التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ، أيّ عذر لكم وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في طاعة الله ومرضاته والجهاد من أجله ، فأنفقوا ولا تخشوا فقرا ، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض ، وهو متصرف فيهما وعنده خزائنهما ، وكل الأموال صائرة إلى الله سبحانه ، إن لم تنفقوها في حياتكم ، كرجوع الميراث إلى الوارث ، ولا يبقى لكم منه شيء ، فالمال مال الله ، والله يقول : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ ٣٤ / ٣٩] ويقول : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ، وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل ١٦ / ٩٦]. وهكذا أمر الله أولا بالإيمان والإنفاق ، ثم أكد إيجاب الإيمان ، ثم أكد في هذه الآية إيجاب الإنفاق.

وبعد أن بيّن الله تعالى أن الإنفاق فضيلة ، بيّن أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة ، وأن للمنفقين درجات بحسب أحوالهم ، فقال :

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) أي لا تساوي بين من أنفق في سبيل الله قبل فتح مكة وقاتل ، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، أولئك الأولون أعظم درجة من الآخرين ، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر ، وهم أقل وأضعف ، ولا يجدون من المال إلا قليلا ، أما بعد الفتح فقد كثر المسلمون ، وزاد الخير.

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وكل واحد من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، مع تفاوت الدرجات ، والله عليم بأعمالكم وأحوالكم الظاهرة والباطنة ، فيجازيكم بذلك ، إذ لا يخفى عليه شيء مما أنتم عليه.

أخرج الإمام أحمد عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام

٣٠١

سبقتمونا بها ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «دعوا لي أصحابي ، فو الذي نفسي بيده ، لو أنفقتم مثل أحد ، أو مثل الجبال ذهبا ، ما بلغتم أعمالهم» (١).

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبّوا أصحابي ، فوالذي نفس محمد بيده ، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ، ما أدرك مدّ أحدهم ، ولا نصيفه».

ثم بيّن الله تعالى ثمرة الإنفاق ، فقال :

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله ، محتسبا أجره عند ربه ، فإنه كمن يقرضه قرضا حسنا ، أي بلا منّ ولا أذى ، طيبة به نفسه ، فإن الله يضاعف له ذلك القرض ، فيجعل له الحسنة بعشرة أمثالها ، إلى سبع مائة ضعف ، على اختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان ، وله بعد ذلك ثواب كثير الخير والنفع وجزاء كريم جميل ، وهو الجنة.

روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال : نعم يا أبا الدحداح ، قال : أرني يدك يا رسول الله ، فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ـ بستاني ـ وله حائط فيه ست مائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها ، فجاء أبو الدحداح ، فناداها : يا أم الدحداح ، قالت : لبيك ، قال : اخرجي ، فقد أقرضته ربي عزوجل.

وفي رواية : أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح ، ونقلت منه متاعها

__________________

(١) ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحديبية وفتح مكة.

٣٠٢

وصبيانها ، وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كم من عذق (١) رداح في الجنة لأبي الدّحداح».

ثم أخبر الله تعالى عن حال المؤمنين المتصدقين يوم القيامة ، فقال :

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي وله أجر كريم ، أو اذكر تعظيما لذلك اليوم (٢) حين تنظر المؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا يسعى الضياء الذي يرونه على الصراط يوم القيامة أمامهم ، وتكون كتبهم بأيمانهم ، أي تكون أعمالهم الصالحة سببا لنجاتهم ، وهدايتهم إلى الجنة ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) [الانشقاق ٨٤ / ٨ ـ ٩]. وإنما قال : (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) لأن ذلك أمارة النجاة.

والناس كما قال ابن مسعود في هذه الآية على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم ، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه ، يتّقد مرة ، ويطفأ مرة (٣). وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ، فدون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه».

(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ويقال لهم من قبل الملائكة : لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا ، تكريما وجزاء وفاقا لما قدمتم من صالح الأعمال ،

__________________

(١) العذق : النخلة بحملها ، والرداح : المثمر.

(٢) يوم : ظرف لقوله : وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أو منصوب ب «اذكر» ، تعظيما لذلك اليوم.

(٣) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

٣٠٣

ذلك النور والبشرى هو النجاح العظيم الذي لا مثيل له ، حتى كأنه لا فوز غيره ، ولا اعتداد بما سواه. ونظير الآية : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد ١٣ / ٢٤].

والخلاصة : أن الإيمان والإنفاق سبب لثلاثة أمور : النجاة يوم الحساب ، وتبشير الملائكة بالجنة ، والخلود في جنات النعيم. وقد دلت هذه الآية على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال القيامة ، لأنه تعالى بيّن أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ وجوب الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي التصديق بأن الله واحد لا شريك له ، وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا يقتضي الاشتغال بطاعة الله تعالى.

٢ ـ وجوب الإنفاق في سبيل الله ، والمراد بذلك الزكاة المفروضة ، وقيل : المراد غيرها من وجوه الطاعات والقربات. وهذا يعني الأمر بترك الدنيا والإعراض عنها وإنفاقها في سبيل الله تعالى.

٣ ـ دل قوله : (مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) على أن أصل الملك لله سبحانه وأن العبد ليس له في ماله إلا التصرف الذي يرضي الله ، فيثيبه على ذلك بالجنة. فمن أنفق من ماله في حقوق الله ، وهان عليه الإنفاق منه ، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه ، كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم.

وهذا دليل على أن الأموال ليست بأموال الناس في الحقيقة ، وما هم إلا

٣٠٤

بمنزلة النواب والوكلاء ، فليغتنم المؤمن الفرصة في الأموال بإقامة الحق قبل أن تزال عنه إلى من بعده.

٤ ـ للمؤمنين الذين عملوا الصالحات ، والذين أنفقوا في سبيل الّه أجر كبير وهو الجنة.

٥ ـ وبّخ الله على ترك الإيمان بالله تعالى ، فأي عذر للناس في ألا يؤمنوا وقد أزيلت الموانع وأزيحت العلل؟ مع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو بالبرهان الصحيح والدليل المقنع إلى الإيمان بالله ، والله سبحانه أخذ الميثاق الأول على الناس حينما كانوا في ظهر آدم بأن الله ربهم ، لا إله لهم سواه ، ومن ميثاقهم أيضا ما أودع الله لهم من العقول والأفكار ، وأقام الدلائل والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا كنتم أيها الناس مؤمنين بالحج والدلائل ، فبادروا إلى الإيمان.

٦ ـ أيّد الله نبيه بما يدل على صدقه وبما يؤدي إلى إنجاح دعوته بالقرآن والمعجزات ، فيلزم الناس بعدئذ الإيمان ، لأن آيات القرآن البينات تخرج من ظلمات الشرك والكفر إلى نور الإيمان ، وإن الله بالناس لرؤوف رحيم إذ أنزل لهم الكتب وبعث الرسل وأزال الموانع والعلل التي تمنع من الإيمان.

٧ ـ وبخ الله تعالى أيضا على عدم الإنفاق في سبيل الله تعالى ، وفيما يقرب من الله سبحانه ، فالناس جميعا يموتون ، ويخلفون أموالهم ، وهي صائرة إلى الله تعالى ، كرجوع الميراث إلى المستحق له.

وهكذا أمرت الآيات بالإيمان وبالإنفاق ، ثم أكدت وجوب الإيمان وإيجاب الإنفاق ، فهو ترتيب حسن بارع ، انتقل فيه البيان من الأمر المفيد للوجوب إلى ذكر الرادع أو المؤيد ، والتهديد على التقصير أو الإهمال.

٣٠٥

٨ ـ يكون ثواب الإنفاق أعظم إذا كانت الحاجة إليه أشد بسبب الأزمات والظروف الضيقة ، لذا نفى الله سبحانه المساواة بين من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل الأعداء ، وبين من أنفق من بعد الفتح وقاتل ، كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر ٥٩ / ٢٠] لأن المال كان أقل ، والحاجة إلى النفقة أشد ، والمسلمين قلة ، أما بعد الفتح فكثر الخير ، وقلّت الحاجة إلى الإنفاق ، وكثر المسلمون.

روى أشهب عن مالك قال : ينبغي أن يقدّم أهل الفضل والعزم ، وقد قال الله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ). وقال الكلبي كما تقدم : نزلت في أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، ففيهما دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي‌الله‌عنه وتقديمه ، لأنه أول من أسلم. قال ابن مسعود : أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر ، ولأنه أول من أنفق على نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتقدم والتأخر يكون في أحكام الدنيا والدين ، فقد قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ننزل الناس منازلهم ، وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه فيما رواه الشيخان والترمذي وأ بن ماجه عن عائشة : «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» وقال فيما رواه أحمد عن أنس : «يؤمّ القوم أقرؤهم للقرآن» وقال فيما رواه الجماعة عن مالك بن الحويرث : «وليؤمّكما أكبركما» وقال مالك : إن للسن حقا ، وراعاه الشافعي وأبو حنيفة ، وهو أحق بالمراعاة ، لأنه إذا اجتمع العلم والسن في خيّرين قدّم العلم. وأما أحكام الدنيا فهي مرتّبة على أحكام الدّين ، فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا.

وفي الحديث الثابت الذي رواه الترمذي عن أنس : «ما أكرم شاب شيخا لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنّه». وروى الترمذي أيضا عن أنس : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا» وفي رواية لأحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمرو : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف شرف كبيرنا»

٣٠٦

وفي رواية أخرى لأحمد والحاكم عن عبادة بن الصامت : «ليس منا من لم يجلّ كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه».

٩ ـ وعد الله تعالى كلّا من المتقدمين المتناهين السابقين ، والمتأخرين اللاحقين الجنة ، مع تفاوت الدرجات.

١٠ ـ ندب القرآن مرة أخرى في هذه الآيات إلى الإنفاق في سبيل الله ، وأبان أن ثواب الصدقة التي يحتسب فيها المتصدق من قلبه بلا منّ ولا أذى مضاعف ما بين السبع إلى سبع مائة ، إلى ما شاء الله من الأضعاف ، بحسب الأحوال والأشخاص ، ويكون للمنفق جزاء جميل ، ورزق باهر ، وهو الجنة يوم القيامة.

١١ ـ إن هذا الأجر الكريم والجزاء الجميل يكون للمؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا في سبيل الله ، ويكون إيمانهم وعملهم الصالح سببا للنجاة واجتياز الصراط ، وهو الضياء الذي يمرون فيه ، ويكون أمامهم ، وتكون كتب أعمالهم بأيمانهم ، وتبشرهم الملائكة بدخول الجنة خالدين فيها أبدا ، ولا تنالهم أهوال القيامة ، ويدخلون الجنة ، وذلك هو الفوز الأكبر.

حال المنافقين يوم القيامة

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ

٣٠٧

وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

الإعراب :

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ يَوْمَ) : ظرف ، وعامله (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أو بدل من (يَوْمَ) الأول.

(ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) وراء هنا : اسم ل (ارْجِعُوا) وليس بظرف ل (ارْجِعُوا) قبله ، فلا يكون ظرفا للرجوع لقلة الفائدة فيه ، لأن لفظ الرجوع يغني عنه ، ويقوم مقامه.

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) الباء : زائدة ، وسور : في موضع رفع ، لأنه نائب فاعل.

(مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ مَوْلاكُمْ) : إما مصدر مضاف إلى المفعول ، ومعناه : تليكم وتمسكم ، أو معناه : أولى بكم ، وأنكر بعضهم هذا الوجه ، وقال : إنه لا يعرف المولى بمعنى الأولى.

البلاغة :

(مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) أسلوب تهكمي ، أي لا ولي لكم ولا ناصر إلا نار جهنم.

(باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) بينهما ما يسمى بالمقابلة.

(بِسُورٍ لَهُ بابٌ ... وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) سجع مرصع غير متكلف.

المفردات اللغوية :

(انْظُرُونا) انتظرونا أو أبصرونا ، لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف ، وقرئ: «أنظرونا» ، أي أمهلونا أو انتظرونا. (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) نستضيء بنوركم ، من الاقتباس : طلب القبس ، أي الجذوة من النار ، والمراد هنا نأخذ القبس والإضاءة. (قِيلَ) لهم ، استهزاء بهم. (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) إلى الدنيا. (فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي إلى حيث شئتم ، فاطلبوا نورا آخر ، فإنه لا سبيل لكم إلى هذا ، وهذا تهكم بهم وتخييب من المؤمنين أو من الملائكة. (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) ضرب بحائط أو حاجز بين المؤمنين والمنافقين ، قيل : هو سور الأعراف. (لَهُ بابٌ) يدخل فيه المؤمنون. (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) باطن السور أو الباب من جهة المؤمنين لأنه يلي الجنة. (وَظاهِرُهُ) من جهة المنافقين ، لأنه يلي النار. (مِنْ قِبَلِهِ) من جهته.

٣٠٨

(أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) أي ألسنا على دينكم وعلى الطاعة؟ أي في الظاهر. (بَلى) أي كنتم معنا. (فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) بالنفاق وأهلكتموها بالمعاصي. (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالمؤمنين الدوائر. (وَارْتَبْتُمْ) شككتم في دين الإسلام وفي أمر البعث. (الْأَمانِيُ) الآمال والأطماع كامتداد العمر وانتكاس الإسلام. (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) الموت. (الْغَرُورُ) الشيطان. (فِدْيَةٌ) فداء يفتدي به ، وهو ما يبذل من المال لحفظ النفس من الهلاك. (مَأْواكُمُ النَّارُ) منزلكم الذي تأوون إليه. (مَوْلاكُمْ) التي تليكم أو أولى بكم. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى حال المؤمنين المنفقين يوم القيامة ، وأن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدهم إلى الجنة ، فهو أمارة النجاة ، بيّن حال المنافقين في ذلك اليوم ، وأنهم يلتمسون عون المؤمنين لهم ، فيجابون بالخيبة واليأس ، وألا أمل لهم في النجاة ، وأن النار هي مأواهم وأولى بهم ، وذلك يدل على أنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمانا حقا ، وعمل بما أمر الله به ، وترك ما عنه زجر.

التفسير والبيان :

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا : انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي في ذلك اليوم يوم القيامة يقول المنافقون والمنافقات للمؤمنين الذين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم : أيها المؤمنون الناجون انتظرونا لعلنا نستضيء بنوركم ، ونخرج من هذا الظلام الحالك ، والعذاب الأليم المنتظر.

قال جمع من العلماء : الناس كلهم يوم القيامة في الظلمات ، ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار ، والمنافقون يطلبونها منهم قائلين : (انْظُرُونا) لأنهم إذا نظروا إليهم ، والنور قدامهم ، استضاؤوا بتلألؤ تلك الأنوار.

فيجابون بما يخيب آمالهم ، كما قال تعالى :

٣٠٩

(قِيلَ : ارْجِعُوا وَراءَكُمْ ، فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي تقول لهم الملائكة أو المؤمنون : ارجعوا إلى الدنيا ، فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة. وفي هذا تهكم بهم واستهزاء بطلبهم ، كما كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا ، حين كانوا يقولون : آمنا ، وما هم بمؤمنين.

ثم يحسم الله الموقف وهذه المحاورة بقوله :

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ ، لَهُ بابٌ ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي فضرب بين المؤمنين وبين المنافقين حاجز ، باطن ذلك السور ، وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة ، فيه الرحمة ، وهي نعم الجنة ، والجانب الذي يلي أهل النار ، من جهته عذاب جهنم.

ثم يذكر الله تعالى حال المنافقين واستغاثاتهم ، فيقول :

(يُنادُونَهُمْ : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا : بَلى ، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ ، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ ، وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي ينادي المنافقون المؤمنين قائلين لهم : ألم نكن معكم في الدار الدنيا ، نوافقكم في أعمالكم ، نشهد معكم الجمعات ، ونصلّي معكم الجماعات في المساجد ، ونقف معكم بعرفات ، ونحضر معكم معارك الجهاد ، ونؤدي معكم سائر الواجبات ، ونعمل بأعمال الإسلام كلها؟

فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين : بلى قد كنتم معنا في الظاهر ، ولكنكم فتنتم أنفسكم بالنفاق وإبطان الكفر ، وأهلكتموها باللذات والمعاصي والشهوات ، وأخرتم التوبة ، وتربصتم الدوائر وحوادث الدهر بالمؤمنين ، وبالحق وأهله ، وشككتم في أمر الدين والبعث بعد الموت ، ولم تصدّقوا ما نزل به القرآن ، ولا آمنتم بالمعجزات الظاهرة.

٣١٠

وغرتكم الأماني الباطلة حيث قلتم : سيغفر لنا ، وغرتكم الدنيا وطول الأمل ، حتى جاءكم الموت ، وغرّكم أو خدعكم الشيطان ، حتى قال لكم : إن الله غفور رحيم لا يعذبكم.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، مَأْواكُمُ النَّارُ ، هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ففي هذا اليوم لا تقبل منكم فدية تفدون بها أنفسكم من النار أو العذاب ، أيها المنافقون ، كما قال تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) [البقرة ٢ / ١٢٣] ولا من الذين كفروا بالله ظاهرا وباطنا ، منزلكم الذي تأوون إليه النار ، هي أولى بكم من كل منزل ، وبئس المصير الذي تصيرون إليه ، وهو النار.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ يستنجد المنافقون (الذين أظهروا الإسلام في الدنيا وأبطنوا الكفر) بالمؤمنين الذين نجوا من العذاب ، طالبين منهم انتظارهم أو إمهالهم وتأخيرهم ليأخذوهم معهم ، والاستضاءة بنورهم. قال أبو أمامة : يعطى المؤمن النور ، ويترك الكافر والمنافق بلا نور.

٢ ـ تقول الملائكة أو المؤمنون لهم : ارجعوا إلى الموضع الذي أخذنا منه النور ، فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا ، فإنكم لا تقتبسون من نورنا.

٣ ـ لما رجعوا وانعزلوا في طلب النور ضرب حاجز بين الجنة والنار ، باطنه فيه الرحمة ، وهو ما يلي المؤمنين ، وظاهره فيه العذاب وهو ما يلي المنافقين.

٤ ـ ينادي المنافقون المؤمنين قائلين لهم : ألم نكن معكم في الدنيا ، نصلي كما تصلون ، ونجاهد كما تجاهدون ، ونفعل مثلما تفعلون؟

٣١١

فيجيبهم المؤمنون بقولهم : بلى ، قد كنتم معنا في الظاهر ، ولكنكم استعملتم أنفسكم في الفتنة ، وأهلكتموها بالنفاق والمعاصي والشهوات واللذات ، وتربصتم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموت ، وبالمؤمنين الدوائر ، وغرتكم الأباطيل ، حتى حضركم الموت ، وخدعكم بالله الشيطان.

٥ ـ أيأسهم الله تعالى من النجاة ، وأخبرهم بأنه لا يقبل منهم يوم القيامة فدية يدفعون بها العذاب عن أنفسهم ، ومقامهم ومنزلهم النار ، هي أولى بهم من كل منزل ، وساءت مرجعا ومصيرا.

خشية الله وجزاء المتصدقين والمؤمنين وجزاء الكافرين

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩))

الإعراب :

(وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ ما) : اسم موصول بمعنى الذي في موضع جر بالعطف على قوله : (لِذِكْرِ اللهِ) ويجوز أيضا أن تكون مصدرية ، وتقديره : لذكر الله وتنزيل الحق و (وَلا يَكُونُوا) معطوف على (تَخْشَعَ).

٣١٢

(وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَأَقْرَضُوا) : إما معطوف على ما في صلة الألف واللام في قوله : (الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) على تقدير : إن الذين تصدقوا وأقرضوا ، وإما أن يكون : (وَأَقْرَضُوا اللهَ) اعتراضا بين اسم (إِنَ) وخبرها ، وهو (يُضاعَفُ لَهُمْ) وجاز هذا الاعتراض ، لأنه يؤكد المعنى الأول من التصدق.

(وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مبتدأ ، وخبره : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ).

البلاغة :

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) استعارة تمثيلية ، استعار إحياء الأرض بالنبات لإحياء القلوب القاسية بالقرآن وتلاوته.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ يَأْنِ) ألم يأت وقته ، يقال : أنى الأمر أنيا وأناء وإناء : إذا جاء أناه ، أي وقته. (أَنْ تَخْشَعَ) تخشى وتخاف. (لِذِكْرِ اللهِ) وعظه وإرشاده. (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) هو القرآن. (أُوتُوا الْكِتابَ) هم اليهود والنصارى ، والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى الله عنهم بقوله : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الزمن ، أي طال العهد بينهم وبين أنبيائهم. (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) صلبت ولم تلن لذكر الله. (فاسِقُونَ) خارجون عن حدود دينهم ، مخالفون للأوامر والنواهي.

(اعْلَمُوا) خطاب للمؤمنين المذكورين في الآية السابقة. (أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يحييها بالماء والنبات بعد جدبها ، فكذلك يفعل بقلوبكم يردها إلى الخشوع ، وهذا تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أوضحنا لكم الآيات الدالة على قدرتنا بهذا البيان هنا وغيره ، وهي الحجج. (تَعْقِلُونَ) تتدبرون.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) أي الذين تصدقوا واللاتي تصدقن بأموالهم على المحتاجين من التصدق : أدغمت التاء في الصاد ، وفي قراءة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق : الإيمان. (وَأَقْرَضُوا اللهَ) راجع إلى الذكور والإناث معا بطريق التغليب. (قَرْضاً حَسَناً) صدقة مقرونة بالإخلاص ابتغاء مرضاة الله ، بلا من ولا أذى ولا إرادة جزاء من المحتاج المعطى. (يُضاعَفُ لَهُمْ) يضاعف الله لهم ثواب عملهم ، وفي قراءة يضعّف بالتشديد ، أي قرضهم. (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) ثواب جميل ورزق باهر.

(أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) المبالغون في التصديق ، أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين وهم الذين كثر صدقهم وصار سجية لهم. (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) هم الذين قتلوا في سبيل الله ، جمع

٣١٣

شهيد ، سمي بذلك ، لأن الملائكة تشهد له بالجنة ، أو القائمون بالشهادة لله أو لهم أو على الأمم يوم القيامة ، والمراد بهم الأنبياء ، لقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء ٤ / ٤١].

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) جحدوا وجود الله ووحدانيته. (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على وحدانيتنا. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) النار ، قال البيضاوي : فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار ، من حيث إن التركيب يشعر بالاختصاص ، والصحبة تدل على الملازمة.

سبب النزول :

نزول الآية (١٦):

(أَلَمْ يَأْنِ ..) : أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبد العزيز بن أبي رواد : أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك ، فنزلت : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخذوا في شيء من المزاح ، فأنزل الله : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية.

وأخرج أيضا عن السّدّي عن القاسم قال : ملّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملّة ، فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ثم ملّوا ملّة ، فقالوا حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية.

وأخرج ابن المبارك في الزهد عن الأعمش قال : لما قدم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فأصابوا من العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد ، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه ، فنزلت : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية. وروي مثل هذا عن ابن مسعود ، وقال : ما كان بين

٣١٤

إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين (١). وقال ابن عباس : إنه عاتبنا على رأس ثلاث عشرة سنة.

المناسبة :

بعد بيان حال المؤمنين وحال المنافقين يوم القيامة ، أتبعه بندب المؤمنين الذين فترت عزائمهم إلى الخشوع وخشية القلب ولينه بسماع مواعظ القرآن وإرشاداته ، وحذرهم من مماثلة أهل الكتاب الذين قست قلوبهم لطول العهد بينهم وبين أنبيائهم ، فأهملوا أوامر الدين ونواهيه ، ثم ذكر الفرق بين جزاء المتصدقين والمؤمنين وجزاء الكافرين.

التفسير والبيان :

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) أي ألم يحن الوقت لأن تلين قلوب المؤمنين وترقّ عند سماع تذكير الله ووعظه وقرآنه ، فتفهمه وتنقاد له وتسمع أوامره وتطيعه وتجتنب نواهيه؟

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن ، فقال : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية. والظاهر أن هذا القول أصح من غيره ، لأن السورة مدنية.

ثم نهاهم عن مماثلة أهل الكتاب ، فقال :

(وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ ، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي ولا يتشبهوا بحملة الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن ، حين طالب

__________________

(١) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه والبزار.

٣١٥

عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم ، فقست قلوبهم بذلك السبب ، حتى صاروا لا يتأثرون بالموعظة ولا بالوعد والوعيد ، وبدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، واشتروا به ثمنا قليلا ، ونبذوه وراء ظهورهم ، واتبعوا الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة ، وقلّدوا أحبارهم ورهبانهم في دين الله من غير دليل ولا برهان ، وكثير منهم خارجون عن حدود الله وأوامره ونواهيه ، فصارت أعمالهم باطلة ، وقلوبهم فاسدة ، كما قال تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة ٥ / ١٣] ولهذا نهى الله المؤمنين عن التشبّه بهم.

ثم ضرب الله تعالى المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن ، فقال :

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي كما أن الله يحيي الأرض بالنبات والغيث بعد جدبها قادر على أن يلين القلوب بعد قسوتها ، ويهدي الحيارى بعد ضلالها ، ببراهين القرآن ودلائله ، قد أوضحنا لكم الآيات والحجج ، كي تتدبروها ، وتعقلوا ما فيها من المواعظ ، وتعملوا بموجب ذلك.

ثم أبان الله تعالى ثواب المتصدقين والمتصدقات على البائسين ، فقال :

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ ، وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي إن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم على ذوي الحاجة والفقر والبؤس والمسكنة ، ودفعوا المال بنية خالصة ابتغاء رضوان الله ، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورا ، يقابل لهم الحسنة بعشرة أمثالها ، ويضاعفها إلى سبع مائة ضعف إلى أكثر من ذلك ، ولهم فوق ذلك ثواب جزيل حسن ، ومرجع صالح ، ومآب كريم معزّز.

٣١٦

ثم وصف الله جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين ، فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ، وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي إن الذين أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسله ، هم في منزلة الصدّيقين ، قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسله ، فهو صدّيق ، والذين استشهدوا في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ودينه ، ورفع راية الحق وأهله ، لهم الثواب العظيم عند ربهم ، والنور الموعود به الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. وهذا إشارة إلى صنفين من أصناف المؤمنين المخلصين الأربعة ، وهم الأنبياء ، والصّدّيقون ، والشهداء ، والصالحون ، المذكورون في قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ، فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء ٤ / ٦٩]. ومن الشهداء ما ثبت في الحديث الذي أخرجه أحمد : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما تعدّون الشهيد فيكم؟ قالوا : المقتول في سبيل الله ، فقال : إن شهداء أمتي إذن لقليل ، المقتول ، شهيد ، والمبطون شهيد ، والمطعون شهيد» الحديث. وهؤلاء هم شهداء الآخرة الذين لهم ثواب خاص.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين أنكروا وجود الله ، وجحدوا وحدانيته ، وكذبوا آياته وبراهينه الدالة على ألوهيته الحقّة ، وصدق رسله ، أولئك لا غيرهم هم أصحاب النار خالدين فيها أبدا. وهذا بيان حال الأشقياء بعد بيان حال السعداء.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن خشية الله والخشوع لأوامره وأحكامه من صفات أهل الإيمان ، وإن الإعراض عن آيات الله ومواعظه وشرائعه من خصال الفاسقين ، وهم اليهود

٣١٧

والنصارى الذين بدلوا كلام الله ، واتبعوا آراءهم وأهواءهم ، وتركوا الدين الحق ، ولم تكن قلوبهم لسماع تذكير الله ووعظه.

وهذا نهي صريح للمؤمنين عن مشابهة أهل الكتاب الذين قطعوا الصلة الحقيقية بينهم وبين هدي الله فيما نزل من التوراة والإنجيل والذي لا يخالف ما نزل في القرآن. ولو بقي هذان الكتابان على حالهما ولم يندثرا لظهر التطابق التام بينهما وبين القرآن في أصول الدين والاعتقاد وأصول الشرائع.

٢ ـ إن سماع مواعظ الله وآياته يحيي القلوب الميتة ، ويلين النفوس القاسية ، كما أن الله يحيي الأرض الجدبة الهامدة ، ويلينها بالغيث ، ويجعل فيها الحركة والحيوية والحياة البهيجة.

٣ ـ إن الذين أنفقوا شيئا من أموالهم ، وتصدقوا به على الفقراء والبائسين بإخلاص ابتغاء رضاء الله ، يضاعف لهم ثواب أعمالهم ، ولهم الجنة.

٤ ـ المؤمنون بالله ورسله هم الصدّيقون الكاملون في الصدق ، إذ لا قول أصدق من التوحيد والاعتراف بالرسالة ، والصديقون يتلون الأنبياء ، والشهداء يتلون الصديقين ، والصالحون يتلون الشهداء ، وهؤلاء جميعا لهم الأجر العظيم. عند ربهم ، وهم الناجون يوم الحساب ، والخالدون في النعيم.

٥ ـ الكافرون بالله ورسله ، المكذبون بالرسل والمعجزات ، هم أصحاب النار المخلّدون فيها المعذبون فيها ، فلا أجر لهم ولا نور ، بل عذاب مقيم وظلمة دائمة ، لأنهم جمعوا بين الكفر وتكذيب الآيات.

٣١٨

حال الدنيا والحث على عمل الآخرة

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

الإعراب :

(كَمَثَلِ غَيْثٍ ..) الكاف في موضع رفع ، إما وصف لقوله (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) وإما خبر بعد خبر وهي (الْحَياةُ) في قوله تعالى : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ).

(عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ ... كَعَرْضِ) جار ومجرور في موضع رفع ، لأنه خبر المبتدأ الذي هو (عَرْضُها) والجملة في موضع جر ، لأنها صفة ل (جَنَّةٍ).

البلاغة :

(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) تشبيه تمثيلي ، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.

(إِلى مَغْفِرَةٍ) مجاز مرسل علاقته المسببية ، أي إلى سبب مغفرة.

المفردات اللغوية :

(لَعِبٌ) ما لا فائدة فيه. (وَلَهْوٌ) ما يشغل الإنسان عما يعنيه. (وَزِينَةٌ) تزيين أو ما يتزين به ، كالمناصب العالية والمراكب البهية والمنازل الرفيعة والملابس الفاخرة. (وَتَفاخُرٌ) بالألقاب والأمجاد والأنساب. (وَتَكاثُرٌ) مباهاة بكثرة الأموال والأولاد. (كَمَثَلِ) أي أن الدنيا

٣١٩

في إعجابها لكم واضمحلالها كمثل (غَيْثٍ) مطر. (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) أعجب الزراع نباته الناشئ عنه. (ثُمَّ يَهِيجُ) ييبس بعد أن كان أخضر. (حُطاماً) هشيما متكسرا من الجفاف أو اليبس. (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) لمن آثر عليها الدنيا. (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لمن آثر الآخرة ، وهذا تنفير عن الانهماك في الدنيا ، وحث على العمل للآخرة. (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي وما التمتع في الدنيا. (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) متاع الخديعة لمن أقبل عليها ونسي الآخرة.

(سابِقُوا) سارعوا مسارعة السابقين في مضمار السباق. (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى موجبات المغفرة. (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي عرضها كعرضهما ، وإذا كان العرض كذلك ، فما ظنك بالطول؟ (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فيه دليل على أن الجنة مخلوقة ، وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها. (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ذلك الموعود به من الجنة والمغفرة يتفضل الله به على من يشاء من عباده من غير إيجاب ولا إلزام. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) والله واسع الفضل ، لا يبعد منه التفضل بذلك.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أحوال الفريقين : المؤمنين والكافرين في الآخرة ، أردفه بما يدل على تحقير أمور الدنيا ، وكمال حال الآخرة ، فإن الدنيا قليلة النفع سريعة الزوال ، والآخرة تامة الفائدة ، خالدة باقية ، ولا شك أن الأدوم الأخلد مفضل على المؤقت ، لذا أعقبه بالحث على ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه والفوز بالنعيم الأبدي.

التفسير والبيان :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي اعلموا أيها الناس جميعا أن الحياة الدنيا مجرد لعب لا جدّ ، ولهو يتلهى به ثم يذهب ، وزينة يتزيّن بها مؤقتا ، ومفخرة يفتخر بها بعضكم على بعض بكثرة الأموال وعدد الأولاد.

كما قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ

٣٢٠