التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ، ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران ٣ / ١٤].

وهذا يدل على حقارة الدنيا ، ثم شبهها في سرعة زوالها ، مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث وربّاه إلى أن يتكامل نشوؤه ثم يزول ، فقال :

(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ ، فَتَراهُ مُصْفَرًّا ، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي أن الدنيا مثل مطر ، أعجب الزراع النبات الحاصل به ، ثم يجف وييبس بعد خضرته ، ثم يكون فتاتا هشيما متكسرا متحطما بعد يبسه ، تعصف به الرياح. والكفار هنا : الزّراع ، لأنهم يكفرون البذر في الأرض ، أي يغطونه بالتراب.

ونظير الآية : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها ، أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً ، فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس ١٠ / ٢٤].

ثم حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير استعدادا للآخرة ، فقال : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي وليس في الآخرة الآتية إلا أمران : إما عذاب شديد لأعداء الله ، وإما مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته ، وما الحياة الدنيا إلا مجرد متاع يتمتع به ، وخديعة لم يغتر بها ، ولم يعمل لآخرته ، حتى أعجبته واعتقد أنه لا دار سواها ، ولا معاد وراءها ، مع أنها حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة. قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور ، إذا ألهتك عن طلب الآخرة ، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله ولقائه ، فنعم المتاع ونعم

٣٢١

الوسيلة. وهذا دليل على أن من استعان على الآخرة بطلب الدنيا ، فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو خير منه.

روى ابن جرير ، وجاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» اقرؤوا : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) والزيادة الأخيرة في رواية ابن جرير فقط.

وأخرج البخاري وأحمد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك» وهذا يدل على اقتراب الخير والشر من الإنسان.

ولما ذكر الله تعالى ما في الآخرة من المغفرة أمر بالمسابقة إليها :

أي إنه سبحانه حث على المبادرة إلى الخيرات ، والمسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة ، من فعل الطاعات ، وترك المحرمات التي تكفّر الذنوب والزلّات ، وتحصّل الثواب والدرجات ، فقال :

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي بادروا أو سارعوا مسارعة المتسابقين بالأعمال الصالحة إلى ما يوجب المغفرة لكم من ربكم ، وسارعوا إلى التوبة الماحية للذنوب والمعاصي ، وإلى ما يوصّل إلى جنة عرضها مثل عرض السماء والأرض معا ، وإذا كان هذا قدر عرضها ، فما ظنك بطولها؟!

تلك الجنة التي هيئت وخلقت للذين صدقوا بالله وبرسله ، وعمل بما فرض الله عليه ، واجتنب نهيه.

ثم بيّن الله تعالى أن المغفرة والجنة فضل منه ورحمة ، لا إيجاب وإلزام ،

٣٢٢

فقال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إن هذا الجزاء الموعود به وهو الجنة والمغفرة مجرد فضل من الله ورحمة منه ، وليس واجبا عليه.

جاء في الحديث الصحيح : «أن فقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالأجور ، بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، قال : وما ذاك؟ قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، قال : أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم ، تسبّحون وتكبّرون وتحمّدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، قال : فرجعوا ، فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ، ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ)».

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ إن المقصود الأصلي من الآية الأولى تحقير حال الدنيا ، وتعظيم حال الآخرة ، لذا وصف الله تعالى الدنيا بخمس صفات : أنها لعب وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جدا ، ثم تنقضي متاعبهم من غير فائدة ، وأنها لهو وهو فعل الشبان ، ولا يبقى غالبا بعده إلا الحسرة ، وأنها زينة وهذا دأب النساء وهو تكميل الناقص ، وتفاخر بين أهلها بالصفات الفانية الزائلة ، وهو إما التفاخر بالنسب ، أو التفاخر بالقدرة المادية والقوة الجسدية والأتباع والمنصب ، وكلها ذاهبة ، وأنها تكاثر في الأموال والأولاد.

ثم شبهها في سرعة انقضائها وزوال جمالها بالزرع الذي يعجب الناظرين إليه ، لحضرته بكثرة الأمطار ، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن. وقد ذكر هذا المثل في سورتي يونس (٢٤) والكهف (٤٥).

٣٢٣

ثم ذكر حال الآخرة ، فالناس فيها إما إلى عذاب شديد دائم لأعداء الله ، وإما إلى مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته ، وهو أعظم درجات الثواب.

ثم ختم الآية تأكيدا لما سبق بأن الحياة الدنيا مجرد متاع يغرّ ويخدع من أقبل عليها ، وهم الكفار ، أما المؤمنون فالدنيا لهم متاع بلاغ إلى الجنة.

٢ ـ إذا كان هذا شأن الدنيا وحال الآخرة ، فما على الناس إلا العمل للآخرة ، لذا أمر الله بالمسارعة بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لهم من ربهم ، وتبوئهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، والجنة كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض ، وقد خلقت وهيئت للذين صدّقوا بوجود الله ووحدانيته وبرسله.

وفي هذا تقوية للرجاء ، ودليل على أن الجنة مخلوقة جاهزة. لكن لا تنال الجنة ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله ، والله صاحب الفضل الواسع الكثير. والمراد بهذه الجملة : التنبيه على عظم حال الجنة ، لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه ، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيما.

تعلق المصائب بالقضاء والقدر وجناية البخلاء على أنفسهم

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

٣٢٤

الإعراب :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها فِي الْأَرْضِ) موضعه إما الجر على أنه صفة لمصيبة على اللفظ ، أي كائنة في الأرض ، وإما الرفع صفة لمصيبة على الموضع ، وموضعها الرفع ، لأن (مِنْ) زائدة ، وفي الصفة ضمير يعود على الموصوف ، وإما النصب على أنه متعلق ب (أَصابَ) أو ب (مُصِيبَةٍ) فلا يكون إذن فيه ضمير.

و (إِلَّا فِي كِتابٍ) في موضع نصب على الحال ، أي إلا مكتوبا ، وهاء (نَبْرَأَها) تعود على النفس أو على الأرض أو على المصيبة.

(لِكَيْلا تَأْسَوْا .. تَأْسَوْا) منصوب ب (كي) لا بتقدير (أن) بعدها ، لأن اللام هنا حرف جر ، وقد دخلت على (كي) فلا يجوز أن تكون (كي) حينئذ حرف جر ، لأن حرف الجر لا يدخل على حرف الجر.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بدل من كل مختال ، أو مبتدأ ، خبره محذوف دل عليه ما بعده : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لأن معناه : ومن يعرض عن الإنفاق ، فإن الله غني عنه ، وعن إنفاقه. وضمير (هُوَ) ضمير فصل.

المفردات اللغوية :

(مُصِيبَةٍ) هي في اللغة : كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر ، وخصت في العرف بالشر ، كالجدب والعاهة في الأرض ، والمرض والآفة وفقد الولد في الأنفس. (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي اللوح المحفوظ. (نَبْرَأَها) نخلقها. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) إن إثباته في كتاب على الله سهل ، لاستغنائه فيه عن العدّ والمدة. (تَأْسَوْا) تحزنوا. (عَلى ما فاتَكُمْ) من نعيم الدينا. (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) فرح بطر ، بل فرح شكر على النعمة ، بما أعطاكم الله منها ، فإن من علم أن الكل مقدّر ، هان عليه الأمر. (وَاللهُ لا يُحِبُ) أي يعاقب. (كُلَّ مُخْتالٍ) متكبر بما أوتي. (فَخُورٍ) متباه أو مباه على الناس بماله أو جاهه.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بما يجب عليهم. (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي بالبخل به ، لهم وعيد شديد. (وَمَنْ يَتَوَلَ) عما يجب عليه. (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن غيره (الْحَمِيدُ) المحمود في ذاته ، لا يضره الإعراض عن شكره ، ولا ينتفع بالتقرب إليه بشيء من نعمه. وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق.

٣٢٥

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن كل ما في الآخرة من مغفرة وجنة من فضله ورحمته ، أراد أن يبين أن كل ما في الدنيا من مصائب وأحداث بقضائه وقدره ، لتهوين أمر المصيبة على المؤمنين.

ثم حذر الله تعالى من الحزن على ما فات من نعيم الدنيا ، والبطر والاختيال والمباهاة عند مجيء النعمة ، ثم أخبر أنه يعاقب المختالين الفخورين الذين يبخلون بما يجب عليهم شرعا ، بل ويأمرون الناس بالبخل ، وهؤلاء لا يجنون إلا على أنفسهم.

التفسير والبيان :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي لا توجد مصيبة من هذه المصائب في الدنيا إلا وهي مكتوبة عند الله ، فهي بقضاء وقدر ، سواء أكانت مصيبة في الأرض مثل القحط والجدب أو قلة النبات ، وفساد الزرع ، ونقص الثمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوع ، أم في الأنفس كالأمراض ، والفقر وضيق المعاش ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود ، فذلك كله مسطّر في اللوح المحفوظ ، من قبل إيجاد هذه الخليقة.

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) الأحسن عود الضمير على الخليقة والبرية أو النسمة ، لدلالة الكلام عليها ، كما قال ابن جرير.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي إن إثباتها في الكتاب ، مع كثرتها ، وعلمه بالأشياء قبل وجودها ، سهل يسير على الله ، غير عسير ، لأن الله هو الخالق ، وهو أعلم بما خلق ، يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون. ورد في الخبر : (من عرف سر الله في القدر ، هانت عليه المصائب). وقد استدل العلماء بهذه الآية على أنه تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها.

٣٢٦

فالأشياء والأحداث والمصائب تنسب إلى الله الموجد لها ، لا إلى أحد من البشر في الحقيقة ، وأما ما يقال من التشاؤم (الطيرة) في المرأة والدابة والدار ، فذلك بحسب عرف الناس وتصوراتهم ومقالاتهم ، لا في واقع الأمر ، كذلك السحر والعين والقتل كل ذلك يحدث بتأثير الله ، فهو المؤثر والفعال الحقيقي ، وأما فعل الناس فهو مجرد أمر أو سبب في الظاهر ، فينسب إليه الشيء الحادث ظاهرا ، لا حقيقة. وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لقصرها على أحوال الدنيا ، لذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم الدين» ولم يقل : إلى الأبد.

أخرج الإمام أحمد ، والحاكم وصححه عن أبي حسان : أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا : «إن أبا هريرة يحدّث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» ، فقالت : والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هكذا كان يقول ، ولكن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» ، ثم قرأت : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) الآية.

(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي أخبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم في الدنيا ، ولا تفرحوا فرح بطر بما هو آت ، فلا تأسوا على ما فاتكم ، لأنه لو قدر شيء لكان ، ولا تفرحوا بما جاءكم أو أعطاكم ، أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم ، فإن ذلك من قدر الله ورزقه لكم ، لذا قال تعالى :

(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي إن الله يعاقب كل مختال في نفسه ، أي متكبر ، فخور على غيره ، أي مباه بماله أو جاهه.

وبه يتبين أن الحزن المذموم : هو الذي لا صبر لدى صاحبه ، ولا رضا

٣٢٧

بقضاء الله وقدره ، والفرح الممنوع : هو البطر الذي يحمل صاحبه على الطغيان ، ويلهيه عن الشكر. قال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يحزن أو يفرح ، ولكن اجعلوا الفرح شكرا ، والحزن صبرا.

ولا يصح النهي عن شيء من طبائع البشر كالفرح والحزن والغضب ، وإنما النهي وارد على مقدمات الغضب وتعاطي أسبابه ، أو على توابع الفرح والحزن وهو بطر النعمة وكفرانها ، والسخط على القدر ، والجزع.

وبما أن المختال الفخور يكون غالبا بخيلا ، لأنه لا يرى لغيره حقا عليه ، ذكر تعالى صفة البخل عندهم ، فقال :

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي إن المختالين الفخورين هم الذين يبخلون عادة بأموالهم ، فلا يؤدون حق الله فيها ، ولا يواسون بائسا فقيرا ، ولا معدما عاجزا ، بل إنهم يطلبون من غيرهم إمساك المال ، ويحسّنون للناس أن يبخلوا بما يملكون ، حتى يجعلوا لهم أشباها وأمثالا. ولكن من يعرض عن الإنفاق وعن أمر الله وطاعته ، فإن الله غني عنه ، محمود الذات في السماء والأرض عند خلقه ، لا يضره ذلك ، ولا يضرن البخيل إلا نفسه ، كما قال موسى عليه‌السلام لقوم فيما حكى القرآن : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم ١٤ / ٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كل ما في الكون بأمر الله تعالى ، وكل المصائب معلومة لله تعالى ، مكتوبة في اللوح المحفوظ قبل إيجاد الخليقة ، وحفظ ذلك وعلمه هيّن يسير على الله تعالى.

٣٢٨

٢ ـ إذا كان الكل مكتوبا مقدرا لا مرد له ، هانت المصائب على الناس ، وكان عليهم امتثال الأمر ، فلا يحزنوا على ما فاتهم من الرزق ، ولا يفرحوا بما أوتوا من الدنيا. روى عكرمة عن ابن عباس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا ، وغنيمته شكرا (١). والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما المرء إلى ما لا يجوز. وقد تقدم أن الفرح المذموم : هو الموجب للبطر والاختيال ، أي التكبر. وأن الحزن الممنوع : هو الذي يخرج صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ، ورجاء ثواب الصابرين.

٣ ـ إن الله يبغض كل متكبر بما أوتي من الدنيا ، فخور به على الناس ولا يرضى عنه ، ويعاقبه.

٤ ـ إن الله لا يحب المختالين الذين يبخلون أو يضنون بالمال عما أوجب الله عليهم من الإنفاق في سبيله ، والصدقة به على الفقراء والمساكين ، ويأمرون الناس بالبخل مثلهم.

٥ ـ من يعرض عن الإنفاق وعن طاعة الله والإيمان بما قدر وقضى فإن الله غني عنه وعن إنفاقه ، والله سبحانه هو الغني المطلق الغنى الذي يرزق عباده ، والمحمود في ذاته في السماء والأرض ، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه ، كما قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر ٣٥ / ١٥] ولا يضره الإعراض عن شكره ، بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله.

__________________

(١) أخرجه الحاكم وصححه وغيره.

٣٢٩

الغاية من بعثة الرسل

ـ ١ ـ

دستور المجتمع الإسلامي ونظام الحكم

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥))

الإعراب :

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) جملة مركبة من مبتدأ وخبر ، في موضع نصب على الحال من (الْحَدِيدَ).

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ وَلِيَعْلَمَ) معطوف على (لِيَقُومَ النَّاسُ وَرُسُلَهُ) منصوب بالعطف على هاء (يَنْصُرُهُ) وتقديره : وينصر رسله ، مثل : (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الحشر ٥٩ / ٨]. ولا يجوز نصبه ب (لِيَعْلَمَ) لأنه يصير فصلا بين الصلة والموصول أي بين (يَنْصُرُهُ) وقوله : (بِالْغَيْبِ) وذلك لا يجوز. و (بِالْغَيْبِ) حال من هاء. (يَنْصُرُهُ) أي غائبا عنهم في الدنيا.

البلاغة :

(أَرْسَلْنا رُسُلَنا) جناس ناقص لتغير الشكل وبعض الحروف. (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) سجع مرصع محبب إلى النفس.

المفردات اللغوية :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) أرسلنا الأنبياء إلى الأمم (بِالْبَيِّناتِ) الحجج والمعجزات. (الْكِتابَ) أراد به الجنس ، أي كتب الشرائع. (وَالْمِيزانَ) العدل. (بِالْقِسْطِ) الحق.

٣٣٠

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) خلقناه وأخرجناه من المعادن. (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي تتخذ منه آلات الحرب والصناعات الثقيلة والمباني الضخمة ونحو ذلك ، والبأس : القوة. (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) يدخل في صناعات كثيرة مفيدة للناس. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) علم مشاهدة وظهور في الواقع الحاصل. (مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) من ينصر دينه وينصر رسله باستخدام الأسلحة وآلات الحرب من الحديد وغيره في مجاهدة الكفار الأعداء. (بِالْغَيْبِ) غائبا عنهم في الدنيا ، قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه. (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على إهلاك من أراد إهلاكه. (عَزِيزٌ) لا حاجة له إلى نصرة عباده ، وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به وينالوا ثواب الامتثال فيه.

المناسبة :

بعد بيان حال الدنيا وحال الآخرة ، أراد الله تعالى أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات والحجج القاطعات ، ويرشد إلى مقومات الرسالات والشرائع الإلهية لتنظيم حياة المجتمعات ، وإعزاز دين الله ونصرة رسله.

وأما وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد في الآية ، فإن العلماء ذكروا وجوها سبعة أظهرها : أن الدين إما اعتقادات أو معاملات أو أصول وفروع ، والاعتقادات أو الأصول لا تتم إلا بالكتاب السماوي ، لا سيما إذا كان معجزا ، والمعاملات أو الفروع لا تصلح ولا تنتظم إلا بالميزان وهو العدل ، ولا بد من مؤيد يحمي نظم الشرائع ، وذلك المؤيد هو الحديد لتأديب من ترك الأصلين أو الطريقين ، وهما الاعتقاد ونظام التعامل (١).

وهذا إشارة إلى أن الكتاب يمثل سلطة التشريع ، والعدل يمثل سلطة القضاء ، وإنزال الحديد يمثل السلطة التنفيذية.

التفسير والبيان :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي تالله لقد أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء بالوحي ، والأنبياء إلى أممهم

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٩ / ٢٤٠ وما بعدها ، غرائب القرآن للنيسابوري : ٢٧ / ١٠١ وما بعدها.

٣٣١

لتبليغ الوحي ، بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة والحجج والبراهين القاطعة ، وأنزلنا معهم الكتاب أي جنسه الشامل لكل كتاب سماوي كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، وأنزلنا معهم الميزان ، أي العدل في الأحكام ، أي أمرناهم به ، ليتبع الناس ما أمروا به من الحق والعدل ، وتقوم حياتهم عليه ، فيتعاملوا بينهم بالإنصاف في جميع أمورهم الدينية والدنيوية ، فهم الحراس على تنفيذ الأحكام واحترام الشرائع واتباع الرسل.

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي وخلقنا الحديد مع المعادن ، وعلّمنا الناس صنعته ، وجعلناه رادعا لمن أبي الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه ، ففيه قوة رادعة ، وفيه منافع للناس ينتفعون به في كثير من حاجاتهم ومعايشهم ، كأدوات الطعام ومرافق المنازل وإقامة المباني والعمارات ، ومرافق الحياة الاقتصادية وآلات الزراعة ، وأدوات الصناعة السلمية والحربية ، الخفيفة والثقيلة من آلات وأسلحة وفطارات وبواخر وطائرات وسيارات وغيرها. فكلمة الحديد إشارة إلى القوة الرادعة لتنفيذ أحكام الشريعة بين المسلمين ومن يتعايش معهم في داخل الدولة ، ولجهاد الأعداء الدين يعتدون على حرمات الدين وبلاد الإسلام ويعرقلون انتشاره في العالم.

لهذا أقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية لإصلاح العقيدة والأخلاق وجدال المشركين وإيضاح أصل التوحيد وإثبات النبوة بالمعجزات الباهرات ، فلما قامت الحجة على الناس المخالفين ، شرع الله الهجرة ، وأذن بالقتال دفاعا عن استقرار العقيدة وكرامة المسلمين وعزتهم ، وكفالة احترام تعاليم القرآن. روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبّه بقوم فهو منهم».

٣٣٢

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إنما فعل الله ذلك ليعلم علم مشاهدة ووجود من ينصر دينه وينصر رسله بإخلاص ونية صالحة ، باستعمال الحديد ، في أسلحة الجهاد ومقاومة الأعداء ، إن الله قوي قادر عزيز قاهر غالب ، يستطيع دفع عدوان الظالمين ، وينصر رسله والمؤمنين من غير حاجة إليهم ، وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به وبثوابه ، ويحققوا لأنفسهم العزة والمنعة والهيبة في قلوب الناس ، فإن حماية القيم والمبادئ تحتاج دائما إلى حماة أشداء ، ذوي بأس وإباء.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية دستور المجتمع الإسلامي ونظام الحكم في الإسلام ، فهو مجتمع يحكم بشريعة سماوية ، على منهج الحق والعدل والمساواة ، وفي ظل من القوة الحامية لمبادئ التشريع الرادعة الزاجرة كل من يتجرأ على انتهاكها أو النيل من قدسيتها ، أو محاولة القضاء عليها ، أو عرقلة مسيرة الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج.

أساس هذه الشريعة : المعجزات البيّنة والشرائع الظاهرة التي تضمنتها الكتب السماوية ، واحتواها وصاغها خاتم هذه الكتب وهو القرآن العظيم دستور الحياة البشرية.

ومنهج الحكم في شريعة الله تعالى هو التزام الحق والعدل في المعاملات فبالعدل قامت السموات والأرض ، وهو المعبر عنه بالميزان ، الذي دل عليه قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) [الرحمن ٥٥ / ٧ ـ ٩].

والحديد رمز القوة الرادعة لكفالة احترام الأحكام في دار الإسلام ، ولتأديب المعتدين والمعادين لشرع الله ودينه وحرمات أهله ودياره. روى عمر رضي الله

٣٣٣

عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما أخرجه في الفردوس عن ابن عمر : «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد والنار والماء والملح».

وفي الحديد أيضا منافع كثيرة للناس في شؤون معايشهم وتحقيق حاجياتهم في المنازل والمصانع والمعامل والمباني والأسلحة وآلات الزراعة ووسائل النقل والمواصلات البرية والبحرية والجوية.

وقد أنزل الله الحديد وخلقه للناس ليعلم علم مشاهدة حسية من ينصر شرعه ودينه وينصر رسله ، وهم غائبون عنه لم يروه ، إن الله قوي على الأمور في أخذه ، منيع غالب لا يمانع ، والنصر الصحيح : هو ما كان عن إخلاص بالقلب ، وهو المراد (بِالْغَيْبِ).

ـ ٢ ـ

وحدة الشرائع في أصولها وصلة الإسلام بما قبله

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ

٣٣٤

مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

الإعراب :

(... وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها .. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ رَهْبانِيَّةً) منصوبة بفعل مقدر ، أي ابتدعوا رهبانية ابتدعوها. و (ابْتِغاءَ) مستثنى ب إلا من غير الجنس ، أو بدل من الضمير المنصوب في (كَتَبْناها).

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ .. لِئَلَّا) بكسر اللام على القراءة المشهورة ، وقرئ بفتحها وهي لغة لبعض العرب ، ولا : إما زائدة ، وهو الظاهر ، أو غير زائدة بمعنى : لئلا يعلم أهل الكتاب أن يفعل بكم هذه الأشياء من إيتاء الرحمة والمغفرة وجعل النور ، ليبين جهل أهل الكتاب ، وأن ما يؤتيكم الله من فضله لا يقدرون على إزالته وتغييره. وبعبارة أخرى : لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله ، ولا ينالونه.

المفردات اللغوية :

(وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) جعلنا النبوة في ذرية نوح وإبراهيم ، والكتاب الأربعة : التوراة والزبور والإنجيل والفرقان. (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) من الذرية أو من المرسل إليهم.

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن الطريق المستقيم.

(قَفَّيْنا) اتبعنا أو جعلناهم تابعين متأخرين عنهم في الزمان ، يقال : قفّى أثره ، وقفّى على أثره : أتبعه. (الْإِنْجِيلَ) الكتاب الذي أنزل الله على عيسى عليه‌السلام. (رَأْفَةً) هي دفع الشر باللطف واللين. (وَرَحْمَةً) جلب الخير والمودة بالحسنى. (وَرَهْبانِيَّةً) أو هبنة : هي الانقطاع للعبادة عن الناس ، واتخاذ الصوامع في الجبال وغيرها ، والامتناع عن لذيذ الطعام والشراب والزواج. (ابْتَدَعُوها) استحدثوها وليست في دينهم. (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) ما فرضناها عليهم ، أو ما أمرناهم بها. (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) استثناء منقطع ، أي لكنهم ابتدعوها بقصد مرضاة الله. (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي لم يرعها الجميع ، فتركها كثير منهم ، وكفروا بدين عيسى ، ودخلوا في دين ملكهم. (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) آتينا الذين آمنوا بعيسى الإيمان الصحيح والمحافظة على حقوقه. (مِنْهُمْ) من أتباعه. (فاسِقُونَ) خارجون عن حال الاتباع.

٣٣٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالرسل المتقدمة. (اتَّقُوا اللهَ) فيما نهاكم عنه. (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (كِفْلَيْنِ) نصيبين ، الكفل : الحظ والنصيب. (مِنْ رَحْمَتِهِ) لإيمانكم بالنبيين. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) أي نورا تمشون به على الصراط ، يكون أساس النجاة ، وهو المذكور في قوله تعالى المتقدم في السورة : (يَسْعى نُورُهُمْ). (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) الكفر والمعاصي. (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي ليعلم ، ولا : زائدة ، ويؤيده أنه قرئ : (ليعلم ، ولكي يعلم ، ولأن يعلم). وأهل الكتاب هنا : اليهود وأصحاب التوراة الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (أَلَّا يَقْدِرُونَ) أن : مخففة من الثقيلة ، أي أنه لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله ، ولا يتمكنون من نيله ، ولا يستطيعون التصرف في أعظم فضله وهو النبوة ، فيخصونها بمن أرادوا. (يُؤْتِيهِ) يعطيه.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٨):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : لما نزلت : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) الآية [القصص ٢٨ / ٥٤] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : لنا أجران ، ولكم أجر ، فاشتد ذلك على الصحابة ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) الآية ، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب ، وزادهم النور.

نزول الآية (٢٩):

(لِئَلَّا يَعْلَمَ ..) : أخرج ابن جرير عن قتادة قال : بلغنا أنه لما نزلت :(يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) حسد أهل الكتاب المسلمين عليها ، فأنزل الله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) الآية.

وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منا نبي ، فيقطع الأيدي والأرجل ، فلما خرج من العرب كفروا ، فأنزل الله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ ..) الآية ، يعني بالفضل النبوة.

٣٣٦

المناسبة :

بعد بيان أن الله أرسل الرسل بالبينات والمعجزات ، وأمر الخلق بنصرتهم ، أبان تعالى وحدة النبوة سلالة ومعنى في ذرية نوح وإبراهيم ، ووحدة النبوة تقتضي وحدة التشريع ، ووحدة الكتاب ، أي الكتب السماوية الأربعة ، فما جاء أحد بعد نوح وإبراهيم بالنبوة إلا من سلالتهما وعلى منهجهما ، وتلك نعمة شرف الله بها نوحا وإبراهيم عليهما‌السلام.

ثم أوضح الله تعالى أن الأجر والثواب واحد لكل من آمن بالرسل المتقدمة ، وأكمل إيمانه بخاتم الرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن النبوة فضل من الله ورحمة ، لا تختص بقوم دون قوم ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته ، ولا يصح قول اليهود : إن الرسالة فينا دون غيرنا ، ونحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن شعب الله المختار.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي تالله لقد بعثنا نوحا أب البشر الثاني إلى قومه وإبراهيم خليل الرحمن أبا الأنبياء وأبا العرب إلى قوم آخرين ، وجعلنا الرسالة والنبوة في ذريتهما ، فكل الأنبياء من سلالتهما ، فلم يرسل الله بعدهما رسولا ولا نبيا إلا من ذريتهما ، وكذلك جعلنا الكتب المنزلة فيهما ، فلم ينزل الله كتابا ولا أوحى إلى بشر وحيا إلا من سلالتهما.

(فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي كان مصير الذرية الانقسام إلى فريقين ، فمنهم جماعة مهتدون إلى الحق وإلى الصراط المستقيم ، وكثير منهم خارجون عن حدود الله وطاعته ، وتلك سنة الله مع الأنبياء جميعا.

وهذا دليل على أن الانحراف والخروج عن جادة الحق كان بعد التمكن من معرفته والوصول إليه وقيام الحجة عليهم.

٣٣٧

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي ثم بعثنا بعدهم رسلا تترى ، رسولا بعد رسول ، وبعضهم بعد بعض ، مع مرور العصور ، وذلك إلى أن انتهى الأمر إلى أيام عيسى عليه‌السلام ، فخصه بالذكر لشهرته في عصر التنزيل ، فقال :

(وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أي وأتبعنا سلسلة الرسل بعيسى عليه‌السلام ، وأعطيناه الإنجيل : وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه ، متضمنا أصول شرعه ، ومكملا لما في التوراة ، وموضحا حقيقة الشريعة وحكمتها ، ومخففا بعض أحكامها القاسية التي شرعت تغليظا على بني إسرائيل لظلمهم وفحشهم ، كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء ٤ / ١٦٠].

ثم ذكر الله تعالى بعض صفات أتباع عيسى ، فقال :

(وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ، وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ، ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ ، فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي وجعلنا في قلوب أتباعه وهم الحواريون وأنصارهم رقة في الطبع ورحمة بالخلق ، خلافا لليهود القساة ، وابتدعوا الرهبانية من جهة أنفسهم ، ولم يشرعها الله لهم ، ولم يأمرهم بها ، بل ساروا عليها غلوا في العبادة ، وحمّلوا أنفسهم المشقات في الامتناع عن المطعم والمشرب والزواج ، وانعزلوا عن الناس وانقطعوا إلى العبادة في الكهوف والصوامع ، ولبسوا الملابس الخشنة ، تقربا إلى الله تعالى.

ولكنهم ابتدعوا الرهبانية بقصد مرضاة الله ، غير أنهم لم يراعوها حق الرعاية ، ولم يحافظوا على أصولها ، بل ضيّعوها ، واستعملها كثير منهم في الفساد.

وهذا ـ كما قال ابن كثير ـ ذمّ لهم من وجهين :

أحدهما ـ الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله تعالى.

٣٣٨

والثاني ـ أنهم لم يقوموا بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عزوجل.

روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا ابن مسعود ، قلت : لبّيك يا رسول الله ، قال : هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منهم إلا ثلاث فرق قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقاتلت الجبابرة ، فقتلت ، فصبرت ، ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال ، فقامت بين الملوك والجبابرة ، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقتلت وقطعت بالمناشير ، وحرقت بالنيران ، فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ، ولم تطق القيام بالقسط ، فلحقت بالجبال ، فتعبدت وترهبت ، وهم الذين ذكر الله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) (١).

(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي فأعطينا المؤمنين إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان ، وكثير من هؤلاء المترهبين فاسقون خارجون عن حدود الله وطاعته ، يأكلون أموال الناس بالباطل ، وسلوكهم منحرف.

روى الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «لا تشدّدوا على أنفسكم ، فيشدّد عليكم ، فإن قوما شدّدوا على أنفسهم ، فشدّد عليه ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، (رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ)».

__________________

(١) ورواه ابن جرير بلفظ آخر.

٣٣٩

وروى الإمام أحمد عن إياس بن مالك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لكل نبي رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عزوجل».

ثم ذكر الله تعالى ثواب المؤمنين بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يا أيها الذين صدقوا بوجود الله تعالى ووحدانيته وصدقوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مؤمني أهل الكتاب : اليهود والنصارى ، خافوا الله تعالى ، بترك ما نهاكم عنه ، وأداء ما أمركم به ، وآمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعطكم الله نصيبين أو ضعفين من رحمته ، بسبب إيمانكم برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل ، ويزيدكم على ذلك أنه يجعل لكم نورا تمشون به على الصراط ، تهتدون به في الآخرة ، وهدى تبصرون به العمى والجهالة في الدنيا ، ويغفر لكم ما سلف من ذنوبكم ، والله بليغ المغفرة والرحمة.

فهذا وعد للمؤمنين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الإيمان بجميع الأنبياء قبله يتضمن ثلاثة أمور : مضاعفة الثواب ، وجعل النور لهم على الصراط للنجاة ، ومغفرة الذنوب والسيئات.

أخرج الشيخان صاحبا الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، وآمن بي ، فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، فله أجران ، ورجل أدّب أمته ، فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها وتزوجها ، فله أجران».

ثم رد الله على اليهود الذين زعموا اختصاص النبوة فيهم ، فقال : (لِئَلَّا يَعْلَمَ (١) أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ،

__________________

(١) أي ليعلم كما تقدم ، وقرأها ابن مسعود وغيره : لكي يعلم ، قال ابن جرير : لأن العرب تجعل ـ

٣٤٠