التفسير المنير - ج ٢٧

الدكتور وهبة الزحيلي

و (أُولئِكَ) مبتدأ ثان ، و (الْمُقَرَّبُونَ) خبره. والأحسن أن يقال : (السَّابِقُونَ) مبتدأ ، والثاني : خبر ، وجملة (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) استئناف بياني.

البلاغة :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) جناس اشتقاق.

(الْمَيْمَنَةِ) .. و (الْمَشْئَمَةِ) بينهما طباق ، وكذا بين (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) وإسناد الخفض والرفع إلى القيامة مجاز عقلي ، لأن الخافض الرافع على الحقيقة هو الله وحده ، ونسب إلى القيامة مجازا ، مثل «نهاره صائم».

المفردات اللغوية :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) إذا حدثت القيامة ، سماها واقعة لتحقق وقوعها. (لَيْسَ لِوَقْعَتِها) لوقوعها. (كاذِبَةٌ) كذب ، أو نفس كاذبة ، بأن تنفيها حين تقع كما تكذب الآن في الدنيا. (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تخفض قوما وترفع آخرين ، بدخولهم النار ودخولهم الجنة ، وهو تقرير لعظمتها ، فإن الوقائع العظام تميز بين الناس.

(رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) زلزلت وحركت تحريكا شديدا يؤدي إلى سقوط البناء والجبال (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) فتتت وصارت كالسويق الملتوت ، يقال : بسّ فلان السويق ، أي لته (هَباءً) غبارا. (مُنْبَثًّا) متفرقا منتشرا.

(وَكُنْتُمْ) في القيامة. (أَزْواجاً) أصنافا ، وكل ما يذكر مع صنف آخر : زوج ، وكل قرينين ذكر وأنثى : زوج. (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أهل اليمين ، الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) تعظيم لشأنهم بدخولهم الجنة ، فهم أصحاب المنزلة السنية. (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أهل الشمال الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) تحقير لشأنهم بدخول النار ، فهم أصحاب المنزلة الدنية.

(وَالسَّابِقُونَ) هم الذين سبقوا إلى الخير في الدنيا ، وهم الأنبياء. (السَّابِقُونَ) تأكيد ، لتعظيم شأنهم ، لأنهم سبقوا إلى الإيمان والطاعة من غير توان. (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الذين قرّبت درجاتهم ، وأعليت مراتبهم في الجنة ، فهم أهل الحظوة والكرامة عند ربهم.

التفسير والبيان :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي إذا قامت القيامة ، ليس

٢٤١

لوقوعها صارف ولا دافع ، ولا بد أن تكون ، ولا يكون عند وقوعها تكذيب أصلا ، ولا توجد نفس كاذبة منكرة لها كما كان الحال في الدنيا. والواقعة : اسم للقيامة كالآزفة والحاقة وغيرها ، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها ، كما جاء في آية أخرى : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الحاقة ٦٩ / ١٥]. وقوله : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها) إشارة إلى أنها تقع دفعة واحدة.

(خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تخفض أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين ، فتجعلهم في الجحيم ، وهم الكفرة والفسقة ، وترفع أقواما كانوا في الدنيا مغمورين ، فتجعلهم في الجنة ، وهم أهل الإيمان ، لأن شأن الوقائع العظيمة إحداث تغيرات في موازين المجتمع ، فترفع وتخفض.

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي إذا زلزلت وحركت الأرض تحريكا شديدا ، فتهتز وترتج وتضطرب ، حتى ينهدم كل ما عليها من بناء وجبال. وهذا كقوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزال ٩٩ / ١] وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج ٢٢ / ١].

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي فتتت الجبال فتا ، وصارت كما قال تعالى : (كَثِيباً مَهِيلاً) [المزمل ٧٣ / ١٤].

(فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي صارت غبارا متفرقا منتشرا ، كالهباء الذي يطير من النار ، أو الذي ذرته الريح وبثته.

وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة ، وذهابها وتسييرها ، وصيرورتها كالعهن المنفوش ، بسبب نسفها من ربك.

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أي وأصبحتم يوم القيامة منقسمين إلى ثلاثة أصناف : أهل اليمين أصحاب الجنة ، وأهل اليسار أهل النار ، والسابقون بين يدي الله عزوجل المقربون : وهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء.

٢٤٢

ثم أوضح هذه الأصناف بقوله :

١ ـ (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ، ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي وأصحاب اليمين الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ، ويؤخذون إلى الجنة ، فما أحسن حالهم وصفتهم وأكمل سعادتهم!! وقوله : (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم. والفاء : تدل على التفسير ، وبيان مورد التقسيم. وابتدأ بأهل اليمين ثم بأهل الشمال للترغيب بالثواب والترهيب بالعقاب ، بعد التخويف من الواقعة.

٢ ـ (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ، ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي وأصحاب الشمال الذين يتناولون كتبهم بشمائلهم ، ويساقون إلى النار ، فما أسوأ حالهم وأتعسهم!!

أخرج الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) ، (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) فقبض بيده قبضتين ، فقال : «هذه للجنة ولا أبالي ، وهذه للنار ولا أبالي».

٣ ـ (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي والسابقون من كل أمة إلى الإيمان والطاعة والجهاد والتوبة وأعمال البر ، وهم الأنبياء والرسل عليهم‌السلام والشهداء والصدّيقون والقضاة العدول ، هم السابقون إلى رحمة الله ، وهم المقرّبون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته ، والمقيمون إلى الأبد في جنات النعيم. والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) لعلو درجتهم ، ورفعة مكانتهم.

أخرج الإمام أحمد عن عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله يوم القيامة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم».

٢٤٣

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ وقوع القيامة أمر حتمي وحق ثابت لا ريب فيه ، لا يستطيع أحد تكذيبه عند حدوثه كما كان يحصل في الدنيا ، ولا يملك أحد أن يرده أو يدفعه.

٢ ـ القيامة ترفع أقواما وهم أولياء الله إلى الجنة ، وتخفض آخرين وهم أعداء الله إلى النار ، لأن الوقائع الجسام تؤدي إلى التغيير الاجتماعي في تركيب المجتمع ، فيعزّ قوم ، ويذل آخرون.

٣ ـ إذا وقعت الساعة ، زلزلت الأرض وحركت واضطربت ، ودمرت من عليها وما فوقها من المباني والقصور والجبال ، وتفتّتت الجبال ، وأصبحت غبارا منتشرا متفرقا ، وزالت من أماكنها.

٤ ـ يكون الناس يوم القيامة أصنافا ثلاثة : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقون ، والأولون أصحاب الميمنة : هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ويعطون كتبهم بأيمانهم ، وأصحاب المشأمة : هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ويعطون كتبهم بشمائلهم ، والسابقون : الأنبياء والمرسلون والمجاهدون والحكام العدول الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة والجهاد والتوبة والقضاء بالحق ، وهم المقربون بين يدي الله تعالى.

وقسمة الخلق إلى ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة ، فلم يجعل الله سبحانه قسما رابعا وهم المتخلفون المؤخرون عن أصحاب الشمال ، لشدة الغضب عليهم ، في مقابل المقربين.

وهذه القسمة كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر ٣٥ / ٣٢] ولم يقل : منهم متخلف عن الكل.

٢٤٤

أنواع نعيم السابقين

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

الإعراب :

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ، عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ ثُلَّةٌ) : إما مبتدأ مؤخر ، وخبره : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) المتقدم عليه ، أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم ثلة. و (قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) : معطوف عليه ، و (عَلى سُرُرٍ) : بر ثان ، و (مُتَّكِئِينَ) و (مُتَقابِلِينَ) حال من ضميره (عَلى سُرُرٍ).

(وَحُورٌ عِينٌ ، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ حُورٌ) : على تقدير: ولهم حور ، جمع أحور وحوراء ، ويقرأ بالنصب على تقدير : ويعطى حورا ، وبالجر بالعطف على ما قبله : (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ). و (عِينٌ) : جمع أعين وعيناء ، وكان قياسا أن يجمع على فعل بضم الفاء ، إلا أنها كسرت ، لأن العين ياء. و (جَزاءً) : إما مصدر مؤكد لما قبله ، أو مفعول لأجله.

(إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً قِيلاً) : منصوب على الاستثناء المنقطع ، أو منصوب ب (يَسْمَعُونَ). و (سَلاماً) منصوب بالقول ، أو مصدر ، أي يتداعون فيها ، وسلمك الله سلاما ، أو وصف ل (قيل).

البلاغة :

(الْأَوَّلِينَ) و (الْآخِرِينَ) بينهما طباق.

(وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) تشبيه مرسل مجمل ، حذف منه وجه الشبه ، أي كأمثال اللؤلؤ في بياضه وصفائه.

٢٤٥

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) تأكيد المدح بما يشبه الذم ، لأن السلام ليس من جنس اللغو والتأثيم ، ثم أثنى عليهم بإفشاء السلام.

المفردات اللغوية :

(ثُلَّةٌ) جماعة كثيرة أو قليلة. (مِنَ الْأَوَّلِينَ) من الأمم الماضية. (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يخالف ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أمتي يكثرون سائر الأمم» (١) لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة ، وتابعو هذه الأمة أكثر من تابعيهم ، ولا يرده قوله تعالى في أصحاب اليمين : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) لأن كثرة الفريقين لا تنافي أكثرية أحدهما.

(مَوْضُونَةٍ) منسوجة بإحكام ، أو بقضبان الذهب والجواهر. (وِلْدانٌ) صبيان جمع ولد. (مُخَلَّدُونَ) باقون على صفتهم أبدا ، لا يهرمون كأولاد الدنيا. (بِأَكْوابٍ) آنية لا عرى لها ولا خراطيم ، جمع كوب. (وَأَبارِيقَ) أوان لها عرى وخراطيم ، جمع إبريق. (وَكَأْسٍ) إناء شرب الخمر. (مِنْ مَعِينٍ) أي من خمر جارية من منبع لا ينقطع أبدا.

(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) لا يحصل لهم منها صداع كما يحدث ذلك من خمر الدنيا.

(وَلا يُنْزِفُونَ) ولا تذهب عقولهم بالسكر منها ، بخلاف خمر الدنيا ، ويقرأ بفتح الزاي وكسرها ، من نزف الشارب وأنزف : إذا ذهب عقله ، ويقال للسكران : نزيف ومنزوف. (يَتَخَيَّرُونَ) يختارون ويرضون.

(وَحُورٌ عِينٌ) أي ولهم حور أي نساء شديدات سواد العيون وبياضها ، جمع حوراء وأحور ، و (عِينٌ) ضخام الأعين واسعات ، حسان ، جمع أعين وعيناء. (الْمَكْنُونِ) المصون أو المستور الذي لم تمسه الأيدي ، فهو مصون عما يضرّ به في الصفاء والنقاء. (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم. (لا يَسْمَعُونَ فِيها) في الجنة. (لَغْواً) فاحشا أو ساقطا من القول. (وَلا تَأْثِيماً) ما يؤثم. (إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) أي لكن قولا : سلاما سلاما أي يقولون : سلّمك الله سلاما. وتكرار (سَلاماً) للدلالة على فشّو السلام بينهم.

سبب النزول :

نزول الآية (١٣ و٣٩):

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ..) : أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند فيه من لا يعرف عن أبي هريرة قال : لما نزلت : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٧ / ١٣٤

٢٤٦

الْآخِرِينَ)شق ذلك على المسلمين ، فنزلت : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ).

وأخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند فيه نظر ، من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال : «لما نزلت (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) وذكر فيها (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) بكى عمر ، وقال : يا رسول الله ، آمنا بك ، وصدقناك ، ومع هذا كله ، من ينجو منا قليل ، فأنزل الله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر ، فقال : يا عمر بن الخطاب ، قد أنزل الله فيما قلت ، فجعل (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ، فقال عمر : رضينا عن ربنا وتصديق نبينا».

والخلاصة : أن كلتا الروايتين مشكوك فيهما.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى الصنف الثالث من الناس يوم القيامة ، وهم السابقون ، ذكر ما يتمتعون به من أنواع النعيم في الفرش والخدم والطعام والشراب والنساء والأحاديث الخالية من اللغو والفحش والإثم ، مع إفشاء السلام بينهم.

التفسير والبيان :

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي إن السابقين السابقين المقربين هم جماعة كثيرة لا يحصر عددهم ، من الأمم السابقة ، من لدن آدم إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقليل من هذه الأمة ، وسموا قليلا بالنسبة إلى من كان قبلهم وهم كثيرون ، لكثرة الأنبياء فيهم ، وكثرة من أجابهم.

والدليل على أن (القليل) من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان وأحمد والنسائي عن أبي هريرة : «نحن الآخرون ، السابقون يوم القيامة»

٢٤٧

ويستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد وأبو محمد بن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة قال : «لما نزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) شق ذلك على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، ثلث أهل الجنة ، بل أنتم نصف أهل الجنة ، أو شطر أهل الجنة ، وتقاسمونهم النصف الثاني».

أما أصحاب اليمين كما يأتي وهم أهل الجنة ، فإنهم كثيرون من هذه الأمة ، لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحا ، فإنهم ثلة من الأولين ، وثلة من الآخرين ، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم ، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة ، ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكوّن نصف أهل الجنة ، كما في الحديث المتقدم.

والخلاصة : إن مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها ، وإن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا ، وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم. وإن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم ، فما على سابقي هذه الأمة بأس إذا كثرهم سابقو الأمم بضم الأنبياء عليهم‌السلام (١).

ثم وصف الله تعالى حال المقربين ، فقال :

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) أي هم في الجنة حالة كونهم على أسرّة منسوجة بخيوط الذهب ، مشبكة بالدرّ والياقوت والزبرجد ، مستقرّين على السرر ، متكئين عليها متقابلين مواجهة ، لا ينظر بعضهم قفا بعض ، فهم في بسط وسرور ، وصفاء وحبور ، لا يملّون ولا يكلون ، ولا يتخاصمون ولا يتشاحنون ، وهم مخدومون كما قال تعالى:

__________________

(١) تفسير الآلوسي : ٢٧ / ١٣٤

٢٤٨

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يدور عليهم للخدمة غلمان أو صبيان أو خدم لهم ، مخلّدون على صفة واحدة ، لا يهرمون ولا يتغيرون ، ولا يبعد أن يكونوا كالحور العين مخلوقين في الجنة ، للقيام بهذه الخدمة.

(بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) أي يطوفون عليهم بأقداح مستديرة الأفواه لا آذان لها ولا عرى ولا خراطيم ، وأباريق ذات عرى وخراطيم ، وكؤوس مترعة من خمر الجنة الجارية من الينابيع والعيون ، ولا تعصر عصرا كخمر الدنيا ، فهي صافية نقية ، لا تتصدع رؤوسهم من شربها ، ولا يسكرون منها ، فتذهب عقولهم.

قال ابن عباس : في الخمر أربع خصال : السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول ، فذكر الله تعالى خمر الجنة ، ونزهها عن هذه الخصال.

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ويطوفون عليهم مما يختارونه من ثمار الفاكهة ، وأنواع لحوم الطيور التي يتمنونها وتشتهيها نفوسهم ، مما لذّ وطاب ، علما بأن لحم الطير أفضل من غيره من اللحوم وألذ. والحكمة في تقديم الفاكهة على اللحم : أنها ألطف ، وأسرع انحدارا ، وأيسر هضما ، وأصح طبا ، وأكثر تحريكا لشهوة الأكل وتهيئة النفس للطعام.

(وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي ولهم نساء حور بيض ، مع شدة سواد سواد العين ، وشدة بياض بياضها ، وواسعات الأعين حسانها ، مثل أنواع اللآلي والدرر المستورة التي لم تمسها الأيدي صفاء وبهجة ، وبياضا وحسن ألوان ، كما في آية أخرى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات ٣٧ / ٤٩]. والكاف في قوله : (كَأَمْثالِ) للمبالغة في التشبيه.

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يفعل بهم ذلك كله ، للجزاء على أعمالهم ، أو مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.

٢٤٩

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ، إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) أي لا يسمعون في الجنة كلاما لاغيا ، أي عبثا خاليا من المعنى ، أو مشتملا على معنى ساقط أو حقير أو مناف للمروءة ، ولا كلاما فيه قبح من شتم أو مأثم ، ولكن يسمعون أطيب الكلام ، وأكرم السلام أو التسليم منهم بعضهم على بعض ، كما قال سبحانه : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [إبراهيم ١٤ / ٢٣]. والمراد أن هذا النعيم ليس مصحوبا بألم كنعيم الدنيا ، وإنما هو خال من الكدر والهم ، واللغو ، والقبح. والحكمة في تأخير ذكر ذلك عن الجزاء ، مع أنه من النعم العظيمة : أنه من أتم النعم ، فجعله من باب الزيادة والتمييز ، لأنه نعمة اجتماعية تدل على نظافة الوسط الاجتماعي ، بعد ذكر النعم الشخصية.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن فئة السابقين المقربين تشتمل على جماعة من الأمم الماضية ، وقليل ممن آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الأنبياء المتقدمين كثيرون ، فكثر السابقون إلى الإيمان منهم ، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا.

والأصح أن هذه الآية : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) محكمة غير منسوخة ، لأنها خبر ، ولأن ذلك في جماعتين مختلفتين ، والنسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا غير جائز في الأرجح ، فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة ، لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه.

قال الحسن البصري : سابقو من مضى أكثر من سابقينا ، فلذلك قال : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وقال في أصحاب اليمين ، وهم سوى السابقين : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم : «إني لأرجو

٢٥٠

أن تكون أمتي شطر أهل الجنة» ثم تلا قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ).

٢ ـ للسابقين في الجنة ألوان من النعيم في المجلس والطعام والشراب والزواج والكلام ، فمجالسهم على سرر منسوجة بقضبان الذهب ، مشبكة بالدر والياقوت ، ويخدمهم غلمان خدم لهم لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون. وأداة الشراب آنية براقة صافية لا عرى لها ولا خراطيم ، وأباريق لها عرى وخراطيم ، وكؤوس من ماء أو خمر ، والمراد هنا : الخمر الجارية من العيون ، ولا تنصدع رؤوسهم من شربها ، فهي لذيذة لا تؤذي ، بخلاف شراب الدنيا ، ولا يسكرون فتذهب عقولهم.

وطعامهم مما لذّ وطاب من لحوم الطيور ، ويتخيرون ما شاؤوا من الفواكه لكثرتها.

ويتزوجون بنساء حور بارعات الجمال ، عيونهن شديدات السواد والبياض ، واسعات حسان ، مثل اللؤلؤ والدر صفاء وتلألؤا ، متناسقات أجسادهن في الحسن من جميع الجوانب.

وكلامهم أطيب الكلام ، ليس فيه باطل ولا كذب ولا لغو هراء ساقط ، ولا موقع في الإثم ، لا يؤثّم بعضهم بعضا ، ولا يسمعون شتما ولا مأثما ، وإنما يتبادلون التحيات والسلامات من بعضهم بعضا.

٣ ـ أتحفهم الله بهذه النعم الجزيلة جزاء حسنا على أعمالهم الصالحة ، وما قدموا في دنياهم من خيّر الأفعال ، وأحسن الأقوال. وقوله : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يدل على أن العمل عملهم ، وحاصل بفعلهم.

٢٥١

أنواع نعيم أصحاب اليمين

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

الإعراب :

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) هنّ : يعود على «الحور» المذكورات في نعيم السابقين ، أو على أصحاب اليمين ، أو على (فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) واختار ابن الأنباري أن يكون الضمير غير عائد إلى مذكور على ما جرت به عادتهم إذا فهم المعنى ، كقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن ٥٥ / ٢٦] وأراد به الأرض ، ولم يسبق ذكرها ، وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر ٩٧ / ١] وأراد به القرآن ، وإن لم يجر له ذكر ، لأن هذا أول السورة ، ولم يتقدم للقرآن ذكر فيه ، وكقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص ٣٨ / ٣٢] أراد به الشمس ، وإن لم يجر لها ذكر ، فكذلك ها هنا أريد بالضمير «الحور» في هذه القصة ، وإن لم يجر لهن ذكر ، لما عرف المعنى. (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً ، عُرُباً أَتْراباً ، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ أَبْكاراً) جمع بكر ، و (عُرُباً) جمع عروب ، لأن فعولا يجمع على فعل ، كرسول ورسل ، ويجوز «عربا» بضم العين وسكون الراء. و (أَتْراباً) جمع ترب ، يقال : هي تربه ولدته وقرنه ، أي على سنّه. و (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) : إما صله لما قبله أو خبر لقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ).

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلة.

البلاغة :

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) كرره بطريق الاستفهام للتفخيم والتعظيم.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ..) بعد قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ..) تفنن في العبارة ، كما في (أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) و (أَصْحابُ الشِّمالِ).

٢٥٢

(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) سجع لطيف غير متكلف ، أو ما يسمى توافق الفواصل في الحرف الأخير ، مما يزيد في تأثير الكلام وجماله.

المفردات اللغوية :

(سِدْرٍ) شجر النبق : وهو شجر يمتاز بكثرة أوراقه وأغصانه ، إلا أن له شوكا. (مَخْضُودٍ) لا شوك فيه ، مقطوع الشوك ، من خضد شوكة ، أي قطع. (وَطَلْحٍ) شجر الموز. (مَنْضُودٍ) متراكب الثمر ، نضّد حمله من أسفله إلى أعلاه ، فليست له سوق بارزة ، بل ثمره مرصوص بعضه فوق بعض بنظام جميل. (مَمْدُودٍ) دائم باق ، لا يزول ، منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت. (مَسْكُوبٍ) جار دائم لا ينقطع ، مصبوب يسكب لهم.

(وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) كثيرة الأجناس والكميات. (لا مَقْطُوعَةٍ) لا تنقطع في وقت. (وَلا مَمْنُوعَةٍ) ولا تمتنع عن متناولها بوجه كثمن أو غيره ، فهي مباحة سهلة التناول. (وَفُرُشٍ) جمع فراش كسرج وسراج. (مَرْفُوعَةٍ) عالية منضدة مرفوعة على السرر. (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) خلقناهن خلقا جديدا من غير ولادة ، وهن الحور العين. (أَبْكاراً) عذارى ، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى. (عُرُباً) جمع عروب ، وقرئ «عربا» متحبّبات إلى أزواجهن عشقا له. (أَتْراباً) مستويات السن ، جمع ترب.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٧):

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ..) : أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا : لما سأل أهل الطائف الوادي يحمى لهم ، وفيه عسل ، ففعل ، وهو واد معجب ، فسمعوا الناس يقولون : في الجنة كذا وكذا ، قالوا : يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي ، فأنزل الله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) الآيات.

نزول الآية (٢٩):

(وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) : أخرج البيهقي من وجه آخر عن مجاهد قال : كانوا

٢٥٣

يعجبون بوجّ ـ واد مخصب في الطائف ـ وظلاله وطلحة وسدره ، فأنزل الله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ).

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى حال السابقين وأوصاف نعيمهم ، شرع في بيان حال أصحاب اليمين من الأصناف الثلاثة في الآخرة ، وعدد أوصاف نعمهم من فواكه وظلال ومياه وفرش ونساء حسان عذارى في سن واحدة.

التفسير والبيان :

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) هذا عطف على السابقين المقربين ، وهم أصحاب اليمين الأبرار الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم ، منزلتهم دون المقربين ، فهم أقل درجة في النعيم من السابقين ، لأنهم كانوا في الدنيا أضعف إيمانا ، وأقل إخلاصا وعملا ، فأشجارهم وفواكههم وما يؤتون به من النعيم لا يبلغ درجة ما يناله أصحاب السبق.

ومع ذلك ، فهم في درجة عالية ومنزلة رفيعة ، لذا جاء الكلام في مدحهم على نحو هذا الأسلوب العربي لإفادة المبالغة في المدح ، كما يقال : فلان ما فلان؟ والمعنى : وأما أصحاب اليمين السعداء ، فما أدراك ما هم ، وأي شيء هم ، وما حالهم ، وكيف مآلهم؟! وهذا يلفت النظر ويثير الانتباه للتعرف على مصيرهم. لذا جاء التفصيل لبيان ما أبهم من حالهم ، فقال تعالى :

(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي هم يتمتعون في جنات ذات شجر مورق كثير الورق ، مقطوع الشوك ، وشجر موز منضد متراكب الثمر بعضه فوق بعض ،

٢٥٤

وظل دائم باق لا يزول ، وماء منصبّ يجري بالليل والنهار أينما شاؤوا ، لا تعب فيه ، وفاكهة متنوعة وكثيرة ، لا تنقطع أبدا في وقت من الأوقات ، كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات ، ولا تمتنع على من أرادها في أي وقت ، على أي صفة ، بل هي معدّة لمن أرادها. أما فاكهة السابقين فإنهم يتخيرونها تخيرا.

ويلاحظ أنه قدم الشجر المورق على الشجر المثمر ، على طريقة الارتقاء من نعمة إلى نعمة فوقها ، والفواكه أتم نعمة ، وذكر الأشجار المورقة بأنفسها وذكر أشجار الفاكهة بثمارها ، لأن حسن الأوراق عند كونها على الشجر ، وأما الثمار فهي في أنفسها مطلوبة ، سواء كانت عليها أو مقطوعة.

ووصف الفاكهة بالكثرة لا بالطيب واللذة ، لأن طيبها معروف بالطبيعة ، والمقصود بيان الكثرة والتنوع لإفادة التنعم الواسع ، ووصفها بقوله : (لا مَقْطُوعَةٍ) للدلالة على أنها ليست كفواكه الدنيا ، فإنها تنقطع في أكثر الأوقات والأزمان ، وفي كثير من المواضع والأماكن ، كما أنه وصفها بكونها غير ممنوعة بثمن أو عوض أو غيره ، خلافا لفاكهة الدنيا التي تمنع عن البعض ، وقدم كونها غير مقطوعة على المنع ، لأن القطع للموجود ، والمنع بعد الوجود ، لأنها توجد أولا ، ثم تمنع.

ثم ذكر الله تعالى وسائل التمتع في المجالس ، فقال :

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي وأهل اليمين يجلسون وينامون على فرش مرفوعة على الأسرّة ، ورفيعة القدر والثمن. والفرش جمع فراش : وهو ما يفترش للجلوس عليه والنوم. وقيل : الفرش مجاز عن النساء ، والمعنى : ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن.

ثم ذكر تمتعهم بالنساء ، فقال :

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً ، عُرُباً أَتْراباً ، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ)

٢٥٥

أي خلقنا الحور العين خلقا جديدا من غير توالد ، وجعلناهن بكارى عذارى لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان ، وكلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا من غير وجع ، كما في حديث رواه الطبراني (١) ، ومتحببات إلى أزواجهن ، وأنشأهن الله لأجل أصحاب اليمين الأبرار الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وكرر ذكر (أَصْحابُ الْيَمِينِ) للتأكيد. والإنشاء : هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق ، وذلك مخصوص بالحور اللاتي لسن من نسل آدم عليه‌السلام.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي إن أصحاب اليمين جماعة من الأولين ، وهم مؤمنو الأمم الماضية ، وجماعة من الآخرين ، وهم المؤمنون بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيام الساعة.

ولا تنافي بين قوله : (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وقوله قبل : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) لأن قوله : (مِنَ الْآخِرِينَ) هو من السابقين ، وقوله : (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) هو في أصحاب اليمين (٢). وإنما لم يذكر هنا كون الجزاء مقابل العمل ، كما فعل في حق السابقين ، لأن عمل أصحاب اليمين أقل من عمل السابقين ، فلم يحتج للتنويه به ، وإشارة إلى أن الله غمر أهل اليمين بالفضل والرحمة والإحسان.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ أشاد الله تعالى بأهل اليمين وخصالهم ومنازلهم ، ومدحهم مدحا عظيما.

__________________

(١) روى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا».

(٢) البحر المحيط : ٨ / ٢٠٧

٢٥٦

٢ ـ ذكر الله تعالى أنواع نعيم أهل اليمين في البيئة والطعام والشراب والمجلس والزواج ، فهم في ظل ناعم من شجر كثير الورق كشجر السدر أي النبق ، ولكن قد خضد شوكة ، أي قطع ، وذلك الظل ممدود ، أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس.

وهم يستمتعون بأشجار الموز وأنواع الفواكه الكثيرة الطازجة التي لم تقطع عن الشجر ، ولا تنقطع في وقت من الأوقات ، كانقطاع فواكه الصيف في الشتاء ، ولا تمنع ولا تحظر عن أحد كثمار الدنيا.

ويجلسون وينامون على فرش مرفوعة على السرر.

ولهم نساء حوريات رائعات الجمال خلقهن الله خلقا جديدا ، وأبدعهن إبداعا فريدا لم يسبق ، وجعلهن أبكارا عواشق لأزواجهن ، متحببات إليهم ، مستويات أو متماثلات متشابهات في السن والأخلاق ، لا تباغض بينهن ولا تحاسد ، وهن بنات ثلاث وثلاثين كأزواجهن.

٣ ـ أصحاب اليمين في الجنة هم جماعة عظيمة من الأمم السابقة ، وجماعة أخرى من الأمم اللاحقة. قال الواحدي : أصحاب الجنة نصفان : نصف من الأمم الماضية ، ونصف من هذه الأمة.

٢٥٧

أنواع عذاب أهل الشمال في الآخرة

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

الإعراب :

(لَمَبْعُوثُونَ) أتى باللام المؤكدة مع أنها لا تذكر في النفي ، لأن الصيغة ليست تصريحا بالنفي.

(فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ شُرْبَ) بضم الشين : اسم ، وهو منصوب على المصدر ، وتقديره : فشاربون شربا مثل شرب الهيم ، فحذف المصدر وصلته ، وأقيم ما أضيفت إليه الصفة مقام المصدر. وقرئ بالفتح ، فهو مصدر. و (الْهِيمِ) الإبل التي لا تروى من الماء ، لما بها من داء وهو الهيام ، وهو جمع أهيم وهيماء. وكان الأصل فيه أن يجمع على فعل بضم الفاء ، إلا أنها كسرت لمكان الياء ، كما تقدم في (عين) جمع (عيناء).

البلاغة :

(فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) توافق الفواصل في الحرف الأخير ، لزيادة جرس الكلام وجماله.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) التفات من الخطاب إلى الغيبة ، تحقيرا لشأنهم ، بعد قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) فالأصل أن يقول : هذا نزلكم.

٢٥٨

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) فيه تهكم واستهزاء أيضا ، أي هذا العذاب ضيافتهم يوم القيامة ، لأن النزل هو أول ما يقدم للضيف من الكرامة.

المفردات اللغوية :

(سَمُومٍ) ريح شديدة الحرارة تنفذ في المسام. (وَحَمِيمٍ) ماء شديد الحرارة. (يَحْمُومٍ) دخان أسود شديد السواد. (لا بارِدٍ) لا هو بارد كغيره من الظلال. (وَلا كَرِيمٍ) ولا هو نافع يدفع أذى الحر لمن يأوي إليه. (قَبْلَ ذلِكَ) في الدنيا. (مُتْرَفِينَ) منعمين منهمكين في الشهوات. (يُصِرُّونَ) يقيمون. (الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) الذنب العظيم وهو الشرك والوثنية.

(.. أَإِذا مِتْنا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) كررت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقا. (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الهمزة للاستفهام ، والاستفهام هنا وما قبله للاستبعاد ، وفيه دلالة على أن ذلك أشد إنكارا في حقهم لتقادم زمانهم ، ويقرأ بسكون الواو (أو) عطفا بأو ، والمعطوف عليه محل (إِنَ) واسمها (لَمَجْمُوعُونَ) وقرئ : لمجمعون. (مِيقاتِ) وقت ، أي ما وقت به الشيء. (يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يوم القيامة ، وسمي بذلك ، لأنه وقتت به الدنيا.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) بالبعث ، والخطاب لأهل مكة وأمثالهم. (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ) الأولى للابتداء ، والثانية للبيان ، والزقوم : شجر في غاية المرارة ينبت في أصل الجحيم. (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) مالئون من الشجر البطون لشدة الجوع. (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) على الزقوم المأكول ، لغلبة العطش ، وتأنيث ضمير (مِنْهَا) وتذكيره في (عَلَيْهِ) الأول لمراعاة المعنى ، والثاني لمراعاة اللفظ. (الْهِيمِ) الإبل العطاش ، جمع أهيم وهيمان للذكر ، وهيمى للأنثى ، كعطشان وعطشى ، وهي المصابة بداء الهيام : وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل ، فتشرب حتى تموت أو تمرض. (نُزُلُهُمْ) النزل : ما يعد للضيف أول نزوله تكرمة له. (يَوْمَ الدِّينِ) يوم الجزاء والقيامة.

المناسبة :

بعد بيان أحوال فريقين من الأصناف الثلاثة يوم القيامة ، وهما السابقون وأصحاب اليمين ، بيّن الله تعالى عطفا عليهم حال أصحاب الشمال وما يلقونه في نار جهنم من أنواع العذاب والنكال ، مع بيان سبب ذلك ، وهو انهماكهم في الشهوات في الدنيا ، وشركهم ، وإنكارهم يوم البعث.

٢٥٩

التفسير والبيان :

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي وأصحاب الشمال أي شيء هم فيه ، وأي وصف لهم حال تعذيبهم في الآخرة؟!

وهذا الحال والوصف ما قاله تعالى :

(فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي هم في ريح حارة من حر النار ، وماء شديد الحرارة ، وظل من دخان جهنم شديد السواد ، ليس باردا كغيره من الظلال التي تكون عادة باردة ، ولا حسن المنظر ولا نافعا. وكل ما لا خير فيه فهو ليس بكريم. والمشهور أن السموم : ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل غالبا ، قال الرازي : والأولى أن يقال : هي هواء متعفن ، يتحرك من جانب إلى جانب ، فإذا استنشق الإنسان منه يفسد قلبه بسبب العفونة ويقتله.

وذكر السموم والحميم ، وترك ذكر النار وأهوالها ، إشارة بالأدنى إلى الأعلى ، فإذا كان هواؤهم الذي يستنشقونه سموما ، وماؤهم الذي يستغيثون به حميما ، مع أن الهواء والماء أبرد الأشياء في الدنيا ، فما ظنك بنارهم التي هي في الدنيا أحرّ شيء! وكأنه تعالى يقول : إذا كان أبرد الأشياء لديهم أحرها ، فكيف حالهم مع أحرّها؟! ونظير الآية قوله تعالى : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ، لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ ، إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ، كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات ٧٧ / ٢٩ ـ ٣٣].

وسبب عذابهم ما قال تعالى :

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ ، وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ، وَكانُوا

٢٦٠