره : كان هجوعهم من الليل قليلا. وقال السيوطي : يهجعون: خبر كان ، و (قَلِيلاً) ظرف.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ آياتٌ) مبتدأ ، (وَفِي الْأَرْضِ) خبره. ولا يجوز أن يتعلق (فِي أَنْفُسِكُمْ) بقوله تعالى : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) على تقدير : أفلا تبصرون في أنفسكم ، لأنه يؤدي إلى أن يتقدم ما في حيّز الاستفهام على حرف الاستفهام.

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ مِثْلَ) حال من الضمير في (حَقٌ) و (ما) زائدة ، ويقرأ بالرفع على أنه صفة (حَقٌ) لأنه نكرة : لأنه لا يكتسي التعريف بالإضافة إلى المعرفة وهي (أَنَّكُمْ) لأن وجوه التماثل بين الشيئين كثيرة غير محصورة.

البلاغة :

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) مجاز مرسل ، أطلق الرزق ، وأراد المطر ، لأنه سبب الأقوات. (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) فيه تأكيد الخبر بالقسم وإنّ واللام ، وهذا النوع من التأكيد الإنكاري ، لأن المخاطب منكر لذلك.

١٣

المفردات اللغوية :

(فِي جَنَّاتٍ) بساتين (وَعُيُونٍ) ينابيع تجري فيها (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قابلين لما أعطاهم ، راضين به ، وهو ما أعطاهم ربهم من الثواب ، والمعنى : أن كل ما آتاهم ربهم حسن مرضي ، متلقّى بالقبول (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي إنهم قبل دخولهم الجنة قد أحسنوا أعمالهم في الدنيا ، وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك.

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي ينامون في زمن يسير من الليل ، ويصلون أكثره ، والهجوع : النوم ، والهجعة : النومة الخفيفة. (وَبِالْأَسْحارِ) أواخر الليل ، جمع سحر : وهو الجزء الأخير من الليل قبيل الفجر. (يَسْتَغْفِرُونَ) يقولون : اللهم اغفر لنا ، أي إنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا ، أخذوا في الاستغفار.

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) نصيب يوجبونه على أنفسهم ، تقربا إلى الله ، وإشفاقا على الناس. (لِلسَّائِلِ) المستعطي المستجدي. (وَالْمَحْرُومِ) الذي حرم من المال ، والمراد به المتعفف الذي يظن كونه غنيا ، فيحرم الصدقة.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) أي في كرة الأرض من الجبال والبحار والأشجار والثمار والمعادن والنبات والإنس والجن والحيوان وغير ذلك دلائل على قدرة الله تعالى ووحدانيته. (لِلْمُوقِنِينَ) الموحّدين الذين أيقنوا بالله ، وسلكوا الطريق الموصل إلى رضوان الله. (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي في تركيب أنفسكم وخلقكم من العجائب آيات أيضا. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) تنظرون نظرة متأمل معتبر ، يستدل بذلك على الصانع وقدرته. (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أي في السحاب أسباب الرزق وهو المطر الذي ينشأ عنه النبات الذي هو رزق مسبب عن المطر. (وَما تُوعَدُونَ) أي والذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب. (إِنَّهُ لَحَقٌ) أي ما توعدون حق ثابت. (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي مثل نطقكم ، فكما أنه لا شك في أنكم تنطقون ، لا شك في تحقق ذلك.

سبب نزول الآية (١٩):

(وَفِي أَمْوالِهِمْ ...) : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية ، فأصابوا وغنموا ، فجاء قوم بعد ما فرغوا ـ لم يشهدوا الغنيمة ـ ، فنزلت : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). قال ابن كثير : وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية ، وليس كذلك ، بل هي مكية

١٤

شاملة لما بعدها (١). قال ابن عباس : إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما ، أو يقري به ضيفا ، أو يحمل به كلّا ، أو يغني محروما. وقال ابن العربي : لأن السورة مكية ، وفرضت الزكاة بالمدينة.

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى حال الفجار الأشقياء الذين كذبوا بالبعث ، وأنكروا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعبدوا مع الله إلها آخر من وثن أو صنم ، أراد تعالى أن يبين حال المؤمنين الأتقياء وأوصافهم وجزاءهم في الآخرة.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي إن الذين اتقوا ربهم ، وتجنبوا ما يعرضهم لعذاب الله ، من التزام أوامره واجتناب نواهيه ، هم يوم المعاد في بساتين فيها عيون جارية ، قابلين قبول رضا لكل ما أعطاهم ربهم ، راضين به ، فرحين بعطائه وفضله ، بخلاف ما يتعرض له أولئك الأشقياء من العذاب والنكال والحريق والأغلاق. فقوله: (آخِذِينَ) كما ذكر الزمخشري : قابلين قبول راض ، كما قال تعالى : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) [التوبة ٩ / ١٠٤] أي يقبلها. وقيل : الأخذ بمعنى التملك ، يقال : بكم أخذت هذا؟ كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم. وعلى كل : الأخذ في هذا المقام إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الإلهية ، لما أسلفوا من حسن العبادة ، ووفور الطاعة ، ولهذا علله بقوله :

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي ، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة ، يراقبون الله فيها ، كما قال تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة ٦٩ / ٢٤].

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٣٥

١٥

ثم أبان الله تعالى وجوه إحسانهم في العمل ، فقال :

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا ينامون زمنا قليلا من الليل ، ويصلون أكثره ، فتكون (ما) زائدة وهو القول المشهور ، و (قَلِيلاً) ظرف ، ويجوز أن تجعل (ما) صفة للمصدر ، أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا. وأنكر الزمخشري كون (ما) نافية ، تقديره : كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه ، وقال : لا يجوز أن تكون نافية ، لأن ما بعد (ما) لا يعمل فيما قبلها ، تقول : زيدا لم أضرب (١).

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي يقولون في الجزء الأخير من الليل : اللهم اغفر لنا وارحمنا. وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ، وكأنهم باتوا في معصية ، وهذا سيرة الكريم ، يأتي بأبلغ وجوه الكرم ، ثم يستقله ويعتذر ، واللئيم بالعكس ، يأتي بأقل شيء ، ثم يمنّ به ، ويستكثر. قال الحسن : مدّوا الصلاة إلى الأسحار ، ثم أخذوا في الأسحار بالاستغفار.

ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي‌الله‌عنهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، حتى يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : هل من تائب ، فأتوب عليه؟ هل من مستغفر ، فأغفر له؟ هل من سائل ، فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر».

وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف ١٢ / ٩٨] : أخرهم إلى وقت السحر.

وبعد أن وصفهم تعالى بكثرة الصلاة التي هي عبادة بدنية ، وصفهم بأداء العبادة المالية ، فقال :

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ١٦٨

١٦

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي وجعلوا في أموالهم جزءا مقسوما معينا للفقراء والمحتاجين على سبيل البرّ والصلة ، والسائل : هو الفقير الذي يبتدئ بالسؤال ، والمحروم : هو الذي يتعفف عن السؤال ، فيحسبه الناس غنيا ، فلا يتصدّقون عليه.

أخرج الشيخان (البخاري ومسلم) في صحيحيهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس المسكين بالطواف الذي تردّه اللّقمة واللقمتان ، والتّمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له ، فيتصدق عليه» وفي لفظ آخر أخرجه ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان ، والأكلة والأكلتان ، قيل : فمن المسكين؟ قال : الذي ليس له ما يغنيه ، ولا يعلم مكانه ، فيتصدق عليه ، فذلك المحروم».

وللسائل حق ، أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن الحسين بن علي رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للسائل حق ، وإن جاء على فرس».

والمشهور في الحق : أنه هو القدر الذي علم شرعا ، وهو الزكاة ، وهذا ما رجحه ابن العربي والجصاص الرازي وغيرهما أخذا بقول ابن عباس : نسخت الزكاة كل صدقة. وقال محمد بن سيرين وقتادة : الحق هنا : الزكاة المفروضة. قال القرطبي : والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة ، لقوله تعالى في سورة المعارج : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [٢٤ ـ ٢٥] والحق المعلوم : هو الزكاة التي بيّن الشرع قدرها وجنسها ووقتها ، فأما غيرها لمن يقول به ، فليس بمعلوم ، لأنه غير مقدّر ولا مجنّس ولا موقّت (١).

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٤١٢ ، أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٧١٨ ، تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٠٥ ، تفسير القرطبي : ١٧ / ٣٨

١٧

ويؤيد ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أدّيت زكاة مالك ، فقد قضيت ما عليك فيه». وروى أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أديت زكاة مالك ، فقد قضيت الحق الذي يجب عليك» قال الجصاص (١) : فهذه الأخبار يحتج بها من تأول حقا معلوما على الزكاة ، وأنه لا حق على صاحب المال وغيرها.

وقال منذر بن سعيد : هذا الحق : هو الزكاة المفروضة.

وبالرغم من أن هذا صحيح ، وأنه قول الجمهور ، فإن السورة مكية ، وفرض الزكاة بالمدينة ، وإذا فسر الحق بأنه الزكاة لم يكن صفة مدح ، لأن كل مسلم كذلك يؤدي زكاة ماله ، فالظاهر أن المراد بالآية هنا صدقات التطوع غير الزكاة ، وهي أي الصدقات التي تعطى على سبيل البر والصلة ، عن ابن عمر : أن رجلا سأله عن هذا الحق ، فقال : الزكاة ، وسوى ذلك حقوق ، فعمم.

واحتج من أوجب في المال حقا سوى الزكاة بما روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفي المال حق سوى الزكاة؟ فتلا : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ...) الآية [البقرة ٢ / ١٧٧] فذكر الزكاة في نسق التلاوة بعد قوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) (٢).

ثم أكد الله تعالى وقوع الحشر والدلالة على قدرته بالأدلة الأرضية ، فقال : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي وفي معالم الأرض من جبال ووديان وقفار وأنهار وبحار وأصناف نبات وحيوان وناس مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى وتفاوت المعقول والفهوم وما في تركيب أجسادهم

__________________

(١) الجصاص ، المرجع السابق : ص ٤١١

(٢) الجصاص ، المرجع والمكان السابق.

١٨

من عجائب الصنع ، دلائل واضحة وعلامات ظاهرة على عظمة الخالق وقدرته الباهرة ، للموقنين بالله ، لأنهم الذين يعترفون بذلك ، ويتدبرون فيه ، فينتفعون به.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ ، أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي وفي أنفسكم آيات تدل على توحيد الله ، وصدق ما جاءت به الرسل ، أفلا تنظرون نظرة متأمل معتبر ناظر بعين البصيرة ، فتستدلون بذلك على الخالق الرازق ، المتفرد بالألوهية ، فليست نفوسكم مخلوقة بالصدفة ولا بالطبيعة ، وإنما خالقها الله القادر على كل شيء ، وعلى البعث وإعادة الحياة.

ففي النفس والدماغ ذي الملايين من الخلايا ، وحواس السمع والبصر والإحساس واللمس والذوق ، ودورة الدم ، وأجهزة التنفس والهضم والبول ، كل ذلك أدلة مقنعة لمن يعقلها ، ولا يعقلها حقيقة إلا المؤمنون المتقون الله ، أما غيرهم فيفسرها على أنها حقائق طبيعية مادية فقط.

ثم ذكر الله تعالى ضمانه الرزق للأنفس والعباد كلهم فقال :

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) أي ، وفي السماء تقدير الأرزاق وتعيينها ، وفيها ما توعدون من خير أو شر ، وجنة ونار ، وثواب وعقاب ، ففي السماء التي هي السحاب المطر ، وفي السماء أسباب الرزق من الشمس والقمر والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول ، التي يكون تغيرها مناسبا لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء الأمطار ، وتسوقها الرياح ، وتغذيها الشمس بحرارتها ، ويمنحها نور القمر قوة ونموا ونضجا.

ثم أقسم الله تعالى بذاته المقدسة على أحقية البعث وضمان الرزق ، فقال : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي فورب العزة والجلال ، إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات ، وما وعدتكم به من أمر القيامة

١٩

والبعث والجزاء ، وتيسير الرزق وضمانه ، حق لا مرية فيه ، كائن لا محالة ، فلا تشكّوا فيه ، كما لا تشكّوا في نطقكم حين تنطقون ، فهو كمثل نطقكم ، فكما أنكم لا تشكون في نطقكم فكذلك هذا ، كما تقول : إنه لحق ، كما أنك تتكلم وترى وتسمع. وكان معاذ رضي‌الله‌عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه : إن هذا لحق كما أنك هاهنا.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي عدي عن الحسن البصري أنه قال : بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم ، ثم لم يصدقوا».

قال الأصمعي : أقبلت خارجا من البصرة ، فطلع أعرابي على قعود ، فقال : من الرجل؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل عليّ ، فتلوت (وَالذَّارِياتِ) فلما بلغت قوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) فقال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ، ووزعها على الناس ، وعمد إلى سيفه وقوسه ، فكسرهما وولّى. فلما حججت مع الرشيد ، طفقت أطوف ، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفت ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر ، فسلّم علي ، واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح ، وقال : وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : فهل غير هذا؟ فقرأت: (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) فصاح ، فقال : يا سبحان الله ، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟! لم يصدقوه بقوله ، حتى ألجؤوه إلى اليمين؟! قالها ثلاثا ، وخرجت معها نفسه (١).

وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمع

__________________

(١) أسنده الثعلبي ، راجع غرائب القرآن : ٢٧ / ١٠ ـ ١١ ، تفسير القرطبي : ١٧ / ٤٢

٢٠