التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

البلاغة :

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) سجع رصين غير متكلف يزيد في جمال الأسلوب ، وبين السماء والأرض طباق.

المفردات اللغوية :

(بِأَيْدٍ) بقوة ، مثل الآد. (لَمُوسِعُونَ) لقادرون على خلقها وخلق غيرها ، من الوسع : بمعنى الطاقة ، والموسع : القادر على الإنفاق ، يقال : آد الرجل يئيد : قوي ، وأوسع الرجل : صار ذا سعة وقوة. (فَرَشْناها) مهدناها وبسطناها كالفراش لتستقروا عليها ، يقال : مهد الفراش : إذا بسطه ووطّأه ، وتمهيد الأمور : تسويتها وإصلاحها. (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي نحن.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل جنس من الأجناس. (زَوْجَيْنِ) صنفين ونوعين : ذكر وأنثى ، وسماء وأرض ، وشمس وقمر ، وسهل وجبل ، وصيف وشتاء ، وحلو وحامض ، ونور وظلمة. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تتذكرون ، فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات ، أما الواجب بالذات خالق الأزواج فهو فرد واحد لا يقبل التعدد والانقسام.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) فروا من عقابه إلى ثوابه ورضاه بالإقرار بالتوحيد وملازمة الطاعة وتجنب المعصية. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إني من عذابه المعدّ لمن أشرك أو عصى بيّن الإنذار والتخويف. (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إفراد وتوحيد لمن يفرّ إليه ويلجأ لجنابة ، أي وقل لهم : لا تجعلوا .. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تكرير الجملة للتأكيد.

المناسبة :

بعد إثبات وقوع البعث أو الحشر والمعاد لا محالة ، أقام الله تعالى الأدلة على الوحدانية وعظيم القدرة ، من خلق السماء محكمة البنيان ، والأرض ممهدة كالفراش للاستقرار عليها ، وخلق الجنسين كالذكر والأنثى من كل نوع من أنواع الحيوان ، والصنفين المتضادين من بقية الأشياء ، عدّد الحسن البصري أشياء كالسماء والأرض ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والبر والبحر ، والموت والحياة ، وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى فرد لا مثيل له.

٤١

التفسير والبيان :

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي ولقد بنينا السماء بقوة وقدرة ، وإنا لذوو قدرة وسعة على خلقها وخلق غيرها ، فنحن قادرون ، لا نعجز عن ذلك ، ولا يمسنا تعب ولا نصب. وفي لفظ البناء إشارة إلى كونها محكمة البنيان. وقوله : (بِأَيْدٍ) تأكيد لذلك ، وقوله : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) مزيد تأكيد.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي والأرض مهدناها وبسطناها كالفراش لتصلح للعيش والاستقرار عليها ، فنعم الماهدون نحن الذين جعلناها مهدا لأهلها ، ومترعة بالخيرات على سطحها وجوفها ، برها وبحرها وجوها ، فعلى سطحها يعيش الإنسان والحيوان ، وفي جوفها الثروة المعدنية الجامدة والسائلة كالنفط ، وفي برها مختلف النباتات والأزهار والأشجار ، وفي بحرها آلاف الأنواع من الأسماك ، واللآلئ والمرجان وتسير فيها السفن ، وفي جوها الطير والهواء والسحب الزاخرة بالمطر ، وتحليق الطائرات وغيرها.

وإنما أطلق الفرش على الأرض ، ولم يطلق البناء ، لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى. وقوله : (بَنَيْناها) أدل على الاستقلال وعدم الشريك في التصرف.

والآية تشير إلى أن دحو الأرض وبسطها كان بعد خلق السماء ، لأن بناء البيت يكون أولا قبل الفرش ، وهذا هو المعروف الآن علميا. قال الرازي : في الآية دليل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ، لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٢٧

٤٢

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي وأوجدنا من جميع المخلوقات صنفين أو نوعين ضدين أو متقابلين : ذكر وأنثى ، وحلو ومرّ ، وسماء وأرض ، وليل ونهار ، وشمس وقمر ، وبر وبحر ، وضياء وظلام ، وإيمان وكفر ، وموت وحياة ، وخير وشر ، وشقاء وسعادة ، وجنة ونار ، حتى الحيوانات والنباتات ، لذا قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي خلقنا ذلك على هذا النحو لتعلموا وتتذكروا أن الخالق واحد لا شريك له ، وتستدلوا بذلك على التوحيد.

ثم رتب على دليل الوحدانية والقدرة أمرين : اللجوء إلى الله وتجنب الشرك إتماما للتوحيد ، فقال :

ـ (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي الجؤوا إلى الله ، واعتمدوا عليه في أموركم كلها ، وتوبوا من ذنوبكم ، وأطيعوا أوامره ، فإني لكم منذر بيّن الإنذار ، ومخوّف من عذابه وعقابه. وهذا أمر بالإقبال على الله ، والإعراض عما سواه. وقوله : (فَفِرُّوا) ينبئ عن سرعة الإهلاك ، كأنه يقول : الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع ، فافزعوا إلى الله سريعا وفروا.

ـ (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي لا تشركوا بالله شيئا آخر سواه ، فإن الإله المعبود بحق هو الذي لا تصلح العبادة لغيره ، ثم كرر التذكير بمهمة الإنذار البيّنة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتأكيد.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إثبات وحدانية الله وقدرته بآيات الكون الكبرى ، من خلق السماء التي تدل بكواكبها ونجومها وشمسها وقمرها وتوابعهما على أن الإله الصانع قادر على الكمال ، وكذا خلق الأرض الممهدة المبسوطة الممدودة كالفراش بما فيها من خيرات

٤٣

ظاهرة وباطنة ، وأيضا خلق الصنفين والنوعين المختلفين من ذكر وأنثى ، وحلو وحامض ونحو ذلك ، وسماء وأرض ، وشمس وقمر ، وليل ونهار ، ونور وظلام ، وسهل وجبل ، وجنّ وإنس ، وخير وشر ، وبكرة وعشيّ ، والأشياء المختلفة الطعوم والروائح والأصوات.

فهذا كله دليل على قدرة الله ، ومن قدر على هذا قدر على الإعادة ، وهو إشارة إلى أن ما سوى الله تعالى مركب من أجزاء ، وهو دليل على الانتقال من المركب إلى البسيط ، ومن الممكن إلى الواجب ، ومن المصنوع إلى الصانع ، فإن خالق الأزواج فرد وإلا لكان ممكنا ، فيكون مخلوقا ، ولا يكون خالقا ، فلا يقدّر في صفته حركة ولا سكون ، ولا ضياء ولا ظلام ، ولا قعود ولا قيام ، ولا ابتداء ولا انتهاء ، إذ ليس كمثله شيء.

٢ ـ إن الإله المتصف بالوحدانية والقدرة الباهرة يجب في حقه أمران أساسيان : اللجوء إليه وحده ، والتوبة إليه من الذنوب ، والفرار من معاصيه إلى طاعته ، واجتناب الشرك أو عبادة شيء آخر معه. قال سهل بن عبد الله : فرّوا مما سوى الله إلى الله.

٣ ـ إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته وبعد مماته بما تركه من بيان وسنة دائم الإنذار ، بيّن التخويف ، ينذر الناس من عقاب الله على الكفر والمعصية.

٤٤

تهديد المشركين بالعذاب لتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

الاعراب :

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الكاف في (كَذلِكَ) في موضع رفع ، لأنها خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الأمر كذلك.

(ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الْمَتِينُ) بالرفع : صفة ل (ذُو) وقرئ بالجر على أنه صفة للقوة ، وذكّر ، لأنه تأنيث غير حقيقي ، ولأن فعيل يصلح صفة للمذكر والمؤنث ، والرفع أشهر في القراءة ، وأقوى في القياس.

البلاغة :

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) إطناب بتكرار فعل (أُرِيدُ) للمبالغة والتأكيد.

(ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) تشبيه مرسل مجمل ، لأنه حذف منه وجه الشبه ، أي نصيبا من العذاب مثل نصيب أسلافهم المكذبين في الشدة والألم.

المفردات اللغوية :

(كَذلِكَ) أي الأمر مثل ذلك ، والإشارة إلى تكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسميتهم إياه ساحرا

٤٥

أو مجنونا. (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) الآية كالتفسير له ، أي مثل تكذيبهم لك بقولهم : إنك ساحر أو مجنون تكذيب الأمم قبلهم رسلهم بقولهم ذلك.

(أَتَواصَوْا بِهِ) أي هل أوصى أولهم آخرهم؟ استفهام بمعنى النفي على سبيل التعجب ، أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول ، حتى قالوه كلهم. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) إضراب عن أن التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أن الجامع لهم على هذا القول طغيانهم. (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أعرض عنهم وعن مجادلتهم بعد الإصرار والعناد. (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) لست ملوما على الإعراض عنهم ، لأنك بلّغتهم الرسالة وبذلت الجهد في التذكير. (وَذَكِّرْ) داوم على التذكير والموعظة بالقرآن. (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) : من علم الله تعالى أنه يؤمن ، فإن التذكير يزيده بصيرة.

(إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) إلا لنأمرهم بالعبادة ويعبدوا الله بالفعل لا لاحتياجي إليهم ، فإن أعرض أو قصر بعضهم أو أكثرهم فعليه تبعة فعله. (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ..) لا أريد منهم الاستعانة بهم على تحصيل أرزاقهم ومعايشهم لأنفسهم أو غيرهم وهو أولى. (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أن يطعموا أنفسهم أو غيرهم. والمراد بيان أن شأن الله مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم ، فإنهم يملكونهم للاستخدام في حوائجهم (الرَّزَّاقُ) الذي يرزق كل محتاج ، وفيه إيماء باستغنائه عن الرزق. (الْمَتِينُ) الشديد القوة.

(ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر من أهل مكة وغيرهم. (ذَنُوباً) نصيبا من العذاب ، وأصل الذنوب في اللغة : الدّلو العظيمة المملوءة ماء. (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) مثل نصيب نظائرهم من الأمم السالفة ، الهالكين قبلهم. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) بالعذاب إن أخّرتهم إلى يوم القيامة ، وهو جواب لقولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الملك ٦٧ / ٢٥]. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي هلاك لهم وشدة عذاب. (مِنْ يَوْمِهِمُ) في يومهم وهو يوم القيامة.

سبب النزول

نزول الآيتين (٥٤ ، ٥٥):

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ .. وَذَكِّرْ ..) : أخرج ابن منيع وابن راهويه والهيثم بن كليب في مسانيدهم عن علي قال : لما نزلت : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة ، إذ أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتولى عنهم ، فنزلت : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فطابت أنفسنا.

٤٦

وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أنه لما نزلت : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) الآية ، اشتد على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأوا أن الوحي قد انقطع ، وأن العذاب قد حضر ، فأنزل الله تعالى : (وَذَكِّرْ ، فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).

المناسبة :

بعد بيان الأدلة على الحشر ، وعلى إثبات الوحدانية وعظيم القدرة الإلهية ، وتذكير المشركين بإهلاك الأمم المكذبة السالفة ، بيّن الله تعالى أن كل رسول كذّب ، وكأن التكذيب بين الأمم شيء متواصى به من الجميع ، والواقع أنهم قوم طغاة تجاوزوا حدود الله ، لذا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم ، علما بأنهم خلقوا لعبادة الله ، لا لتحصيل المعايش والأرزاق ، ثم ختمت السورة بتهديد مشركي مكة بعذاب مماثل العذاب من قبلهم من الأمم ، والعذاب واقع بهم ، لا شك فيه ، ولا مردّ له.

التفسير والبيان :

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا : ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي كما كذبك قومك من العرب ، ووصفوك بالسحر أو الجنون ، فعلت الأمم المتقدمة التي كذبت رسلها ، فهذا شأن الأمم في القديم ، ولست أنت وحدك الذي كذّب. وهذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إعراض قومه ، وحمله على الصبر وتحمل الأذى.

(أَتَواصَوْا بِهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) هذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار بمعنى النفي ، فهو تعجيب من حالهم يراد به : كأنما أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب ، وتواطؤوا عليه ، أي هل أوصى بعضهم بعضا بهذه المقالة؟ والواقع أنهم لم يتواصوا بذلك لتباعد زمانهم ، لكن هم قوم طغاة ، جمعهم الطغيان : وهو مجاوزة الحد في الكفر ، فقال متأخروهم كما قال متقدموهم.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي أعرض عنهم أيها الرسول ، وكفّ عن

٤٧

جدالهم ، فقد فعلت ما أمرك الله به ، وبلّغت رسالته ، وما أنت بملوم عند الله بعد هذا ، لأنك قد أدّيت ما عليك ، وما على الرسول إلا البلاغ ، وعلى الله الحساب.

(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولكن تابع التذكير ، وعظ بالقرآن من آمن به من قومك ، فإن التذكير ينفعهم ، أو إنما تنتفع بالذكرى القلوب المؤمنة المستعدة للهداية. والمراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم الهدى ، لا يوجب ترك البعض الآخر.

ثم بيّن الله تعالى الغاية من خلق الثقلين : وهي العبادة ، مع أن المشركين كذبوا الرسول ، وتركوا عبادة الخالق ، فقال :

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي ما خلقت الثقلين : الإنس والجن إلا للعبادة ، ولمعرفتي ، لا لاحتياجي إليهم كما قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة ٩ / ٣١] وكما ورد : «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف ، فخلقت الخلق ، فبي عرفوني» (١). والعبادة في اللغة : الذل والخضوع والانقياد. وقال أهل السنة : إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك ، فإن المعرفة أيضا غاية صحيحة.

وقال مجاهد : المعنى إلا لآمرهم بعبادتي وأنهاهم. وهذا كلام جديد مستأنف لتقرير وتأكيد الأمر بالتذكر ، فإن خلقهم للعبادة يستدعي دوام التذكير بها. وحكمة تقديم الجن على الإنس أن عبادتهم سرية لا يدخلها الرياء كعبادة الإنس.

ثم ذكر الله تعالى سمو الغاية من الخلق ، فقال :

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي لا أريد من خلقهم جلب نفع لي ، ولا دفع ضرر عني ، كما

__________________

(١) قال ابن تيمية : إنه ليس من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف.

٤٨

تريده السادة عادة من عبيدهم ، فإن الله هو الغني المعطي ، الرزاق المعطي ، الذي يرزق مخلوقاته ، ويقوم بما يصلحهم ، وهو ذو القدرة والقوة ، والشديد القوة ، فلم يخلقهم لنفع ينفعونه به ، فعليهم أن يؤدوا ما خلقوا له من العبادة. وما في قوله : (ما أُرِيدُ ..) للنفي في الحال ، ولا : للنفي في الاستقبال ، ونفي الحال وهو الدنيا أولى من نفي الاستقبال وهو في أمر الآخرة.

والخلاصة : أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذّبه أشد العذاب ، وهو غير محتاج إليهم ، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم.

روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله تعالى : «يا ابن آدم ، تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإلا تفعل ، ملأت صدرك شغلا ، ولم أسد فقرك».

وورد في بعض الكتب الإلهية : يقول الله تعالى : «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب ، فاطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء».

ثم هدد الله تعالى مشركي مكة وأمثالهم بقوله :

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ ، فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي فإن للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وتكذيب الرسول نصيبا من العذاب ، مثل نصيب أمثالهم الكفار من الأمم السابقة ، فلا يطلبوا مني تعجيل العذاب لهم ، فإن حظهم من العذاب آت لا ريب فيه ، وواقع لا محالة ، كما قال تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ ، فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل ١٦ / ١].

وهذا جواب قولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الملك ٦٧ / ٢٥] وقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود ١١ / ٣٢].

٤٩

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فهلاك وشدة عذاب للكافرين في يوم القيامة الذي يوعدون به ، وقيل : اليوم يوم بدر.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن تكذيب الرسل شأن الأمم قديمها وحديثها ، فكما كذب محمدا قومه ، وقالوا : ساحر أو مجنون ، كذّب من قبلهم رسلهم ، وقالوا مثل قولهم ، وكأن أولهم أوصى آخرهم بالتكذيب ، والتواطؤ عليه ، والواقع ليس كذلك ، فلم يوص بعضهم بعضا ، بل جمعهم الطغيان ، وهو مجاوزة الحد في الكفر.

والغرض من الخبر تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته.

٢ ـ أمر الله نبيه بالإعراض عن جدال قومه ، وطمأنه ربه بأنه غير ملوم. ولا مقصر ، فقد بلّغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، وإنما هم الملومون بالإعراض والعناد. وهذه تسلية أخرى ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من كرم أخلاقه وشدة حساسيته ينسب نفسه إلى تقصير في التبليغ ، فيجتهد في الإنذار والتبليغ.

٣ ـ لكن التولي عن القوم ليس مطلقا ، لذا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمتابعة التذكير ، فإنه ينفع المؤمنين ، وهم من علم الله سابقا أنهم يؤمنون.

٤ ـ وغاية التذكير : توجيه الناس إلى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له ، فلم يخلق الله الخلق إلا للعبادة ، فالمقصود من إيجاد الإنسان العبادة ، فيكون التذكير بها ضروريا ، والاعلام بأن كل ما عداها تضييع للزمان ، وفائدة العبادة : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله.

ثم إن مهمة الأنبياء منحصرة في أمرين : عبادة الله ، وهداية الخلق. وهناك غرض ثالث آخر من ذكر هذه الآية : وهو بيان سوء صنيع الكفار ، حيث تركوا

٥٠

عبادة الله ، مع أن خلقهم ما كان إلا للعبادة.

وقال مجاهد وغيره «إلا ليعبدون» أي إلا للعبادة ، وهذا كما قال الثعلبي قول حسن ، لأنه لو لم يخلقهم ، لما عرف وجود الله وتوحيده ، ودليل هذا التأويل قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف ٤٣ / ٨٧]. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ : خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف ٤٣ / ٩]. وهذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك.

٥ ـ لم يكن خلق الناس للعبادة لحاجة من الخالق ، فالله عزوجل غني عن عبادة العباد ، ولم يكن خلقهم للتسخير للخدمة في توفير الطعام والشراب أو حفظه ، كما يفعل السادة مع العبيد ، وهو سبحانه الرزاق الذي يرزق غيره ، وهو القدير الشديد القوي ، الذي لا يتقوى بأحد.

وقوله : (هُوَ الرَّزَّاقُ) تعليل لعدم طلب الرزق ، وقوله : (ذُو الْقُوَّةِ) تعليل لعدم طلب العمل ، لأن من يطلب رزقا ، يكون فقيرا محتاجا ، ومن يطلب عملا من غيره ، يكون عاجزا لا قوة له.

٦ ـ إن للذين ظلموا أنفسهم وهم كفار مكة وأمثالهم نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة ، فلا داعي لاستعجالهم نزول العذاب بهم ، فإنه آتيهم لا محالة.

وهذا تهديد للكفار الذين وصفهم الله بأنهم ظلمة ، لأن من وضع نفسه في موضع عبادة غير الله ، يكون قد وضع الشيء في غير موضعه ، فيكون ظالما. وإذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة ، فإن الذين ظلموا بعبادة غير الله ، لهم هلاك مثل هلاك من تقدم.

ومناسبة الذّنوب التي هي في الأصل : الدلو العظيمة : هي كأنه تعالى قال : نصبّ من فوق رؤوسهم ذنوبا كذنوب صبّ فوق رؤوس أولئك.

٥١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الطور

مكيّة ، وهي تسع وأربعون آية.

تسميتها :

سميت سورة (الطور) لافتتاحها بقسم الله تعالى بجبل الطور الذي يكون فيه أشجار ، كالذي كلّم الله عليه موسى ، وأرسل منه عيسى ، فنال بذلك شرفا عظيما على سائر الجبال.

مناسبتها لما قبلها :

تتجلى للمتأمل مناسبة هذه السورة لسورة الذاريات قبلها من وجوه :

١ ـ تشابه الموضوع : فإن كلتا السورتين مكية ، تضمنت الكلام عن التوحيد والبعث وأحوال الآخرة ، والرسالة النبوية ، وتفنيد معتقدات المشركين الفاسدة.

٢ ـ تماثل الابتداء والانتهاء : ففي مطلع كل منهما وصف حال المتقين في الآخرة : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الذاريات ٥١ / ١٥]. (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) [الطور ٥٢ / ١٧] وفي ختام كل منهما صفة حال الكفار : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [الذاريات ٥١ / ٦٠]. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) [الطور ٥٢ / ٤٢].

٣ ـ اتحاد القسم بآية كونية : ففي الذاريات أقسم الله بالرياح الذاريات

٥٢

النافعة في المعاش ، وفي الطور أقسم الله بالجبل الذي حظي بالنور الإلهي بتكليم موسى عليه‌السلام وإنزال التوراة عليه لنفع الناس في المعاش والمعاد.

٤ ـ تطابق الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن الكافرين ومتابعة تذكير المؤمنين : ففي الذاريات : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) [٥٤] (وَذَكِّرْ ..) [٥٥] وفي الطور : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ ..) [٢٩] : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ ..)

[٤٥].

ما اشتملت عليه السورة :

لما ختم الله تعالى السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود ، أقسم على ذلك بالطور ، وهو الجبل الذي ذكر مرارا في قصة موسى عليه‌السلام ، والكتاب المسطور : التوراة ونحوها أو اللوح المحفوظ ، والبيت المعمور : الكعبة المشرفة ، والسقف المرفوع : السماء ، والبحر المسجور : المملوء أو الموقد. فهو قسم بآيات كونية علوية وسفلية على أن العذاب آت لا ريب فيه.

ثم وصف الله تعالى عذاب النار الذي يزجّ به المكذبون ، وما يلقونه من الذل والإهانة ، وأردفه بوصف نعيم المتقين أهل الجنة ، وما يتمتعون به من أنواع الملذات في الملبس والمسكن والمطعم والمشرب والزواج بالحور العين.

وأعقب هذا الوصف أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمتابعة التذكير ، وتبليغ الرسالة ، وإنذار الكفرة ، والإعراض عن سفاهة المشركين وافترائهم حين يقولون عنه : إنه شاعر ، أو كاهن ، أو مجنون ، أو مفتر على الله ، ثم أنكر تعالى عليهم مزاعمهم الباطلة هذه ، وأثبت بالأدلة الدامغة صدق رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقام البراهين والحجج القاطعة على الألوهية الحقة والوحدانية ، ونعى على المشركين قولهم : الملائكة بنات الله ، ووبخهم وتهكم بهم في عنادهم ومكابرتهم وبلوغهم حد إنكار المحسوسات المشاهدة لهم. وختمت السورة بأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترك الكفار في ضلالهم حتى

٥٣

الهلاك ، وبالصبر في تبليغ رسالته وبالتسبيح والتحميد ليل نهار ، والإخبار بأن الله حارسه وعاصمه وحافظه ، وبأن للظالمين عذابين : في الدنيا والآخرة.

فضلها :

أخرج البخاري وغيره عن أم سلمة : «أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور».

وعن جبير بن مطعم : «أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكلّمه في الأسارى ، فألفيته في صلاة الفجر ، يقرأ سورة والطور ، فلما بلغ : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب». فلما انتهى إلى هذه الآية : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ، أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، بَلْ لا يُوقِنُونَ) كاد قلبي أن يطير.

وقوع القيامة وإثبات العذاب في اليوم الموعود

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

٥٤

الاعراب :

(وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) الواو الأولى واو القسم ، والثانية واو العطف ، وجواب القسم : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ).

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) العامل في الظرف هو (لَواقِعٌ) أي يقع في ذلك اليوم ، ولا يجوز أن يعمل فيه. (دافِعٍ) لأن المنفي لا يعمل فيما قبل النافي.

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ويل : مبتدأ مرفوع ، وخبره (لِلْمُكَذِّبِينَ). وجاز الابتداء بكلمة (فَوَيْلٌ) النكرة ، لأن في الكلام معنى الدعاء ، كقولهم : سلام عليكم. والفاء في (فَوَيْلٌ) جواب الجملة المتقدمة ، لأن الكلام متضمن معنى الشرط ، أي إذا كان الأمر كذلك فويل .. (يَوْمَ يُدَعُّونَ .. يَوْمَ) بدل من قوله : (يَوْمَئِذٍ).

(أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ هذا) في موضع رفع مبتدأ ، وسحر : خبر مقدم وتقديم الخبر لأنه مقصود بالإنكار والتوبيخ. وأم هنا : منقطعة لا متصلة ، لمجيء جملة اسمية تامة بعدها ، فلو لم يكن بعدها جملة تامة لكانت متصلة. والمتصلة بمعنى (أي) والمنقطعة بمعنى (بل والهمزة) وتقديره : أفسحر هذا ، بل أنتم لا تبصرون. و (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) مبتدأ ، خبره محذوف ، أي سواء عليكم الجزع والصبر.

البلاغة :

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) جناس اشتقاق ، وكذا قوله : (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً). (أَفَسِحْرٌ هذا؟) الاستفهام للتوبيخ والتقريع. (اصْلَوْها ، فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا اصْلَوْها) للإهانة والتوبيخ. وبين قوله : (فَاصْبِرُوا) وقوله : (أَوْ لا تَصْبِرُوا) طباق السلب. (وَالطُّورِ ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ..) الآيات فيها سجع لطيف ، وكذا في قوله (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ).

المفردات اللغوية :

(وَالطُّورِ) هو الجبل المشجر الذي كلم الله عليه موسى ، وأرسل منه عيسى ، وغير المشجر لا يقال له : طور ، وإنما يسمى جبلا. وموقع الطور في صحراء سيناء ببلاد مدين ، وهو طور سينين. والطور بالسريانية : الجبل. (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أي مكتوب ، تم فيه ترتيب الحروف المكتوبة على وجه منتظم ، والسطر : ترتيب الحروف المكتوبة ، والمراد به: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ من الكتب السماوية ، كالتوراة وألواح موسى والزبور والإنجيل والقرآن.

(رَقٍّ مَنْشُورٍ) الرّق : جلد رقيق يكتب فيه ، وقد أستعير هنا لما كتب فيه الكتاب،

٥٥

والمنشور : المبسوط المفتوح ، وتنكيرهما للتعظيم والإشعار بأنهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس. (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) الكعبة المعمورة بالحجاج والزوار والمجاورين. (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) هو السماء. (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) البحر المملوء ماء ، وهو المحيط ، أو الموقد المحمى المملوء نارا ، من قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير ٨١ / ٦] من سجّر النار : أوقدها ، روي أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار نارا تسجر بها جهنم.

(لَواقِعٌ) لنازل بالمستحقين. (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) يدفعه أو يمنعه عن المستحقين. والمراد بهذه الأمور المقسم بها على وقوع عذاب الله يوم القيامة أنها تدل على كمال قدرة الله وحكمته ، وصدق أخباره ، وضبط أعمال العباد للمجازاة.

(تَمُورُ) تتحرك وتضطرب وتدور وترتجّ في مكانها. (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي تسير عن وجه الأرض ، فتصير هباء منثورا ، وذلك في يوم القيامة الذي يقع فيه العذاب. (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي إذا وقع ذلك فويل لهم ، أي شدة عذاب. (فِي خَوْضٍ) باطل. (يَلْعَبُونَ) يتشاغلون بكفرهم.

(يُدَعُّونَ) يدفعون دفعا شديدا بعنف. (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي فيقال لهم ذلك. (أَفَسِحْرٌ هذا؟) أي أسحر هذا العذاب الذي ترون ، كما كنتم تقولون في الوحي : هذا سحر. (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) بل أنتم لا تبصرون هذا أيضا ، كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ما يدل عليه ، وهو تقريع وتهكم. (اصْلَوْها) ادخلوها وقاسوا شدائدها. (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) ادخلوها على أي وجه شئتم من الصبر وعدمه وهو الجزع ، فإنه لا محيص لكم عنها. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي الأمران : الصبر والجزع سواء ، لأن صبركم لا ينفعكم. (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل للاستواء ، لأنه لما كان الجزاء واجب الوقوع ، كان الصبر وعدمه سببين في عدم النفع.

التفسير والبيان :

يقسم الله تعالى بمخلوقاته الدالة على كمال قدرته في إيقاع العذاب بأعدائه دون أن يكون هناك دافع له عنهم ، فيقول :

(وَالطُّورِ ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) أقسم الله سبحانه بجبل طور سيناء الذي فيه أشجار ، تشريفا له وتكريما ، لما حدث فيه من حادث عظيم وهو تكليم الله موسى فيه ، وأنزل عليه التوراة التي كتبت بحروف منتظمة ، في جلد رقيق مبسوط. وكانت الجواد أكثر ما يكتب فيها قبل اختراع الورق.

٥٦

فقوله : (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) يشمل الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا ، كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن. وقيل : هو اللوح المحفوظ. وقرن الكتاب بالطور ، لإنزاله على موسى وهو فيه ، وقوله : (مَنْشُورٍ) إشارة إلى الوضوح.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي والكعبة المشرفة التي تعمر بالحجاج والزوار والمجاورين الذين يقصدونها للعبادة والدعاء والتبرك بها. والسماء العالية التي هي كالسقف للأرض وما حوتها من شموس وأقمار وكواكب ثابتة وسيّارة وعوالم لا يحصيها إلا الله تعالى.

والبحر المملوء ماء ، المحبوس عن الأرض اليابسة ، والموقد نارا كالتنّور المحمى الذي يتفجر بالنار الملتهبة يوم القيامة ، كما قال تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير ٨١ / ٦] روي : أن البحار تسجر يوم القيامة ، فتكون نارا. ومن المعروف أن النفط يستخرج من قاع البحار كالأرض اليابسة ، وتتصاعد منه بين الحين والآخر الزلازل والبراكين.

وقرن السقف المرفوع بالبيت المعمور ليعلم شأن الكعبة ، وأماكن شعائر الإسلام ، وعظمة قدر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي ناجى ربه فيه قائلا : «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك». كما أن يونس عليه‌السلام كلّم ربه في البحر قائلا : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٧].

وتنكير الكتاب وتعريف باقي الأشياء لتعظيمه وشهرة معرفته ، حتى إنه ما احتاج إلى تعريف ، أما بقية الأشياء فاحتاجت إلى التعريف.

ثم ذكر الله تعالى جواب القسم قائلا :

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) هذا هو المقسم عليه أو جواب القسم ، أي أقسم بتلك المخلوقات العظيمة على أن عذاب الآخرة لواقع كائن لا محالة

٥٧

لمن يستحقه من الكافرين والعصاة الذين كذبوا الرسل ، ليس له دافع يدفعه ويردّه عن أهل النار. وقوله : (لَواقِعٌ) فيه إشارة إلى الشدة. وقوله : (عَذابَ رَبِّكَ) ليأمن النبي وكل مؤمن حين يسمع لفظ الرب ، فإن اسم الله منبئ عن العظمة والهيبة ، واسم الرب ينبئ عن اللطف.

ثم بيّن الله تعالى ما يصاحب وقوع العذاب يوم القيامة ، فقال :

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي إن العذاب لواقع يوم تضطرب السماء اضطرابا ويموج بعضها في بعض موجا ، وتتحرك في مكانها ، وتزول الجبال من مواضعها كسير السحاب ، وتصير هباء منبثا ، وتنسف نسفا.

والحكمة في مور السماء وسير الجبال : الاعلام بألا عودة إلى الدنيا ، لخرابها وعمارة الآخرة ، لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم بها ، فإن لم يؤمل العود إليها ، لم يبق فيها نفع.

ثم ذكر الله تعالى من يقع عليه العذاب وينزل عليه يوم القيامة ، فقال :

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي ويل ـ وهي كلمة تقال للهالك ـ لأولئك الذين كذبوا الرسل ، ذلك اليوم ، من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم ، فمن لا يكذّب لا يعذّب بنحو دائم ، والمكذبون الذين كانوا في الدنيا في تردد وخوض في الباطل ، واندفاع فيه ، لا يذكرون حسابا ، ولا يخافون عقابا ، ويتخذون دينهم هزوا ولعبا ، ويخوضون في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب والاستهزاء. والفاء في قوله : (فَوَيْلٌ) لاتصال المعنى وهو الاعلام بأمان أهل الإيمان. أما أهل الكبائر فلا يستمر تعذيبهم ولا يخلّدون في النار ، لأنهم لا يكذّبون الرسل.

وأسلوب إلقاء المكذبين في النار هو ما ذكره تعالى بقوله :

٥٨

(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي يوم يدفعون ويساقون إلى نار جهنم دفعا عنيفا شديدا.

ويقال لهم تقريعا وتوبيخا :

١ ـ (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي تقول الزبانية لهم تقريعا وتوبيخا : هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا. والتكذيب بها تكذيب للرسول الذي أخبر بها من طريق الوحي.

٢ ـ (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟) أي أهذا الذي ترون وتشاهدون سحر كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة ولكتبه المنزلة؟ بل إنه لحق ولكنكم أنتم عمي عن هذا ، كما كنتم عميا عن الحق في الدنيا ، أي لا شك في المرئي ، ولا عمى في البصر ، فالذي ترونه حق.

٣ ـ (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إذا لم يمكنكم إنكار ما ترون من نار جهنم ، وتحققتم أن ذلك ليس بسحر ، ولم يكن في أبصاركم خلل ، فالآن ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته ، وقاسوا حرها وشدتها ، ثم يستوي الأمران : الصبر على العذاب وعدم الصبر وهو الجزع ، فلا ينفعكم شيء ، وافعلوا ما شئتم ، فالأمران سواء في عدم النفع ، وإنما الجزاء بالعمل خيرا أو شرا ، وبما أن العذاب واقع حتما ، كان الصبر وعدمه سواء ، فسواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا ، لا محيد لكم عنها ، ولا خلاص لكم منها ، ولا يظلم الله أحدا ، بل يجازي كلا بعمله.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بأشياء خمسة : هي الطور والكتب المنزلة ، والبيت

٥٩

المعمور ، والسقف المرفوع والبحر المسجور ، تشريفا لها وتكريما. والحكمة في اختيار الأماكن الثلاثة : وهي الطور ، والبيت المعمور ، والبحر المسجور هي كونها أماكن ثلاثة أنبياء ، انفردوا فيها للخلوة بربهم ، والخلاص من الخلق ، ومناجاة الله وخطابه. أما الطور فانتقل إليه موسى عليه‌السلام ، وخاطب ربه ، فقال : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ ، وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف ٧ / ١٥٥] وقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف ٧ / ١٤٣].

وناجى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه في البيت المعمور (الكعبة) فقال ـ كما تقدم ـ : «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك».

ودعا يونس عليه‌السلام ربه في أعماق البحر ، فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٧].

فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب ، فحلف الله تعالى بها ، ثم قرن بها الكتاب ، لأن الله تعالى كلّم موسى عليه‌السلام في الطور ، وأنزل عليه التوراة (١) ، وبقية الكتب مثل التوراة للهداية والنور.

٢ ـ كان المقسم عليه هو وقوع عذاب اليوم الموعود لا محالة ، بلا أدنى شك ، واستحالة قدرة أحد أن يدفعه عن المعذّبين المكذبين بالرسل.

٣ ـ يقع العذاب بالمكذبين يوم القيامة ، وهو اليوم الذي تمور فيه السماء ، أي ترتج بما فيها وتضطرب في مكانها ، وتسير الجبال عن أماكنها حتى تستوي بالأرض ، إعلاما بألا عودة إلى الدنيا.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠

٦٠