التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

المطر ، أو من الأرض وهو الزرع أنكم تكذبون بنعمة الله وبالبعث وبما دل عليه القرآن ، فتضعون التكذيب موضع الشكر؟ ومن أظلم ممن وضع التكذيب موضع الشكر!!

ثم وبخ الله تعالى المشركين على ما يعتقدون ، فقال :

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ، وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي فهلا إذا وصلت الروح أو النفس الحلق حين الاحتضار ، وأنتم ترون المحتضر قد قارب فراق الحياة ، تنظرون إليه وما يكابده من سكرات الموت ، ونحن بالعلم والقدرة والرؤية وبملائكتنا أقرب إليه منكم ، ولكن لا تبصرون ملائكة الموت الذين يتولون قبضه. وجواب (فَلَوْ لا) سيأتي بعد وهو (تَرْجِعُونَها).

ثم أكّد الله تعالى الحث والتحضيض ، فقال :

(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ، تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فهلا إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين ولا مبعوثين ، تمنعون موته ، وترجعون الروح التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرها الذي كانت فيه ، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم لن تبعثوا وأنكم غير مربوبين ولا مملوكين للخالق؟

والمعنى المراد : أنه إذا لم يكن لكم خالق ، وأنتم الخالقون ، فلم لا ترجعون الأرواح إلى أجسادها حين بلوغها الحلقوم؟! وإن صدقتم ألا بعث ، فردوا روح المحتضر إلى جسده ، ليرتفع عنه الموت ، فينتفي البعث؟ أي إن تحقق الشرطان أو الوصفان منكم : إن كنتم غير مدينين ، وإن كنتم صادقين فردوا روح الميت إليه.

ونظير الآية قوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ، وَقِيلَ : مَنْ راقٍ؟

٢٨١

وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) [القيامة ٧٥ / ٢٦ ـ ٢٩].

ثم بيّن الله تعالى مصائر هؤلاء الناس عند احتضارهم وبعد وفاتهم ، وجعلهم أقساما ثلاثة فقال :

١ ـ (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ ، وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي إن كان المحتضر أو المتوفى من فئة السابقين المقربين : وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات ، وبعض المباحات ، وهم الصنف الأول في مطلع السورة ، فلهم راحة ، واستراحة وطمأنينة من أحوال الدنيا ، ورزق واسع ونعيم في الجنة ، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت. والروح : الاستراحة ، وهو يعم الروح والبدن ، والريحان : الرزق ، وهو للبدن ، وجنة النعيم للروح ، يتنعم بلقاء المليك المقتدر. يروى : أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه. فاللهم اجعلنا من هؤلاء يا ذا الجلال والإكرام.

٢ ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي وأما إن كان المحتضر أو المتوفى من أهل اليمين : وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم ، فتبشرهم الملائكة بذلك ، وتقول لهم : سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، لا بأس عليك أنت إلى سلامة ، أنت من أصحاب اليمين ، وذلك لأنك ستكون معهم ، فيستقبلونك بالسلام.

وذلك كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ، ثُمَّ اسْتَقامُوا ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت ٤١ / ٣٠ ـ ٣٢].

٢٨٢

٣ ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي وإن كان المتوفى أو المحتضر من المكذبين بالحق والبعث ، الضالين عن الهدى ، وهم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم ، فله ضيافة أو نزل يعد له من حميم : وهو الماء الشديد الحرارة ، بعد أن يأكل من الزقوم ، كما تقدم بيانه ، ثم استقرار ، وزج له في النار التي تغمره من جميع جهاته.

ثم حسم الله تعالى الأمر وأبان مدى صحة الخبر ، فقال :

(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي ن هذا الخبر والمذكور في هذه السورة من أمر البعث وغيره لهو محض اليقين وخالصة ، والحق الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب ، ولا محيد لأحد عنه.

ثم أمر الله نبيه بما يكمل نفسه ، فقال :

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزّه الله عما لا يليق بشأنه ، لما علمت من أخبار علمه وقدرته. والباء في قوله : (بِاسْمِ) زائدة ، أي سبّح اسم ربك ، والاسم : المسمى.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم عن عقبة بن عامر قال : لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال : «اجعلوها في ركوعكم»

ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في سجودكم».

والفرق بين العظيم والأعلى : أن العظيم يدل على القرب ، والأعلى يدل على البعد ، فهو سبحانه قريب من كل ممكن ، وقريب من الكل ، وهو أعلى من أن يحيط به إدراكنا ، وفي غاية البعد عن كل شيء.

أخرج الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٢٨٣

«كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بمساقط النجوم ومغاربها ، وهو قسم عظيم لو يعلم الناس ، على أن القرآن قرآن كريم ، كثير النفع ، ليس بسحر ولا كهانة ، وليس بمفترى ، بل هو قرآن كريم محمود ، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو كريم على المؤمنين ، لأنه كلام ربهم ، وشفاء صدروهم ، كريم على أهل السماء ، لأنه تنزيل ربهم ووحيه.

قال القشيري عن صيغة القسم : (فَلا أُقْسِمُ ...) : هو قسم ، ولله تعالى أن يقسم بما يريد ، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة.

٢ ـ وصف الله تعالى القرآن في هذه الآيات بأربع صفات : هي أنه كريم ، أي كثير الخير والنفع والفائدة ، وفي كتاب مكنون ، أي في اللوح المحفوظ ، مصون عند الله تعالى ، ومحفوظ عن الباطل والتغيير والتبديل ، ولا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب ، وهم الملائكة ، ومنزل من رب العالمين. والأصح أن المراد من الكتاب المكنون : اللوح المحفوظ. والضمير في (لا يَمَسُّهُ) للكتاب.

أما مس المصحف على غير وضوء ، فالجمهور ومنهم أئمة المذاهب الأربعة على المنع من مسّه ، لحديث عمرو بن حزم المتقدم : «لا يمس القرآن إلا طاهر» وأجاز المالكية مسّ القرآن للمحدث لضرورة التعلم والتعليم.

وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي الظاهري : أنه لا بأس بحمل القرآن

٢٨٤

ومسّه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا ، إلا أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمله ، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيصر ، ورد عليهم بأنه موضع ضرورة ، فلا حجة فيه. فيكون المنع من مس المصحف للمحدث ثابتا بالسنة ، وليس مأخوذا من صريح الآية.

٣ ـ بعد إثبات النبوة وصدق الوحي والقرآن الكريم وبّخ الله تعالى المتهاونين بالقرآن المكذبين به ، وهذا قلب للأوضاع ، فإن الجاحدين جعلوا شكر الرزق من الله والإنعام هو التكذيب ، فوضعوا الكذب مكان الشكر ، كقوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال ٨ / ٣٥] أي لم يكونوا يصلّون ، ولكنهم كانوا يصفّرون ويصفّقون مكان الصلاة.

قال القرطبي : وفي هذا بيان أن ما أصاب العباد من خير ، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا ، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة ، أو صبر إن كان مكروها ، تعبّدا له وتذللا (١).

٤ ـ تحدى الله منكري البعث بأنهم إن كانوا صادقين في زعمهم ألا بعث ، وأنهم غير مجزيين ولا محاسبين ولا مبعوثين يوم المعاد ، فليمنعوا الموت عن الإنسان حين الاحتضار ، وليردوا الروح إليه إذا بلغت الحلقوم ، وإذا انتفى الموت انتفى البعث ، والحق أنهم عاجزون عن ذلك ، لا يقدرون على شيء من هذا ، وهم ينظرون إلى المحتضر محزونين آيسين ، والله سبحانه أقرب إلى المحتضر بالقدرة والعلم والرؤية ، ولكن الحاضرين حوله لا يدركون ذلك ، ولا يرون الملائكة الرسل الذين يتولون قبض الروح.

٥ ـ الناس عند الاحتضار ثم الوفاة أصناف ثلاثة : المقربون السابقون ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ٢٢٨

٢٨٥

وأهل اليمين ، وأهل الشمال. أما المقربون فلهم الرحمة والاستراحة ، والرزق الواسع ، والتنعم المطلق في الجنة ، ورؤية الله عزوجل ، فلا يحجبون عنه.

وأما أصحاب اليمين ، فإنهم يسلمون من عذاب الله ، ويسلم الله عليهم ، وتسلّم الملائكة أيضا عليهم قائلين لهم : سلام لك من إخوانك أصحاب اليمين. قال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام. وكذلك يسلم عليهم منكر ونكير عند المساءلة في القبر ، وتسلم عليهم الملائكة عند البعث في القيامة ، قبل الوصول إليها.

فالملائكة تسلم على صاحب اليمين في المواطن الثلاثة ، ويكون ذلك إكراما بعد إكرام (١).

وأما أصحاب الشمال المكذبون بالبعث ، الضالون عن الهدى وطريق الحق ، فلهم رزق من حميم : ماء تناهي حره ، وإدخال في النار.

٦ ـ إن جميع هذا المذكور في هذه السورة محض اليقين وخالصة ، وهو الحق الثابت الذي لا شك فيه ، ولا محيد عنه. قال قتادة في هذه الآية : إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن ، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة ، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين.

٧ ـ أمر الله نبيه والمؤمنين من بعده بأن ينزه الله تعالى عن السوء وعن كل ما لا يليق به ، ما دام الحق قد ظهر ، واستبان اليقين ، وبطل زيف الكفار والمشركين.

__________________

(١) المرجع السابق : ص ٢٣٤

٢٨٦

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحديد

مكيّة ، وهي تسع وعشرون آية.

مدنيتها :

هي كما ذكر القرطبي مدنية في قول الجميع ، وهو الظاهر ، وقيل : إنها مكية وهو رأي مرجوح.

تسميتها :

سميت سورة الحديد ، للإشارة في الآية (٢٥) منها إلى منافع الحديد ، واعتماد مظاهر المدنية والعمران والحضارة عليه ، سواء في السلم والحرب.

مناسبتها لما قبلها :

وجه اتصال هذه السورة بالواقعة من ناحيتين.

١ ـ ختمت سورة الواقعة بالأمر بالتسبيح ، وبدئت هذه بذكر التسبيح من كل ما في السموات والأرض.

٢ ـ إن سورة الحديد واقعة موقع العلة للأمر بالتسبيح في الواقعة ، فكأنه قيل : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) لأنه سبح له ما في السموات والأرض ، فالله أمر بالتسبيح ، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله ، والتزمه كل ما في السموات والأرض.

٢٨٧

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقيدة والإيمان ، والجهاد والإنفاق في سبيل الله ، والترفع عن مفاتن الدنيا ، وبيان أصول الحكم الإسلامي ، وكشف مخازي المنافقين ، وشرائع الأنبياء في الحياة الخاصة والعامة.

ابتدأت بالحديث عن صفات الله وأسمائه الحسنى ، وظهور آثار عظمته في خلق الكون. ثم دعت المسلمين إلى الإنفاق في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ، وإعزاز الإسلام ، ورفع مجده وشأنه.

وقارنت أثر هذه الدعوة إلى البذل والجهاد بين المؤمنين المجاهدين الذين يتميزون بأنوارهم في الآخرة ، وبين المنافقين الذين يبخلون ويجبنون ، ويتخبطون في ظلمات الجهل والكفر.

ثم أبانت السورة حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة ، فالدنيا دار الفناء واللهو واللعب ، والآخرة دار الخلود والبقاء والسعادة والراحة الكبرى ، وفي ذلك تحذير من الاغترار بالدنيا ، وترغيب في الآخرة والعمل من أجلها. ونصحت المؤمنين بالصبر على المصائب ، وذمت أهل الاختيال والكبر والبخلاء ، وحضّت على العدل وعمارة الكون ، وأبانت الغاية من بعثة الرسل الكرام ، وأمرت بتقوى الله ، واتّباع هدي الرسل والأنبياء.

وختمت السورة بالاعتبار بالأمم السابقة ، وبقصص نوح وإبراهيم وأحفادهم الرسل ، وبقصة عيسى بن مريم ، وموقف أتباعه من دعوته ، وأوضحت ثواب المتقين ، ومضاعفة أجر المؤمنين برسلهم ، وأبانت أن الرسالة اصطفاء من الله ، وفضل يختص به من يشاء من عباده.

٢٨٨

فضلها :

أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عرباض بن سارية أنه حدّث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد ، وقال : «إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وهي قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

التسبيح لله في جميع الأوقات وأسبابه

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

الإعراب :

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ مَعَكُمْ) ظرف متعلق بفعل مقدر ، تقديره : وهو شاهد معكم.

البلاغة :

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) بينهما طباق ، وكذا بين (الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) وبين (الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ). (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) و (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) بينهما مقابلة. (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) فيه رد العجز على الصدر.

٢٨٩

المفردات اللغوية :

(سَبَّحَ لِلَّهِ) أي نزهه كل شيء من كل نقص وعما لا يليق به من صفات الحوادث كالشريك والولد ، وإنما عدّي باللام وهو معدّى بنفسه ، مثل نصحت له ونصحته ، إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصا لوجهه. وذكر في القرآن : (سَبَّحَ) كما في آخر السورة السابقة الواقعة وأول الأعلى للأمر بالتسبيح ، وذكر هنا وفي الحشر والصف بلفظ الماضي ، وفي الجمعة والتغابن بلفظ المضارع ، إشعارا بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته ، وكله يدل على الديمومة والاستمرار ، وأن ذلك ديدن من في السموات والأرض ، وجاء بلفظ المصدر (سُبْحانَ) أول الإسراء ، إشعارا بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال.

(ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جيء ب (ما) وليس «من» تغليبا للأكثر من غير العقلاء. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) القوي في ملكه فلا ينازعه فيه شيء ، الحكيم في صنعه ، والجملة حال يشعر بما يدل على أنه الأهل للتسبيح مع استغنائه. (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي إن سبب التسبيح كونه تعالى مالكا السموات والأرض ، وله تمام التصرف في الملك ، وهو إيجاد ما شاء ، وإعدام ما شاء بقدرته على الإحياء والإماتة. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي قادر تام القدرة على كل شيء من الإحياء والإماتة وغيرهما.

(هُوَ الْأَوَّلُ) السابق على سائر الموجودات ، والموجود قبل كل شيء بلا بداية ، لأنه موجد الأشياء ومحدثها. (وَالْآخِرُ) الباقي بعد فناء الموجودات ، والموجود بعد كل شيء بلا نهاية. (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) الظاهر وجوده لكثرة دلائله ، والباطن : حقيقة ذاته ، فلا تحيط به العقول والحواس ، وخفيت عنه ذاته ، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله ، وباطن بذاته. (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ستة أطوار. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الكرسي استواء يليق به. (يَلِجُ) يدخل. (فِي الْأَرْضِ) من كنوز ومعادن وبذور ومطر وأموات. (وَما يَخْرُجُ مِنْها) كالنبات والمعادن لمنفعة الناس. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالمطر والرحمة والملائكة والعذاب وغير ذلك. (وَما يَعْرُجُ فِيها) كالأبخرة والأعمال والدعوات. (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) أي بعلمه وقدرته ، لا يفارقكم بحال ، فليس المراد المعية بالذات. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم عليه ، وتقديم الخلق في الآية على العلم ، لأنه دليل عليه.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الموجودات جميعها. (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) يدخل أحدهما في الآخر بالزيادة والنقص ، فيزيد الليل وينقص النهار تارة ، وعلى العكس تارة أخرى. (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما فيها من الأسرار والمكنونات ، والنوايا والخفايا والمعتقدات.

٢٩٠

التفسير والبيان :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي نزّه الله تعالى عن كل نقص وعما لا يليق به كل شيء في السموات والأرض من الجماد والنبات والإنسان والحيوان ، تعظيما له وإقرارا بربوبيته ، سواء بلسان المقال ، كتسبيح الملائكة والإنس والجن ، أو بلسان الحال ، كتسبيح غيرهم ، فإن كل موجود يدل على الصانع ، كما قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء ١٧ / ٤٤] فتسبيح العقلاء : تنزيه وتقديس وعبادة ، وتسبيح غيرهم إقرار واعتراف بالصانع.

والله هو القوي القادر الغالب الذي خضع له كل شيء ، ولا ينازعه أحد في ملكه ، الحكيم في تدبيره وأمره وخلقه وشرعه ، يتصرف على وفق الحكمة والصواب. وهذه الجملة مستأنفة بمنزلة التوكيد المعنوي لما قبلها ، تدل على أنه تعالى مبدأ التسبيح مع الاستغناء عنه.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يُحْيِي وَيُمِيتُ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لله تعالى الملك المطلق للسموات والأرض ، يتصرف فيهما وحده ، وله السلطان التام ، وهو نافذ الأمر ، فلا ينفذ غير تصرفه ، وهو المالك المتصرف في خلقه ، فيحيي من يشاء ، ويميت من يشاء ، ويعطي من يشاء ما يشاء ، وهو تام القدرة ، لا يعجزه شيء ، كائنا ما كان ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ، وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي الله هو الأول قبل كل شيء ، قيل ، وهو غير حديث : «كنت كنزا مخفيا ، فأردت أن أعرف ، فخلقت الخلق ، فبي عرفوني» وهو الآخر الباقي بعد كل شيء ، بعد فناء خلقه ، كما قال سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص ٢٨ / ٨٨].

٢٩١

وهو الظاهر العالي فوق كل شيء ، الغالب على كل شيء ، والباطن العالم بما بطن ، ولا تعرف العقول ذاته على حقيقتها ، ولا تدركه الحواس ، وهو ذو علم تام بكل شيء ، لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات.

روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم أنت الأول ، فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن ، فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر».

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي الله الذي أوجد وأبدع السموات والأرض في أيام ستة الله أعلم بمقدارها ، وفي ستة أطوار مختلفة ، وهو القادر على خلقها في لحظة ، ولكن هذا العدد لتعليم العباد التأني والتثبت في الأمور ، ثم استوى على العرش أي الكرسي استواء يليق به ، على نحو يريده ، مما لا يعلم به إلا هو ، وهذا رأي السلف ، وهو الأولى احتياطا ، ورأي الخلف تأويل الاستواء على العرش بتدبير الأمر وتفصيل الآيات والاستيلاء على مقاليد السلطة.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) أي يعلم كل شيء ، يدخل في الأرض من مطر وأموات وغير ذلك ، ويخرج منها من نبات وزرع وثمار ومعادن وغيرها ، وما ينزل من السماء من مطر وملائكة وغير ذلك ، وما يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال العباد الصالحة والسيئة ، والدعوات ، والأبخرة المتصاعدة ونحو ذلك ، جاء في الحديث الصحيح : «يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل».

ونظير الآية : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام ٦ / ٥٩].

٢٩٢

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي والله سبحانه مع عباده بقدرته وسلطانه وعلمه ، أينما كانوا في البر والبحر والجو ، والله رقيب عليهم بصير بأعمالهم ، لا يخفى عليه شيء منها.

قال أبو حيان : وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها ، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات ، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها ، مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها (١).

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي هو المالك للدنيا والآخرة. كما قال تعالى : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) [الليل ٩٢ / ١٣] فلا راد لقضائه ، ولا معقّب لحكمه ، وهو المحمود على ذلك كما قال تعالى : (وَهُوَ اللهُ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) [القصص ٢٨ / ٧٠] ومرجع جميع الأمور إلى الله وحده لا إلى غيره يوم القيامة ، فيحكم في خلقه بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يجور ، ولا يظلم مثقال ذرة.

وقوله : (لَهُ مُلْكُ ..) هذا التكرير للتأكيد ، أو أنه وما بعده ليس بتكرار ، لأن الكلام الأول في الدنيا لقوله : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) والثاني في العقبى والآخرة لقوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إن الله سبحانه هو المتصرف في الخلق ، يقلّب الليل والنهار ، ويقدرهما بحكمته كما يشاء ، فتارة يطول الليل ، ويقصر النهار ، وتارة بالعكس ، وتارة يتركهما معتدلين ، وتتوالى الفصول الأربعة بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه ، وهو يعلم السرائر وضمائر الصدور ومكنوناتها ، وإن خفيت ، لا يخفى عليه من ذلك خافية ، سواء الظاهر والباطن.

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٢١٧

٢٩٣

وهذا حث على التأمل في ملكوت الله ، وشكر على ما أنعم ، وتنزيه على كل ما لا يليق به. والخلاصة : أن هذه الآيات إخبار بتسبيح كل شيء الله ، وبيان موجبات التسبيح.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ مجّد الله ونزّهه عن السوء في الذات والصفات والأسماء والأفعال كلّ شيء في الأرض والسماء ، سواء بالنطق والمقال الصريح ، أم بلسان الحال والدلالة وظهور آثار الصنعة : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].

٢ ـ إن موجبات التسبيح كون الله العزيز الغالب في ملكه ، الحكيم في صنعه ، المالك المتصرف في السموات والأرض ، المستغني في ذاته وفي جميع صفاته عن كل ما عداه ، ويحتاج كل ما عداه إليه في ذواتهم وفي صفاتهم ، والنافذ الأمر ، المالك القادر القاهر ، الذي لا يعجزه شيء.

٣ ـ ومن موجباته أيضا أنه سبحانه الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، والظاهر الغالب الذي ليس فوقه شيء ، والباطن الذي ليس دونه شيء ، وهو تام العلم بما كان أو يكون ، فلا يخفى عليه شيء.

وهذا دليل على أنه تعالى قبل كل شيء ، ومتقدم على ما سواه تأثيرا وطبعا وشرفا ومكانا وزمانا ، أي أنه سبحانه قبل المكان وقبل الزمان. وهو إله لجميع الممكنات والكائنات ، وإله للعرش والسموات والأرضين ، وعالم بظواهرنا وبواطننا.

٤ ـ ومما يوجب تسبيحه أنه خالق السموات والأرض ومبدعهما ، صاحب

٢٩٤

العرش الذي استوى عليه استواء يليق به ، العالم بما يدخل في الأرض من مطر وغيره ، وما يخرج منها من نبات وغيره ، وما ينزل من السماء من رزق ومطر وملائكة ، وما يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد ، وهو مع خلقه بقدرته وسلطانه وعلمه ، لا بذاته ، أينما كانوا ، ويبصر أعمالهم ويراها ، ولا يخفى عليه شيء منها.

٥ ـ ومن موجبات التسبيح أنه سبحانه المالك للدنيا والآخرة ، وترجع إليه أمور الخلائق في الآخرة. وهو يقلب الليل والنهار طولا وقصرا ، ويأتي بالفصول الأربعة ، ولا تخفى عليه الضمائر ، فهو إذن المعبود على الحقيقة ، فلا يجوز أن يعبد من سواه.

والخلاصة : أن هذه الآيات جامعة بين الدلالة على قدرة الله ، وبين إظهار نعمه ، والمقصود من إعادة بعض معانيها في رأي القائلين بالتكرار الحث على النظر والتأمل ، ثم الاشتغال بالشكر على تلك النعم.

بعض التكاليف الدينية

الحث على الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى الإنفاق

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ

٢٩٥

أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

الإعراب :

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لا تُؤْمِنُونَ) في قراءة : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من معنى الفعل في (ما لَكُمْ) ، (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) : جملة اسمية في موضع نصب على الحال ، والواو : واو الحال ، وتقديره : ما لكم غير مؤمنين بالله تعالى ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الحال ، فهما حالان متداخلتان. وقرئ : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ ..) والمعنى : وأي عذر لكم في ترك الإيمان ، والرسول يدعوكم إليه ، وينبهكم عليه ، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج.

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى كُلًّا) : منصوب ب (وَعَدَ) و (الْحُسْنى) : منصوب مفعول ثان ل (وَعَدَ) وقرئ : وكل على أنه مبتدأ ، و (وَعَدَ) : خبره ، وقدر في (وَعَدَ) هاء ، أي وعده الله ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي أولئك كل وعد الله ، و (وَعَدَ) : صفة ل (كُلًّا).

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ .. يَوْمَ) : منصوب على الظرف ، والعامل فيه (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) و (يَسْعى نُورُهُمْ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال ، لأن (تَرَى) بصرية لا قلبية.

(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) تقديره : دخول جنات ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، لأن البشارة إنما تكون بالأحداث ، لا بالجثث.

البلاغة :

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) فيه حذف بالإيجاز ، تقديره : ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، لدلالة الكلام عليه بعدئذ ، ولوضوحه.

٢٩٦

(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) استعارة ، حيث استعار (الظُّلُماتِ) للكفر والضلالة ، و (النُّورِ) للإيمان والهداية.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) استعارة تمثيلية ، مثل حال المنفق بإخلاص بمن يقرض ربه قرضا واجب الوفاء.

المفردات اللغوية :

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) صدقوا بوحدانية الله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وداوموا على الإيمان بهما. (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أنفقوا في سبيل الله من الأموال التي جعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فهي في الحقيقة له ، لا لكم ، وسيخلفكم بدلا عنها ، وفيه حث على الإنفاق وتهوين له على النفس. (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) هذا وعد فيه عدة مبالغات هي جعل الجملة اسمية ، وإعادة ذكر الإيمان والإنفاق ، وبناء الحكم على الضمير ، وتنكير كلمة الأجر ، ووصفه بالكبر.

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) خطاب للكفار ، أي لا مانع لكم من الإيمان. (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) أخذه الله عليكم في عالم الذر حين أشهدكم على أنفسكم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى ، وكذلك بعد وجودكم ، إذ أقام الأدلة على وجوده وتوحيده في الأنفس والآفاق ، ومكنكم من النظر بالعقل والتفكير. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مريدين الإيمان به ، فبادروا إليه.

(آياتٍ بَيِّناتٍ) هي آيات القرآن. (لِيُخْرِجَكُمْ) الله تعالى ، أو عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ) في إخراجكم من الكفر إلى الإيمان. (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث نبّهكم بالرسل والآيات ، ولم يقتصر على الحج العقلية.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وما لكم بعد إيمانكم ألا تنفقوا في سبيل الجهاد وفيما يكون قربة إليه. (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أنه يرث كل شيء فيهما ، ولا يبقى لأحد مال ، وإذا كان الأمر كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقى ، وهو الثواب ، كان أولى. (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي لا تساوي بين المنفق قبل فتح مكة وقاتل الأعداء ، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، لوجود السبق في الإيمان ، وقوة اليقين ، وتحرّي المصالح العامة للمسلمين. وذكر القتال للاستطراد. والمراد بالفتح فتح مكة الذي أعز الله به الإسلام ، وكثر أهله ، وقلّت الحاجة إلى الإنفاق والمقاتلة. (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي وكلّا من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى ، وهي الجنة. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عالم بأعمالكم الظاهرة والباطنة ، فمجازيكم على حسبها.

٢٩٧

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ ...؟) أي ينفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه ، فإنه كمن يقرضه. (قَرْضاً حَسَناً) خالصا لله. (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) يعطي أجره أضعافا. (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) مقترن بالرضا والقبول. (يَسْعى نُورُهُمْ) ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة. (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أمامهم. (وَبِأَيْمانِهِمْ) كتبهم ، لأنهم يؤتون صحائف أعمالهم من الأمام واليمين. (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي تتلقاهم الملائكة تبشرهم بدخول الجنات ، وبشراكم أي ما تبشرون به.

سبب النزول :

نزول الآية (٧):

(آمِنُوا بِاللهِ) : نزلت في غزوة العسرة ، وهي غزوة تبوك.

نزول الآية (١٠):

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ ..) : ذكر الواحدي عن الكلبي : أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه.

وذكر أيضا عن ابن عمر قال : بينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ، وعنده أبو بكر الصديق ، وعليه عباءة قد خلّلها على صدره بخلال ، إذ نزل عليه جبريل عليه‌السلام ، فأقرأه من الله السلام ، وقال : يا محمد ، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّلها على صدره بخلال؟ فقال : يا جبريل ، أنفق ماله قبل الفتح عليّ ، قال : فأقرئه من الله سبحانه وتعالى السلام ، وقل له : يقول لك ربك : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فالتفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبي بكر فقال : يا أبا بكر ، هذا جبريل يقرئك من الله سبحانه السلام ، ويقول لك ربك : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فبكى أبو بكر ، وقال : على ربي أغضب ، أنا عن ربي راض ، أنا عن ربي راض (١).

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٢٣٠ وما بعدها ، تفسير القرطبي : ١٧ / ٢٤٠

٢٩٨

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أدلة إثبات وحدانيته وعلمه وقدرته ، بمشاهد في السموات والأرض والأنفس ، أتبعها ببعض التكاليف الدينية ، فأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وباستدامته والإخلاص فيه ، ثم طلب من المؤمنين الإنفاق في سبيل الله ، وأخبر بمضاعفة الأجر عليه ، وأبان أن آياته تخرج من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وفضّل السابقين الأولين إلى الإسلام الذين أسلموا وأنفقوا قبل فتح مكة ، ثم أكد الحث على الإنفاق مرة أخرى.

التفسير والبيان :

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي صدّقوا بالتوحيد وبصحة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوجه الأكمل ، وداوموا واثبتوا على ذلك ، وأنفقوا من مال الله الذي جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة ، فإن المال مال الله ، والعباد خلفاء الله في أمواله ، فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه.

ثم رغب في الإيمان والإنفاق في الطاعة ، مبينا أن الذين جمعوا بين الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبين الإنفاق في سبيل الله ، لهم ثواب كثير الخير والنفع وهو الجنة.

أخرج أحمد عن عبد الله بن الشّخّير قال : انتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : «ألهاكم التّكاثر ، يقول ابن آدم ، مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت» ورواه مسلم أيضا وزاد : «وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس».

ثم وبخهم الله تعالى على ترك الإيمان ، فقال :

٢٩٩

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟) أي ، وأيّ شيء يمنعكم عن الإيمان ، والرسول معكم يدعوكم إلى ذلك ، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به ، بتلاوة القرآن المشتمل على الدلائل الواضحة ، وقد أخذ الله ميثاقكم بأن تؤمنوا في عالم الذر حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم ، وبما أقام لكم في الكون والآفاق والأنفس من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان ، وكذا ما ترشد إليه العقول السليمة ، إن كنتم مريدين الإيمان ، فبادروا إليه. فهذا توبيخ على ترك الإيمان بشرطين : أحدهما ـ أن يدعو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثاني ـ أنه أخذ الميثاق عليهم.

أخرج البخاري في صحيحة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما لأصحابه : «أي المؤمنين أعجب إليكم أيمانا؟ قالوا : الملائكة ، قال : وما لهم لا يؤمنون ، وهم عند ربهم؟ قالوا : فالأنبياء ، قال : وما لهم لا يؤمنون ، والوحي ينزل عليهم ، قالوا : فنحن ، قال : وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها».

ثم أوضح الله تعالى الغاية من إنزال القرآن لقطع عذرهم ، فقال :

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن الله أراد بإنزال الآيات البينات الواضحات التي هي القرآن وغيره من المعجزات أن يخرجكم من ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة ، إلى نور الهدى واليقين والإيمان ، وإن الله لكثير الرأفة والرحمة بعباده ، حيث أنزل الكتب ، وبعث الرسل ، لهدايتهم ، وأزال الموانع والشّبه ، وأزاح العلل.

وبعد أن أمرهم بالإيمان والإنفاق ، وحثهم عليهما ، ووبخهم على ترك الإيمان ، وبخهم على ترك الإنفاق ، فقال :

٣٠٠