التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

يَقُولُونَ : أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً ، أَإِنَّا (١) لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) أي إنهم كانوا في الدار الدنيا منعمين بما لا يحل لهم ، منهمكين في الشهوات ، مقبلين على لذات أنفسهم ، لا يأبهون بما جاءت به الرسل ، وكانوا في إصرار دائم على الذنب العظيم لا يتوبون عنه ، وهو الشرك ، أو الكفر بالله ، واتخاذ الأوثان والأنداد أربابا من دون الله ، وكانوا ينكرون ويستبعدون البعث بعد الموت ، قائلين : كيف نبعث إذا متنا وصرنا أجسادا بالية وعظاما نخرة؟ بل كيف يبعث آباؤنا وأجدادنا الأولون لتقادم الزمن الطويل عليهم وتقدم موتهم؟ فهم أشد إنكارا واستبعادا لبعث أصولهم الأوائل. ويلاحظ أنهم حكوا كلامهم على طريقة الاستفهام بمعنى الإنكار.

ويلاحظ أنه تعالى عند إيصال الثواب لا يذكر أعمال العباد الصالحة ، لذا لم يذكر سبب كون أصحاب اليمين في النعيم ، وعند إيقاع العقاب يذكر أعمال المسيئين ، لأن الثواب فضل ، والعقاب عدل ، والفضل سواء ذكر سببه أم لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص وظلم ، وأما العدل فإن لم يعلم سبب العقاب ، يظن أن هناك ظلما ، فقال تعالى : هم فيها بسبب ترفعهم.

فأجابهم الله تعالى على أسباب إنكارهم البعث وهي الحياة بعد الموت ، وتحول الأجساد إلى تراب ، وطول العهد على موت الآباء ، فقال :

(قُلْ : إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي قل لهم أيها الرسول : إن الأولين من الأمم الذين تستبعدون بعثهم ، والآخرين منهم الذين أنتم ومن سيأتي في المستقبل من جملتهم ، سيجمعون بعد البعث إلى ساحات القيامة في يوم محدود ، معلوم الأجل ، لا يتأخر ولا يتقدم ، ولا يزيد ولا ينقص ، كما قال تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)

__________________

(١) الهمزة في أَإِذا وأَ إِنَّا للإنكار والتعجب كما تقدم ، وتكريرها لتأكيد الإنكار.

٢٦١

[النازعات ٧٩ / ١٣ ـ ١٤]. وقال سبحانه : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ، وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ، يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٣ ـ ١٠٥]. وقوله : (قُلْ) إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور. وأما عدم تعيين يوم القيامة فلئلا يتكل الناس.

ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر العذاب في المأكل والمشرب ، فقال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ، لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أي إنكم معشر الضالين عن الحق ، الذين أنكرتم وجود الله ووحدانيته ، وكذبتم رسله ، وأنكرتم البعث والجزاء يوم القيامة : إنكم ستأكلون في الآخرة من شجر الزقوم الذي هو شجر كريه المنظر ، كريه الطعم ، حتى تملؤوا بطونكم ، لشدة الجوع ، ثم إنكم سوف تشربون على الزقوم عقب أكله من الماء الحار ، لشدة العطش ، ويكون شربكم منه شرب الإبل العطاش الظماء ، التي لا تروى لداء يصيبها ، أي لا يكون شربكم من الحميم شربا معتادا ، بل مثل شرب الهيم التي تعطش ولا تروى أبدا بشرب الماء حتى تموت ، قال ابن عباس وجماعة من التابعين : (الْهِيمِ) الإبل العطاش الظماء. وقال السدي : الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبدا حتى تموت ، فكذلك أهل جهنم ، لا يروون من الحميم أبدا. وعن خالد بن معدان : أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم غبة واحدة ، من غير أن يتنفس ثلاثا.

ثم أبان الله تعالى أن هذا عذابهم ، فقال :

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي هذا الذي وصفنا من المأكول والمشروب ، من شجر الزقوم ، وشراب الحميم هو على سبيل السخرية والاستهزاء ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم ، وهو الذي يعد لهم ويأكلونه يوم القيامة. وفي رأي الرازي : أن هذا ليس كل العذاب ، بل هذا أول ما يلقونه وهو بعض منه.

٢٦٢

والنزل : ما يعد للضيف ، ويكون أول ما يأكله ، كما قال تعالى في حق المؤمنين : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف ١٨ / ١٠٧] أي ضيافة وكرامة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن أصحاب الشمال هم الذين يأخذون كتبهم بشمائلهم ، عظّم الله تعالى بلاءهم وعذابهم ، وأثار فينا العجب من حالهم وشأنهم.

٢ ـ إنهم يعذبون في ريح حارة تدخل مسام البدن ، ويشربون من ماء حار قد انتهى حرّه ، لشدة العطش ، فإذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم ، فيجدونه حميما حارا في نهاية الحرارة ، وإذا فزعوا من السّموم إلى الظل ، كما يفزع أهل الدنيا ، فيجدونه ظلا من يحموم ، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد.

فهو ليس باردا ، بل حار ، لأنه من دخان شفير جهنم ، ولا حسن المنظر ولا عذب ، ولا نافع ولا خير فيه ، فهو ليس بكريم.

٣ ـ إن أعمالهم الموجبة لهذا العقاب أو سبب استحقاقهم هذه العقوبة : أنهم كانوا في الدنيا مترفين منعّمين بالحرام ، متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص ، وكانوا يقيمون على الذنب الكبير ويلازمونه ولا يتوبون منه وهو الشرك ، وقيل : اليمين الغموس ، لأنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون ، وكانوا يقسمون ألا بعث وأن الأصنام أنداد لله ، فذلك حنثهم ، وكانوا يقولون استبعادا منهم لأمر البعث ، وتكذيبا له ، لا حياة بعد الموت ، ولا يمكن إعادة الحياة للأجساد التي بليت والعظام التي نخرت ، وبعث آبائنا أبعد ، فإنا إذا كنا ترابا بعد موتنا ، والآباء حالهم فوق حال العظام الرفات ، فكيف يمكن البعث؟!

٢٦٣

٤ ـ ومن ألوان عذاب هؤلاء الضالين عن الهدى ، المكذبين بالبعث أكلهم من شجر الزقوم : وهو شجر كريه المنظر ، كريه الطعم ، حتى يملئوا بطونهم منه ، ثم شربهم على الزقوم من الحميم : وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه ، وهو صديد أهل النار ، وليس شربهم كالمعتاد ، وإنما يشربون شرب الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها.

والمراد : أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم ، ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحميم كالإبل الهيم.

٥ ـ هذا رزقهم الذي يعدّ لهم يوم الجزاء (يَوْمَ الدِّينِ) في جهنم ، كالنزل الذي يعدّ للأضياف تكرمة لهم ، وفي هذا الوصف تهكم ، كما في قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [التوبة ٩ / ٣٤].

أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

٢٦٤

الإعراب :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أَأَنْتُمْ ... نَحْنُ الْخالِقُونَ) في موضع المفعول الثاني على أن الرؤية علمية ، ومستأنفة على أنها بصرية.

ملزمون غرامة أو نفقة ما أنفقنا ، أو مهلكون ، لهلاك رزقنا ، من الغرم : وهو الهلاك. المفعول الثاني.

(فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أصله : ظللتم ، يقرأ بفتح الظاء وكسرها ، فمن قرأ بالفتح حذف اللام الأولى بحركتها تخفيفا ، ومن قرأ بالكسر نقل حركة اللام الأولى إلى الظاء ، وحذفها ، وهما لغتان.

المفردات اللغوية :

(فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) بالخلق متيقنين ، تقيمون الدليل على التصديق بالأعمال الدالة عليه ، أو فلو لا تصدقون وتقرون بالبعث والإعادة ، كما أقررتم بالنشأة الأولى ، وهي خلقهم ، فإن من قدر على الإبداء قادر على الإعادة. (ما تُمْنُونَ) ما تقذفونه أو تصبونه من المني في الأرحام. (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) تجعلون المني بشرا سويا تام الخلق. (قَدَّرْنا) قضينا وأقّتنا موت كل واحد بوقت معين. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) لا يسبقنا أحد ، فيهرب من الموت ، أو لا يغلبنا أحد ، فلسنا بعاجزين.

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) نخلق أشباهكم وقوله : (عَلى) إما متعلق بقوله : (نَحْنُ قَدَّرْنا) أي نحن قادرون ، قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم ، أي بموت طائفة ، ونبدلها بطائفة قرنا بعد قرن ، وهذا قول الطبري. وإما متعلق بمسبوقين ، أي لا نسبق على أن نبدل أمثالكم جمع مثل ، (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) من الصفات ، أي نحن قادرون على أن نعدمكم أو نميتكم ، وننشئ أمثالكم ، وعلى تغيير أوصافكم ، مما لا يحيط به فكركم (١).

(وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) نخلقكم خلقا آخر لا تعلمونه وأطوارا لا تعهدونها ، أو نخلق صفات لا تعلمونها.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ، فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي علمتم الخلقة الأولى ، فهلا تتذكرون أن من قدر عليها ، قدر على النشأة الأخرى ، لسبق المثال ، وفيه دليل على صحة القياس.

(تَحْرُثُونَ) تثيرون الأرض وتلقون البذور فيها. (تَزْرَعُونَهُ) تنبتونه ، من الزرع : الإنبات. (الزَّارِعُونَ) المنبتون. (حُطاماً) هشيما هالكا متكسرا. (فَظَلْتُمْ) أصله ظللتم ،

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٢١١

٢٦٥

أي أقمتم نهارا. (تَفَكَّهُونَ) تتعجبون من سوء حاله ، وتندمون على اجتهادكم فيه. (لَمُغْرَمُونَ) ملزمون غرامة أو نفقة ما أنفقنا ، أو مهلكون ، لهلاك رزقنا ، من الغرم : وهو الهلاك. (مَحْرُومُونَ) ممنوعون رزقنا ، أو محدودون غير مجدودين (غير محظوظين).

(الْمُزْنِ) السحاب ، جمع مزنة. (الْمُنْزِلُونَ) بقدرتنا. (أُجاجاً) ملحا لا يمكن شربه. (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) فهلا تشكرون أمثال هذه النعم الضرورية. (تُورُونَ) تقدحون ، أو تخرجونها نارا. (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) الشجرة التي منها الزناد ، كالمرخ والعفار والكلخ التي تقدح نارا بالتماس. (جَعَلْناها) جعلنا نار الزناد. (تَذْكِرَةً) أنموذجا لنار جهنم ، أو تبصرة في أمر البعث ، أو تذكيرا. (وَمَتاعاً) منفعة. (لِلْمُقْوِينَ) للمسافرين ، مأخوذ من أقوى القوم : الذين ينزلون القواء ، أي القفر والمفاوز التي لا نبات فيها ولا ماء. (فَسَبِّحْ) نزّه. (بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزّه الله تعالى ، وقل : سبحان الله العظيم ، وأحدث التسبيح بذكر اسمه ، أو بذكره ، فإن إطلاق اسم الشيء : ذكره ، و (الْعَظِيمِ) : صفة للاسم أو الرب.

المناسبة :

بعد بيان حال الأصناف الثلاثة من المخلوقات يوم القيامة ، ومآل كل صنف ، ردّ الله تعالى على المكذبين من أهل الزيغ والإلحاد ، فأقام الأدلة على الألوهية بالخلق والرزق والإمداد بالنعم الدائمة ، وقرر المعاد ، وأثبت البعث والجزاء.

التفسير والبيان :

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي نحن ابتدأنا خلقكم أول مرة ، بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، وأنتم تعلمون ذلك ، فهلا تصدقون بالبعث ، كما تقرّون بالخلق ، فإن من قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟

وهذا تقرير للمعاد وإثبات له بطريق القياس ، ثم أقام أدلة أخرى على ذلك فقال :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) أي أخبروني عما تقذفون من المني أو النطف في أرحام النساء ، أأنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه

٢٦٦

فيها وتجعلونه بشرا سويا تام الخلق ، أم الله الخالق لذلك ، المقدر المصور له؟!

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي نحن قسمنا الموت بينكم ووقتناه لكل فرد منكم ، فمنكم من يموت كبيرا ، ومنكم من يموت صغيرا ، ولكن الكل سواء فيه ، وما نحن بمغلوبين ، بل نحن قادرون على أن نأتي بدلكم بخلق مثلكم بعد إهلاككم ، وعلى تغيير صفاتكم التي أنتم عليها ، وإنشاء صفات وأحوال أخرى لا تعلمونها. والمراد أننا قهرناكم بالموت ، ونقدر على الإتيان بأجيال أخرى أمثالكم ومن جنسكم ، لتستمر الحياة البشرية ، ونقدر أيضا على التجديد في الصفات والأحوال ، وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم.

وهذا دليل على كذب المكذبين بالبعث ، وصدق الرسل في الحشر ، لأن قوله : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) إلزام بالإقرار بأن الخالق في الابتداء هو الله تعالى ، ولما كان قادرا على الخلق أولا ، كان قادرا على الخلق ثانيا.

ثم أورد الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث مقرر لما سبق ، فقال :

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ، فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، فخلقكم على مراحل وأطوار من نطفة ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم من هيكل عظمي ، ثم كساكم باللحم ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فهلا تتذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة ، وتقيسونها على النشأة الأولى؟ فإن الذي قدر على الأولى قادر على الأخرى ، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ٣٠ / ٢٧] ، وقال سبحانه : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [مريم ١٩ / ٦٧] ، وقال عزوجل : (قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)

٢٦٧

[يس ٣٦ / ٧٩] ، وقال عزّ اسمه : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً! أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) [القيامة ٧٥ / ٣٦ ـ ٤٠].

وهذا دليل الحشر وتقرير النشأة الثانية ، بالتذكير بالنشأة الأولى ، ليكون تذكيرا بعد تذكير.

ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على قدرته ، مع الاستدلال على كمال عنايته ورحمته ببريته ، فقال :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أي أخبروني عما تحرثون أو تقلبون من أرضكم ، فتطرحون فيه البذر ، والحرث : شق الأرض وإلقاء البذر فيها ، أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا بحيث يكون نباتا كاملا يكون فيه السنبل والحب ، بل نحن الذي ننبته في الأرض ونصيره زرعا تاما؟ كان حجر المنذري إذا قرأ : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) وأمثالها يقول : بل أنت يا ربّ.

وهذا دليل الرزق الذي بالبقاء بعد ذكر دليل الخلق الذي به الابتداء ، وفيه أمور ثلاثة : المأكول المذكور هنا أولا ، لأنه هو الغذاء ، ثم ذكر المشروب ، لأن به الاستمراء ، ثم النار التي بها الإصلاح.

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً ، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم ، ولو نشاء لأيبسناه ، وجعلناه متحطما متكسرا لا ينتفع به قبل استوائه واستحصاده ، ولا يحصل منه حب ولا شيء آخر يطلب من الحرث ، فصرتم تعجبون من سوء حاله وما نزل به ، قائلين : إننا لخاسرون مغرمون ، والمغرم : الذي ذهب ماله بغير عوض ، أو إننا لهالكون هلاك أرزقنا ، بل إننا حرمنا رزقنا بهلاك

٢٦٨

زرعنا ، لسوء حظنا ، والمحروم : الممنوع من الرزق ، وهو ضدّ المرزوق.

ثم ذكر الله تعالى من دليل الرزق بعد المأكول وهو المشروب ، فقال :

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟) أي أخبروني أيها الناس عن الماء العذب الذي تشربونه لإطفاء العطش ، أأنتم أنزلتموه من السحاب ، أم نحن المنزلون بقدرتنا دون غيرنا ، فكيف لا تقرّون بالتوحيد ، وتصدقون بالبعث؟

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ، فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي لا عمل لكم في إنزال الماء أصلا ، فهو محض النعمة ، ولو نريد لجعلناه ملحا لا يصلح لشرب ولا زرع ، فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذبا زلالا ، تشربون منه وتنتفعون به ، كما قال تعالى : (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل ١٦ / ١٠ ـ ١١].

روى ابن أبي حاتم عن أبي جعفر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا شرب الماء ، قال : «الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا».

ثم ذكر النار أداة الإصلاح ، فقال :

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) أي أفرأيتم النار التي تستخرجونها بالقدح من الزناد ، أأنتم أنشأتم شجرتها التي كانوا يقدحون منها النار ، أم نحن المنشئون لها بقدرتنا دونكم؟ وكان للعرب شجرتان يقدحون بهما النار وهما المرخ والعفار ، بأن يؤخذ منهما غصنان أخضران ، ويحك أحدهما بالآخر ، فيتناثر من بينهما شرر النار.

٢٦٩

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) أي نحن جعلنا هذه النار تذكركم حر نار جهنم الكبرى ، ليتعظ بها المؤمن ، ونفعا للمسافرين وأهل البادية النازلين في الأراضي المقفرة.

أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا : يا رسول الله ، إن كانت لكافية فقال : «إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا».

وخصص المقوون ، أي المسافرون بالذكر ، لشدة حاجتهم إلى النار ، وإن كان ذلك عاما في حق الناس كلهم ، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلمون شركاء في ثلاثة : النار ، والكلأ ، والماء».

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزّه ربّك العظيم الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة ، فخلق الماء الزلال العذب البارد ، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار والمحيطات ، وخلق النار المحرقة ، وجعل ذلك مصلحة للعباد ومنفعة لهم في معاشهم ، وزجرا لهم في المعاد. وفائدة هذا أنه تعالى لما ذكر حال المكذبين بالحشر والوحدانية ، وذكر الدليل عليهما بالخلق والرزق ، ولم يفدهم الإيمان ، أمر الله نبيّه بأن يعنى بوظيفته وهي إكمال نفسه ، بعلمه بربّه ، وعمله لربّه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أثبت الله تعالى قدرته على البعث والحشر والنشر بدليلين هنا : دليل الخلق ، ودليل الرزق.

أما دليل ابتداء الخلق : فيشمل خلق الذوات وخلق الصفات ، أما خلق الذوات فهو النشأة الأولى بالخلق من النطفة ، ثم من العلقة ، ثم من المضغة ، دون أن نكون شيئا ، من طريق التزاوج بين الذكر والأنثى ، والتقاء نطفتي الرجل

٢٧٠

والمرأة ، ثم القرار في الأرحام ، والمرور بأطوار الخلق إلى أن يكتمل الإنسان بشرا سويا تام الخلق. وإذا أقرّ الناس بأن الله هو خالقهم لا غيرهم ، فعليهم الإقرار والاعتراف بالبعث.

والله سبحانه هو الذي يقدر على الإماتة ، والذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق ، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث.

والله عزوجل قادر على خلق الأجيال ، جيلا بعد جيل ، وتجديد صفات المخلوقات وأحوالهم ، وصورهم وهيئاتهم ، والقادر على ذلك قادر على الإعادة.

جاء في الخبر : «عجبا كل العجب للمكذّب بالنشأة الأخرى ، وهو يرى النشأة الأولى ، وعجبا للمصدّق بالنشأة الأخرى ، وهو لا يسعى لدار القرار» (١).

وأما دليل الرزق فيشمل المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول. فذكر تعالى المأكول أولا لأنه الغذاء ، بطريق الاستفهام المراد به الطلب ، وهو أخبروني عما تحرثونه من أرضكم ، فتطرحون فيها البذر ، أأنتم تنبتونه وتحصّلونه زرعا ، فيكون فيه السنبل والحبّ ، أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشقّ الأرض ، فإذا أقررتم بأن إخراج السّنبل من الحبّ ليس إليكم ، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟ وأضاف الحرث إلى العباد ، والزرع إليه تعالى ، لأن الحرث فعلهم وباختيارهم ، والزرع من فعل الله تعالى ، وإنباته باختياره ، لا باختيارهم.

أخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الإيمان ـ وضعفه ـ وابن حبان عن أبي هريرة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يقولن أحدكم : زرعت ، وليقل : حرثت ، فإن الزارع هو الله» قال أبو هريرة : ألم

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٧ / ١٤٨

٢٧١

تسمعوا قول الله تعالى : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟). وهذا نهي إرشاد وأدب ، لا نهي حظر وإيجاب.

والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) الآية ، ثم يقول : بل الله الزارع والمنبت والمبلغ ، اللهم صل على محمد ، وارزقنا ثمره ، وجنّبنا ضرره ، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين ، ولآلائك من الذاكرين ، وبارك لنا فيه يا ربّ العالمين. ويقال : إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات : الدود والجراد وغير ذلك.

والله سبحانه قادر أن يجعل الزرع متكسرا هشيما هالكا لا ينتفع به في مطعم ولا زرع ، وفي هذا تنبيه على أمرين : أحدهما ـ ما أولاهم به من النّعم في زرعهم ، إذ لم يجعله حطاما ليشكروه ، الثاني ـ ليعتبروا بذلك في أنفسهم ، فكما أنه يجعل الزرع حطاما إذا شاء ، كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا وينزجروا.

وإذا جعله الله حطاما لم يجد الإنسان سبيلا آخر للتعويض ، فيعجب من ذهاب الزرع ، ويندم مما حلّ به ، ويقول : إنني لخاسر مغرم ، أو لمعذب هالك ، محروم مما طلبت من الريع والربح.

ثم ذكر الله تعالى المشروب الذي لا بدّ منه للحياة ، والتابع للمطعوم ، فهو نعمة عظمي ، والله هو الذي أنزله من السحاب ، لإحياء النفوس ، وإرواء العطش ، وإذا عرف أن الله أنزله ، فلم لا يشكره العباد بإخلاص العبادة له ، ولم ينكرون قدرته على الإعادة؟

والله قادر على أن يجعله ملحا شديد الملوحة ، لا ينتفع به في شرب ولا زرع ولا غيرهما ، فهلا أيها البشر تشكرون الله الذي صنع ذلك لكم! فهذا دليل آخر على قدرة الله ، ونعمة أخرى.

٢٧٢

ثم ذكر الله تعالى النار التي بها الإصلاح ، فهي أيضا نعمة ، والله هو الذي أنشأ شجرتها التي يكون منها الزناد وهي المرخ والعفار ، وإذا عرف أن الله هو المخترع الخالق ، وعرفت قدرته على خلق الأشياء ، فليشكروه ولا ينكروا قدرته على البعث.

ونار الدنيا أيضا موعظة للنار الكبرى ، وسبب منفعة وتمتع للمسافرين وكل الناس ، فلا يستغني عنها أحد في مرافق الحياة والمعايش ، فيها الخبز والطبخ والإنارة والطاقة المولدة لمحركات الآلات الحديثة في البر والجو والبحر ، وهذا تذكير بالإنعام الإلهي على الناس.

وما عليك أيها الإنسان بعد إيراد هذه الأدلة والتذكير بهذه النعم إلا أن تنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد ، والعجز عن البعث.

ويلاحظ حسن الترتيب في بيان هذه الأدلة ، حيث بدأ تعالى بذكر خلق الإنسان ، لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم ، ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معاشهم وهو الحبّ ، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين ، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز. وذكر عقيب كل واحد ما يمكن أن يأتي عليه ويفسده ، فقال في الأولى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) وفي الثانية : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) وفي الثالثة : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) ولم يقل في الرابعة وهي النار ما يفسدها ، بل قال : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) تتعظون بها ، ولا تنسون نار جهنم ، كما أخرج الترمذي عن أبي سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، لكل جزء منها حرها».

٢٧٣

إثبات النبوة وصدق القرآن وتوبيخ المشركين على اعتقادهم

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

الإعراب :

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ .. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) في الجمل تقديم وتأخير من وجهين : أحدهما ـ أنه فصل بين القسم والمقسم عليه بقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) فقدمه على المقسم عليه وتقديره : «أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم ..» إلخ. الثاني ـ أنه فصل بين الصفة والموصوف بقوله (لَوْ تَعْلَمُونَ) وتقديره : وإنه لقسم عظيم لو تعلمون ، فقدمه على الصفة.

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا) نافية غير ناهية ، و (يَمَسُّهُ) فعل مضارع مرفوع ، ويكون المراد بقوله : (الْمُطَهَّرُونَ) الملائكة.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) تقديره : فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم ، ولولا : بمعنى «هلا». (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) أما : حرف تفصيل وشرط ، بمنزلة

٢٧٤

(مهما) وجوابه : (فَرَوْحٌ) وتقديره : فله روح ، وروح : مبتدأ ، وله خبره ، والتقدير : مهما يكن من شيء فروح وريحان إن كان من المقربين ، فحذف الشرط الذي هو (يكن من شيء) وأقيم (أما) مقامه.

وهكذا الكلام على قوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ) وقوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ).

البلاغة :

(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ـ لَوْ تَعْلَمُونَ ـ عَظِيمٌ) جملة اعتراضية بين القسم والمقسم عليه لتأكيد القسم ، وقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) جملة اعتراضية بين الصفة والموصوف لبيان أهمية القسم.

المفردات اللغوية :

(فَلا أُقْسِمُ) هذا قسم في كلام العرب ، و «لا» مزيدة للتأكيد ، كما في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد ٥٧ / ٢٩]. واستعمال هذه الصيغة للدلالة على أن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ، أو المراد : فأقسم (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) مساقط الكواكب ومغاربها ، وتخصيص المغارب ، للدلالة على وجود مؤثر ، لا يزول تأثيره. (وَإِنَّهُ) أي القسم بها. (لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم ، لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة ، وكمال الحكمة ، وفرط الرحمة ، ومن مقتضيات رحمته ألا يترك عباده سدى. (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) إن المتلو عليكم لقرآن كثير النفع ، لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد. (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) في مكتوب مصون عن التغيير والتبديل ، وهو المصحف ، أو اللوح المحفوظ. (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا) النافية ، و (الْمُطَهَّرُونَ) الملائكة ، أي لا يقربه ولا يطلع عليه إلا المنزهون من الحظوظ النفسية ، وهم الملائكة. أو هو خبر بمعنى النهي ، أي لا يمس القرآن إلا المطهّرون من الأحداث ، فيكون نفيا بمعنى نهي. وقرئ : «المتطهرون». و «المطّهرون» بالإدغام ، و «المطهرون» من أطهره ، و «المطّهرون» ، أي أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام. (تَنْزِيلٌ) صفة رابعة للقرآن ، أي منزّل من رب العالمين ، أو وصف بالمصدر ، لأنه نزّل مقسطا منجما من بين سائر كتب الله تعالى ، فكأنه في نفسه تنزيل ، لذا سمي به ، ويقال : جاء في التنزيل كذا ، ونطق به التنزيل ، أو هو تنزيل ، على حذف المبتدأ ، وقرئ : تنزيلا أي نزل تنزيلا.

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) القرآن. (مُدْهِنُونَ) متهاونون ، كمن يدهن في الأمر ، أي يلين جانبه ، ولا يتصلب فيه ، تهاونا به ، ومنه يقال : المداهنة : الملاينة والمداراة. وهذا استعمال للفظ

٢٧٥

في الشيء المعنوي على سبيل المجاز ، الذي صار لشهرته حقيقة عرفية. وأصله الادهان : أي جعل الأديم (الجلد) مدهونا بمادة زيتية ليلين لينا حسيا. (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي شكر رزقكم ، وهو المطر. (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) بمانحه وساقيه حيث تنسبون المطر إلى الأنواء ، وتقولون : مطرنا بنوء كذا. والنوء : سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر ، وطلوع رقيبه من المشرق ، يقابله من ساعته ، في كل ثلاثة عشر يوما ، ما خلا الجبهة ، فإن لها أربعة عشر يوما ، وكانت العرب تضيف الأمطار والرّياح والحرّ والبرد إلى الساقط منها ، وقيل : إلى الطالع منها ، لأنه في سلطانه ، وجمعه : أنواء.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أي فلا إذا وصلت الروح وقت النزع الحلقوم ، أي أعلى مجرى الطعام. (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) وأنتم يا من يكون حول المحتضر تنظرون إليه ، والواو للحال. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي ونحن أعلم بحال المحتضر منكم ، ولكن لا تعلمون ذلك ، أو لا تدركون كنه ما يجري عليه ، عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى أسباب الاطلاع. (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) أي فهلا إن كنتم غير مجزيين يوم القيامة ، أي غير مبعوثين بزعمكم. (تَرْجِعُونَها) تردون الروح إلى الجسد ، بعد بلوغ الحلقوم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما زعمتم. والمعنى : هلا ترجعون الروح إلى مقرّها إن نفيتم البعث ، صادقين في نفيه ، بأن تزيلوا الموت الذي يعقبه البعث. ولولا الثانية تأكيد للأولى. وإذا ظرف لفعل : (تَرْجِعُونَها).

(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي إن كان المتوفى من السابقين. (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) فله استراحة ، ورزق حسن طيب ، وجنة ذات تنعم. (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي وإن كان من أهل اليمين ، فسلام من العذاب وتحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، من جهة أنه منهم.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) أي من أصحاب الشمال الذين كذبوا بالله ورسله وضلوا عن الهدى ، وإنما وصفهم بأفعالهم زجرا عنها ، وإشعار بسبب وعيدهم. (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي فالنزل المعدّ لك أول قدومك : ماء شديد الحرارة ، والاصطلاء بنار الجحيم وإذاقة حرها. (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي إن هذا المذكور في السورة لهو حق الخبر اليقين ، أي الحق الثابت الذي لا شك فيه. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) فنزهه بذكر اسمه عما لا يليق بعظمة شأنه.

٢٧٦

سبب النزول :

نزول الآية (٧٥):

(فَلا أُقْسِمُ ..) : أخرج مسلم عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصبح من الناس شاكر ، ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة وضعها الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا ، فنزلت هذه الآيات : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) حتى بلغ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حزرة قال : نزلت هذه الآيات في رجل من الأنصار في غزوة تبوك نزلوا الحجر (١) ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا يحملوا من مائها شيئا ، ثم ارتحل ونزل منزلا آخر ، وليس معهم ماء ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام ، فصلى ركعتين ، ثم دعا ، فأرسل الله سحابة ، فأمطرت عليهم حتى استقوا منها ، فقال رجل من الأنصار لآخر من قومه يتهم بالنفاق : ويحك أما ترى ما دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمطر الله علينا السماء ، فقال : إنما مطرنا بنوء كذا وكذا.

وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال : ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين ، يقول : الكوكب ، وبالكوكب».

المناسبة :

بعد بيان أدلة إثبات الألوهية والبعث والجزاء ، أقام الله تعالى الأدلة على النبوة وصدق القرآن العظيم ، وأقسم بمواقع النجوم تعظيما لشأن القرآن أنه تنزيل من رب العالمين ، ثم وبخ المشركين على اعتقادهم الباطل بجحود الله وتكذيب

__________________

(١) الحجر : ديار ثمود ، واد بين المدينة والشام.

٢٧٧

رسوله ، وإنكار المعاد ، ثم أعاد الكلام على أحوال الأصناف الثلاثة الذين بدئت بهم السورة : السابقين المقربين ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، وما يلقاه كل صنف من الجزاء يوم القيامة ، ثم أخبر الله نبيه بأن هذا الخبر هو الحق الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب ، وأمره أن ينزه ربه عن كل نقص وغيره مما لا يليق به.

التفسير والبيان :

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) أي أقسم بمساقط النجوم وهي مغاربها ، ولله في رأي الجمهور أن يقسم بما شاء من خلقه ، وهو دليل على عظمته. وإنما خص القسم بمساقط النجوم ، لما في غروبها من زوال أثرها ، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يزول تأثيره ، لذا استدل إبراهيم عليه‌السلام بالأفول على وجود الإله ، وكذلك لا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة.

وجاء القسم على هذا النحو : (فَلا أُقْسِمُ) بالنفي مريدا : (أُقْسِمُ) ، لأن العرب تزيد (لا) قبل فعل (أُقْسِمُ) كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه ، فيفيد التأكيد ، والمراد أن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما ، فضلا عن هذا القسم العظيم. وورد القسم على مثال ذلك كثيرا في القرآن الكريم ، مثل : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) [الانشقاق ٨٤ / ١٦] و (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ) [التكوير ٨١ / ١٥] و (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة ٧٥ / ١] و (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) [الحاقة ٦٩ / ٣٨] و (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج ٧٠ / ٤٠] و (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد ٩٠ / ١] و (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة ٧٥ / ٢].

ويرى بعض المفسرين أن (لا) ليست زائدة لا معنى لها ، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسما به على منفي ، كقول عائشة رضي‌الله‌عنها : «لا والله ما مسّت يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة قط».

٢٧٨

وجاء القسم في القرآن على أنواع : إما قسم الله بنفسه أو بذاته مثل : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّهُ لَحَقٌ) [الذاريات ٥١ / ٢٣] و (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء ٢١ / ٥٧]. وإما قسم من الله بأشياء من خلقه ، دلالة على عظمة مبدعها ، كالصافات ، والطور ، والذاريات ، والنجم ومواقع النجوم ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، ويوم القيامة ، والفجر والبلد والتين والزيتون.

وقد يكون القسم بالقرآن : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس ٣٦ / ١ ـ ٢]. (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص ٨٨ / ١]. (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق ٤٥ / ١]. (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) [الزخرف ٤٣ / ١ ـ ٢] [والدخان ٩٠ / ١ ـ ٢] في الزخرف والدخان.

(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ـ لَوْ تَعْلَمُونَ ـ عَظِيمٌ) أي وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك. والضمير يرجع إلى القسم المفهوم من الكلام المتقدم.

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) هذا هو المقسم عليه ، أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم ، كثير المنافع والفوائد ، لما فيه من الهدى والعلم والحكمة والإرشاد إلى سعادة الدنيا والآخرة. وهذه الصفة الأولى للقرآن.

والمناسبة واضحة بين المقسم به وهو النجوم ، وبين المقسم عليه وهو القرآن ، لأن النجوم تضيء الظلمات ، وآيات القرآن تنير الطريق ، وتبدد ظلمات الجهل والضلالة ، والأولى ظلمات حسية ، والثانية ظلمات معنوية.

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذه ثلاث صفات أخرى للقرآن العظيم : وهي أنه في اللوح المحفوظ مصون مستور لا يطلع عليه إلا الملائكة المقربون ، وهم الكروبيون ، ولا يمسه في السماء إلا الملائكة الأطهار ، ولا يمسه في الدنيا إلا المطهرون من الحدثين : الأصغر

٢٧٩

والأكبر ، أي الحدث والجنابة ، وهو منزل من الله تعالى ، فليس بسحر ولا كهانة ولا شعر ولا قول بشر ، بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، وليس وراءه حق نافع.

ويدل فحوى الآية على أنه لا يمس القرآن كافر ولا جنب ولا محدث ، روى مالك في موطئه وابن حبان في صحيحة : أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرو بن حزم ألا يمس القرآن إلا طاهر. وروى أبو داود في المراسيل وأصحاب السنن من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عبد أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ولا يمس القرآن إلا طاهر» وأسنده الدار قطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص ، لكن في إسناد كل منهما نظر.

وعدم مس المحدث للمصحف أمر يكاد يجمع عليه العلماء ، وأجاز بعض الفقهاء وهم المالكية مس المحدث له لضرورة التعلم والتعليم. لكن رجح العلماء أن المراد من الكتاب : الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ) [عبس ٨٠ / ١٣ ـ ١٦] لأن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزل به الشياطين ، ولأن السورة مكية ، وأغلب عناية القرآن المكي في أصول الدين من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة ، وأما الأحكام الفرعية ففي القرآن المدني ، ولأن قوله (مَكْنُونٍ) معناه مصون مستور عن الأعين لا تناله أيدي البشر ، ولو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن وصفه بكونه مكنونا فائدة كبيرة.

ثم وبخ الله تعالى المتهاونين بشأن القرآن ، فقال :

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي أبهذا القرآن الموصوف بالأوصاف الأربعة السابقة متهاونون ، تمالئون الكفار على الكفر ، وتركنوا إليهم؟ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون شكر رزقكم من السماء وهو

٢٨٠